نحو حماية للحرية الدينية في العالم العربي


فئة :  مقالات

نحو حماية للحرية الدينية في العالم العربي

حين ترسم التحولات التي يشهدها العالم العربي مشهدا غير مستقر، ولا يمكن التنبوء بصورته النهائية أو تخيل الإمكانيات التي ينطوي عليها، سواء من ناحية الوعود في تعزيز الحرية الدينية لكثير من الجماعات الدينية، فإنه يخفي في أعماقه ويظهرهافي كثير من الأحيان إمكانيات مدمرة لتهديد التعدديةالدينية والتضييق من حرية المعتقد في عالم يتحول كل ما هو صلب فيه إلى أثير.

سوف يحاول هذا المقال إضاءة الجوانب المتعلقة بالبعد الدولي لحماية حرية الدين والمعتقد، ويطرح تحذيرا حول مستقبل العالم العربي المهدد بفقدان تعدديته الدينية التي شكلت هويته عبر العصور.

إذ يشكل الحق في حماية الهوية الدينية عنصرا أساسيا في أي نظام شامل لحماية التعددية الدينية في العالم العربي كما في العديد من دول العالم. وقد جاءت المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لتحمي حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات في التمتع بهويتهم الدينية، فنصت على أن:

"لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".

تعد هذه المادة حسب فقهاء القانون الدولي التعبير الوحيد للحق في الهوية في معاهدات حقوق الإنسان الحديثة المطبقة عالميا، والمحاولة الجدية الأولى في تاريخ القانون الدولي لتأمين الحق الشامل في الهوية بما يحمله من أعباء.

بخلاف ذلك، يسبب الانتقاص من الهوية الدينية المميزة للأفراد والجماعات نزعات صدامية بين الدولة وجماعات الأقليات الدينية، سواء تحدثنا عن الرقابات الصارمة التي تتخذها بعض الدول على الممارسات الدينية أو تقييدها،أو إجبار الأقليات على الاندماج القسري في هوية الأغلبية وثقافتها ولغتها ودينها، الأمر الذي قد يسبب في كثير من الأحيان شرارة لنشوب نزاعات وتهديد الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي في مناطق عديدة من العالم المعاصر، ولا شك أن ما تشهده العديد من الدول العربية من صدامات كفيل بإطلاق جرس إنذار حول مستقبلالتعايش بين الجماعات الدينية في هذه الدول، بل ومستقبل المنطقة بآسرها.

يقصد بالحق في حرية الدين أو المعتقد في إطار منظومة حقوق الإنسان حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من أفكار دينية أو غير دينية.

وفي ملاحظاته المفاهيمية، أكد مقرر حرية الدين أو المعتقد "هاينر بيليفيلت" على أن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات دينية، ينبغي أن تُفسَّر وتُنفَّذ دومًا من منظور حقوق الإنسان. وعلى عكس بعض مفاهيم حماية الأقليات التي وُضعت كثيرًا في إطار مفاوضات السلام الثنائية أو المتعددة الأطراف، يتخذ النهج القائم على حقوق الإنسان من احترام فهم البشر لذاﺗﻬم نقطة انطلاق منهجية.

وبما أن الفهم الذاتي للبشر لذاتهم في مجال الدين والمعتقد يكون جد متنوع، لذا ينبغي أن تفسر حرية الدين والمعتقد على نحو واسع، هذا الفهم الواسع لحرية الدين والمعتقد مفقود في العالم العربي إذ تم تضييقه في دين رسمي واحد هو الإسلام، الأمر الذي يترك هامشا ضيقا للأقليات الدينية لممارسة حرياتها الدينية في جو كامل من الثقة والاطمئنان، وهو ما سنعود إلى تفصيله في مقال لاحق.

وقد أشارت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان إلى أهمية الفهم الواسع لحرية الدين والمعتقد، وهي لجنة تقوم بالإشراف على تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتتشكل من 18 خبيراً يتم انتخابهم من قبل الدول الأطراف في العهد، اذ فسرت اللجنة هذا الحق على نحو واسع يسمح بحماية "المعتقدات التوحيدية، وغير التوحيدية، والإلحادية وكذلك الحق في عدم الإعلان عن أي دين أو معتقد ". فقد سبق، في دراسة نُشرت في عام 1960 ، أن أشار أركوت كريشنا سوامي، الذي كان آنذاك مقررًا خاصًا للجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، إلى أن "مصطلح ‘الدين أو المعتقد ‘ يُستخدم في هذه الدراسة حيث يشمل، بالإضافة إلى مختلف العقائد التوحيدية، ومعتقدات أخرى مثل اللاأدرية، وحرية الفكر، والإلحاد، والعقلانية".

ويؤيد المقرر الخاص لحرية المعتقدفي الأمم المتحدة "هاينر بيلافلدت" هذا الفهم الواسع، الذي يعكس على نحو مناسب احترام وضع جميع البشر بوصفهم أصحاب حقوق بموجب كرامتهم الإنسانية. ويود علاوة على ذلك، أن يكرر التأكيد على أن حرية الدين أو المعتقد تشمل على نحو متساو:

أتباع الديانات أو المعتقدات التقليدية وغير التقليدية، وأعضاء الطوائف الكبيرة أو الصغيرة، والأقليات والأقليات داخل الأقليات، والأشخاص الذين يغيرون دينهم أو يعيدون تغييره، والمنشقين أو غيرهم من الأصوات الناقدة . وعلى المرء أيضًا ألا ينسى حقوق المرأة، التي ما زالت لا تحتل سوى مراكز مهمّشة داخل العديد من التقاليد الدينية.

وفي وثائقها وإعلاناتها الدولية، اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد ، ومن أهمها:

-الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948 (المادة 18)

-أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، بالحق في حرية الدين أو المعتقد، وذلك من بين ما أقره به من حقوق وحريات. (المادة 18)

-يعد الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد (إعلان 1981) أهم تقنين معاصر لمبدإ حرية الدين والمعتقد.يتكون الإعلان من ثمانيمواد، تعالج ثلاث منها المواد 1 و 5 و 6 حقوقا معنية، فيما تتناول المواد الخمسة الأخرى تدابير تتعلق بالتسامح والوقاية من التمييز.

ومنذ العام 1986 أنشأتلجنة حقوق الانسان ولاية المقرر الخاص لحرية الدين أو المعتقد، لغرض الاضطلاع بمجموعة من الأنشطة ذات الصلة بحماية حرية الدين أو المعتقد، مثل توجيه رسائل إلى الدول بخصوص حالات فردية ، والقيام بزيارات رسمية إلى البلدان، والمشاركة في اجتماعات مع ممثلي الدول والطوائف الدينية أو العقائدية ومنظمات اﻟﻤﺠتمع المدني، و إلقاء خطب وإصدار بيانات عامة.

وتعكس تقارير المقرر الخاص السنوية أبرز التحديات التي تواجه حقوق الأقليات الدينية في ممارسة حرية الدين أو المعتقد، وتوضحهذه التقارير أن أبناء الأقليات القومية أو العرقية، والأقليات الدينية واللغوية عرضة لتحديات عديدة، إذ "تتحدد هوية العديد من الأقليات بمظاهر مختلفة، وتتفاقم العديد من حالات التمييز، مثلا عندما تكون قائمة على أساس عنصري وعلى دوافع دينية على حدٍ سواء، بسبب الآثار المترتبة على تلك الهويات المتعددة. وتواجه الأقليات الدينية أشكالا مختلفة من التمييز، على سبيل المثال، فيما يتعلق بإجراءات التسجيل الرسمية أو القيود التي لا مبرر لها عند نشر بعض المواد وإبراز الرموز الدينية. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الأقليات الدينية تتأثر سلبا بمظاهر التعصب، والتهديدات بالعنف أو بارتكاب أعمال العنف من قِبَل جهاتٍ من غير الدول ، والتي غالب ما تتغاضى عنها السلطات أو تقوم بتشجيعها".

وتعرضتقرير العام 2011على سبيل المثال إلى مسألة "الاعتراف وحرية الدين" وأثر ذلك على أوضاع الأقليات الدينية، كما يناقش مسألة تسجيل الأقليات الدينية، ويؤكد على أنه ينبغي توفير خيارات مناسبة للطوائف الدينية أو العقائديةلكي تحصل على وضع الشخصية القانونية الذي قد تحتاجه للاضطلاع بوظائف مجتمعية مهمة ذات صلة بالتمتع الكامل بحرية الدين أو المعتقد، والتي تشكل حقًا من حقوق الفرد التي يمارسها، إما وحده أو مع أفراد آخرين.

وذهب التقرير إلى أن تبني الدولة لدين رسمي له آثار ضارة على الأقليات الدينية، إذ"أنه يبدو من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تصور تطبيق هذا المفهوم تطبيقًا ليست له في الممارسة آثار ضارة على الأقليات الدينية، ومن ثم تمييزية ضد أتباعها" ويضيف أنه "علاوة على ذلك، ينبغي ألا تُستخدم أبدًا مراكز الوضع المحدد التي تعطيها الدولة لبعض الطوائف الدينية أو العقائدية كأداة لأغراض سياسات الهوية الوطنية، إذ يمكن أن يؤثر ذلك تأثيرًا سلبيًا على حالة الأفراد المنتمين للأقليات الطائفية".

وأشار تقرير العام 2010 إلى موضوع حرية الدين أو المعتقد والتعليم المدرسي. ويؤكد على أهمية القضاء على القوالب النمطية والأفكار المسبقة ومسألة الرموز الدينية في إطار المدرسة والتعليم الديني في المدارس.

وفي استنتاجاته، ذكر المقرر الخاص "هاينر بيلافلدت" أن حرية الدين أو المعتقد والتعليم المدرسي مسألة متعددة الوجوه تنطوي على فرص مهمة فضًلا عن تحديات بعيدة المدى. ويوصي بأن تنظر الدول بشكل إيجابي في عدد من المبادئ في هذا الصدد ويشير صراحة إلى الوثيقة الختامية المعتمدة في المؤتمر الاستشاري الدولي المعني بالتعليم المدرسي وصلته بحرية الدين أو العقيدة والتسامح وعدم التمييز، وإلى مبادئ "توليدو" التوجيهية المتعلقة بتدريس الأديان والمعتقدات في المدارس العامة.

وتبدو أهمية التصدي إلى هذه الصور النمطية من أنها ذات صلة بتوليد العنف أو شرعنته ضد الأقليات الدينية، وهو ما تكرر في حالات لا تقع تحت حصر في أنحاء العالم العربي، ومنها العراق في موجة اضطهاد للأقليات الدينية بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، فأفراد الأقليات الدينية يتعرضون على نحو صارخ للاستياء العام أو حتى الكراهية التي يغذيها عادة اقتران شعورين متناقضين، وهما الشعور بالخوف والازدراء.

وحسب المقرر الخاص لحرية الدين والمعتقد، فإن الخطر في بعض الأحيان كامن في تصوير اﻟﻤﺠموعات الصغيرة كمجموعات "خطيرة"، بزعم أﻧﻬا ﺗﻬدد التماسك الاجتماعي للأمة بسبب ما ينسب إليها من آثار "معدية" غامضة.وقد تتطور مثل تلك الادعاءات، لتصبح نظريات تآمرية كاملة العناصر من صنع مجموعات متنافسة أو وسائل الإعلام أو حتى سلطات الدولة ذاﺗﻬا، (وهو ما حصل بالنسبة لجماعات دينية صغيرة، مثل البهائيين في العراق في ظل نظام البعث ولجماعات أخرى تم تصوير وجودها وممارسة شعائرها الدينية كتهديد للوحدة الوطنية للبلاد، فكانت طابورا خامسا لابد من القضاء عليه).

وفي الوقت ذاته، يتعرض أعضاء الأقليات الدينية أو العقائدية كثيرًا للاحتقار العلني، استنادًا إلى شائعات تدعي تجردهم من أية قيم أخلاقية (بالنسبة للعراق هناك أمثلة لا تقع تحت حصر، مثل اتهام البهائيين بالإباحية واتهام الأزديين بعبادة الشيطان واتهام المندائيين بعبادة النجوم والكواكب). وهذا الجمع بالذات بين النظريات التآمرية المشوهة للصورة والاحتقار العلني هو الذي يولد العنف عادة، سواءً كان عنفًا موجهًا ضد أعضاء الأقليات أو عنفًا ما بين الطوائف المختلفة .

وفي جميع التقارير المقدمة من قبل المقررين الخاصين على امتداد الأعوام 1986-2013 هناك توصيات تحث الحكومات على حماية حرية الدين والمعتقد للأقليات الدينية على النحو الذي ضمنته الاتفاقيات الدولية، وتماشيا مع المعايير العالمية لحقوق الانسان.

تبدو أهمية هذه الخلفية الدولية لحماية الحريات الدينية بالنسبة للعالم العربي والتحديات التي تثيرها، في غاية الأهمية في ضوء التحولات التي تمر بها العديد من البلدان العربية وإمكانية تعرض الأقليات الدينية لاضطهادات تخص حرية الدين والمعتقد.

وفي ظل دول ضعيفة أو فاشلة تمر في مرحلة تحولات قيصرية قد يجر العنف نتائج وخيمة تتمثل في فقدان التعددية على العالم العربي من خلال هجرة الأقليات الدينية؛ فالخطر الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو التضييق من سماء التسامح التي كانت تغطي تاريخ هذه الأرض وذاكرتها الثرية من الثقافات والأديان واللغات.

لن نكون سعيدين بتخيل أرض تعد مصدر الديانات السماوية الثلاث، كصحراء صماء بلون ديني أو ثقافي واحد، إنه يكاد يكون تخيلا لزمن يرسم نهايتها في موسم لتحولات عالمية عظيمة.