نحو مشروع حضارة عالميَّة إنسانيَّة: قراءة في كتاب التجذّر لسيمون فايل


فئة :  قراءات في كتب

نحو مشروع حضارة عالميَّة إنسانيَّة: قراءة في كتاب التجذّر لسيمون فايل

باتت أوضاع العالم بعد الحرب العالمية الأولى تنبئ بإفلاس الغرب، وأنَّه على مشارف الهلاك إن استمرَّت الدول الغربية على نهجها، وهذا ما جعل الكثير من الفلاسفة يبحثون عن علاج لتصدعات العالم، خاصَّة بعد صدور كتاب أوزفلد شينجر: "تدهور الحضارة الغربية"، عقب الحرب العالمية الأولى، فتعالت أصوات من داخل المجتمعات الغربية، تدعو إلى إحياء فكرة الإنسان، وما يرتبط به من دلالات النزعة الإنسانيَّة التي تقتضي محاربة النزعة الفردانيَّة التي أفقدت العالم توازنه. ومن بين المنشغلين بهذه المشكلة نجد الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل (Simon Weil). قد يجهلها الكثير من الباحثين والنقاد، خاصَّة عندنا في الوطن العربي، لذلك سأحاول التعريف بها، - ولو بصورة مختصرة - لأنَّ المقام هنا لا يتسع لتناول سيرتها الذاتية الحافلة بالإنجازات والإبدعات الفكرية، المعبِّرة عن صدقها وإنسانيتها، ومواقفها الرافضة للأنظمة الشموليَّة. وصفها أستاذها آلان (إيميل شارتييه) بالخارجة عن المألوف، وبالفتاة القادمة من المريخ([1]). وقال عنها ألبير كامو: "ما زلت أعرف أنَّها هي أكبر عقل في عصرنا، وأتمنى من أولئك الذين قد أدركوا ذلك أن يكون لديهم ما يكفي من التواضع كي لا يستأثروا لأنفسهم بهذه الشهادة المؤثرة ليتباهوا بها، من جهتي سأكون سعيداً جداً إذا أدركت أنَّ باستطاعتي من موقعي وبالوسائل الضعيفة التي في حوزتي أن أنشر أعمالها التي لم نقدّر حتى الآن مدى تأثيرها وصداها"([2]).

ولدت سيمون فايل سنة 1909 بباريس، تنحدر من أسرة يهوديَّة برجوازيَّة([3]). كان والدها طبيباً في صفوف الجيش الفرنسي إبَّان الحرب العالمية الأولى، تنقل بين بلدان عديدة ترافقه أسرته في كلِّ تنقلاته ما عدا في رحلته إلى الجزائر، وقد انعكس ترحال الأسرة على سيمون فايل الطفلة وعلى مشوارها الدراسي فكانت دراستها متقطّعة.

استقرَّت الأسرة بباريس في بداية عام 1919 لتواصل سيمون مشوارها الدراسي، فتحصلت على البكالوريا وهي في سن السادسة عشرة([4])، حيث بدأ اهتمامها بالفلسفة بتشجيع من أستاذها إيميل شارتيبه، الملقب بـ"آلان"، الذي كان له تأثير كبير على فكرها، فقد تعرَّفت من خلاله على هوميروس وماركوس أورليوس وكانط وهيجل وماركس ودوركايم([5]).

عاشت حياة ألم ومعاناة وزهد، فقد عرفت الشقاء والألم الذي يعيشه الملايين من العمال بتركها التعليم واشتغالها في أحد المصانع، وتلخِّص لنا سوزان سونتاغ حياة سيمون فايل في عبارة تحمل الكثير من الدلالات والعبر تقول فيها: "وتلك (الحياة) التي تنظر إليها عن مسافة بمزيج من النفور والشفقة والإجلال، ذلك هو الفرق تقريباً بين البطل والقدّيس، لو أمكن استعمال الكلمة الثانية بالمعنى الجمالي عوضاً عن الديني"([6]).

وعلى الرغم من أنَّ سيمون ترى في الشقاء أمراً يُفرض على الإنسان، إلا أنَّها ترى في الوقت ذاته أنَّه من غير المعقول أن يُسعى إليه، وهي لا ترفض الشقاء ولا ترى فيه عقوبة من الإله، بل تراه من منظور صوفي فتقول: "إنَّ الشقاء ليس عقوبة للعارف، وإنَّما - والله أعلم - هو الألوهيَّة التي أمسكت بيدنا وشدَّت عليها بقليل من القوَّة"([7]).

في عام 1938اعتنقت سيمون المسيحيَّة، ولكنَّها رفضت المعموديَّة في الكنيسة الكاثوليكيَّة، رافضة الديانة اليهوديَّة لسبب أنَّها ليست ديانة عالميَّة في توجُّهها لارتباطها بمفهوم العِرق.

توفيت سنة 1943نتيجة نوبة قلبيَّة تاركة لنا العديد من الكتب عبَّرت فيها عن مواقفها السياسية والإنسانية ونظرتها الجمالية والعلمية، أهمها: التجذّر، انتظار الله، الشرط العمالي، مختارات، حول العلم، الإلياذة أو قصيدة القوَّة، دروس فلسفية، والكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة حوله عنوانه "التجذّر: تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني" للفيلسوفة سيمون فايل، الذي نشرته في لغته الفرنسية دار غاليمار سنة 1949، وترجمه إلى اللغة العربية الباحث محمد علي عبد الجليل، ونشرته دار معابر السورية سنة 2010 في طبعته الأولى، وقد كتبته سيمون فايل عام 1943 في لندن قبل رحيلها بقليل.

من خلال القراءة الأوليَّة للكتاب قد يبدو لنا أنَّه كتاب أكاديمي متخصِّص، وذلك بالنظر إلى الطابع السياسي لأغلب الموضوعات التي يتناولها، تتوجَّه بها الفيلسوفة إلى الطلبة والباحثين في حقل العلوم السياسية، وفلسفة الحضارة، لكنَّه أبعد من ذلك، فهو في الواقع يمثل أيضاً، دعوة لأصحاب القرار، وللمنظّرين لترجمة أفكارهم ونظرياتهم على أرض الواقع، وردّ الاعتبار لإنسانيَّة الإنسان، وهذا ما تؤكده طبيعة المراجع التي اعتمدت عليها، في تحليلها لفكرة التجذّر، فهي في أغلبها مؤلفات سياسية وفلسفية وتاريخية لأكبر علماء الاقتصاد والسياسة، وكبار الفلاسفة(*)، كما يزخر الكتاب بالكثير من الأساطير، والأحداث التاريخيَّة، هذا إلى جانب اعتمادها على تجربتها الشخصيَّة كعاملة في أحد المصانع، وهو الأمر الذي أتاح لها معايشة آلام العمال ومعاناتهم، أمَّا عن عنوان الكتاب، فإنًّه يفتقر منهجياً إلى الصياغة الأكاديميَّة العلميَّة الدقيقة، فلم يحدّد الفترة الزمنية التي تمَّت فيها الدراسة، ولا المكان، على الرغم من أنَّها كانت "تحكي عن حالة فرنسا بعد هزيمة 1940، وتقدّم حصيلة الحضارة الأوروبية"([8])، إلا أنَّها عبَّرت من خلاله عن السياق الفلسفي والإيديولوجي لدراستها وعن نزعتها الإنسانيَّة، وذلك لاختيارها عنوان: ""التجذّر" تمهيداً لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني". وكتاب التجذّر لا يتضمَّن مقدّمة للكاتبة(**)، تستخلص منها إشكاليَّة الكتاب، إلا أنَّه يمكن استخراجها بسهولة من قراءتنا لأجزائه الثلاثة، وهي التي يتمُّ طرحها كالآتي: كيف يكون التجذّر حلاً لمشكلة الاقتلاع؟ وبأيّ معنى يمكن التأسيس لحضارة إنسانية تقوم على تجذّر الإنسان في العالم؟

استخدمت سيمون فايل منهجاً متكاملاً، استوفى مستويات البحث الثلاثة: الوصف، التحليل، التنبؤ، فهي تقدّم نقداً ماركسياً لأوضاع العالم في ظلّ الصراع الإيديولوجي، بعد الحرب العالمية الأولى، ويبدو هذا من استخدامها أدوات تحليلية ماركسية كالعمال، التغيير، الثورة، الاستغلال، الاقتلاع، وغيرها، وبذلك فإنَّ سيمون فايل قد استخدمت أسلوباً منهجياً محكماً، تشدُّ القارئ إليها في الأجزاء الثلاثة للكتاب، فقد شكَّل الجزء الأول، المعنون بحاجات النفس، مدخلاً وافياً لوضعنا في قلب المشكلة، فقد حدَّدت منذ البداية أهميَّة الواجب وطبيعته اللامشروطة، وحاجات النفس التي ينبغي تحقيقها، ثمَّ جاء الجزء الثاني بعنوان الاقتلاع، كعرض مفصل لا يخلو من التحليل لمفهوم الاقتلاع بمستوياته المختلفة، وما يترتب عنه، وقد خصَّصت لكلِّ مستوى عنصراً خاصَّاً به (اقتلاع الفلاحين، اقتلاع العمال، الاقتلاع والأمَّة).

وتحت عنوان التجذُّر، تضمَّن الجزء الأخير الفكرة الأساسيَّة للكتاب، وهي التجذّر الذي تعتبره حلاً لمشكلات الإنسانيَّة، وإيقافاً لكلِّ أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

1 - حاجات النفس

تستهلُّ سيمون فايل الجزء الأول من كتابها بعبارة توضح علاقة الحق بالواجب، تقول فيها: "إنَّ مفهوم الواجب يسبق مفهوم الحق، فهو تابع له ومرتبط به، فالحق ليس فاعلاً بذاته، بل فقط بالواجب الذي يقابله"([9]). فالواجب حسب الفيلسوفة، غير مشروط، يتجاوز كلَّ الشروط، "إذ يتموضع في مجال خاص به، يتجاوز كلَّ الشروط، لأنَّه مجال يتجاوز هذا العالم".([10]) فالواجبات تجاه الإنسان تتحدَّد لكونه كائناً إنسانياً دون أيَّة شروط أخرى، لذا تأخذ طابع المطلقيَّة، وموضوعها في إطار الأمور الإنسانيَّة هو الكائن الإنساني في حدّ ذاته، وعلى هذا تربط سيمون فايل الواجب بالإنسان الفرد، وليس بالجماعة الإنسانية، وهذا ما يجعلها خالدة وعالميَّة، فهي واجبات إنسانيَّة مشتركة بين البشر، وربطها بالجماعات الإنسانيَّة يعطيها طابع النسبيَّة، إذ تصبح متغيرة باختلاف الجماعات عن بعضها بعضاً، لذلك فواجباتنا واحدة، مشتركة ومتماثلة، وقيمة الواجب في ذاته، لا يحتاج إلى الاعتراف به، كامل بذاته، على عكس الحقوق التي تظهر دائماً مرتبطة ببعض الواجبات، تستمدُّ قيمتها منها (أي من الواجبات)، ولا تكتمل الحقوق إلا بالاعتراف بها، وترتبط بالظروف الواقعية، ممَّا يجعلها نسبيَّة متغيرة بتغيُّر الواقع.

والواجبات باعتبار مجالها الخاص، الذي يتجاوز العالم، فإنَّها لا تتحدَّد بالاتفاق والتعاقد بين الناس، بل هي تتحدَّد في وعي كلّ إنسان، وتعبّر عن هذه الفكرة بقولها: "وليس لهذا الواجب أساس، وإنَّما تحقق في اتفاق الوعي العالمي، وقد عبَّرت عنه بعض أقدم النصوص المكتوبة التي وصلت إلينا، واعترف به الجميع في جميع الحالات الخاصة التي لا تحارب فيها المصالح أو الأهواء هذا الواجب، ويُقاس التقدُّم به".([11])

فالتقدُّم من منظور سيمون فايل يُقاس بمدى الامتثال للواجبات تجاه الكائن الإنساني، وهذه الواجبات تقتضي أن نوفر له حاجات أساسيَّة ضروريَّة لحياته، وهي نوعان:

1. حاجات جسديَّة: تصفها بأنَّها حاجات أرضيَّة، وهي من قبيل الغذاء، و"تتعلق بالحماية من العنف، وبالمسكن والملبس والدفء والرعاية الصحيَّة في حال المرض".([12])

2. حاجات نفسيَّة: لا تقلُّ أهمية عن سابقتها، بل هي حاجات أرقى من الحاجات الجسديَّة الماديَّة، لأنَّ الحاجات الماديَّة إذا فقدت يمكن تعويضها بأخرى، أمَّا النفسية فلا يوجد ما يعادلها أو ما يعوّضها، وفي هذا السياق تقول سيمون فايل: "إنَّ كيس القمح يمكن في أي وقت استبداله بكيس قمح آخر، والغذاء الذي تقدّمه الجماعة لنفوس أعضائها لا يعادله شيء في الكون أجمع".([13])

وحاجات النفس هذه هي بمثابة مكاسب للجماعات تنتقل من جيل إلى آخر، وهي أربع عشرة: النظام، الحرية، الطاعة، المسؤوليَّة، المساواة، التراتبيَّة، الشرف، العقاب، حريَّة الرأي، الأمن، المجازفة، الملكيَّة الخاصة، الملكيَّة الجماعيَّة، وأخيراً الحقيقة.

1ـ النظام: ترى سيمون فايل أنَّ أسوأ ما يعاني منه الإنسان اليوم(***)هو الفوضى وتعارض الواجبات، لذلك فإنَّ النظام هو الحاجة الأولى للنفس، وتعني به نسيجاً من العلاقات الاجتماعيَّة يسمح بأداء الواجبات على أكمل وجه، فيحدث أن تتعارض واجبات الإنسان فترغمه على ترك بعضها من أجل واجبات أخرى، تحت ضغط الظروف الخارجيَّة المتغيرة، ومع هذا يميل الإنسان إلى تحقيق النظام، لأنَّ النظام يتميز بخاصتين هما:

الأولى: الإنسان يقوم بواجباته رغبة في الخير، تمنعه من الاستسلام للظروف التي تتعارض فيها واجباته، وتنشأ رغبته في الخير بفضل الجمال الذي يحمله الإنسان بداخله، والذي يترجم من خلال أعماله الفنيَّة الحقيقيَّة، ومن تأمُّل جمال العالم، ومن الخير الخفي الذي يحمله كلُّ فرد منا بداخله.([14])

الثانية: الاعتدال والوسطية في الحاجات المتضادَّة، أو ما تسميه سيمون فايل "الطريق الوسط - le juste milieu" وذلك لأنَّ "الحاجات تنتظم في أزواج من الأضداد، وينبغي أن تتألف في توازن".([15])

2ـ الحريَّة: هي "غذاء لا غنى عنه للنفس البشريَّة"([16]) وتتناول سيمون فايل الحريَّة في جانبها الواقعي الملموس في امتلاك الإنسان إمكانية الاختيار، أي أنَّ أفعاله تصدر عنه برغبته وإرادته من جهة، ومن جهة أخرى، عليه أن ينطلق في تجسيد حريته من اقتناعه بأنَّها مقيدة بالواقع، فهذه القيود التي يحدّدها الواقع ضروريَّة، حتى لا يحدث إضرار بالمصلحة العامَّة.

3ـ الطاعة: وهي موافقة داخلية تتبع من سلطة الضمير نحو القوانين السائدة، ونحو القادة، فالطاعة نوعان: طاعة القوانين السائدة، وطاعة البشر الذين يتولّون قيادة الجماعة، وتؤكد سيمون فايل على ضرورة عدم تعارض الطاعة مع حريَّة الإنسان، لذلك تشترط أن تكون من الجميع، من الجماعة ومن القائد على اعتبار منبعها الموافقة وليس الخوف أو العقاب.([17])

4ـ المسؤوليَّة: هي أن يتخذ الإنسان قرارات لحلِّ المشاكل، سواء التي تمسُّ مصالحه الخاصة أو مصالح غيره، فتشعره بأهميته، وحاجة المجتمع إليه، فوجوده ضروري ومفيد([18]).

5ـ المساواة: وتحدث من خلال مبدأ تكافؤ الفرص الذي يعني التوازن بين المساواة واللامساواة بين الناس([19])، وتقدّم لنا سيمون فايل مثالاً حيَّاً عن أهميَّة هذا التوازن من خلال مثال الجندي والجنرال أثناء الحرب، فالجيش بامتلاكه الروح المعنويَّة التي تدفعه نحو تحقيق النصر تجعل الجندي فخوراً وسعيداً بكونه تحت النار، وسعادة وفخر الجنرال في كون مصير المعركة مرهون بتخطيطه وتدبيره، فيحدث، في الوقت نفسه، إعجاب بين الطرفين، الجندي يعجب بجنراله، والجنرال يعجب بالجندي.

وتقوم المساواة "على الاعتراف العلني والفعلي الذي تعبّر عنه تعبيراً حقيقياً المؤسسات، والاعتراف بأنَّ المقدار نفسه من الاحترام والتقدير حق واجب لكلِّ كائن إنساني، لأنَّ الاحترام حقٌ واجب لكلِّ كائن إنساني بذاته، وليس له درجات".([20])

6ـ التراتبيَّة: وتعني نظام المراتب، وتقوم على نوع من الاحترام والإخلاص للرؤساء باعتبارهم سلطة رمزيَّة، وهذا ما ينبغي على الرئيس أن يعيه حتى يتمكن كلُّ فرد من الاستقرار بشكل طبيعي في مكانه داخل المجتمع.([21])

7ـ الشرف: يختلف الشرف عن الاحترام، لكون هذا الأخير له علاقة بالإنسان لكونه إنساناً، أمَّا الشرف فيتحقق بالنظر إلى محيطه الاجتماعي، ويمنح الشرف للإنسان "إذا قدمت كلُّ جماعة للكائن الإنساني الذي ينتمي إليها مشاركة في التراث السامي المتضمن في ماضيها والمعترف به علناً خارجها".([22])

8ـ العقاب: إنَّ الإنسان بارتكابه الجريمة يخرج من شبكة الواجبات الثابتة التي تربط بين الناس، ولا يمكنه الرجوع إليها، وإعادة الاندماج فيها إلا بالعقاب([23])، ولذلك ترى سيمون فايل أنَّ العقاب على الجريمة هو الأكثر ضرورة للنفس، ولكي يؤدّي العقاب وظيفته لا بُدَّ من أن يكون هناك انسجام بين العقوبة وطابع الواجبات المنتهكة، وليس على أساس مصالح الأمن الاجتماعي، فمعيار تحديد العقوبات هو انسجامها مع الواجبات التي ينتهكها الفرد، إذ يحدث أن تسلط أقصى العقوبات على بعض المخالفات أو الأخطاء التي يرتكبها الفرد، في حين تسلط عقوبات أقل على جرائم كبيرة، وهنا تُحدِّد لنا سيمون فايل درجة العقاب وفق السلم الاجتماعي، قصد تحقيق العدل، أي تنقص كلما نزلنا في السلم الاجتماعي، وتزيد كلما صعدنا فيه، إذ "ينبغي على نظام العقوبات أن يعرف كيف يوقظ الشعور بالعدل لدى المجرم عن طريق الألم، أو حتى الموت عند الاقتضاء"([24])، فلا يفلت من العقاب أيُّ مجرم مهما كانت مكانته في المجتمع.

9ـ حريَّة الرأي: وهي حاجة أساسيَّة من حاجات العقل الإنساني والنفس الإنسانيَّة، وحريَّة الرأي تعني حريَّة فكر الفرد، وليس حريَّة فكر الجماعة، لأنَّ حريَّة فكر الجماعة فيه إلغاء لحريَّة فكر الفرد، وتأثيره خطير على العقل، "فالعقل يهزم بمجرَّد أن تتصدَّر الكلمة الصغيرة "نحن" التعبير عن الأفكار صراحة أو ضمناً، وعندما يخبو نور العقل بعد وقت قصير يضلُّ حبُّ الخير طريقه"([25])، وتجد سيمون فايل تشابكاً بين حريَّة الفكر، والفكر في حدّ ذاته، فغياب حريَّة الفكر يؤدي إلى قتل الفكر وفي غياب وجود الفكر، ينتفي وجود حريَّة الفكر.

10ـ الأمن: "يعني الأمن عدم وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب"([26])، لذلك فإنَّ الخوف "نصف شلل للنفس"([27])، ويحدث غياب الأمن نتيجة لأسباب عديدة، وهي:

ـ البطالة

ـ الاحتلال الأجنبي

ـ القمع البوليسي

ـ وجود خطر ما يتجاوز الطاقة البشرية، يعجز الإنسان عن صدِّه.

11- المجازفة: غيابها لا يقلُّ تأثيراً عن تأثير الخوف على النفس، لأنَّه يضعف الشجاعة لدرجة يعجز فيها الإنسان عن حماية نفسه، فحماية النفس من الخوف تتطلب قدراً معيَّناً من المجازفة، وتعرّفها الفيلسوفة بقولها: "المجازفة هي خطر يثير ردَّ فعل مدروس"([28])، فهي تحدٍّ للخوف والتغلب على الملل، الذي يحدُّ من عزيمة الإنسان.

12- الملكيَّة الخاصَّة: ونعني بها امتلاك أشياء أخرى غير أشياء الاستهلاك اليومي، وهي حاجة حيويَّة للنفس، لأنَّ "النفس تصبح معزولة ضائعة إن لم تكن محاطة بأشياء تكون لها، كأنَّها امتداد لأعضاء الجسد"([29]).

13- الملكيَّة الجماعيَّة: والمشاركة في الممتلكات الماديَّة تقوم على الشعور بالملكيَّة، أي أنَّ أساسها معنوي وليس ماديَّاً.

14- الحقيقة: تعتبرها سيمون فايل أقدس من أيَّة حاجة([30]). لذلك ينبغي على المجتمع أن يقدِّم لأفراده الحقيقة، سواء كانت في الكتب أو عن طريق وسائل الإعلام، لذلك وجب وضع قوانين تمنع تغيير الحقيقة عمداً، وأن تطبَّق أشدّ العقوبات على من يتقصَّد ذلك، وأن تحرص الدولة على أن يكون الإعلام نزيهاً وغير منحاز.

2 - الاقتلاع

ترى سيمون فايل أنَّ التجذّر هو أهمُّ حاجات النفس وأكثرها صعوبة على التعريف، تبدأ من مفهوم التجذّر لتنقلنا إلى مفهوم الاقتلاع، يحصل التجذّر من خلال المشاركة "الحقيقية والفاعلة والطبيعية في الوجود الخاص بجماعة" تمتلك ماضيها، وتحافظ عليه، وتتمثله لخلق مستقبلها، أمَّا الاقتلاع فهو تقطيع هذه الجذور، إنَّه تدمير للماضي.

يُعدُّ الماضي بحسب الفيلسوفة من بين حاجات النفس الأكثر حيويَّة([31])، فهو لا يتعارض مع المستقبل، بل هو ضروري لبنائه: "المستقبل لا يجلب لنا شيئاً، لا يعطينا شيئاً، إنَّما نحن الذين يجب علينا لكي نبنيه أن نعطيه كلَّ شيء،    أن نعطيه حياتنا نفسها، ولكن لكي نعطي يجب أن نمتلك، ونحن لا نمتلك حياة ولا نسغاً، غير الكنوز التي نرثها من الماضي ونهضمها ونتمثلها، ونخلقها من جديد".([32])

ونظراً لخطر الاقتلاع، وبحثها عن علاج له، فإنَّ الفيلسوفة في الفصل الثاني من هذا الكتاب تحدّ أسبابه وأنماطه، وعن أسبابه فإنَّها ترجعها إلى عوامل خارجيَّة وأخرى داخليَّة، الخارجيَّة منها تتعلق بالحروب والاحتلال وما ينجم عنها من غزو وتهجير للشعوب المحتلة، وفي هذا السياق تقدّم لنا أمثلة عن جرائم الرجل الأبيض في بلدان الشرق، وما نتج عنه من اقتلاع لماضيها، وكذلك ما حدث في القارَّة الأمريكيَّة من اقتلاع للسكان الأصليين من طرف المهاجرين إليها، وهنا تبرز نزعة سيمون فايل الإنسانيَّة الرافضة للاستعمار والغزو في أي مكان من العالم، بغضِّ النظر عن العرق والجنس، فبشاعة الاستعمار واحدة أينما كانت.

أمَّا عن العوامل الداخليَّة، فإنَها ترتبط بالمجتمع ذاته، في ظلِّ الأنظمة المستبّدة الفاسدة، وتحت سلطة المال يُقتلع المجتمع من جذوره.

وتحدِّد سيمون فايل في هذا الجزء من الكتاب أنماط الاقتلاع، فتردّها إلى ثلاثة:

1ـ اقتلاع العمال، ويحدث في المصانع التي يتحوَّل فيها العامل إلى عبد، وإلى وسائل غايتها تحقيق الأرباح الماديَّة، فيشعر العامل بأنَّه منفي في مجتمعه، وتحدّد الفيلسوفة هنا عوامل اقتلاع العمال في عنصرين هما: سلطة المال، والتثقيف([33])، وترى فيهما الخطر الأكبر في نشر الاقتلاع داخل المجتمع، فأمَّا المال فإنَّ هاجس الربح ينجم عنه استغلال العامل، وهذا الأخير همُّه الأجر، فارتباطه بعمله ليس لأجل العمل في حدّ ذاته وإنَّما الأجر الذي يناله في مقابل ما يؤديه، فيقتلع من جذوره.

والأمر ذاته بالنسبة إلى عامل التثقيف، فالتطوُّر الذي شهده العالم أدَّى بالطبقات المثقفة إلى محاولة نشر الثقافة بين أوساط المجتمع المختلفة، وهذه الثقافة في الحقيقة منفصلة عن جذور المجتمع وغير صالحة له، فتتحول مكانة اجتماعية تسعى الجماهير إلى الوصول إليها. فالتعلم ليس من أجل التعلم والبحث عن الحقيقة، بل للحصول على وظيفة داخل المجتمع.

وتأثير هذه الثقافة على العمال لا يقلُّ خطراً عن عامل المال، إذ تنتقد هنا الشعارات البراقة والنظريات التي لا يستوعبها العمال ولا تستوعب مطالبهم وحاجاتهم، والتي تكون تحت شعار الدفاع عن حقوق العمال وتحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم، وتذكر فشل الماركسية([34]) في الاستجابة لمطالب العمال، بل على العكس لقد ساهمت في اقتلاع العمال، حتى ماركس ذاته قد فشل في ذلك، فالإجراءات التي اقترحها في كتابه رأس المال زادت في شقاء العمال، لأنَّها إجراءات قانونيَّة، وتعبّر عن الوضع بقولها: "(...) فجميع الإجراءات المقترحة، سواء كانت تحمل طابعاً ثورياً أم إصلاحياً، هي إجراءات قانونيَّة بحتة، بينما شقاء العمال وعلاج هذا الشقاء ليسا على المستوى القانوني، ولو كان ماركس صادقاً مع فكره لكان فهم ذلك تماماً، لأنَّ ذلك أمر بدهي يظهر جليَّاً في أفضل صفحات رأس المال le capital".([35])

وفي سبيل البحث عن حلٍّ لهذه الأزمة، ترى سيمون فايل أنَّ العامل لو كان يمتلك مسكناً خاصاً به وقطعة أرض، وآلة، وتلقَّى تكويناً يؤهله لأداء عمله، وأشرفت الدولة على المراقبة لكان الوضع أفضل ممَّا هو عليه، لأنَّ العامل يتحلّى بروح المبادرة ويظهر مهاراته لكونه مسؤولاً عن إنتاجه وآلاته، فيعاد النظر في قيمة العمل، باعتباره كرامة إنسانيَّة. "وهذه الطريقة في الحياة الاجتماعيَّة لا رأسماليَّة ولا اشتراكيَّة".([36]) إنَّ سيمون فايل توازن بين الملكيَّة الفرديَّة والملكيَّة الجماعيَّة كحاجات للنفس البشريَّة.

2- اقتلاع الفلاحين: "ليست مشكلة اقتلاع الفلاحين أقلَّ خطورة من مشكلة اقتلاع العمال".([37]) ويحدث اقتلاع الفلاح عندما يعمل في غير أرضه، فيكون أجيراً، أو عندما يُجبر الفلاح على ترك أرضه ويتوجَّه إلى المدينة فيتحول إلى عامل مصنع أو يعاني البطالة. ولعل شقاء الفلاح أشدُّ من شقاء العامل، فكثيراً ما ينبهر بحياة المدينة وبحياة العمال التي يعتقد أنَّها أفضل من حياته.

وتكمن معاناة الفلاحين وتعمُّق شعورهم بالاقتلاع في اعتقادهم أنَّ العمال أقلُّ معاناة منهم، وأنَّهم وحدهم أصحاب امتيازات، فقلما تهتمُّ الطبقات المثقفة بالفلاحين وتدافع عن حقوقهم.

إنَّ تجذُّر الفلاحين لا يكون إلا بالاهتمام بهم، كالاهتمام بالعمال، يجب أن يمنح الفلاح أرضاً تكون ملكاً له. وأن يتلقى تكويناً خاصاً، يختلف عن التعليم الذي يتلقاه العامل، إنَّه تعليم يتناسب مع طبيعة عمله، هذا التعليم "هدفه الرئيس زيادة رهافة الإحساس بجمال العالم وبجمال الطبيعة"([38])، عندما يشعر الفلاح أنَّه ليس غريباً عن أرضه، ولا عن الفكر الإنساني.

3- الاقتلاع والأمَّة: مفهوم الأمَّة عند سيمون فايل يرادف مفهوم الدولة([39])، وتعرّفها بقولها: "والأمَّة هي مجموع أقاليم وسكان تجمعهم أحداث تاريخيَّة، تساهم فيها المصادفة مساهمة كبيرة بمقدار ما يمكن للعقل البشري أن يقدر ذلك، ويختلط فيها دائماً الخير والشر، والأمَّة هي واقع، والواقع ليس مطلقاً، إنَّها واقع من بين وقائع أخرى مشابهة، هناك أكثر من أمَّة على سطح الأرض، ولا ريب في أنَّ أمَّتنا فريدة، لكنَّ كلَّ أمَّة من الأمم الأخرى إذا ما نُظر إليها في ذاتها وبمحبة فهي أمَّة فريدة بالدرجة نفسها".([40]) لكلِّ أمَّة كيانها الخاص، يجعلها مختلفة عن غيرها، ومتفرّدة بذاتها. وتتعرض الأمَّة إلى خطر الاقتلاع بسبب الحروب والغزوات، وكذلك في ظلّ الأنظمة الشموليَّة، فتفقد ماضيها، وهو أسوأ ما تتعرَّض له الأمَّة، لأنَّ "فقدان الماضي، الجمعي أو الفردي، هو المأساة الإنسانيَّة الكبيرة"([41]).

وبغضِّ النظر عن أنماط الاقتلاع الثلاثة، فإنَّه يظلُّ كالوباء، يتكاثر من تلقاء نفسه، ينتشر بسرعة بمجرَّد الإصابة به، فتأثيره على المقتلعين يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إمَّا أن تقتل أنفس المقتلعين فيكونوا كالأموات، وإمَّا أن يزيد نشاط هؤلاء فيعملون على توسعة الاقتلاع على نطاق أوسع، أي نقله إلى من لم يُصابوا به بعد.

3. التجذّر: نحو بناء حضارة عالميَّة بوجه إنساني

ولا مخرج لمشكلة الاقتلاع سوى التجذّر، فتنقلنا سيمون فايل إلى الجزء الثالث من كتابها بحثاً عن مخرج من الأزمة، الذي طرحته في الفصلين السابقين، وبالعودة إلى مفهوم التجذّر الذي يعني المساهمة الفعَّالة للفرد داخل الجماعة التي ينتمي إليها، وفي المحافظة على ماضيها لبناء المستقبل، فإنَّ سيمون فايل، ترى في روحانيَّة العمل علاجاً لمشكلة الاقتلاع، وتوضح مفهوم العمل الذي يرتبط بالكرامة، أي "كرامة العمل"([42])، من خلال إدخال الفكر فيه، أي لا ينبغي أن نفصل بين العمل والفكر، فهما متلازمان مترابطان، فلا ننظر إلى الشخص الذي يؤدي عمله على أنَّه توليفة من أجزاء، يعمل تارة ويفكر تارة أخرى، وروحانية العمل هي التي تصنع الحضارة، إذ ترى أنَّ "مهمَّة عصرنا وتوجهه هو تكوين حضارة على أساس روحانيَّة العمل"([43])، وتوضح سيمون فايل: معنى "روحانيَّة" الذي لا يعني الانتساب إلى جماعة ما، ولا الارتباط بحركة بعينها أو بنظام سياسي، أو بأمَّة ما، إنَّها تأخذ الصبغة الإنسانيَّة في بعدها العالمي، وبهذا الشرط يمكن التأسيس لحضارة إنسانيَّة تقوم على تجذّر الإنسان في العالم.

إنَّ استحضار الماضي لبناء المستقبل لن يتحقَّق إلا من خلال روحانيَّة العمل، والأمر ليس بالهيّن، بل له شروطه الخاصَّة التي تقتضي إعادة النظر في التربية والدين والسياسة والتاريخ والفن.

ـ التربية: بداية التربية التي هدفها الأساسي هو إثارة الدافع في نفس الشخص نحو التحقيق الفعلي، للعمل، "لأنَّه لا ينفذ أيّ عمل أبداً بغياب دوافع قادرة على تزويده بالكميَّة اللازمة من الطاقة"([44])، والتربية سواء كانت فردية أو جماعية يتلقاها كلُّ فرد بغضِّ النظر عن سنِّه، وتقترن بالتعليم، الذي عليه تحديد القيم الثلاث: ما هو مفيد، وما هو لازم، وما هو خير.([45])

ـ الدين: أمَّا عن الدين فهو عامل أساسي في بناء الحضارات([46])، لذلك ينبغي إدراج التاريخ الديني في التعليم للأطفال في سنٍّ معيَّن، يسمح لهم باستيعاب ما يتلقونه، فالدين لا بُدَّ أن يقوم على فكرة التسامح، وأن يكون عالميَّاً في توجُّهه، حيث تقول: "ويكون الفكر الديني حقيقياً عندما يكون عالميَّاً في توجُّهه"([47])، وهذا ما يسوّغ رفضها للدين اليهودي، لأنَّه منغلق متعصِّب، يقوم أساساً على فكرة العِرق، والدين كما ترى سيمون فايل لا ينفصل عن الفنّ والجمال.

- السياسة: تُعرّف السياسة بأنَّها: "فن يحكمه التأليف على مستويات متعدّدة"([48])، الهدف منها هو تحقيق العدالة، وهي الأخرى مرتبطة بالفن ارتباطاً وثيقاً، لذلك ينبغي أن تعيد النظر في السياسة، على أنَّها فن راقٍ، لا مجرَّد تقنية تستخدم للحصول على السلطة([49])، فارتباط السياسة بالفن يمنحها روح الابتكار الخلَّاق.

ـ التاريخ: تدعو إلى تصحيح التاريخ، وضرورة التحلّي بالموضوعيَّة أثناء كتابته، لأنَّ "التاريخ نسيج من النداءات والأعمال الوحشيَّة تلمع فيه بعض قطرات من الطهارة في فترات متباعدة، إذا كان الأمر كذلك فلأنَّ هناك قليلاً من الطهارة بين البشر، ثم إنَّ الجزء الأكبر من هذا القليل مخفي ويبقى مخفياً، يجب البحث عنه إذا أردنا شهادات غير مباشرة".([50]) والتاريخ الذي نعرفه كتبه المنتصرون فلا يخلو من تزييف الحقائق، بل تذهب سيمون فايل إلى أبعد من ذلك عندما تقول عنه إنَّه "موطن عملية داروينية أقسى بكثير من العملية التي تحكم الحياة الحيوانيَّة والنباتيَّة". إنَّه صراع تكون فيه الغلبة للأقوياء والمنتصرين، وهم وحدهم يكتبون التاريخ، تاريخ انتصاراتهم وبطولاتهم، في كثير من الكذب وتزييف الحقائق، لذلك ينبغي تعليم التاريخ، بشكل مغاير لما هو سائد اليوم، أي أن تُقدَّم الوقائع في إطارها الحقيقي بالنسبة إلى الخير والشر.([51])

ه- نقد العلمويَّة: (الوضعيَّة العلميَّة، مذهب العلميَّة scientisme إدعاء العلم بامتلاكه الحقيقة المطلقة، وبقدرته على تقديم إجابات لكلِّ مشاكل الإنسان، فالمرفوض في العلم ليس نتائجه وإنَّما الوثوقية في صحًّة نتائجه.

إنَّ سيمون فايل في دعوتها إلى التأسيس لحضارة عالمية إنسانية، تقوم على أساس تجذّر الإنسان في العالم، فإنَّها في الوقت نفسه، تشير إلى أربع عقبات أساسية، من شأنها أن تشكِّل عائقاً أمام تحقيقها وهي([52]):

1- العظمة المزيَّفة: وهي أكثر العيوب خطراً، وتعني التمركز حول الذات.

2- انحطاط الشعور بالعدالة.

3- حبّ المال.

4- غياب الإلهام الديني.

هذه العقبات هي نتاج حضارة الغرب التي فقدت الإحساس بجمال العالم، وتمثله في مجالات حياتها المختلفة، حضارة تقوم على القوَّة الوحشيَّة، لم تدرك حقيقة نظام العالم الذي هو "جمال العالم"([53])، فأساءت فهم العلاقات الضروريَّة التي تؤلفه.

وترى سيمون فايل أنَّه يمكن تجاوز هذه العقبات بتغيير رؤيتنا للكون، وإعادة صياغة علاقتنا به، من خلال رؤية فنيّة تبحث عن جمال العالم، فتتكشف الحقيقة لنا واضحة جليَّة، وهذا ما تدعوه بروح الحقيقة، الذي يقوم على حبِّ جمال الكون، لذلك "العلاج هو إعادة إحلال روح الحقيقة، فنيَّاً، وفي الدين والعلم أولاً، ممَّا يستلزم تصالحها".([54])

خاتمة

وختاماً نقول إنَّ كتاب التجذُّر من الكتب القيِّمة، إذ يفتح عيوننا أمام قراءة جديدة للتاريخ والقانون والسياسة، بنتْ فيه الكاتبة أفكارها على أساس الجدل الصاعد والجدل النازل، وصراع الأضدَّاد بين الحاجات الإنسانيَّة، لكن في صورة تختلف عن طرح هيجل، تقترب من طرح إدغار موران للفكر المركَّب الذي يحتوي الضدَّين معاً في صورة حواريَّة، فقد يحدث أن يعلو أحدهما الآخر دون أن يتغلب عليه أو ينفيه، إنَّها فيلسوفة متشبِّعة بالقيم الإنسانيَّة، إذ تمثلت ثقافات الشعوب وقيمها السامية على اختلاف أجناسها وألوانها وأديانها.

لقد كان لها أثر كبير على العديد من الفلاسفة وعلى رأسهم الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي (1913-2012)، حيث نلتمس أفكارها في العديد من مؤلفاته، فقد بدا تأثره بها واضحاً في الكثير من أفكاره، خاصة فيما يتعلق بالتاريخ والتربية والتعليم والسياسة وواجبات الإنسان.

نخلص مع سيمون فايل إلى القول: إنَّ تحقيق العدالة والمساواة بين البشر لن يكون إلا بالامتثال للواجبات تجاه الكائن الإنساني، وبذلك فالكتاب دعوة للسلام العالمي ونبذ الحروب، إنَّه مشروع سلام دائم جديد في صيغة أكثر واقعيَّة وأكثر إنسانيَّة، مشروع حضارة إنسانيَّة جديد متكامل، يقوم على العمل كأداة ربط بين العالم الروحي والعالم المادي، لأنَّ روحانيَّة العمل هي التي تصنع الحضارة.


[1]- سيمون فايل، التجذّر، ترجمة محمد علي عبد الجليل (دمشق: دار معابر للنشر، ط1، 2010)، ص 9

[2]- المصدرنفسه، ص 9

[3]- Bertrand saint sernin , Laction politique selon simoneweil (2° ed , 2008) p7.

[4]- Ibid, p7.

[5]- سيمون فايل، مختارات، ترجمة محمد علي عبد الجليل (دمشق، دار معابر للنشر، ط1، 2009) ص 8

[6]- سوزان سونتاغ، ضدّ التأويل ومقالات أخرى، ترجمة نهلة بيضون (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008) ص 97

[7]- سيمون فايل، مختارات مصدر سابق، ص ص 21-22

(*) نذكر منهم: كارل ماركس، لينين، كانط، رونيه ديكارت، باسكال، لامرتين، أفلاطون، سان سيمون.

[8]- سيمون فايل، التجذّر، مصدر سابق، ص 9

(**) ربَّما لأنَّ الكتاب لم يكتمل، فقد كان آخر ما كتبت، ونشر بعد وفاتها.

[9]- المصدر السابق، ص 13

[10]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[11]- سيمون فايل، التجذّر، ص 14

[12]- المصدر نفسه، ص 15

[13]- المصدر نفسه، ص 16

(***) الفترة الزمنية التي تقصدها سيمون فايل هي بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنَّها في الحقيقة، ما نعيشه في زمننا اليوم أيضاً.

[14]- المصدر السابق، ص ص 19-20

[15]- المصدر نفسه، ص 20

[16]- المصدرنفسه، ص 21

[17]- المصدر نفسه، ص 23

[18]- المصدر نفسه، ص 24

[19]- المصدر نفسه، ص 25

[20]- المصدر نفسه، ص 25

[21]- المصدر نفسه، ص 28

[22]- المصدر نفسه، ص 29

[23]- المصدر نفسه، ص 31

[24]- المصدرنفسه، ص ص 31-32

[25]- المصدر نفسه، ص ص 36-37

[26]- المصدرنفسه، ص 42

[27]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[28]- المصدر نفسه، ص 43

[29]- المصدر نفسه، ص 44

[30]- المصدر نفسه، ص 46

[31]- المصدر نفسه، ص 57

[32]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[33]- المصدر نفسه، ص 53

[34]- تقصد هنا من طبقوا الماركسية بعد ماركس، وأفرغوها من محتواها الذي أراده لها ماركس.

[35]- المصدر نفسه، ص 58

[36]- المصدر نفسه، ص 57

[37]- المصدر نفسه، ص 76

[38]- المصدر نفسه، ص 82

[39]- المصدر نفسه، ص 91

[40]- المصدر نفسه، ص 115

[41]- المصدر نفسه، ص 107

[42]- المصدر نفسه، ص 88

[43]- المصدر نفسه، ص 89

[44]- المصدر نفسه، ص 156

[45]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[46]- المصدر نفسه، ص 86

[47]- المصدر نفسه، ص 87

[48]- المصدر نفسه، ص 176

[49]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[50]- المصدر نفسه، ص 188

[51]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[52]- المصدر نفسه، ص 177

[53]- المصدر نفسه، ص 235

[54]- المصدر نفسه، ص 210