نظرية المعرفة في النسق الفلسفي السفسطائي


فئة :  مقالات

نظرية المعرفة في النسق الفلسفي السفسطائي

نظرية المعرفة في النسق الفلسفي السفسطائي

الحديث عن التفكير لا يستقيم إلا بالتأمل العقلي وشد النفس التواقة نحو اليقظة الفكرية والأسئلة العميقة التي تخلخل الذات الإنسانية بغية إعادة النظر في مفاهيمها وأفكارها وجميع معارفها. إنها سمة الفلسفة ورسالتها الأولى في توجيه الفكر العالمي. لهذا أصبح الإيمان بالتحرر من ربق الميتوس والسعي نحو التأمل الفكري خطوة ضرورية لا مناص منها؛ فلكل عصر عقلي أسلاف تاريخية مهدت له من بعض النواحي، ويغلب أن يكون تمهيدها له من نواحي كثيرة، فكان على الإنسان اليوناني أن يعمل زمنا طويلا قبل أن يستطيع التفكير، فاستجاب للبيئة الطبيعية متأملا، منبهرا بالظواهر الكونية الموجودة فيها، حتى دأب الفكر الإنساني الفلسفي الإغريقي الاشتغال على مسائل المعرفة، عندما طرح الفلاسفة الطبيعيين السؤال الكبير من أين جاء العالم؟

لقد وجهوا بهذا التساؤل ضربة قاسية للآلهة التي كانت تحكم البشر، ويحجون إليها كل أربع مرات في السنة، فنقلوا الفكر اليوناني من الميتوس إلى اللوغوس بغية بناء نسق فلسفي يبحث في نظرية المعرفة ثم اللوغوس والإنسان وإرساء منظومة القيم الخلقية التي تسعى لصقل شخصية الفرد الإغريقي كمواطن صالح ينخرط في جمهورية أثينا الديمقراطية، وتكريس مبدأ الحوار الذي دافع عنه الأب الروحي للتفكير العقلي سقراط، فكان الاعتقاد السائد في الفكر الفلسفي اليوناني أن المعرفة حقيقية، ثابتة فلا مجال للظن والتغيير فيها. لكن على طرف النقيض يُرجع البعض من الفلاسفة نظرية المعرفة في شموليتها إلى النسبية والتعدد الذي يختلف من شخص إلى آخر؛ فالإنسان مقياس العلوم والمعارف، وصانع شؤون الحياة، ويتعلم المبادئ التي يؤمن بها، فعليه يجوب العالم ويطوف في أرجاء الكون ويحتك بالواقع ويجرب، يقتنص المعرفة ويغتنم السبل الموصلة إليها.

فهل المعرفة نسبية ومتعددة في النسق الفلسفي السفسطائي؟

(نظرية المعرفة في الفلسفة اليونانية السفسطائية نسبية متعددة)

لقد ظهر السفسطائيون في القرن الخامس قبل الميلاد، «وكما هو معروف، فقد جرت العادة في بلاد اليونان ألا يتلقى المعلم أو الحكيم أو الفيلسوف أجراً على تعليمه، إلاّ أن السفسطائيين كانوا يتكسبون من تعليمهم، واتخذوا من الفلسفة والخطابة وسيلة لجمع المال وتكوين الثروات، حيث كانوا يقصدون التلاميذ الميسورين الذين ينحدرون من الطبقات الراقية في المجتمع الأثيني.»[1]

فما كان على الاتجاه السفسطائي بقيادة جورجياس وهبياس وبروتاغوراس، النزول بالعلم إلى مستوى الحرفة وجمع المال، فبذلوا هؤلاء جهدًا عظيمًا في نشر التربية العامة، وترجيح رأي على آخر، والاستفادة من قول المتحدث واستخدام الحجة القوية في هزيمة الخصم، واتجهوا نحو الإنسان وإلى القول إنه لا توجد حقائق يقينية مطلقة، بل حقائق مرتبطة بالمعتقدات البشرية فحسب، وبذلك تبطل الحقيقة التي يشترك فيها الناس جميعا، القائمة على اللوغوس الذي قال عنه هيراقليطس «يجب أن يقاتل الناس من أجل اللوغوس أو القانون العقلي كما لو كانوا يقاتلون دفاعا عن أسوار مدينتهم».

مسلماتهم في ذلك: الحقائق نسبية تختلف من إنسان إلى إنسان، متعددة حسب طبيعة البشر، ولما كان الأفراد يختلفون سنًا وتكويناً وشعوراً، وكانت الأشياء تختلف وتتغير، فإن الإحساسات تتعدد بالضرورة وتتناقض؛ وعلى ذلك تبطل الحقيقة الثابتة لتحل محلها معارف متعددة بتعدد الأشخاص. وبفضل نقدهم للعقائد الذائعة حملوا غيرهم من المفكرين على أن يتعمقوا في استكناه المشاكل العظمى للحياة البشرية.

«أليس يحدث أن هواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش الآخر؟ فماذا عسى أن يكون في هذا الوقت الهواء في ذاته؟ لا يوجد شيء هو واحد في ذاته، فلا يوجد شيء يمكن أن يوصف بالضبط، بل إن الأشياء هي بالنسبة إلي على ما تبدو لي، وبالنسبة إليك على ما تبدو لك».

حسب أصحاب المدرسة السفسطائية نستطيع القول: لا يوجد شيء هو واحد في ذاته وبذاته، ولا يوجد شيء يمكن أن يسمى أو يوصف بالضبط، لأن كل شيء في تحول مستمر يقول بروتاغوراس: «الإنسان مقياس الأشياء جميعا، هو مقياس وجود منها ومقياس لا وجود مالا يوجد.»[2]

هذا الطرح عند الفيلسوف بروتاغوراس كان له فضل شيوع التفرقة بين ما له قيمة ذاتية وما له قيمة وضعية، وإثارة مشكلة واقعه الفكرية وعرضها على بساط البحث والتحليل التجريبي، الفعلي، وإذا كانت المشكلة الأساسية «التي شغلت فلاسفة الطبيعة السابقين على سقراط تدور حول تفسير التغير البادي في الكون، فإن المشكلة الأساسية التي شغلت السفسطائيين، إنما كانت تدور حول تلك التغيرات العنيفة التي بدأت تهز أركان العالم الإنساني وتفقده تماسكه وثباته القديم المستمد من التقاليد والنظم القديمة المتوارثة».[3]

لقد استطاعت المدرسة السفسطائية بقيادة فلاسفتها الثلاثة توجيه الفكر الفلسفي اليوناني، ثم الالتفات إلى المسائل التي لها أهمية خاصة بالنسبة إلى الإنسان مثل الوجود، المعرفة، الجهل، حيث اعتبروا الوجود ينفي العدم، فالتلميذ إن كان موجودا في القسم ينفي عدم غيابه. كذلك المعرفة تنفي الجهل والجهل ينفي المعرفة، فلا حلقة وسطى بينهما.

إن السفسطائية كانت وراء ظهور أكبر المدارس الفلسفية في بلاد اليونان، ولولا هؤلاء ومجادلة الفيلسوف سقراط لهم ما استطاع هذا الأخير بناء فلسفته ولولا أفكار الطرح السفسطائي ما تمكن الفيلسوف أفلاطون البحث في ما وراء الأشياء، وما استطاع تشيد نسقه المتكامل في نظرية المُّثل وفلسفة المعرفة والتذكر.

 

قائمة المراجع:

  1. أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، طبعة جديدة 1998
  2. عبد الله شمت المجيدل: تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية إلى المعاصرة، دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، طبعة أولى، سنة 2015

[1] الدكتور عبد الله شمت المجيدل: تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية إلى المعاصرة، ص:64

[2] أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص:120

[3] المرجع السابق، ص:121.