التوحيدي بين إمتاع الجمال ومؤانسة العرفان


فئة :  مقالات

التوحيدي بين إمتاع الجمال ومؤانسة العرفان

التوحيدي بين إمتاع الجمال ومؤانسة العرفان

ظلت الرؤية الجمالية مقترنة بالفلسفة، ملائمة للفيلسوف المتأمل في الكون والعالم ومظاهر الحياة الصعبة، والظروف الاجتماعية القاسية، الملهمة له والصانعة منه مفكرا ينأى عن هذه الصعاب ويقصد إلى الذوق، يبدع أشكالا وجمالا، تصير ملكة رمزية متقررة تبلغ تحققها في الكتابة تنسيه القسوة وصعوبة العيش.

لكن هذه الرؤية في الحضارة اليونانية عند أفلاطون كانت متعالية، وأحادية، ضيقة، حصرها الفيلسوف أفلاطون في عالم المجردات، المحايث والمفارق لعالم الحس، مادامت فلسفته مثاليٌة تقوم على التٌمييز في الوجود بين العالم المحسوس والعالم المعقول، والذي سمٌاه أيضا بعالم "المثُل"؛ أي عالم الأفكار المجرٌدة الثٌابتة والأزليٌة. وقد كان بهذه النٌظريٌة يسعى إلى تجاوز آراء السٌفسطائيٌين التي كانت تحول دون القول بإمكان التوصٌل إلى معرفة موضوعيٌة ثابتة لا تستطيع الحكم على الجمال.

وعلم الجمال الذي يتناول الإنسان في نشاطه المبدع لهذه الصور الجميلة يعد من أصغر أبناء الفلسفة؛ لأنه «لم يستقل عن نظريات المعرفة والخير إلا في العصر الحديث وعلى وجه الدقة في القرن الثامن عشر، عندما أطلق الفلاسفة الألمان والأوروبيون كلمة Aisthetics على ذلك الفرع من فروع الفلسفة الذي يعنى بشعور الإنسان بالجمال وتذوقه وإبداعه له في الفنون المختلفة».[1]

فالمتعارف عليه ليس معنى ذلك أن قدماء الفلاسفة لم يعنوا بتناول موضوع الجمال في دراساتهم الفلسفية، وتعليلاتهم الفكرية، بل أقاموا له جناحا خاصا في عمارتهم اللوغوسية وأعمالهم الفلسفية العديدة حتى أضحى الابن المدلل لأمه الجميلة الفلسفة، مما جعل الفيلسوف اليوناني أفلاطون ينظر له على شكل وحدة متعالية، فما هي الرؤية الجمالية في فكر أبي حيان التوحيدي الفلسفي؟ وأين يتجلى الإمتاع الجمالي عند التوحيدي؟ هل هو إبداع، أم مجرد اجترار لما قدمته الحضارة اليونانية وما قدمه أفلاطون؟

1. النظرة الجمالية عند التوحيدي:

قد نجد العرب مثلهم مثل الشعوب الأخرى فهموا الجمال فهما خاصا، وقدموا تصورا مؤسسا، يستمد مشروعيته من البيئة الطبيعية والاجتماعية، فهو نتيجة الفكر الذي ينظم علاقاتهم المختلفة مع الواقع وظواهره المتعددة؛ فالجمال يسر الحواس التي تحتك بالطبيعة، وقوة تصل إلى ما هو أعمق من الحواس. إنها تهز النفس هزا، هي جمال قوة التعبير عند العربي الذي أصبح الجمال عنده إثارة لمشاعره، وتعبير عن خلجات نفسه المستفيضة، ينزل المتذوق العربي عندئذ من سماء العقل والمنطق إلى أرض العواطف والشعور فتحركه اللفظة المبهرجة وتستفزه المعاني العذبة الجميلة.

يعد أبو حيان التوحيدي (310 هـ- 414 هـ) داهية عصره نظرًا لإبداعه المتنوع المشارب من علم الكلام إلى الفلسفة، الأدب والشعر، الفقه والذوق، النقد والحجج العقلي، نظرية الجمال والنظرة الثاقبة للحياة، حتى نعته العديد من أدباء عصره بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة.

إمتاع التوحيدي في نظرته للجمال:

تكمن الرؤية الجمالية عند التوحيدي بمفارقة فكرية عجيبة عن طرح الفيلسوف اليوناني أفلاطون، فالجمال عند التوحيدي يقوم على مقومات ثلاثة: الله، الإنسان المتذوق، والكون الواسع الرحب الذي ينتمي إليه المتذوق، فالثنائية التي انطلق منها أفلاطون: عالم المثُل وعالم الحس، ثنائية التسامي والتدني، السَّماء والأرض، الروح والجسد، التجريد والحس تنبؤ عن البحث على طرف ثالث لم يستطيع الفيلسوف أفلاطون إدراكه رغم التأمل الفلسفي والانطلاق إزاء السمو والتأثر بالفلسفة الطبيعية التي سبقت سقراط، لكن رؤية التوحيدي الجمالية ترجمة قوية لرؤية فنية شاملة توظف عناصر ثلاثة، على شكل مثلث ذي أضلاع ثلاثة قمته الله عز وجل الذي خلق الكون وخلق الإنسان المتدبر والمتأمل في رحابة الأرض التي يذب عليها، بعداً جمالياً قوياً يربط ساحة الذكر بساحة الفكر يقول عزم القائل: «إنّ في خَلْقِ السَمَواتِ وَالأرضِ وَاختِلافِ الليلِ والنَّهارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلبَابِ الذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتفَكَرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنا عذاب النار».[2]

2. النظرة الجمالية عند التوحيدي عمق التجديد دونما اجترارٍ للتقليد:

في إطار ملمح التجديد لفلسفة الجمال عند أبي حيان التوحيدي، يدور فلك فكره على تعليلات فلسفية تختلف عن نظرة أفلاطون للجمال تتجلى في:

الدين الإسلامي للتوحيدي ونزعته العرفانية: إذ ينطلق من صفات جوهرية للذات الإلهية (الْجَمَالُ، الْجَلالُ، الْكَمَالُ) وعليه أسقطت تلك الثنائية التي وظفها أفلاطون في تعليله الفلسفي للجمال، وحل محلها أبعاد جمالية في منتهى الروعة وقوة التعليل الفلسفي، فالجمالُ إلهامٌ؛ والإلهامُ «مفتاح الأمور الإلهية»[3] فالحق سبحانه يتجلى بجماله عندما يبسط علينا أنوار البسط والمعرفة، اليسر والتيسير، الفتح والرحمة، عندما نُسر أمام مخلوقاته من أزهار وأشجار، أنهار وأطيار، ثلوج وبحار. أما صفة الجلال فالحق سبحانه وتعالى يتجلى بعظمته وهيبته وسلطانه وجبروته فعندها يكون المحو والفناء وهذا ما وقع لسيدنا موسى عليه السلام، عندما تجلى الله للجبل جعله دكاً وخر موسى صاعقاً، وصفة الكمال إذ يتجلى الحق سبحانه وتعالى لعباده بقدرته وعلمه، إرادته وكمال حكمته.

الأدب والفكر العربيين: يتفق علماء النفس والاجتماع على أن الإنسان ابن بيئته، والشخصية الإنسانية تتبلور وتتحدد معالمها وتكتسب مميزاتها في خضم البيئة المتواجدة فيها وما تحمله من خصائص ومقومات وبما لها من تأثير أيضاً بالإيجاب أو السلب، فإن مبدع الخطاب الفيلسوف التوحيدي، معجمه الأول بما فيه من مفردات وتراكيب وما يحتويه من أدوات وجمل ومواضيع تنطلق من البيئة التي ولدت فيها الرؤية الجمالية للتوحيدي وليست بيئة يونانية، فالخطاب الجمالي يكتسي مفردات بيئته وأساليبها كما بدت في مرآته المتجلية في رحابة الكون وزرقة السماء وشاسعة الأرض. فالنظرة الجمالية «صناعة بشرية مستخرجة من الطبيعة التي هي إلهية، ولا سبيل لقوة بشرية أَنْ تنال قوة إلهية بالمساواة.»[4]

هذا غيض من فيض في هذا المقال، حاولنا تسليط الضوء على شخصية مغمورة جفاه الحبيب، الصاحب والقريب، التوحيدي نابغة عصره، عاش في زمانه غريب، حاربه الوزراء والفقهاء، الحساد والدهماء، عَده ابن الجوزي من الزنادقة الثلاثة الكبار، عبر التوحيدي بنفسه عن حاله قائلا: «لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص».[5]

قائمة المصادر والمراجع:

  1. أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، المكتبة العصرية، طبعة أولى سنة 2011، صيدا بيروت لبنان.
  2. أميرة حلمي مطر:فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر، القاهرة، كلية الآداب، طبعة 1974

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر، ص: 06

[2] الآية 191 من سورة آل عمران.

[3] أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة. ج1. ص: 334

[4] المصدر سبق ذكره، ص: 39

[5] أبو حين التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص 16