اللاشعور بين إسهامات فرويد والفرضيات المضادة له


فئة :  مقالات

اللاشعور بين إسهامات فرويد والفرضيات المضادة له

اللاشعور بين إسهامات فرويد والفرضيات المضادة له

تلعب الذات الواعية في تاريخ الفكر الفلسفي مكانة بارزة عندما قال سقراط: «اعرف نفسك بنفسك». لا يدانيها فيها إلا الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ فهي الأنا المفكرة التي تثبت وجودها بالفكر عبر كونها تفكر وتعي أنها تفكر في الآن نفسه؛ فالإنسان الكائن الحيّ الوحيد القادر على التحكم في سلوكياته وتوجيهها بشكل حرّ ومسؤول، إنما يعود ذلك مبدئيا إلى أنه كائن واع لذاته الباطنية من جهة، ولما يحيط بها في العالم الخارجي من جهة أخرى، فلولا الوعي (الشعور) لما كان حرًا ولا مسؤولاً، بل ولا منتجًا لأفكار ولا مبدعًا لثقافات وحضارات، وفي رحلة البحث عن بيان طبيعة الحياة النفسية، والكشف عن أهميتها وَجَب أن نتساءل: هل الحياة النفسية ترادف الحياة الشعورية؟

أليس الــشـعـور مـصـباح يـضـيء كل جوانـب الـحـيـاة الــنــفـسـيـة؟

ألا يـوجـد فـيـنا مـجال مـظـلـم لا تــتــسـرب إلـيـه أضواء هذا الـمـصـباح؟

-    الشـعور كمـبدأ وحـيد للحـياة الـنفـسية

النظـريـة الكلاسيكية كأساس للأحوال النفسية ونفي اللاشعـور: يبدو أن الشعور هو أساس كل العمليات النفسية، فالتسليم بثنائية النفس والجسم، يقود إلى التسليم بأن النفس تعي جميع أحوالها وما يصدر عنها. فنشاط الروح يتمثل في الفكر، وهو نشاط نفسي شفاف ليس فيه أي غموض، فلا شيء يحدث في النفس دون أن يشعر أو يعي ويعرف صاحبها ذلك. وهنا الإشارة إلى غياب اللاشعور وعدم ضرورته للفكر خاصة لدى ديكارت، إذ محور فلسفته حول الذات الواعية وحول الأنا المفكرة التي تفكر وتعي أنها تفكر في الآن نفسه، يقول رونيه ديكارت الفرنسي (1596- 1650): «لا توجد حياة نفسية خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية». كما يقول آلان باديو Alain Badiu (1937): «إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره«. وعليه، فكل ما هو نفسي شعوري بالضرورة. أما الحوادث اللاشعورية، فتتمثل فقط في بعض النشاطات الفيزيولوجية الآلية التي تحدث دون وعي منّا كانقسام خلايانا الجسمية وتكاثرها.

لكن هذا التصور لم يقبله الجميع بحجة أن معطيات الشعور غير كافية لمعرفة وتفسير كل تصرفات وأعمال الإنسان، إذ إن هناك أفعالا وسلوكيات تصدر عنا فنستغربها؛ لأننا نجهل أسبابها ودوافعها الحقيقية. إننا ننسى أو نحب أو نكره أو نقلق أو نرتاح، دون أن تتبين وتتجلى لشعورنا العلل الحقيقية لهذه التصرفات، «مفترضا أن عدم الوعي قد كان هو نفسه، بما أنه موضوع للبحث وللمعاينة، ولقد بدا لي أن أضع، تحت هذا العنوان، فشل فلسفات الوعي الناتجة عن ديكارت، والتي لا تزال ظاهراتية هوسرل تنتمي إليه»[1]

مدرسة التحليل النفسي وأهمية اللاشعور:

لقد مهدت ممارسة التنويم المغناطيسي للتعرف على منطقة منفصلة عن الشعور تتدخل في حياة الإنسان، بل وتُسبب له عدة متاعب، وبالرغم من إسهامات جبارة للبحث عن هذه المنطقة المنفصلة عن الوعي، في مقدمتها أعمال بيرنهايم (1837 ـ 1919)، تجارب شاركو (1825 ـ 1913)جوزيف بروير (1842 ـ 1925) لمعالجة مرض الهستيريا، فإن الطبيب النمساوي سيغموند فرويد (1859 ـ 1939) قام بدور كبير في بلورة مفهوم اللاشعور بالمعنى الذي يسود في التحليل النفسي، وقدم خمسة أدلة للبرهنة على اللاوعي تتجلى في:

أولا: النسيان وفقدان الذاكرة، فنحن أحيانا ننسى؛ لأننا لا نريد لا شعوريا تذكر حادثا أو شيئا ما لم يسببه لنا تذكره من آلام أو لأننا لا نرغب فيه.

ثانيا: في أخطاء الإدراك فنحن أحيانا ندرك بعض الوقائع لا كما هي في الواقع، بل كما نرغب نحن في أن تكون.

ثالثا: في تداعي الأفكار فاللاشعور كثيرا ما يتدخل في توجيه أفكارنا المتداعية دون قصد منا كأن أكون مشغولا مثلا بموضوع معين، ويحدث أن أسمع اسم شخص يماثل اسم شخص آخر عزيز علي أو مكروه لديّ كرها شديدا، فيتجه فكري دون شعور مني إلى تذكر تجربتي مع ذلك الشخص كيف التقيت به؟ وأين؟ ومتى؟ ومن كان معنا؟ وكيف افترقنا؟

رابعا: في العواطف التي لا تتعرف عليها إلا في ظروف خاصة تدفعها للظهور فجأة وبشكل حاد كمن يحب شخصا بصورة مفاجئة وبمرور الزمن يكتشف أنه كان مخطئا في تقديره لذلك الحب.

خامسا: في الأحلام، فنحن كثيرا ما نقوم في أحلامنا بأعمال كنا في يقظتنا عاجزين عنها بسبب غفلة الرقيب المشرف على تنظيم المرور بين الشعور واللاشعور.

لقد نظر فرويد للحياة النفسية في ضوء اكتشافه اللاشعور نظرة جديدة مخالفة لنظرة علم النفس التقليدي، متأثرا في ذلك بفكرة الأجهزة السائدة في البيولوجيا. وعلى هذا الأساس، فقد رأى أن الجهاز النفسي مكون من ثلاث قوى أساسية:

الهو: ويُعتبر لا وعيا كُليةً وخزاناً للبيدو الجنسي ورغبات أخرى مثل السيطرة والتحكم واللذة والمعرفة.

الأنا الأعلى: يتميز بالثبات ويمارس الكبت والرقابة، وهو نتيجة استبطان رغبات الأبوين وأوامرهما ونواهيهما.

الأنا: ويوجد معظمه ضمن الوعي يعمل جاهداً لتحقيق توازن ما بين ممنوعات ومكبوتات الأنا الأعلى ورغبات الهو من جهة، ومتطلبات الحياة الاجتماعية من جهة ثانية.

لقد اعتبر التحليل النفسي بقيادة سيغموند فرويد أن جميع دوافع الإنسان ورغباته يمكن ردها إلى هاتين الغريزتين فقط: غريزة الحياة (أو الغريزة الجنسية) وغريزة الموت (أو العدوان والتدمير). ففي الليبيدو (الغريزة الجنسية) تتجلى غريزة الحياة في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال إيجابية بناءة قصد المحافظة على كيانه واستمرار وجوده، ولقد توسع فرويد في مفهوم الغريزة الجنسية، فلم يقصرها على التناسل أو التكاثر، بل قد جعل من الغريزة الجنسية مصدر كل محبة وحنان، كما أنها تشتمل على مظاهر الحب والود بين الآباء والأبناء، وحب الذات، وحب الأصدقاء، وحب الحياة، وحب الإنسانية جمعاء.

والغريزة العدوانية، الجانب الآخر من الدوافع، فيتمثل في غريزة الموت التي تظهر في السلوك التخريبي والهدم والعدوان على الغير كما في الحرب والعدوان على النفس كما في الانتحار «وتظل هذه الغريزة ساكنة مادامت تعمل في الداخل بوصفها غريزة الموت، ولا تظهر لنا إلا بعد أن تتحول إلى الخارج بوصفها غريزة التدمير»[2] وعند فرويد، فإن العدوان ينشأ من كبت الميول المختلفة، ثم تطورت هذه الفكرة عنده وأصبح ينظر إلى العدوان على أنه استعداد غريزي، فهل نجح الطبيب النفساني فرويد لجعل اللاوعي نظرية علمية قائمة بذاتها أم يبقى مجرد افتراض لا يرقى لمصفى العلم؟

الفرضيات المضادة للاشعور:

إن المبالغات التي حفل بها التحليل النفسي مع مؤسسه الرائد قد أدت إلى الشك في الطبيعة العلمية لفرضية اللاشعور، بل إن تلاميذ المدرسة كانوا أول من عارضوا هذه النظرية، فالفريد آدلر (1870-1937) يعتقد اللاشعور ليس مرده إلى الليبيدو، بل هو راجع إلى الشعور بالقصور، عقدة النقص فهو بحاجة إلى إثبات الذات فالمصاب بقصور عضوي يسعى إلى تعويض هذا القصور والنقص.

أما كارل يونغ (1875-1961)، فيرى أن النظرية الجنسية كما وضعها فرويد غير كافية؛ لأنها لا تتناول إلا جانبا واحدا من المشكلة، فينبغي أن تضاف إليها الحاجة إلى السيطرة، وبذلك فقد وضع يونغ نظرية في اللاشعور الجمعي، فلا شعورنا ليس مليئا بالأزمات التي نكون قد عشناها أثناء طفولتنا فقط، بل وكذلك بالأزمات التي مرت بها الإنسانية جمعاء.

ومن أهم الفلاسفة الذين نقدوا فرويد، نجد الفيلسوف آلان قائلا: «إن اللاشعور هو احتقار للأنا، وعبادة للجسم» وقال أدولف غرامبوم: «التحليل النفسي هو علم زائف».

«وقد تم نشر «الكتاب الأسود للتحليل النفسي» سنة 2005، وهو عبارة عن نقد لاذع يعتمد على معطيات العلوم العصبية. كما نشر ميشال أونفري Michel Onfray كتابه «أفول صنم، أكذوبة فرويد» الذي أراد من تأليفه تفنيد أطروحات التحليل النفسي»[3]

لكن التحليل النفسي كشف عن فعاليته وجدواه في علاج بعض الاضطرابات العصبية، كما كشف عن مدى تأثير تجارب الطفولة المبكرة في سلوكيات الراشدين، وأصبحت الدراسات والنتائج التي استخلصها التحليل النفسي لقضايا اللاشعور تنير الكثير من الجوانب في سلوك المجرمين والمنحرفين والمجانين والفاشلين، وقد عززت هذه الدراسات الجانب الإنساني، فأصبح عدد من المنحرفين يدخلون المستشفيات بعد أن كان يلقى بهم قديما في غياهب السجون، أو يظلون عرضة للسخرية والامتهان.

 

قائمة المراجع:

  1. سيجموند فرويد: الموجز في التحليل النفسي، ترجمة: سامي محمود علي، عبد السلام القفاش.
  2. بول ريكور: صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: منذر عياشي، مراجعة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، طبعة أولى، سنة 2005
  3. اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.

[1] بول ريكور: صراع التأويلات، ص: 16

[2] سيجموند فرويد: الموجز في التحليل النفسي، ص: 28

[3] اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، ص: 11