هابرماس فيلسوف التَّواصل


فئة :  مقالات

هابرماس فيلسوف التَّواصل

هابرماس فيلسوف التَّواصل[1]

عماد عبد الرازق* 

مقدّمة:

يُعدّ يورغن هابرماس من أهمّ علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر، كما أنَّه يُعدُّ من أهمّ مُنظّري مدرسة فرانكفورت النقديَّة. له ما يربو على خمسين مؤلَّفاً عن موضوعات عديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع، وهو صاحب نظريَّة الفعل التَّواصلي. وقد وصل يورغن هابرماس إلى درجة من الشّهرة والتأثير العلمي لم ينجح الرَّعيل الأوَّل من ممثلي النظريَّة النقديَّة الاجتماعيَّة، المعروفة في حقل الفلسفة بمدرسة فرانكفورت، في الوصول إليها. فعلى الرّغم من الثقل الفلسفي لأفكار الجيل الأوَّل (هوركهايمر- أدورنو- ماركوزه)، كان هابرماس الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه على المشهد الثقافي والسياسي في ألمانيا بصفته فيلسوف الجمهوريَّة الألمانيَّة الجديدة. إنَّه بالفعل يُعدُّ الوريث الرئيس المعاصر لأفكار مدرسة فرانكفورت. وعلى الرّغم من أنَّ هناك أفكاراً مشتركة واضحة بينه وبين أسلافه، نحا بأفكار المدرسة منحى مختلفاً، فقد ركَّز هابرماس جُلَّ اهتمامه على تحليل الفعل والبنى الاجتماعيَّة. ولا جدال في انتماء هابرماس إلى اليسار، إلّا أنَّه، وربَّما بشكل غير متوقّع، ينتقد التقاليد الفكريَّة التي تنتمي إليها، الأمر الذي انتهى به إلى النأي بنفسه عن الحركة الطلَّابيَّة التي ظهرت في الستينيات. ويمكن النظر إليه أوَّلاً، باعتباره متمسّكاً بتصوُّر يزاوج بين البنية والفعل في نظريَّة كليَّة واحدة، وثانياً بوصفه مدافعاً عن مشروع الحداثة. ويرى أنَّ مشروع الحداثة لم يفشل؛ بل بالأحرى لم يتجسَّد أبداً، ولذا الحداثة لم تنتهِ بعد. ويظهر أنَّ هذا الموقف يضعه في اتجاه معارض تماماً لأسلافه بالنظر إلى موقفهم من نقد عقل التنوير، فهو يرى أنَّ عمليَّة التنوير لها جانبان: يتضمَّن أحدهما فكر البناء الهرمي والاستبعاد، في حين يحمل الجانب الآخر إمكانيَّة إقامة مجتمع حرّ يسعد به الجميع.

أوَّلاً: حياته ومؤلّفاته

وُلد هابرماس في عام 1929 في مدينة (غومرسباخ) (Gummersbach)، وهي تقع بالقرب من دوسلدورف، وكان أبوه مديراً لمكتب الغرفة التجاريَّة والصناعيَّة فيها، ومن عام 1949 إلى 1954 تلقّى تعليمه في جامعتي (غوتنغن، وبون). وقد بدا تكوين هابرماس العلمي والثقافي من خلال قراءته للكتب، ولاسيما كتب الماركسيَّة اللّينينيَّة، وبدأت اكتشافاته في عالم الفن والأدب الحديث، فتعرَّف إلى الاتجاه التعبيري في الرَّسم، وقرأ توماس مان، وفرانز كافكا، وألبير كامو، وكان طموح هابرماس أثناء الدّراسة الثانويَّة أن يصبح صحفيَّاً[2].

وخلال دراسته الجامعيَّة تعرَّف هابرماس إلى أعمال ماركس الشاب؛ وذلك بمساعدة أستاذه لوفيت، وحفزته تلك الأعمال على تطوير أطروحاته حولها، كما قرأ كتاب لوكاتش (التاريخ والوعي الطبقي). ومن الجدير بالذكر أنَّ قراءة هابرماس لجدل التنوير قد حفزته على الانشغال بقضيَّة العقل، والاهتمام بموقف فكري مختلف عن موقف ممثلي الجيل الأوَّل لمدرسة فرانكفورت، وبناء على اقتراح أحد المسؤولين في الصحيفة التي يعمل فيها قام هابرماس بمقابلة أدورنو في معهد البحث الاجتماعي في جامعة فرانكفورت، وعرض أدورنو على هابرماس أن يعمل أستاذاً مساعداً في المعهد، وبالفعل التحق هابرماس بالمعهد[3].

أمَّا عن أهمّ مولفاته، فإنَّها غزيرة ومتعدّدة، وقد عالج الكثير من القضايا الاجتماعيَّة والفلسفيَّة والدّينيَّة والسّياسيَّة والأخلاقيَّة. ومن أهمّ هذه المؤلفات: نحو مجتمع عقلاني 1971، الممارسة والتطبيق 1974، أزمة الشرعيَّة 1976، نظريَّة الفعل التَّواصلي 1981، الخطاب الفلسفي للحداثة 1985.

ثانياً: هابرماس والنظريَّة النقديَّة

اهتمَّ هابرماس اهتماماً كبيراً بالنَّقد وأهميَّته في العلوم الإنسانيَّة، وجاء هذا في إطار بحثه في العلاقة بين النظريَّة والممارسة في المجتمع الصناعي المتقدّم، وقد شخَّص هابرماس الانفصال بين النظريَّة والممارسة على أنَّه انفصال بين النشاط الفكري المشتغل بالبحث في المجتمع والإنسان، وبين الاهتمامات العمليَّة للإنسان وقضاياه مثل قضيَّة الحريَّة والعدالة الاجتماعيَّة. وقد رأى هابرماس، كما رأت مدرسة فرانكفورت، أنَّ النظريَّة النقديَّة هي القادرة على ربط النظريَّة بالممارسة، وتعتمد مصادر الفلسفة النقديَّة عند هابرماس، إلى جانب الكانطيَّة والهيغليَّة والماركسيَّة والتَّيارات الفلسفيَّة الألمانيَّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على تأثره العميق بفلسفة هايدغر. وقد بدأت جذور نظريَّة هابرماس النقديَّة وبدايتها الأولى من خلال كتابه (الميدان أو الفضاء العام) (Public Sphere)، وهو يقوم فيه بدراسة الوضع الرَّاهن للمجتمع من خلال تأثير الدعاية والإعلام كوسيلة فعَّالة ومباشرة من وسائل هيمنة الدَّولة ومؤسَّساتها؛ بمعنى أنَّ الدَّولة هي التي تشكّل الرأي العام وتسيطر عليه من خلال الدّعاية والإعلام[4].

ومن الممكن أن نعزو إلى هابرماس أنَّه قام بتطوير حافل بالوعود لفكرة النظريَّة النقديَّة؛ ففي سلسلة سريعة من الكتابات واصل، مقتفياً على نحو رئيس آثار سلفيه (هوركهايمر- أدورنو)، نقد الإيديولوجيا حتى الوقت المعاصر، ولكن على خلاف التلميذ الوفي مزَّق الإطار المعتمد من قبل، ووضع في اعتباره التعديلات التي طرأت على المناقشة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم السياسة، واستطاع أن يدمج كلَّاً من نظريَّة العلم وفنّ التأويل والفلسفة المعاصرة للّغة في كلّ متكامل[5].

فلم تعد النظريَّة النقديَّة عند هابرماس كما كانت عند مدرسة فرانكفورت مقتصرة على نقد الوضع الرَّاهن أو ما يُسمَّى الإيديولوجيا، بل سعى هابرماس لتأسيس وتطوير نمط جديد من الرُّوح التَّواصليَّة داخل المجتمع، فموقف الاغتراب قد تجسَّد في فكره، وكأنَّه فقدان للعلاقة التواصليَّة مع الأنا الفرديَّة والأنا الاجتماعيَّة، وأنَّ مفهوم التحرُّر بالنسبة إلى الهيمنة الحاليَّة هو ذلك الغزو الذي يكون التفكير الذاتي بفضله قادراً على خلق طرف مساعد لانبثاق التواصل بين الذّات ونفسها[6].

من هنا كانت النظريَّة النقديَّة عند هابرماس بمثابة الرُّوح والقوَّة الدَّافعة التي تحرّك وتغيّر الأوضاع القائمة، وكان النقد هو مصدر تهديد دائم للدّعاية وهيمنتها على وعي الأفراد، لذا يرى هابرماس أنَّ إمكانيَّة الخروج من الاستلابيَّة الطاغية للدّعاية هي خلق وتنشيط أنماط جديدة من التَّواصل بين الأفراد والسُّلطة القائمة[7].

ثالثاً: هابرماس ونقد العقل الأداتي

في البداية يشير هابرماس إلى أنَّه بقدر ما تغلغل التقنية في مجالات الحياة الاجتماعيَّة، تتقوَّض الشرعيَّة القديمة لتحلَّ محلها شرعيَّة جديدة، وما يترتَّب على ذلك من تغيّر في المؤسَّسات الاجتماعيَّة ذاتها، وقد ترتَّب على تغلغل التقنية في جميع مجالات الحياة شعور الإنسان بالاغتراب؛ لأنَّه أصبح ترساً في آلة تُقاس قيمته بما ينتجه من سلع. ويجب أن نشير هنا إلى أنَّ هابرماس لا يرفض التكنولوجيا تماماً؛ بل يريد أن يكبح هذا التغلغل التكنولوجي في مجالات الحياة، ويريد أن تعمل إلى جانب شعور الإنسان بذاته، ثم ينطلق من سيطرة التكنولوجيا إلى نقد فكرة العقل الأداتي الذي يمثل بوجه عام منطقاً في التفكير، وأسلوباً في رؤية العالم، ويَعدّه الأسلوبَ الذي يحكم العلوم الطبيعيَّة والعلوم الاجتماعيَّة، وهو الذي يسيطر على التفكير في المجتمع الصناعي المتقدّم، وفيه يخضع الإنسان للتكنولوجيا خضوعاً تامَّاً[8].

من أجل هذا نقد هابرماس مفهوم العقل الأداتي وكذلك مفهوم العقلانيَّة الأداتيَّة، ويصف عمليَّة التحديث في الغرب على أنَّها أدَّت إلى زيادة في العقلانيَّة الأداتيَّة، وإلى التوسُّع في نطاق الفعل الأداتي في مجال الاقتصاد والإدارة والعلم والتكنولوجيا على حساب العقلانيَّة التَّواصليَّة في المجال الاجتماعي. ويلاحظ هابرماس أنَّ السُّلطة بمعناها العام أصبحت تعتمد على شرعيَّة مصدرها السّوق وقوانين السّوق؛ أي تحوّل مصدر الشرعيَّة من عالم الحياة الاجتماعيَّة للمجتمع التقليدي الذي يسود فيه الفعل التَّواصلي إلى عالم الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا الذي يسود فيه الفعل الأداتي والعقلانيَّة الأداتيَّة[9].

ويستمرُّ هابرماس في نقده للتقدُّم العلمي والتكنولوجي؛ فقد أصبحا في نظره يشكّلان الإيديولوجيا الجديدة، وقد صاحب الدَّور الإيديولوجي للعلم والتكنولوجيا الوعي التكنوقراطي؛ أي حكومة فنيّين، هذا الوعي يعمل على حلّ القضايا الاجتماعيَّة على أنَّها مسائل تُحلُّ بمنطق أداتي؛ أي بوسائل تقنية، كما صاحبه عزل الجماهير عن عمليَّة اتخاذ القرار. ويقرُّ أنَّ العلم والتكنولوجيا قد تعاظما إلى درجة أصبحا معها أهمَّ قوَّة إنتاجيَّة، ومن ثَمَّ صارت علاقتهما بالممارسة الاجتماعيَّة وبعالم الحياة اليوميَّة محلّ تساؤل، فالقوى الجديدة لسلطة التصرُّف التقني المتزايد تظهر نوعاً من عدم التلاؤم بين نتائج عقلانيَّة عالية التوتّر، وبين أهداف لا رؤية فيها، وأنساق قيميَّة جامدة وإيديولوجيَّات واهنة[10].

من هنا نرى نقد هابرماس للعقل الأداتي ولتوغل التكنولوجيا والعلم بصورة كبيرة في المجتمعات الحديثة، ما أدَّى إلى اغتراب الإنسان وشعوره بالعزلة.

رابعاً: نظريَّة الفعل التَّواصلي

ركَّز هابرماس على نظريَّة الفعل (Action) التي تمثل عنده أساس نظريَّة التواصل، ويقسم الفعل إلى أربعة أقسام:

1. الفعل الغائي (Teleological Action): وهو فعل يكون موجَّهاً نحو اختيار الوسائل المناسبة والملائمة لتحقيق الأهداف والأغراض الواضحة، ويسمّي هابرماس هذا الفعل «الفعل الاستراتيجي أو الأداتي» (Instrumental)؛ لأنَّه يتعلّق بالوسائل التي نسعى عن طريقها لتحقيق الأهداف.

2. الفعل المعياري (Normative): وهو الفعل الذي يكون موجَّهاً نحو الوصول إلى القيم العامَّة والمشتركة بين الناس؛ أي هو فعل يكون موجَّهاً نحو الإذعان وعدم الإذعان للمعايير وقيم المجتمع وطاعة هذه المعايير.

3. الفعل الدراماتيكي (المسرحي) Dramaturgical: وهو الذي لا يشير في المقام الأوَّل إلى الفاعل المنعزل، كما لا يشير أيضاً إلى العضو الذي ينتمي إلى جماعة اجتماعيَّة، لكن يشير إلى المشاركين في عمليَّة التفاعل.

4. الفعل التَّواصلي (Communication Action): هو الفعل الذي يتمُّ من خلاله تفاعل المشاركين، وعن طريقه يتمُّ استخدام اللّغة كأداة ووسيلة للوصول إلى الفهم، ومن خلال هذا الفعل يتمُّ الوصول إلى إجماع عام بين المشاركين في فعل التَّواصل حول دعاوى الصحَّة العامَّة[11].

ويشير هابرماس إلى أنَّ هذه الأنواع الأربعة من الفعل تقابلها أربعة من العوالم، ويقسم هذه العوالم إلى:

1. العالم الخارجي (الموضوعي): وهو يتعلق بالموضوعات التي تتمُّ معالجتها بطريقة تجريبيَّة؛ أي يدويَّاً.

2. العالم الذّاتي (الشَّخصي): وهو يمثل خبرات ومشاعر وأهداف ورغبات الشّخص؛ أي الأهداف والرَّغبات الشخصيَّة.

3. العالم الاجتماعي للمعايير: يمثل مجموعة المعايير والقيم الاجتماعيَّة التي يقرُّها المجتمع.

4. العالم الذي يتمُّ من خلاله الفعل التَّواصلي؛ أي العالم التَّواصلي، وهو مرتبط بالعوالم الثلاثة الأخرى[12].

ويلفت هابرماس الانتباه إلى حقيقة مهمَّة هي أنَّ الفعل التَّواصلي يكون أكثر عقلانيَّة من الأفعال الأخرى؛ لأنَّه يتعامل مع العوالم الثلاثة الأخرى بطريقة عقلانيَّة. أيضاً يمثل مفهوم عالم الحياة (Life-World) ركيزة أساسيَّة في فهم الفعل التَّواصلي عند هابرماس؛ لأنَّه يرى أنَّ عالم الحياة يمثل الإطار الذي يتمُّ من خلاله فعل التَّواصل، فهو يمثل البيئة الخارجيَّة (المجتمع) الذي يتمُّ فيه التَّفاعل الاجتماعي، كما أنَّه يمثل مبدأ منظمَّاً؛ أي يتمُّ تنظيمه عن طريق اللغة، ويتمُّ الوصول إلى هذا المفهوم عن طريق الثقافة[13].

وقد أشار هابرماس إلى الحاجات والمطالب التي تنتج عالم الحياة، وهي:

أوَّلاً: الوصول إلى الفهم من خلال فعل التَّواصل، ويؤدّي وظيفة مهمَّة وأساسيَّة، وهي الحفاظ على المعرفة الثقافيَّة المتجدّدة.

ثانياً: الفعل التَّواصلي الذي يجعل التَّفاعل متَّسقاً ومتناغماً، وتقابله الحاجة إلى التَّكامل الاجتماعي وتضامن الجماعة.

ثالثاً: الفعل التَّواصلي الذي من خلاله يقابل ويواجه الفاعلون الاجتماعيون الحاجة إلى صياغة وتشكيل الهويَّات الشخصيَّة[14].

ويعرّف هابرماس فعل التَّواصل بأنَّه الذي يتمُّ من خلاله تفاعل المشاركين، كما يستخدمون من خلاله اللغة وسيلة لفهم وتفسير المواقف المتبادلة، وكذلك تفسير الأهداف والغايات الشخصيَّة. ويرى هابرماس أنَّ أيَّ إنسان يعمل بطريقة تواصليَّة، أي يقوم بأداء فعل التَّواصل، يجب أن يثير دعاوى صحَّة عامَّة، ويفترض أن تكون هذه الدعاوى مبرَّرة؛ أي عليها حجَّة وبرهان، وتتمثل هذه الدعاوى في: 1- أن يكون المنطوق (utterance) شيئاً مفهوماً. 2- أن يكون المتحدّث شيئاً يمكن للمستمع أن يفهمه. 3- أن يجعل المتحدّث نفسه بالتالي ممكناً للفهم. 4- أن يصل المتحدّث إلى تفاهم مع شخص آخر[15].

ويعتقد هابرماس أنَّ هدف الوصول إلى فهم بين المستمع والمتحدّث هو الوصول إلى اتفاق (Agreement) بين الذوات المشاركة في فعل التَّواصل، وهذا الاتفاق يساعد بدوره على أن يفهم المشاركان كلٌّ منهما الآخر بصورة متبادلة، كما يساعد أيضاً على أن يثق كلٌّ منهما بالآخر بصورة متبادلة، كما يرى أنَّ عمليَّة الوصول إلى الفهم في فعل التَّواصل تمثل موقفاً متعاوناً يشترك فيه جميع المشاركين في فعل التَّواصل لإقرار أو رفض دعاوى الصحَّة العامَّة من ناحية، وتفسير موقفهم من ناحية أخرى[16].

ويؤكّد حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ الفعل التَّواصلي في جوهره يهدف إلى تحقيق التَّفاهم والتَّعاون بين الأطراف المشاركة، وليس إلى تحقيق أهداف ورغبات شخصيَّة؛ لأنَّ الهدف الجوهري لفعل التَّواصل هو الوصول إلى تفاهم بين الأطراف المشاركة، وكذلك تفسير مواقفهم. وبناء على ذلك يرى هابرماس أنَّ أيَّ مشارك في فعل التَّواصل حينما يتواصل مع الآخرين، فإنَّه يثير سلسلة من الكليَّات البراغماطيقيَّة التي تساعد على التَّواصل من خلال هذه الفروض:

1. أنَّ المتكلّم يكون لديه القدرة على التَّواصل مع عالم الموضوعات ومع عالم الذوات الأخرى.

2. هذه القدرات تفترض أن يكون المتكلّم بارعاً في استخدام الأسماء الشخصيَّة ومشتقاتها وأسماء الإشارة[17].

ويشير هابرماس إلى أنَّ المشاركين في فعل التَّواصل يتبنَّون مواقف مختلفة تجاه العالم الخارجي (الواقع)، وهذه المواقف تتمثل: إمَّا في تعديل وتغيير الواقع أو التكيُّف مع هذا الواقع، وقد عبَّر عن تلك المواقف التي يتبنَّاها المشاركون في فعل التَّواصل بثلاثة مواقف أساسيَّة:

أوَّلاً: الموقف الموضوعي، ويمثل موقف الفاعل تجاه الواقع الخارجي الذي يتمثل في موضوعات التجربة، ويُسمَّى أيضاً الموقف التجريبي.

ثانياً: الموقف الذاتي، وهو يعبّر عن مقاصد وأهداف شخصيَّة للمشاركين في فعل التَّواصل.

ثالثاً: الموقف الاجتماعي: يمثل موقف المشاركين تجاه القيم والمعايير.[18]

من كلّ ما سبق، يتَّضح لنا أنَّ اللّغة تمثل ركيزة أساسيَّة في فعل التَّواصل، فمن دونها لا يوجد تواصل؛ لأنَّ اللّغة هي وسيلة نقل الأفكار والمشاعر، فهي تساهم بنصيب وافر في تفسير المواقف لكلّ المشاركين في فعل التَّواصل، كما أنَّ فعل التَّواصل يمثل أداة لتناغم واتّساق الأفعال الاجتماعيَّة، ويساهم في تحرير الوعي الإنساني من كلّ أشكال السيطرة والهيمنة، كما يجب أن نشير، ونحن في سياق الحديث عن فعل التَّواصل، إلى الحديث عن أسس التَّواصل.

تشير هذه الأسس إلى مبادئ عامَّة، لو تحققت هذه المبادئ، فإنَّها تدلُّ على وجود تفاعل حقيقي بين أعضاء المجتمع، ولو فشل المشاركون في تحقيق هذه الأسس، فسوف يؤدّي هذا إلى عدم التَّواصل، ومن أهمّ المفاهيم داخل هذه الأسس يشير هابرماس إلى ثلاثة مفاهيم:

أوَّلاً: عقلانيَّة التَّواصل (Communicative Rationality): وتشير هذه العقلانيَّة إلى إمكانيَّة عقلانيَّة تكون كامنة في الممارسات اللّغويَّة للمشاركين في فعل التَّواصل، ويلاحظ أيضاً أنَّ هذه الإمكانيَّة المتعلقة بعقلانيَّة التَّواصل تكمن في مبادئ مثاليَّة محدّدة، وتكون أداة توجيه للفعل التَّواصلي في المجتمعات الحديثة، وهذا يتمُّ في نطاق التَّواصل اليومي الذي يكون مرتبطاً بالصحَّة والصدق. وقد استنتج هابرماس أنَّ مفهوم عقلانيَّة التّواصل يقوم على العلاقة بين أفعال الكلام كأصغر وحدة من التَّواصل اليومي، والأنواع المختلفة من دعاوى الصّحَّة التي تكون مرتبطة بتحقيق الاتفاق بين المشاركين في فعل التَّواصل، وأشار إلى أنَّ مهمَّة عقلانيَّة التَّواصل تتركَّز في تحويل الصُّور والأشكال غير العقلانيَّة إلى صور وأشكال عقليَّة، كما أنَّها تساهم في تحقيق التَّواصل المثمر بين المشاركين في فعل التَّواصل[19].

ثانياً: الكفاءة التواصليَّة: يعرّف هابرماس الكفاءة التواصليَّة بأنَّها حدوث التَّواصل وفقاً لنسق القواعد الأساسي الذي يفهمه الأشخاص الرَّاشدون، وإلى المدى الذي يمكنهم من تحقيق الشروط المواتية لتوظيف ملائم للجمل في تعبيراتهم، بصرف النَّظر عمَّا يحيط بالتَّعبير من سياقات عرضيَّة، والكفاءة التَّواصليَّة يتمُّ تحديدها عن طريق فهم وبراعة المتكلّمين، بصرف النظر عن القيود والحدود الفعليَّة الواقعيَّة، فالفعاليَّة التَّواصليَّة هي التي تجعل تبادليَّة الفهم ممكنة بين الذَّوات المشاركة في الحوار[20].

ثالثاً: التَّواصل المشوَّه: هو التَّواصل الذي لا ينجح في تحقيق شروط وأوضاع الحديث المثالي؛ أي عدم إمكان وتحقيق إجماع حرّ وعقلاني في عمليَّة التَّواصل نتيجة خضوع هذه العمليَّة للهيمنة والسيطرة، سواء كانت هيمنة إيديولوجيَّة أو هيمنة نفسيَّة، فالتَّواصل المشوَّه هو تواصل زائف (Pseudo) يشعر المشاركون فيه باضطراب في التَّواصل، كما يؤدّي إلى سوء فهم متبادل لا يمكن اكتشافه، وذلك لأنَّ المشاركين يعتقدون أنَّهم يتوصَّلون إلى إجماع. وقد ربط هابرماس ظاهرة التَّواصل المشوَّه بظاهرة التحليل النفسي عند فرويد، فنرى أنَّ كلَّ الظواهر المرضيَّة التي قام فرويد بتحليلها تكون ناتجة عن اضطراب في التَّواصل؛ أي في تواصل المرء مع مجتمعه، فالكبت مثلاً هو إبعاد لدوافع معيَّنة عن التعبير عن نفسها في صورة تفاعل، والحلم الذي تظهر فيه أفعال غير منطقية يمثّل رموزاً غامضة للمكان الذي تنسحب إليه العناصر المستبعدة من مجال التَّواصل مثل الغرائز والميول العدوانيَّة[21].

الخلاصة:

إنَّ الفعل التَّواصلي يهدف إلى تحقيق التَّواصل الفعَّال بين أعضاء المجتمع، كما يهدف إلى تحقيق إجماع عام بين جميع المشاركين في هذا الفعل التَّواصلي، وهذا الفعل التَّواصلي يكون أكثر عقلانيَّة من أيّ فعل آخر، كما أنَّ هذا الفعل التَّواصلي يجعل التفاعل متَّسقاً ومتناغماً، ويؤدي فعل التَّواصل أيضاً دوراً محوريَّاً في تشكيل الهويَّات الشخصيَّة، ومن خلاله يتمُّ استخدام اللّغة وسيلة فعَّالة في فهم وتفسير المواقف المتبادلة، وتفسير الأهداف والغايات الشخصيَّة.

[1]- مجلة يتفكرون العدد 12

[2] - فرانسوا أوالد، هابرماس وجدليَّة العقل الحديث، ترجمة: محمَّد ميلاد، مجلة كتابات معاصرة، العدد24، نيسان/ أبريل، 1995، ص12

[3] - فتحي أبو العينين، هابرماس وتحرير الوعي الاجتماعي، مجلة إبداع، العدد الخامس، أيار/ مايو، 1998، ص58

[4] - علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص94

[5] - روديجر بوبنر، الفلسفة الألمانيَّة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة وتقديم: عبد الأمير الأعسم، دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة، بغداد، 1987، ص 253

[6] - علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس، ص 110

[7]- Larry Ray, Critical Sociology, Beacon Press, 1990, p 45

[8] - أيان كريب، النظريَّة الاجتماعيَّة من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمَّد حسين غلوم، عالم المعرفة، العدد224، الكويت، 1999، ص316

[9]- Habermas, Legitimating Cris. Trans by: Thomas McCarthy, London, p 23

[10] - Habermas, Science and Technology as Ideology, Beacon press, p132

[11] - Habermas: The Theory of Communicative Action, Beacon press, p 328

[12] - ibid: p 329.

[13] - Habermas: The Theory of communicative Action, p113

[14]- Ibid: p117

[15] - Habermas: Communication and Evolution of Society. London. p 3

[16] - Habermas: The Theory of Communicative Action, p127.

[17] - Habermas, Critical Debates, Cambridge, 1982, p 119

[18]- Language and reason, Cambridge, 1994, p 12.: 17. Meave Cook

[19]- Meave Cook, Op, Cit, p 133

[20] - فتحي أبو العينين، هابرماس وتحرير الوعي الاجتماعي، ص 72

[21]- Habermas, Systematically Distorted Communication, p 395