هل تصلح الزكاة ما أفسده الفقر؟


فئة :  مقالات

هل تصلح الزكاة ما أفسده الفقر؟

1- الاقتصاد الإسلاميّ:

تطوّرت النظريّات الاقتصاديّة في العالم منذ القرن الثامن عشر، وسعى علماء الاقتصاد إلى ملاءمة تلك النظريّات لمقتضيات الواقع وطبيعة التحولات التي شهدها المجتمع الأوروبيّ. ولئن قدّمت بعض النظريّات تصوّرات متكاملة تحدّد اقتصاديّات الدّول، بل توجّه الاقتصاد العالميّ بحسب مبادئها ومقاصدها مثل الرأسماليّة والاشتراكيّة، فإنّ إسهام الخطاب الديني في المجال الاقتصاديّ ظلّ حاضرا، رغم هيمنة العلم على هذا المجال. فقُدّمت الزكاة مثلا باعتبارها الحلّ الاقتصاديّ الأنجع للقضاء على التفاوت الطبقي وانتشار الفقر. ورغم ظهور نظريّات علميّة أثبتت فاعليّتها في حلّ المشاكل الاقتصاديّة، فإنّ مقولة الاقتصاد الإسلاميّ ظلّت هاجس تيّار فكريّ مؤمن بأسلمة الدولة وأسلمة الاقتصاد والمجتمع.

ولعلّ أهمّ ما يميّز الاقتصاد الإسلاميّ اعتماده على مخزون فقهيّ ظنّ أصحابه أنّهم يقدّمون في عصرهم الحلول السحريّة، ويَصبغون الاقتصاد بطابع إسلاميّ من خلال الالتزام بالمبادئ الاقتصاديّة العامّة في الإسلام مثل تحريم الربا والحثّ على الصدقات. وقد ظلّت تلك المبادئ العامّة المرتبطة باقتصاد ريعيّ يقوم على الخراج والجزية خزّانا تأويليّا يهب المؤمنين بالحلّ الإسلاميّ المبادئ العامّة لاقتصاد إسلاميّ ينافس الاقتصاد الغربيّ، ويتجاوز نزعاته الربويّة وتقديسه رأس المال.

ويقدّم أحد الباحثين، المؤمنين بمقولة الاقتصاد الإسلاميّ[1] الخصائص العامّة التي يقوم عليها هذا الاقتصاد، ومن أهمّها المصدر الربّانيّ، وهي مقولة تميّز بين الرّافد الإنسانيّ للاقتصاديّات الأخرى غير الإسلاميّة والرافد الإلهيّ الذي يميّز الاقتصاد الإسلاميّ. وتتّصل حلقات القداسة في إثبات المصدر الإلهيّ لهذا الاقتصاد من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس وغيرها من مصادر التشريع، وهو أيضا اقتصاد ربّاني الهدف بمعنى أنّه "يهدف إلى سدّ حاجات الفرد والمجتمع الدنيويّة طبقا لشرع الله تعالى الذي استخلف الإنسان في التصرّف في المال والانتفاع به. فالمسلم يدرك أنّ المال ملك الله – عزّ وجلّ- فيكون إرضاء مالك الملك سبحانه وتعالى هدفا يسعى إليه المسلم في نشاطه الاقتصاديّ."[2] وتقابل الاقتصاد الإسلاميّ بمقاصده الربّانيّة الاقتصاديّات الأخرى القائمة على الربح والمنفعة، مثلما هو الشأن في الاقتصاد الرأسماليّ وتقديم الزراعة على الصناعة والتجارة أو تشريع الغشّ والكذب من أجل المصلحة مثلما هو الشأن في الشيوعيّة.[3] وخلاصة هذا المبدأ الفصل بين اقتصاد إلهيّ مقدّس واقتصاد بشريّ، رأسماليّ أو شيوعيّ، مدنّس.

ويقوم الاقتصاد الإسلاميّ على الرقابة المزدوجة. والمقصود بهذا المبدأ، الرقابة البشريّة والرقابة الذاتيّة، وهي مفاهيم تتصل بوظيفة المحتسب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلا عن اتّصالها بمفهوم الإيمان والاعتقاد في الحساب الإلهيّ. ويجمع الاقتصاد الإسلاميّ بحسب هذا الرأي بين الثبات والمرونة، ويعني ذلك وجود حدود لا يمكن تجاوزها أو تغييرها كتحريم الربا والميسر وحلّ البيع والعقود والنّصاب والمقدار في الزكاة وتوزيع التركة على الورثة وحدّ السرقة. وأمّا سائر المعاملات، فمجال للاجتهاد الإنسانيّ، وهو اقتصاد يوازن بين المادّية والروحيّة، ويوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومن خصائصه أيضا الواقعيّة؛ وتعني مراعاة دوافع الناس وحاجاتهم ومشكلاتهم دون الجنوح إلى الخيال والأوهام. والعالميّة أي قابليّة الإسلام للتطبيق في كلّ زمان ومكان وتوجّهه إلى جميع البشر.

تلك هي الخصائص التي ميّز بها البعض الاقتصاد الإسلاميّ عن الاقتصاديّات الأخرى، وهي تقوم على مجموعة من المبادئ العامّة المتصلة إمّا بآيات صريحة حدّدت ما حرّمه القرآن، وما أباحه في المعاملات أو باجتهادات فقهيّة تحوّلت بحكم طابع القداسة واعتمادها في نظم إسلاميّة قديمة إلى قوانين مرجعيّة سلبها الفقهاء طابعها التاريخيّ وألبسوها ثوب الأحكام النهائيّة المطلقة، وهي لا تخرج عن سياق تيارات الأسلمة والبحث عن الشرعيّة والاختلاف باسم الدين.

خلاصة القول، إنّ مقولة الاقتصاد الإسلاميّ تظلّ طوباويّة أكثر ممّا هي تأسيس لنمط إنتاج محدّد يمكن أن يقدّم بدائل عن النظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ. ويعود ذلك إلى سببين أساسييّن: الأوّل متّصل بالنزعة العدائيّة التي طبعت تعامل بعض التصوّرات الإسلاميّة مع الأنظمة الاقتصاديّة الأخرى. فعوض البحث عن الاستفادة من تلك الأنماط والسعي إلى تطويرها من خلال آليات النقد الدّاخلي والمشاركة البنّاءة في علم الاقتصاد، سعت كثير من القراءات الإسلاميّة إلى إظهار الحلّ الإسلاميّ متكاملا لا يقتصر على الجانب السّياسيّ، وقادرا على إنتاج اقتصاد إسلاميّ أساسه تضخيم الاختلافات وتجاهل المشترك. أمّا العامل الثاني، فطابع التواكل الفكريّ الذي جعل كثيرا من المنظّرين للاقتصاد الإسلاميّ يتوهّمون أنّ إسباغ الرافد الإلهيّ المقدّس على هذا الاقتصاد يمكن أن يسهم في إعلاء شأنه ورفع منزلته فوق كل أنواع الاقتصاد الأخرى. فكان وهم الاعتقاد في النموذج الإسلاميّ مجرّد إعادة صياغة لمقولات فقهيّة مستمدّة من مرجعيّات دينيّة وعلاقة ضعيفة بعلم الاقتصاد وحاجات الواقع. ولعلّ ذلك ما دفع البعض إلى القول إنّه لا وجود لنمط إنتاج إسلاميّ؛ فبينما "يعبّر مصطلح النظام الاشتراكيّ أو النّظام الرأسماليّ عن تشكيلة اقتصاديّة- اجتماعيّة معيّنة يسود فيها أو يهيمن إمّا نمط الإنتاج الاشتراكيّ أو الرأسماليّ تبعا للحال، فإنّ مصطلح النظام الإسلاميّ لا يتعلّق لا بنمط معيّن لإنتاج ولا بتشكيلة اقتصاديّة واجتماعيّة معيّنة، وهو في أحسن الأحوال لا يتجاوز أن يكون بعض القواعد العامّة والتوجّهات الرئيسة التي تتعلّق بالنشاط الاقتصاديّ التي يمكن اشتقاقها، إمّا من القرآن أو السنّة، أو من الفقه الإسلاميّ أو من أفكار المسلمين حول بعض القضايا كالعمل والأموال والربا وغير ذلك."[4] وانطلاقا من ذلك، فإنّ مقولة الاقتصاد الإسلاميّ لم تخرج عن سياق مفهوم الدولة الإسلاميّة التي يعتقد بعض المؤمنين بها أنّها تعني نمطا محدّدا يتّخذ من الخلافة شكلا نهائيّا لها ويطبّق الحدود التي شرّعها الفقهاء دون النظر إلى تغيّر الواقع وحاجاته. إذ يبدو من المستحيل الحديث عن اقتصاد إسلاميّ في ظلّ نظام عالميّ مترابط المصالح وخاضع لتصوّرات رأسماليّة تتحكّم في مفاصله، ليس لمجرّد الهيمنة التي يفرضها الاقتصاد الرأسماليّ، وإنّما لضعف الأسانيد النظريّة التي تقوم عليها مقولات الاقتصاد الإسلاميّ وعجز أصحابها عن صياغة نظريّة متكاملة قابلة للتطبيق والتسويق.

إنّ مقولة الاقتصاد الإسلاميّ تظلّ طوباويّة أكثر ممّا هي تأسيس لنمط إنتاج محدّد يمكن أن يقدّم بدائل عن النظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ

2- حلّ الزكاة بين المتخيّل الإسلاميّ والواقع الاقتصاديّ المعولم:

تكمن أهميّة الزكاة في كونها تمثّل من الناحية الدينيّة ركنا من أركان الإسلام. ولذلك، فقد اتجهت المقاربات الفقهيّة إلى تقنينها وضبط مقاديرها وتحديد وجوه إنفاقها. وقد ارتبطت الدلالة اللغويّة للزكاة بمعاني النّماء والزّيادة والطهارة. أمّا التفسير الفقهي، فيعرّف الزكاة بأنّها "تطلق على الحصّة المقدّرة من المال التي فرضها الله للمستحقّين. كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصّة. وسمّيت هذه الحصّة المخرجة من المال زكاة، لأنّها تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتوفّره في المعنى وتقيه الآفات."[5]

ولئن تغيّر تحليل ظاهرة الفقر "لأنّ السياق تغيّر، وصورة الفقر في أجزاء مختلفة من العالم لم تعد كما كانت في السبعينيات من القرن الماضي، والتغييرات ملحوظة في شكل توزيع الدخل في أكثر، وليس كل البلاد الغربيّة المتقدّمة."[6] فإنّ اليقين يظلّ متزايدا بأنّ الزكاة التي وقع تشريعها منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا يمكن أن تكون الحلّ الناجع للقضاء على الفقر والتفاوت في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة.

ففي الوقت الذي يجتهد فيه كبار علماء الاقتصاد لإيجاد حلول للفقر، وتتراكم النظريّات بحسب السّياقات التاريخيّة وطبيعة المجتمعات، لا تزال ظاهرة العودة إلى آليّة الزكاة تعبّر عن تجاهل للعلم واعتقاد بأنّ الحلول السياسيّة والاقتصاديّة يجب أن تتلوّن بألوان دينيّة إمّا لأسباب نفسيّة بعيدة عن الرؤية العقلانيّة للواقع أو لغايات اكتساب الشرعيّة الدينيّة زمن الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وفي كلتا الحالتين، فإنّ المقاصد بعيدة عن إيجاد الحلّ الناجع لأزمات المجتمع، إذ لا يزال البعض ينظر إلى الفقه باعتباره خزّان الحلول السحريّة، ويتجاهل العلم وكأنّه ينتمي إلى ديار الحرب ومعسكرات الكافرين.

وقد دعا بعض المفكّرين الإسلاميين، مثل "محمد عمارة" إلى إنشاء "صندوق التنمية بالركاز"، ويقصد به تخصيص عشرين بالمائة من الثروات الطبيعيّة (البترول، الغاز، الفوسفات، الحديد، الفحم، القصدير، النحاس، الرصاص، الذهب، الفضة...) في صندوق للتنمية الشاملة لأوطان الأمّة، وإنشاء "صندوق الزكاة العامّة" من الزّروع ورؤوس الأموال والتجارات والحيوانات والعقارات والحلي المدخرة...بحسب المقادير المختلفة لتحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فضلا عن "الوقف" الذي اعتبره إخراجا للمال من حيازة الفرد المستخلف فيه إلى مالكه الحقيقيّ الله والمقصود بها الأمّة والجماعة المستخلف الأصليّ حسب رأيه في الثروات والأموال.[7] وقد اعتبر "باقر الصدر" في كتابه "اقتصادنا" أنّ الإسلام يتميّز عن الرأسماليّة برفضه الفصل بين عمليّة تنمية الثروة ونوع توزيعها، فهو "يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحقّق نموّ الثروة لأفراد الأمّة من يسر ورخاء."[8] ويعتبر "القرضاوي" أنّ "الزكاة - وإن كانت نظاما ماليّا في الظّاهر- لا تنفصل عن العقيدة ولا عن العبادة، ولا عن القيم والأخلاق، ولا عن السياسة والجهاد، ولا عن مشكلات الفرد والمجتمع، والحياة والأحياء."[9]

وخلاصة هذه المواقف، أنّها تعتبر الزكاة فرضا على الفرد والدولة، وأنّها تؤمن بقدرة هذه الفريضة الإسلاميّة على تحقيق العدالة الاجتماعيّة في إطار نظرة شموليّة لا تفصل بين الدّعوة إلى الزكاة والجوانب الاجتماعية والسياسيّة والخلقية والدينيّة، ومن أهمّها إرساء نظام دولة واقتصاد إسلاميّين، وهو ما جعل "القرضاوي" يعتبر الزّكاة نظاما جديدا فريدا في تاريخ الإنسانيّة لم يسبق إليه تشريع سماويّ ولا تنظيم وضعيّ؛ إلاّ أنّ الزكاة رغم قدرتها على تحقيق بعض التوازن الاجتماعيّ، فإنّها لا يمكن أن تكون الحلّ الناجع للقضاء على مشكلة الفقر. فقد أضحت الاقتصاديّات الداخليّة للدّول مرتبطة بالسياسة الماليّة العالميّة، إذْ تخضع كثير من الأنظمة إلى إملاءات البنك العالميّ وصندوق النقد الدوليّ. وتمثّل المديونيّة عائقا أمام ما تدعو إليه بعض الأطروحات إلى توزيع جزء من الثّروة على الفقراء. فكيف يمكن للدّول الفقيرة والتي تعاني من نسب مرتفعة من المديونيّة أن تكون قادرة على خلق فائض ثروة يعالج مشاكل الفقر في مجتمعاتها؟

لقد اتّخذت الدّول الحديثة اليوم من الصناديق الاجتماعيّة وسيلة عصريّة للتكافل الاجتماعيّ، إلاّ أنّه على قدر الأوضاع الاقتصاديّة التي تعيشها تلك الدّول يكون حال الصناديق الاجتماعيّة؛ فهي تتأثّر بالأزمات الاقتصاديّة وضعف موارد الدّولة وارتفاع نسبة البطالة وضعف التمويل وكثرة النفقات... أمّا الزّكاة، فلا تعدو أن تكون واجبا دينيّا مرتبطا بعقيدة المسلم وعرفا اجتماعيّا يمكن أن يسهم في تحقيق تكافل نسبيّ داخل المجتمع، ولكنّه لا يمكن أن يمثّل عمدة الاقتصاد الإسلاميّ، ولا الحلّ السحريّ الذي يعالج مشاكل الفقر وأزمة الفقراء. وما استعادة هذا الحلّ سوى استعادة لمسمّيات لها سياقاتها التاريخيّة التي نشأت فيها (مجتمعات ريعيّة تقوم بنيتها الاجتماعيّة على القرابة وعدد سكّانها محدود) ولا يمكن أن تكون في صيغتها الأوليّة قادرة على حلّ مشاكل مجتمعات تغيّرت بنيتها الاجتماعيّة، وشهدت نموّا ديمغرافيّا وتحوّلات عميقة في نظمها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهي أيضا محاولة لإعادة تسويق المشروع الإسلاميّ، باعتبار سمته الأساسيّة الاختلاف عن النظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ، هدفها الإقناع بأنّه مشروع متكامل له أسسه التشريعيّة المقدّسة في المصادر الفقهيّة وتجلياته الواقعيّة في تجارب الدول الإسلاميّة القديمة. والحال أنّ مقولاته ليست سوى سجال غايته الاختلاف وهاجسه اكتساب صفة "الإسلاميّ" التي تحوّلت اليوم إلى علامة تجاريّة في سوق العولمة تكتسب قدرتها على الانتشار والمنافسة من إقناع جمهورها "المتديّن" بأنّها تقدّم بضائع إسلاميّة غير مدنّسة. وتتجلّى هذه العلامة التجاريّة في منتوج "حلال"[10] الذي يشمل الذبائح والمأكولات، كالتأكيد على خلوّ المنتجات من لحم الخنزير أو الكحول. واللباس "الشّرعيّ" الذي يخفي شعر المرأة وأجزاء مهمة من جسدها أو اللباس المخصّص للسباحة. والنّزل الحلال الذي لا يباع فيه الخمر، ويقع فيه الفصل بين الذكور والإناث وفق منظومة الاعتقاد في تحريم الاختلاط بين الجنسين أو نواد ليليّة حلال... والبنوك الحلال التي لا تتعامل بالنظام الربويّ، وتقوم على نظام صيرفة إسلاميّ يعتمد على مرجعيّات دينيّة فضلا عن رجال المال الذين يديرونه.

يمكن إدراج الزكاة إذن في سياق البحث عن الاختلاف في واقع معولم يفرض نمطا اقتصاديّا رأسماليّا على الإنسانيّة، ويحاول توحيد الأذواق وأنماط العيش؛ إلاّ أنّه لا يمكن تجاهل الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تقوم من أجلها النظريّات الاقتصاديّة. فالإنسان يظلّ جوهر تلك التصورّات. والفقر آفة تهدّد الإنسانيّة، ولذلك تزايد الاهتمام بها في المستويين الأكاديمي والجماهيري. وإنّه لمن الوهم الاعتقاد بأنّ البحث في المخزون التراثيّ عن حلول لهذه الأزمة كفيل لوحده بتقديم الحلول السّحريّة، إذ يقدّم علم الاقتصاد اليوم أبوابا جديدة للتفكير في المسألة وآفاقا لحلول عقلانيّة[11] تتمثّل تحوّلات الاقتصاد العالمي، وتستفيد من البحوث المختلفة في مجال علم الاجتماع وعلم الاقتصاد. فلم يعد الفقيه قادرا على تمثّل الواقع وإيجاد الحلول الناجعة لأزماته. ومهما تحصّن دعاته بالقداسة، وأسبغوا الطابع الإلهيّ على مقولاتهم، فإنّهم لن يستطيعوا درء الجهل المدقع بالنظام العالميّ الجديد، وتعقد بنى المجتمع الحديث. ولعلّ الوقوف عند عتبات تعريف الفقر بأنّه نقص الحاجات الأساسيّة من مأكل وملبس وسكن يجعل الحلول دوما من جنس التعريف. فالفقر الفكريّ يمكن أن يكون سبب أزمة الدول وانتشار الفقر فيها، وليس أدلّ على ذلك من أنّ كثيرا من الدول التي تفتقر إلى موارد طبيعيّة قد استطاعت بفضل الطاقات الفكريّة أن تحقّق التنمية وتصير فاعلة في الاقتصاد العالميّ، فنمت معدّلات إنتاجها وتقلّصت نسب الفقر في مجتمعاتها. فليس الفقر بهذا المعنى شحّا في الموارد، وإنّما نقص في العلم وإعراض عن العقل. ومن هنا، تأتي وجاهة الطرح الذي قسّم الفقر إلى تساؤلات أصغر ترتبط بالتعليم والصحة والفكر...


[1] انظر: علي أحمد السالوس، الاقتصاد الإسلاميّ والقضايا الفقهيّة المعاصرة، ط1، الدوحة/ بيروت، دار الثقافة/ مؤسّسة الريّان، 1998

[2] المرجع نفسه، ص 29

[3] انظر المرجع نفسه، ص 31

[4] صلاح قلنصوّة، الدعوة إلى النظام الإسلاميّ، لماذا؟، ضمن كتاب: الدين والاقتصاد، ط1، مصر، دار سينا، 1990، ص 87

[5] يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ط2، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1973، ص 38

[6] ستيفن بي، جنكيز وجون مايكلرايت، منظور جديد للفقر والتفاوت، (ترجمة بدر الرفاعي)، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 363، مايو 2013، ص 10

[7] محمّد عمارة، مقوّمات الأمن الاجتماعيّ في الإسلام، ط1، مصر، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، 2009، ص ص 70، 71

[8] باقر الصدر، اقتصادنا، ط20، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1987، ص 635

[9] يوسف القرضاوي، مرجع مذكور، ص 886

[10] يعرّف الطعام الحلال بأنّه طعام لا يخالف تعاليم الشريعة الإسلامية، ويجب ألا يشكل ولا يحتوي على أي شيء يعتبر غير شرعي وفقا للشريعة الإسلامية. ويجب ألا يكون قد تم إعداده أو معالجته أو نقله أو تخزينه باستخدام أدوات أو مرافق لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية.

انظر مثلا:

https://halal-cheese.ch/ar/produit-halal-ar/

[11] انظر مثلا: الأبحاث التي قام بها الهندي "أبهيجيت بانيرجي" (Abhijit Banerjee) والفرنسية "إستير دوفلو" (Esther Duflo) والأمريكي "مايكل كريمر" (Michael Kremer) بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية لعام 2019، عن أبحاثهم حول أفضل الطرق لمحاربة الفقر في العالم، وذلك عبر تقسيم هذه المشكلة إلى تساؤلات أصغر قابلة للإدارة بصورة أفضل، مثل التدخلات الأكثر فعالية لتحسين صحة الطفل.