Next Page  246 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 246 / 362 Previous Page
Page Background

246

2016 )9(

العدد

وسيأتي ابن رشد لينوّه بدوره بأنّ صحة المعرفة يجب أن تكون

لها الأولوية والرجحان على مصدر هذه المعرفة: فعندما نريد ذبح

الأضحية تجدُنا لا نتساءل عن مصدر أداة الذبح، بل نتساءل

بالأحرى هل هي حادّة فعّالة. ومن هذا المنظور، يقيم ابن رشد

تمييزاً بين مختلِف الأدوات التي بها يتأتّى التوصل إلى الحقيقة، من

بلاغة وجدل وبرهان.

ويشير بنمخلوف، فضلاً عن ذلك، إلى أنّ القديس توما

الأكويني إنما يحيل إلى كلام ابن رشد، إذ يقول: إنّ الحقيقة لا

تناقض ذاتها أبداً، بل هي دائماً في تناغُمٍ مع ذاتها، ولا يسوغُ

القول، تحت طائلة السقوط في العبث والخرق، إنه بوُسعنا أن

نقبل فلسفياً ما يرفضُه إيماننا وينبُذه.

من هذا المنطلق نفسِه نجد «ليو شتراوس» يصرح، في عبارة

أخّاذة أوردها علي بنمخلوف، «أنه عِوضاً عن سؤال «الحقيقة

المزدوجة» كان ينبغي تغيير المنظور وترجيح السؤال المتصل

.

12

بمختلفسبل التوصل إلى الحقيقة»

مجال الفكر

كثيراً ما كان ابن رشد يؤاخَذ ويَلقى اللومَ على تناوله فلسفةَ

أرسطو بالشرح والترجمة دون درايته باللغة اليونانية. بيد أنّ

«ليو ستراوس» أكّد في شهادة له أنّ هذه الترجمة كانت أمينة وفية

للنص الأصلي. وقد بّ بنمخلوف أنّ هذه الترجمة كانت خلاقة

منتِجة لفلسفةٍ ولم تجتزئ بالنقل الحرفي والتقليد الأعمى لكلام

«الأوائل». فهو يرى أنّ ابن رشد قدّم، من جانب، شرحاً تحليلياً

لنص أرسطو سِمتُه الوفاء والأمانة، وعمد، من جانبٍ آخرَ، إلى

وضع شرحه ذاته في سياقه الفلسفي. وقد بسط لنا المؤلّف فلسفة

اللغة كما أتى بها كل من ابن رشد وابن سينا مستلهمين الدرس

الفلسفي الأرسطي.

ويندرج ضمن المجال أيضاً استعمالُ بعض اللغات. فالجملة

الاسمية مثَلاً تتسم بكونا تركيباً صحيحاً في اللغة العربية. غير أنّ

أرسطو سبق أن أكد أنّ الجملة الصحيحة تتكون من ثلاثة عناصر

12.Léo Strauss, La renaissance du rationalisme politique classique.

cit. p 10. Cité dans Benmakhlouf 2015, p. 74.

هي الموضوع والمحمول وعنصر الربط. فكيف عسانا نجد هذا

العنصرَ الغائبفي اللسان العربي؟ يتساءل بنمخلوف.

لقد أقرّ ابن رشد بغياب الرابط بين الموضوع والمحمول في

Zayd est un hom�

في الجملة:

est

اللغة العربية (كالرابط

). فاقترح له بديلاً يتمثل في الضمير «هو». فبدل القول: زيد

me

رجل نقول: زيد هو رجل. وبذلك يكون ابن رشد قد امتثل لمبدأ

العناصر الثلاثة الذي وضَعه أرسطو.

وكان ابن سينا قد نوّه من قبل بفائدة أخرى من استبدال الرابط

بالضمير في اللغة العربية. كما أنه أضاف إلى الضمير «هو» حلاً

آخر ممكناً يتمثل في الفعل (الناقص) كان، الدال على الحاضر

الأزلي، حاضر جميع الأزمان الذي يحمل معنى منطقياً خارج

الزمن. وقد تمّ تبرير المعنى المنطقي بالصيغة التركيبية القرآنية:

«وكان الله غفوراً رحيماً».

ويبينهذا أنّ الفكر لا يعترف بالحدود، جغرافية كانت أم زمنية.

إنه سفر مسترسِل متواصل عبر الزمن والمكان. ومن ثم فإنّ تغيير

المجال ما كان ليغّ الحقيقة، بل إنه يعضّدها ويقوي أركانَا.

القياس والاستعارة

يذكرنا الكاتب، فيسعيه إلى تبيان إسهام الفلاسفة العرب، بأشكال

الخطاب الثلاثة عند ابن رشد: الخطابة والجدل والبرهان، والتي

عُدّت مناهجَ مستقاةً من النصالقرآني نفسه. ويستدل ابن رشد بالآية

«اُدعُ إلى سبيل

13

الآتية، التي تحوي في نظره تلك الأشكال والطرائق

ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن».

فالحكمة هنا نظيرة الفلسفة، والموعظة الحسنة أختُ الخطابة،

والمجادلة صِنوة الجدل (أو الديالكتيك). والملاحظ أنّ عبارة

«وجادلهم بالتي هي أحسن» استرعت اهتمام ابن رشد، حيث

فهم منها إمكان انزلاق الجدل وانحرافه عن مساره، ذلك أنّ في

القرآن من المعاني الضمنية ما لا يتسنى إدراكُه إلا لمن أوتي القدرة

على اسكتناه الخفي المتواري من الدلالات.

13. A. Benmakhlouf, Pourquoi lire les philosophe arabes ?, Op cit,

p. 98

عبد اللطيف فتح الدين

مراجعة كتب