248
2016 )9(
العدد
وسيحرص ابن رشد على أن يضيف بدوره، في ثنايا شرحه
الأوسط لجمهورية أفلاطون، شكلاً آخر من أشكال التوفيق
يتمثل في التوفيق بين الفيلسوف والإمام. مَدار الأمر هاهُنا على
الإمام الفيلسوف بما هو «الحاكم الأول» ومستشار الأمراء.
الواقع أنه في قلب هذا الحقل الدلالي تحديداً سيتم التفكير في
المكانة التي تتبوأها الفلسفة في المدينة، وفي تنظيم مكوناتها
وبنياتها. وعند بنمخلوف أنّ الفارابي وابن رشد على الأخص
بيّنا معالم هذا المفهوم تبياناً جديداً مازجين المعنى القانوني بالمعنى
الفلسفي. فتغيير القوانين، وتكييفها مع السياق، وملاءمة
التشريعات مع الزمن والمكان اللذَين سُنّت فيهما، تلك هي
سمات وخصائص العمل الذي يقوم به الحكام المتعاقبون.
وحسب الفارابي، هناك اقترانٌ للقانون بالسياق، ثم إنه لا قداسة
للحظة التشريع الأولى.
ولنا أن نتخيل عودة المشرع الأول. فلو أنه عاد ليعيش مجدداً
بين ظهرانينا لفعل ما يفعله المشرع المعاصر لنا في الوقت الراهن.
ومن ثم فإنّ الاجتهاد القضائي ليس فحسب فناً لاحقاً يعقُب فن
التشريع، بل إنه أيضاً فن أدنى منزلة.
الفيلسوف وتقديم المشورة للأمراء
منذ القرن الثامن الميلادي، زمن استتباب الأمر للحكم
العباسي، أضحى تقليد مرآة الأمراء موضوعاً محدّد المعالم
ترسّخ وتأصّل بوصفه تفكيراً حول فن الحكم، تفكيراً لا
تفتأ تتخلله إشارات إلى أخلاقية تقوم على النصح والموعظة،
وتعتمد أحياناً عقلانية تتوخى تدبير الأمور بالحساب
والتخطيط.
يتعلق الأمر بالأحرى بتقليد واقعي براغماتي ليس هاجسه
شرعنة السلطة، وإنما وضع قواعد وضوابط تفيد الملك
في فهم مجريات الأمور وتيس له توطيد أركان حكمه قدر
الإمكان.
ويبين لنا مؤلف الكتاب كيف أنّ الفلاسفة العرب لطالما
عاشوا هذه التجربة المتمثلة في القيام بدور الفيلسوف المستشار.
كذلك كان الكندي بالنسبة لابن المعتصم، وابن سينا لدى شمس
الدولة، وابن رشد رفقة أبي يعقوب يوسف.
وقد بين«فوكو» إلى أيحد ينبغي أن تتوافق السياسة مع النصح
والاستشارة، مبرزاً الدور النفعي العملي الذي يسم السياسة التي
تستند إلى وظيفة مستشار الأمراء.
فن الحكم
بّ ابن خلدون أنّ هجرة النبي من مكة إلى المدينة ما كانت
لتفسَّ التوسع الإسلامي من المدينة نحو مدن أخرى كالقاهرة
وبغداد ودمشق، على عكس ما اعتقده الصحابة: «لم تعد الهجرة
.
16
ضرورية بعد وفاة النبي»
واقع الأمر أنّ الهيمنة ليستغاية فيحد ذاتها، والسؤال الدارج
المتداوَل بين كتّابنا هو: ماذا تفعل السلطة السياسية بالهيمنة؟ إنّ
هذه المسألة، كما يبّ بنمخلوف، هي المحور الذي تلتفّ حوله
دائرة حكم الذات ودائرة حكم الآخرين. فإذا كان الساسة في
حاجة إلى ما يشبه جغرافيا الروح، بالمعنى الإناسيالأنتروبولوجي
العام، فإنم في حاجة مماثلة إلى معرفة أنفسهم.
. الأنموذج الطبي: الاهتمام بالذات والعناية بالآخرين
4
يذهب بنمخلوف إلى أنه عندما يتكلم عن «الأنموذج الطبي»،
فإنما يقصد أنّ الطب لا ينظر إليه فقط على أنه تقنية للتدخل،
يتم اللجوء عبرها إلى الأدوية والعمليات في حال التعامل مع
المرض. بل هو مبحث يلزمه أيضاً أن يحدد، في شكل متنٍ يحوي
جملة من المعارف والقواعد والضوابط، أسلوباً في الحياة، ونمطاً
من العلاقة المعقولة مع الذات والبدن والتغذية، والسهر والنوم،
ومع مختلف الأنشطة وكذلك مع البيئة.
في هذا الإطار، يجد فن الحكم كانشغال بالذات امتداداً له على
المستوى الصحي. إنّ الاهتمام بصحة البدن يندرج ضمن نظام
أوسع يشمل أسلوب الحياة المتبع، الذي يضم الاهتمامَ بالتغذية
بطبيعة الحال، وبالأخصالعناية بالسلوك الروحي. إنّ هذا الربط
16. Ibn Kaldûn, le livre des exemples, I, Muqaddima,
Prolégomènes, trad. fr. Abdeslam Cheddadi, Gallimard,
bibliothèque de la Pléiade, 2002, p. 375 - 376, Cité dans
Benmakhlouf 2015, p. 128.
عبد اللطيف فتح الدين
مراجعة كتب




