244
2016 )9(
العدد
أمّا المثال الثاني فنجده عند الفارابي. إذ يشير بنمخلوف في هذا
الصدد إلى أنّ «ليو ستراوس» بّ كيف أنّ الفارابي توسّل بالقناع
الأفلاطوني كي يخوضفي التفكير حول فن إدارة الحكم، وكيف
أنه أيضاً أتى بتعديلات ملموسة لفكر أفلاطون حيث قام من
خلال قراءته بملاءمة الفلسفة الإغريقية وتحديدِ سياقها: «هنا
.
5
أيضاً يُبِين الشرح عن كونه خ ّقاً منتجاً لفلسفة»
الوسيط والمعاصر
يؤكد بنمخلوف أنّ العصر الوسيط ليس حقبةً سوداء قاتمة
امتدت واستمرّت إلى أن جاءت الأنوار التي ترتدّ جذورها
إلى اليونان القديمة. والحال أنه كانت هناك التِقاءاتٌ تسترعي
الانتباه تمّت ما بين الزمنَين الوسيط والمعاصر، علىسبيل المثال بين
القديس توما الأكويني وفتغنشتاين ، وبين «فريجه» وابن رشد.
ولئن كان القديس«توما الأكويني»، مع أنه لم يؤلفكتاباً جامعاً
في المنطق، يشكّل نموذجاً لافتاً يتسنى لنا أن نقيس به ما يدين به
«فريجه» مثلاً في إنتاجه المنطقي، فماذا عسانا نقول عن الفلاسفة
العرب الوسيطين من أضراب الفارابي وابن سينا وابن رشد؟
يتساءل صاحب الكتاب. بل إننا نجد لدى ابن رشد مقاربة قريبة
الشبه بفلسفة اللغة المتعارفعليها اليوم، والتي مُفادها أنه: «لكي
نتحدثعن الأشياء في ذاتها، فإنه من الأفضل أن نمرّ عبر ما تحيل
.
6
إليه تعبيراتنا عن هذه الأشياء»
اللقاء: مشهد فلسفي
من أجمل المضامين التي يزخر بها هذا الكتاب النصّ الموسوم
بعنوان: «اللقاء: مشهد فلسفي»، حيث يشرح لنا الكاتبكيف أنّ
الجانب الحِواري في عقول الفلاسفة العرب يقتضيوجود مشاهدَ
فلسفية حدثتفعلاً. ومنجملة ما يذكره فيهذا الشأن اللقاء الذي
جرى بين ابن رشد وابن عربي الذي كان من معاصري فيلسوف
قرطبة. كانت محادثة جمعت بين رجلين مختلفين؛ أحدهما صوفي
النزعة والآخر عقلاني المذهب، الأول مفكر على سبيل الرمز، فيما
الثاني فيلسوف يتخذ البرهانَ نموذجاً وأساساً لكل معرفة.
5. A. Benmakhlouf, Pourquoi lire les philosophes arabes?, Albin
Michel, Paris, 2015, p. 24.
6. Ibid, p. 30.
أمّا المثال الآخر، فقد تجسّد إبّان قيام كيان شبه الجزيرة الإيبيرية،
إذ كان هناك نقاشٌ حقيقي حول ذلك الإرث المزدوج، إرث
الغزالي وابن سينا من جهة، وإرث الفارابي والمدرسة الأرسطية
من جهة أخرى. وهو النقاش الذي تراءت معالمُه وتردّد صداه،
كما يقول بنمخلوف، عند ابن طفيل، في المقدّمة التي وطّأ بها
لحكايته الفلسفية حي بن يقظان.
والحق أنّ هذه الحكاية تفصل هي الأخرى القول في اللقاء
بأشكال متنوعة. ويذكرنا المؤلف بأنّ ترجمتها إلى اللاتينية والتأثير
الذي أحدثته في الأدب ـ كما تشهد على ذلكحكاية «روبنسون» ـ
تبين مدى ما تكتسيه من أهمية معرفة اكتسِبتْ بحسب استعدادات
الذات ولقاءاتها الخاصة. كما يضيف بنمخلوف أنّ هذه الحكاية
على وجه الخصوص: «تجعل من اللقاء الكوني والطبيعي
والإنساني الضرورة الأولى للتعلم، وتبسُط أسلوب حياة نُذرَت
.
7
إلى المعرفة»
الفلسفة هي إذن لقاء يكاد ينتفي فيه الطابع الدوغمائي
الوثوقي. فالتقابل بين الأفكار والآفاق والتقاليد هو ما يشكل
الأساس المشترك الذي تقوم عليه الفلسفة العربية، بمنأى عن أي
عقيدة محددة سلفاً، وذلكعلى الرغم من هيمنة أسلوَ الأرسطية
والأفلاطونية الجديدة، كما يؤكد الكاتب.
النبي والفيلسوف
تطرح قراءة القرآن إشكالاً يتمثل في التساؤل عن مشروعية
منظورين مختلفين إلى النص المقدّس، ونعني بذلك القراءة من
منظور الوحي، والقراءة من المنظور القائم على الحجاج، بعبارة
أخرى: هناك المنظور القائم على إشراقات النبوة، والمنظور المبني
على دلائل الفلسفة. ويذكرنا علي بنمخلوف في هذا السياق بما
ذهب إليه الكندي من تنزيل الفلاسفة منزلة ورثة الأنبياء.
والملاحظ أنّ التمييز بين الخطابين الفلسفي والديني يرتكز عند
الكندي على اعتبار زمني. فبينما تتم النبوءة في لحظة معينة، تحتاج
الفلسفة إلى مدة من الزمن كي تقيم رسالتها. وتندرج المعرفة
الفلسفية حسب الكنديضمن استمرارية المعرفة النبوية.
7. Ibid, p. 38.
عبد اللطيف فتح الدين
مراجعة كتب




