إشكالية الدين والعقل في الفكر الإسلامي: مقاربة نقدية حداثية

فئة :  مقالات

إشكالية الدين والعقل في الفكر الإسلامي: مقاربة نقدية حداثية

إشكالية الدين والعقل في الفكر الإسلامي:

مقاربة نقدية حداثية

لا تزال العلاقة بين الدين والعقل في الفكر الإسلامي تشكّل إحدى أكثر القضايا عرضة لسوء الفهم والاختزال؛ فالاتهام الشائع الذي تبنّاه الاستشراق الكنسي، وردّده بعض المثقفين العرب بلا تمحيص، والقائل إن الإسلام منظومة مناهضة للعقل، ينهار بمجرد إخضاعه للفحص الإبستمولوجي؛ فالموروث الإسلامي في لحظاته التأسيسية كان فضاءً معرفياً واسعاً التقت فيه الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق، وأنتج أسماء شكّلت العمود الفقري للفلسفة الأوروبية اللاحقة، مثل الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن الهيثم، والخوارزمي وغيرهم، حيث اعتمدت الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى على الفلسفة الإسلامية، بوصفها قناة أساسية لقراءة التراث اليوناني؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما كان لتوما الأكويني ليفهم العلاقة بين الوجود والماهية من دون ابن سينا، ولا في فهم النصوص الأرسطية لولا شروح ابن رشد، وما كان لألبرت الكبير التفوق في درس الفلسفة الطبيعية وتوفيقها مع علم اللاهوت المسيحي لو لم يمّر على فلسفة ابن سينا وابن رشد، وحتى مؤسس المنهج التجريبي روجر بيكون كان متأثراً بمناهج علماء الإسلام التجريبيين، وخاصة الحسن بن الهيثم، ولو ننظر للجانب الأدبي، فإنّ دانتي اعترف في الكوميديا الإلهية أنّ ابن سينا وابن رشد من الفلاسفة الذين ساهموا في بناء الفكر الإنساني، ومنه ما كان لنهضة أوروبا الفكرية والعلمية أن تتخذ شكلها المعروف، لولا شبكات المترجمين التي ازدهرت داخل الفضاء الحضاري الإسلامي.

ومع ذلك، من غير الموضوعية إنكار مأساة المسلمين في عصر الضعف والانحطاط نتيجة محاربتهم للعلوم الطبيعية والفلسفة؛ فمنذ أفول شمس الأندلس ورحيل ابن رشد، انكفأت العقلانية لصالح هيمنة خطاب فقهي مغلق، يجترّ تراثه ولا يوسّعه، توقف سؤال الوجود، وغاب الحسّ العلمي، وانهارت البنية الإبداعية لصالح نموذج معرفي يقدّم الحفظ على التفكير، والطاعة على النقد، هذا الانحسار لم يكن دينياً فقط، بل بنية معرفية ارتدت إلى التقليد.

وقد أنتج هذا الانسداد مزيجاً من التطرف، والتكفير، وفوضى الفتاوى، ونشوء اللامفكر فيه كأنماط ذهنية لا تشكك في نفسها ولا في أدواتها، ومن هنا جاءت ضرورة العودة إلى نقد العقل الديني من جهة، وإلى تفكيك الخطاب الديني من جهة أخرى، وإلى إعادة مُساءلة التراث ضمن منظور تاريخي أنثروبولوجي يتجاوز حدود التقديس والجمود.

المُشكل إذاً ليس في النص المقدّس، بل في ممارسته الدلالية داخل التاريخ؛ فالقرآن نصّ متعدد الطبقات، مفتوح على التأويل، تتجاور فيه الدلالات المباشرة مع الحمولات الرمزية والتاريخية والأسطورية، فهو حسب علماء اللغة نصّ سهل ممتنع، وفي الوقت نفسه عسير في مستواه التأويلي، ولهذا سمح بتشكّل أنساق تفسيرية مختلفة ومتباينة، ومن هنا، فإن القراءة الحداثية له ليست ترفاً فكريًّا، بل ضرورة إبستمية لفكّ التداخل بين المقدّس والتاريخي. إنها قراءة تستثمر المناهج الأنثروبولوجية، والسيميائية، واللسانية، من أجل تحرير النص من سلطته التراثية وإعادة الحركة إليه بوصفه نصاً مفتوحاً على عدة قراءات، لا مغلقاً على الجواب.

وإذا انتقلنا من مستوى التنظير إلى الإسلاميات التطبيقية، نجد أن موضوع الرق وملك اليمين والسبايا على سبيل المثال لا الحصر، يُعدّ أنموذجاً كاشفاً، فهذا الملف لطالما كان ولا يزال مادة خصبة للاستشراق وللخطابات الإسلامية الراديكالية معاً، الأولى توظّفه لإثبات لا إنسانية الإسلام، والثانية تُعيد إنتاجه بوصفه جزءاً من الشريعة الغائبة. أما القراءة الحداثية، فتنطلق من تحليل البنية الأنثروبولوجية لهذه الظاهرة، بوصفها مكوّناً للحضارات القديمة كافة، وتدرس تحوّلاتها في الخطاب الإسلامي الذي لم يمنع الرق مباشرة، ولكنه جعل العلاقة بين السيد والعبد في إطار قانوني وأخلاقي محدد، وهنا لا يتساءل الحداثي هل ألغى الإسلام الرق أم لا؟ بل كيف تحوّلت الظاهرة من بنية اجتماعية إلى مقولة فقهية؟ وكيف يتمّ إعادة إنتاجها ضمن الخطاب الإسلامي؟

وجب التذكير أنّ إعادة التفكير في هذه المسائل، وغيرها من الملفات المسكوت عنها، ليس بمشروع عدائي تجاه التراث، بل محاولة لاستعادة العقل من هيمنة التقليد، وإعادة بناء العلاقة بين الدين والحداثة عبر مُساءلة التاريخ، وكشف الأسطورة، وتفكيك البنية الخطابية التي جعلت من الفهم البشري للنص مقدّساً أكثر من النص ذاته.

تمثل جدلية السيد والعبد مثالاً صارخاً على الاختلاط بين ما هو تاريخي وما هو ديني؛ فمع ظهور التشريع الإسلامي، بدأت تتشكّل مواقف متباينة تجاه العبودية، اتجاه يدعو إلى التحرير وتوسيع أفق الحرية الإنسانية، واتجاه آخر يسعى إلى الإبقاء عليها وتحويلها إلى مؤسسة اجتماعية مضبوطة بأحكام فقهي. فالإسلام لم يحرّم الرق تحريماً مباشراً، لكنه هذّبه وحدّ من ممارسته، وفتح منافذ للتحرير عبر تشريع فكّ الرقبة، سواء بوصفه كفارة أو فعلاً أخلاقيًّا، وهذه الموازنة كانت تعبيراً عن منطق واقعي لا يمكن تجاوزه بين ليلة وضحاها في مجتمع قائم على بنية اجتماعية واقتصادية مرتبطة بالرق.

وعليه، فإن تقييم الظواهر التاريخية القديمة بالعقل الحداثي لا يهدف إلى مُحاكمتها، بل إلى فهم سياقاتها ونزع هالتها القدسية للكشف عما هو ثابت فيها وما هو متحوّل، هنا يصبح هذا العقل أداة لفهم مقاصد الشريعة، بوصفها منظومة قيّم كبرى مثل العدل والرحمة والإحسان، ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم أحكام الرق وملك اليمين دون قراءة النص الموازي، أي المنظومة الثقافية والأنثروبولوجية المرافقة للنص المقدّس، وما لعبته من دور في بناء التصوّر الديني والفقهي عبر القرون.

وإذا انتقلنا إلى مسألة ملك اليمين والسبايا، وجدنا أنفسنا أمام ملف أكثر تعقيداً؛ لأنّ المجتمعات الإسلامية كرّست خطاباً شديد التحفظ تجاه مسائل الجسد والجنس، ما جعل من هذين المفهومين موضوعين ملتبسين بين النص القرآني والتأويل الفقهي، فالتقليد الفقهي غالباً ما دمجَ بين الرق وبين ممارسة جنسية اعتُبرت حقّاً للسيد، متجاهلاً أن القرآن لم يُبِح العلاقة الجنسية إلا داخل إطار الزواج، وأن “ما ملكت أيمانكم” في سياقه القرآني لم يكن ترخيصاً بالتملك الجنسي، بل جزءاً من منظومة عائلية وزوجية خاضعة لشرط الرضا والحماية، فالنص القرآني، الذي أكّد في عشرات الآيات على الكرامة الإنسانية، والحرية، واحترام الآخر، لا يمكن أن يُقرأ منعزلاً عن مقاصده الكلية، لكن الفقه في قراءته الجزئية، جعل من الأمة ملكاً شخصياً يتصرف فيه السيد كيف يشاء، بل اعتبر بعضهم ذلك من “النعم”، مستندين إلى آيات مجتزأة خارج سياقها الكلي، وهذه القراءة أنتجت خطاباً جعل من التاريخ تشريعاً، ومن لحظة ثقافية معينة معياراً للحق الإلهي.

إن اختزال النصوص في حرفيتها ليس سوى ممارسة تعيد إنتاج الظلم بلغة مقدسة، وتكرس اللامفكر فيه الذي تحدث عنه أركون؛ ذلك الذي تتحوّل فيه التقاليد الفقهية إلى أوامر مطلقة، وتتحوّل فيه الأعراف البالية إلى قوانين فوق النقد، وهذا ما أدى إلى ظهور زيجات معاصرة كالعرفي، والمسيار عند السنة، والمتعة عند الشيعة، التي ليست زواجاً كاملاً، ولا هي محرّمة صراحة عند الفقهاء، لكنها في كثير من جوانبها استنساخ معاصر لظاهرة ملك اليمين، وإن اختلفت الصورة.

ويذهب بعض المستشرقين إلى ربط هذا الإشكال بالإباحة الجنسية في الإسلام، لكن هذا الطرح يُعبّر عن تحيّز نابع من خلفية لاهوتية مسيحية تُمجّد البتولية وتُحمّل الجسد معنى الخطيئة، فالمسيحية كما جاء في رسائل بولس ترى في العفة والرهبنة شكلاً من أشكال الارتقاء الروحي، بينما يُعّد الجنس مفسدة يجب مقاومتها، ولأنّ هذه المثالية تصطدم بالطبيعة البشرية، شهد الغرب في ستينيات القرن الماضي ثورات شبابية، وحركات تحرّر تُطالب بإسقاط قوانين الكنيسة المحرمة للجسد، نتيجتها انفجار جنسي واسع، وانتشار للانتهاكات حتى داخل الأديرة نفسها، وهو ما أقرّ به بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر عند استقالته سنة 2013.

أما الإسلام، فاختار مساراً مختلفاً جذرياً، فهو لا يرى في الجسد خطيئة، ولا في الجنس دنساً، بل عدّه جزءاً من الحياة اليومية، مجالاً للمتعة والتكامل الإنساني، وموضوعاً للبحث والتدوين في كتب الأدب والطب والتصوّف، والانفتاح الذي نجده في كتب التراث من الجاحظ إلى السيوطي والتجاني لدليل على تصالح الثقافة الإسلامية قديماً مع الجسد أكثر من قراءاتنا المعاصرة المغلقة التي أفرزتها أزمات الهوية والوعظ الأخلاقي.

نعيش اليوم أزمة فكرية دينية حادة، تظهر بجلاء في البنية الفقهية التي لم تعد قادرة على مواكبة التغيرات الاجتماعية والمعرفية؛ فمدونات التفسير والفقه لم تُبنَ على أساس علمي تأويلي يحتمل الصواب والخطأ، بل على بنية تراتبية تُعامل الفهم البشري كأنه الحقيقة النهائية، ولهذا حان الوقت لإعادة تأسيس نظريات جديدة في الأنسنة الدينية، تستمد قوتها من قراءة علمية للنص المؤسّس، لا من تكرار التفسير القديم، وليس في هذا أي إلغاء للتراث، بل فقط إعادته إلى حجمه التاريخي، بوصفه تجربة عقلية مرتبطة ببيئتها، لا نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان.

في الأخير، المشكلة أبداً لم تكن في النص، بل في تحويل الفهم البشري له إلى سلطة مغلقة، حتى أضحى عندنا الماضي مرجعاً للمستقبل، لا مجرد مرحلة من مراحل تطور الوعي والمعرفة، إلى درجة استمرارنا في إنتاج أجوبة قديمة لأسئلة لم تعد موجودة ونسمي هذا بالاجتهاد ... إنّ ما نحتاجه اليوم ليس إسلاماً جديداً، بل عقلاً مسلماً جديداً وشتان بين هذا وذاك.