الإيروس والثقافة: فلسفة الحبّ والفن الأوروبي لفياتشيسلاف شستاكوف


فئة :  قراءات في كتب

الإيروس والثقافة: فلسفة الحبّ والفن الأوروبي لفياتشيسلاف شستاكوف

قديم

يعدّ مفهوم الحب من أبرز المفاهيم الفلسفية التي لم تحظ بالقدر اللازم من الاهتمام مقارنة بمفاهيم أخرى، رغم أن هذا المفهوم مكون لغوي وجوهري لهذا المجال البحثي المسمى فلسفة. من ثمة تأتي أهمية هذه القراءة من حيث هي محاولة لتقديم كتاب من أبرز الكتب الفلسفية المرتبطة بهذا المفهوم، وهو كتاب للمؤلف الروسي فياتشيسلاف شستاكوف، وقد عنون بـ "الإيروس والثقافة: فلسفة الحب والفن الأوروبي"[1]، يقع في حوالي 350 صفحة، موزعة على سبعة فصول ترصد التطور الفلسفي والتاريخي للمفهوم، وذلك على النحو الآتي:

  • الفصل الأول: يدرس فلسفة الحب اليونانية والرومانية.
  • الفصل الثاني: يدرس فلسفة الحب في العصور الوسطى.
  • الفصل الثالث: يدرس فلسفة الحب في عصر النهضة.
  • الفصل الرابع: يدرس فلسفة الحب في القرن السابع عشر والثامن عشر.
  • الفصل الخامس: يدرس فلسفة الحب في القرن التاسع عشر.
  • الفصل السادس: يدرس فلسفة الحب الروسية.
  • الفصل السابع: يدرس فلسفة الحب في القرن العشرين.

لم يخضع مفهوم الحب للدراسة الكافية عبر تاريخ الفلسفة، ومن تم أهمية قراءة هذا الكتاب، خصوصا في ظل تنامي الهوس الجنسي وغياب فلسفة الحب ورفع القيود على الإباحية المتجسدة بورنوغرافيا. إن السؤال حول الحب سؤال مهم أهمية السؤال حول الموت وأصل الحياة، لأنه مكون ماهوي للإنسان تتجاذبه مملكتا الطبيعة والثقافة.

بالإضافة إلى هذا الكتاب، يمكن للقارئ أن يوسع مداركه بخصوص فلسفة الحب من خلال مؤلفات مرتبطة بنفس المفهوم أو بتاريخيته بدرجات متفاوتة، ومنها على سبل الإجمال لا الحصر:

  • مأدبة أفلاطون.
  • طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم.
  • الحب في التاريخ لسلامة موسى.
  • فن الحب لإيرك فروم.
  • مشكلة الحب لزكريا إبراهيم.
  • تاريخ الجنسانية لمشيل فوكو.
  • الحب في فلسفة سورن كيركوغار لشنتال آن.
  • ستة تأملات في ظاهرة الحب، لجون لوك ماريون.
  • شذرات من خطاب محب، لرولان بارث.
  • الإيروسية، لجورج باطاي.
  • المال، القوة والحب، لفرنسوا فوركيه.
  • الإباحية ليست حلا، لمريام جروسمان.
  • نظرية الجسد المحب أو الحب الجسدي، لمشيل أونفري.

ما يميز الكتاب الذي بين أيدينا هو أنه يتتبع المفهوم في تاريخيته، من أجل رصد مختلف ملامح فلسفته الممكنة، وهو ما يجعل منه مرجعا مهما لكل من اقتنع بأهمية البحث في الموضوع وبجوهريته الإنسانية، وسنحاول من خلال ما يلي تتبع هذه التاريخية بالانتقال من حقبة إلى أخرى من حقب تاريخ الفلسفة.

1. فلسفة الحب اليونانية والرومانية

يرتبط الحديث عن الحب فلسفيا بالحضارة اليونانية ارتباط الفلسفة نفسها بهذه الحضارة، ما دامت الفلسفة تقدم نفسها كمحبة أو حب للحكمة، وتعتبر دراسة فلسفة الحب اليونانية مهمة من أجل فهم التصورات الأوروبية حول الحب بصفة عامة، نظرا للتأثير الكبير لهذه الحضارة على تاريخ الفكر الأوروبي بأسره.

تظهر قوة فلسفة الحب اليونانية من خلال ترسانة مفاهيمية ارتبطت به لديهم، ومن جملتها نذكر:

  • مفهوم الإيروس Eros: الذي كان يعني الرغبة بعموم اللفظ، قبل أن يعني الرغبة الجنسية في الاتصال بالجنس الآخر.
  • مفهوم Philia: الذي اكتسب معنى الحب، ولكنه لا يحيل إلى الحب الجنسي بالضرورة، إذ يحيل أيضا على مفهوم الصداقة.
  • مفهوم الأغابي Agape: وهو نقيض الإيروس، من حيث كونه ذلك الحب الأخوي الخالي من العنصر الجنسي.

ولّد هذا الغنى المفاهيمي الذي ارتبط بالحضارتين اليونانية والرومانية تنوعا في فهم الحب، فتم بناء على ذلك التمييز بين "الحب الميتولوجي، والحب الكوني، والحب الفلسفي-الأخلاقي، والحب الجنسي-الاستمتاعي"[2].

يظهر هذا الغنى على سبيل المثال بالعودة إلى الميتولوجيا اليونانية، مثلما هو معبر عنها في كتابات هوميروس Homère وهزيود Hésiode، حيث تحدت هذا الأخير في كتابه "نشوء الآلهة"، عن إلهة الحب والجمال أفروديت Aphrodite، قائلا إنها مولودة من زبد البحر، ولعل في هذا القول ما يفسر أنثربولوجيا ارتباط العشاق والمحبين بالبحر. يتحدث كذلك عن الإله إيروس Eros الذي تندمج فيه قوة الحب بجبروت الظواهر الطبيعية، وهو إله مسلح بالقوس والسهم، وهو الأمر الذي يفسر ارتباط هذه العلامة بالوقوع في الحب، وقد سمي هذا الإله بأمور لدى الرومان، ويظهر في صورة هذا الإله جانبا الحب اللذان يرتبطان به "الهيام الرقيق، وجنون الحب الذي يدمر العقل. وإذا كانت أفروديت تعني الثقة الهادئة وقوة الحب، فإن إيروس يرمز إلى الشهوة الجامحة، والمداعبة، والنزق والطيش"[3].

تحتاج هذه الأساطير وهذه التصورات الميتولوجية للآلهة إلى قراءات أنثروبولوجية، وما من شك أنها ستفسر الكثير من الظواهر المرتبطة بالحب وكيفية ممارسته، ليس فقط لدى المجتمع اليوناني القديم، بل لدى مختلف المجتمعات، لأن الفكر مهما كانت طبيعته ليس ملكا لحضارة بعينها، بل يرسم لنفسه مساره الخاص الذي يجعله يحضر بكيفيات قد تكون مشوهة لدى حضارات وثقافات أخرى.

من المعروف أن هذه التصورات الميتولوجية ستتراجع أمام ظهور الفكر الفلسفي ببلاد اليونان بداية القرن السادس قبل الميلاد، غير أن هذا الانتقال سيحافظ على المكانة الجوهرية لمفهوم الحب، حيث سيحضر في الكوسمولوجيا الإغريقية كقوة موحدة بين الاستقصات الأربعة التي سيقول بها كل من طاليس Thalès، أنكسمانس Anaximène، هيراقليطس Héraclite واكزينوفان Xénophane، كأصول للوجود، وهو الأمر الذي يكشف عن نفسه بوضوح في فلسفة أمبادقليتس Empedocles المبثوثة في قصيدته "حول الطبيعة"؛ فالحب لديه يتجسد كطاقة موحدة، تخلق نوعا من الانسجام بين الماء، الهواء، النار والتراب، والكراهية بناء على ذلك هي طغيان أحد هذه العناصر وفقدان للانسجام.

هنا تنتقل إلينا دلالة جديدة من دلالات مفهوم الحب، من حيث إنه علاقة ينبغي أن تنبني على مسافة آمان فاصلة، فهو ليس قهرا أو امتلاكا أو استعبادا أو طغيانا، وهو الأمر الذي يكشف أيضا عن نفسه لدى فيثاغورس Pythagore الذي حد الفلسفة بكونها محبة للحكمة لا امتلاكا لها، فالحب ليس امتلاكا، وإنما هو سعي وسعي متجدد باستمرار، يحافظ على استقلالية الآخر بشكل يجعله موجودا لا ينتفي مهما طال الزمان، ومتى حصل امتلاكه تم نفي وجوده وحلت الكراهية.

لعل هذا الأمر يفسر تلك المتعة التي تخالج قلب المحبّين قبل الزواج، وتبدأ في الزوال بعده. إن الحب مطالبة مرفوقة بممانعة وتمنع، يضفي صبغة خاصة على ماهية الحب، ويجعله منفلتا من كل تصنيف، ولا ينبغي أن يُفهم هذا التمنع فهما بيولوجيا يصير بمقتضاه تمنع المرأة عن الرجل، كالتمنع الغريزي لأنثى الحيوان عن ذكرها، بل ينبغي أن يتجسد أولا كتمنع روحي الغاية منه حفظ الحب وإدامته.

نستنتج مما سبق أن الحب يتجسد كقوة موحدة، رغم أنها تفهم ضمن سياق الفلسفة الما قبل سقراطية كقوة كوسمولوجية، وليست عاطفية إنسانية، ولعل في ذلك استمرار للميتولوجيا في الفلسفة على نحو غريب، تحولت بمقتضاه آلهة الميتوس Mythos إلى استقصات اللوغوس Logos.

من بين أبرز النصوص التي كتبت حول الحب في الثقافة اليونانية، نجد "محاورة المأدبة" لأفلاطون Platon، وهي محاورة تحاول تحديد جوهر الحب. يظهر فيها نوع من السمو بالانتقال من الحب المادي المبتذل إلى الحب الحقيقي، ويتحدث فيها أفلاطون بنفحة ميتولوجية أحيانا عن الحب، من حيث كونه شيطانا؛ فالإله إيروس كما يتصوره هو ابن إلهة الفقر بينيا Penia، وإله الرفاه بوروس Poros، اللذان وقع اللقاء الجنسي بينهما على خلفية حفل حضرته بينيا تتوسل الصدقة، قبل أن يختلي بها بوروس المخمور جنسيا، وتكون المحصلة هي الإله إيروس.

ولعل هذا الحضور الميتولوجي في مأدبة أفلاطون، يفسر أنثربولوجيا أيضا رؤية الفتاة للزوج المرتقب كمنقذ من الفقر وفارس أحلام، حيث تترسخ فكرة الاغتناء بالزوج، ومحاولة استقطابه بشتى الطرق أخلاقيا وجسديا.

ومن بين الأفكار الجميلة داخل المأدبة أيضا، تلك التي جاءت على لسان أريستوفان Aristophane، وهو يتحدث عن "تطور فكرة الازدواجية الجنسية (الخنوثة) Intersexuation، وهي النظرية القائلة بأن الناس في القديم كانوا يتمتعون بالبدايتين الذكرية والأنثوية في آن واحد معا. غير أنهم ارتكبوا ذنوبا في حق زيوس. فقسمهم إلى جنسين منفصلين، رجال ونساء. ومنذ ذلك العهد يسعى الناس بشوق ولهفة، لكي يعثر أحدهم على النصف الآخر، كي يعودوا إلى الكلية الأولى"[4]. وهذه الكلية المنشودة هي محرك الأزواج إلى الإنجاب ورعاية الأبناء، غير أن ما ينجب يظل دائما على هذا الإحساس بالنقص، ولو كان هو نفسه تجسيدا من تجسيدات الاكتمال بالنظر إليه كمفعول للقاء جنسي بين الأب والأم.

من بين ما يمكن أن يستخلص من المأدبة أيضا، ذلك الارتباط بين مفهوم الحب ونظرية المعرفة الأفلاطونية، وكذلك نظريته في الجمال، حيث يعرف الحب بكونه محاولة لاقتناص الجمال. إنه سعي إلى الجميل والرائع، وهو الأمر الذي يفسر كون الرؤية هي السبيل الأول لاختيار المحبوب والسعي بعد ذلك إلى التقرب منه، وهو ما يفسر أيضا العناية البالغة للنساء بالمظهر.

غير أن أفلاطون لا يقف عند هذا الحد، بل يرتقي جدليا نحو ربط الحب بالجمال الحقيقي، عبر سعيه إلى الارتقاء من جمال الجسد المتغير، إلى جمال النفس الثابت، ومن تم يمكن أن نفهم أسباب النزاع بين الأزواج اللذين تبنى علاقتهما على الجمال الجسدي، في الوقت الذي تتسم فيه الاختيارات الروحية والأخلاقية بالاستمرارية.

حاول فياتشيسلاف شستاكوف تلخيص كل ذلك بقوله: "إن التأثير الجمالي هو الحب ذاته، فالحب هو سعي دائم وأبدي من المحب نحو حبيبه. وهذا السعي يختتم بالزواج، سواء من الناحية الحسية أو من الناحية الروحية، ونتيجة الزواج هي ولادة مولود جديد، هو بمثابة إنجاز تابت للمحب وحبيبته، حيث يندمج الاثنان اندماجا كاملا. وهذه الإنجازات تعد تجسيدا ماديا للحب، سواء من الجانب الحسي، ومن الجانب الروحي"[5].

هذه الثنائية دفعت أفلاطون إلى الاعتراف في "محاورة فيدروس" بأن الغاية القصوى للإيروس أو الحب هي بلوغ الخلود، وهو خلود يضفي على فلسفته في الحب طابعا صوفيا، عندما تقرأ قراءة روحية، وطابعا اجتماعيا أسريا عبر تربية الأبناء، عندما تقرأ قراءة مادية.

استمر هذا الاهتمام الفلسفي بمفهوم الحب مع تلميذ أفلاطون؛ أي أرسطو Aristote، خصوصا في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخ"، عندما تحدث عن Philia التي تعني من بين ما تعنيه الصداقة، وهي تتجسد بطريقة مشوهة لا تليق بمقام الإنسان عندما ترتبط باللذة أو المنفعة، وتكون إنسانية فقط عندما ترتبط بالفضيلة التي تنقل الإنسان من حالة الحيوانية في علاقته بالآخر (الجنس) إلى حالة إنسانية قوامها الحب، حيث لا إفراط ولا تفريط، ومن ثم فالزوج ينبغي أن يُختار أولا وقبل كل شيء كصديق قبل أن يختار كجميل.

استمر هذا النقاش أيضا مع المدرستين الرواقية Stoïcisme والأبيقورية Épicurisme، رغم أنهما سيتوجهان إلى ذم الحب لما يسببه من ألم للإنسان، بالإضافة إلى أنه متعة طبيعية لكنها غير ضرورية مقارنة بالأكل والشرب، ومن تم وجب الاعتدال فيها، وهو ما عبر عنه لوكريتيوس Lucrèce بقوله: الحب نوع من خداع الطبيعة للإنسان لا يمكن إشباعه.

بالإضافة إلى هذا الحضور الفلسفي لمفهوم الحب في الثقافتين اليونانية والرومانية، يحضر المفهوم بقوة أكبر داخل الأدب والفن المرتبط بهما، ولعل هذا ما جعل زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الحب" يقول إنه من الأفضل للفلاسفة أن يصمتوا عندما يتعلق الأمر بالحب، وأن يتركوا الفرصة للفنانين والشعراء، وفي هذا السياق، يستحضر شستاكوف الرسائل التي ألفها الشاعر الروماني أوفيديوس Oviduis، خصوصا:

  • مراثي الحب.
  • علم الحب.
  • دواء الحب.

فقد دافع في هذه الرسائل عن الحب وقوته الأخلاقية، وربطه بالحياة بأسرها، مؤكدا كذلك أنه يحتاج إلى قوة وعزيمة، فحسبه كل محب هو بمثابة جندي، بالإضافة إلى أن كل شيء يمكن أن يكون مسموحا به في الحب والحرب. كما كرس جانبا من رسائله للحديث عن طرق ممارسة الحب، وبين أنه يولد آفات قد تحتاج لاتباع طرق معينة من أجل التداوي منها.

تجسد الاهتمام بالحب داخل الثقافتين اليونانية والرومانية من خلال الأعمال الفنية أيضا، وتم تجسيد الحب، سواء الإلهي أو الإنساني أو الحيواني، كل حسب خصائصه، ارتبط الحب الإلهي بتصوير الآلهة، وارتبط الحب الإنساني بتصوير الطقوس الأسرية فيما ارتبط الحب الحيواني بتصوير الأعضاء التناسلية على أنها ضخمة، في الوقت الذي كانت فيه صور الأبطال تكون بأعضاء تناسلية صغيرة الحجم، وذلك يعود إلى اعتقاد اليونانيين والرومانيين بأن كبر حجم الجهاز التناسلي ليس دليل قوة جنسية بقدر ما هو سمة حيوانية سخرت للفكاهة والسخرية، وعادة ما كانت الصور المرتبطة بكبر حجم الجهاز التناسلي تنسب للعبيد أو القائمين بأعمال يدوية، أو الذين يعانون من إعاقات جسدية، وهو الأمر الذي نجده أيضا في "الجمهورية" لأفلاطون في محاولته إناطة كل طبقة بالدور المنوط بها لتحقيق العدالة داخل الجمهورية الفاضلة.

هكذا يكون شستاكوف قد أبرز السمات الكبرى لفلسفة الحب اليونانية، وقد خصص لها فصلا مطولا مقارنة بباقي الحقب الفلسفية إيمانا منه بأنها الركن الرئيس لفهم فلسفة الحب الأوروبية بصفة عامة.

2. فلسفة الحب في القرون الوسطى الأوروبية

تميزت هذه الحقبة بانطباع مفهوم الحب بطابع ديني، حيث تم استبدال مفهوم الإيروس، بمفهوم الحب الأخوي Agape الذي يتضمن معنى الاحترام والتقويم، وقد حاول اللاهوتي السويدي أندريس نيفرين الكشف عن هذا الفرق في مؤلفه "الأغابي والإيروس Agape and Eros"، قائلا إنه في الوقت الذي يتجسد فيه الثاني كقوة جسدية تضفي الألوهية على الإنسان (زواج الآلهة والإنسان)، فإن الأول يتخذ شكل قوة روحية متجهة صوب الإنسان بتوجيه من الله المتصف بالرحمة.

في هذا الصدد يقول شستاكوف: "إن الديانة المسيحية تقيم علاقات جديدة بين الله والإنسان، والحب بالذات هو الذي يقر هذه العلاقات، والحب المسيحي ليس قوة جسدية قادرة على تدمير العقل البشري كما يفعل الإيروس"[6].

وقد كشف سورن كيركوغارد Søren Kierkegaard في كتابه "أثر الحب" عن وجه الاختلاف بين الحب الإغريقي والحب المسيحي، قائلاً إن الأول جمالي والثاني أخلاقي، ويظهر ذلك في العهد الجديد، الذي نجد فيه بعض القواعد الأخلاقية من قبيل: "أحبب إلهك بكامل قلبك"، "أحبب قريبك كما تحب نفسك".

لقد أوجد علم الأخلاق المسيحي مفهوما جديدا للحبّ قوامه المحبة Karitas، القائمة على المشاركة في المعاناة والرحمة والشفقة. إنه حب لا لشخص، بل حب لجميع الناس، وهو يرقى إلى مستوى الممارسة التنسكية الزاهدة التي تقوم على العطاء لا على الأخذ، وهو يولد العفة "فالدعارة لا توجد من شيء آخر سوى نقص الحب"[7]. ومن تم سيادة طابع قرباني للزواج في الثقافة المسيحية، يصير بمقتضاه قائما على التضحية والاشتراك في مصير واحد، ويظهر هذا الأمر بجلاء في "اعترافات" القديس سانت أوغسطين Augustin d'Hippone، حيث نجده يدين ممارساته الشهوانية خلال مرحلة الشباب. إن الحب كما يتصوره خال من الأنانية ونقيض لمحبة الذات، وهذا النمط الأخير من الحب هو السائد في مدينة الأرض، لكن ما ينبغي أن يسود هو الحب القائم على احتقار أنانية الذات، ويعتبر هذا الشرط مؤسسا لمدينة الله.

على خلاف أوغسطين حاول توما الأكويني Thomas d'Aquin رسم معالم اتجاه عقلاني في فهم الحب، قائلا إن هنالك أنماطا من الشهوة تستتبعها أنماط من الحب، وأعلاها مرتبة الشهوة العقلانية، ثم تأتي من بعدها الطبيعية، فالحسية.

أما بخصوص مكانة الحب في أدب القرون الوسطى، فتتجسد من خلال رسائل في العزل ونصائح للحفاظ على الحب، مع الحث على كتم السر والاحترام والعفة. وقد جعلت هذه الرسائل مفهوم الحب في نهاية العصور الوسطى يقترب من اتخاذ معنى الإيروس، ليشي بقرب انبعاث نظرية الحب الإغريقية من جديد في عصر النهضة بعدما طمست معالمها المسيحية، وهو ما عبر عنه فردريك نتشه Friedrich Nietzsche قائلا: لقد أجبرت المسيحية الإيروس على شرب السم فولد مشوها.

3. فلسفة الحب والجمال في عصر النهضة

تجسدت النهضة في علاقتها بمفهوم الحب عبر ثلاثة مستويات؛ الأولى شعرية في القرن الرابع عشر مثلها الشعر الإيطالي لدى شعراء الغزل الجوالين الذين عرفوا باسم التروبادور Troubadour. وكانت المرحلة الثانية فلسفية في القرن الخامس عشر، حيث حاول مجموعة من الفلاسفة إحياء النظرية الإغريقية في الحب، وعلى رأسهم مؤسس أكاديمية أفلاطون الجديدة مارسيلو فيتشينو Marsile Ficin الذي عاش ما بين 1433 و1499، وقد ضمت هذه الأكاديمية إلى جانبه الفيلسوف بيكو دولا ميروندولا Jean Pic de la Mirandole وشعراء وفنانين ورجال دين، وكانت تقرأ فيها مؤلفات أفلاطون وتناقش، وحظيت فيها المأدبة باهتمام كبير، وكتبت حولها عدة رسائل وشروحات من أهمها رسالة فيتشينو "شرح مأدبة أفلاطون"، وقد استحضر فيها مختلف معاني الحب في السياق الغربي: الإيروس، فيليا، الأغابي... إلخ.

خلص في هذه الرسالة إلى أن "الحب قوة كونية شمولية تحقق وحدة الجسد والنفس، المادة والروح، الإنسان والطبيعة؛ فالحب يكسب الفوضى الشكل، وينظم العالم في وحدة كلية"[8]. والقارئ لهذه الشذرة يجد أنها تتضمن كل معاني الحب، ليس فقط الأفلاطونية، بل معاني الحب الكسمولوجية الما قبل سقراطية والميتولوجية أيضا، وهو ما يظهر إعجاب فلاسفة عصر النهضة بالثقافة اليونانية بمختلف تجلياتها.

ومن أشهر فلاسفة الأكاديمية أيضا، نجد بيكو دولا ميروندولا الذي عاش ما بين 1463 و1494، مؤلف الرسالة الإنسانية الشهيرة "حديث في كرامة الإنسان"، حيث أكد أن الحب لا ينسحب على الله، لأن الحب حاجة ورغبة في الجمال، في حين أن الله من حيث كونه كمال أسمى لا يمكن أن يتمتع بأية رغبات أو حاجات، إن الحب كما يفهمه عاطفة إنسانية أولا وأخيرا.

ظهر في هذا السياق أيضا، كتاب "فلسفة الحب" لفرانشيسكو باتريسي Francesco Patrizi، وقد ربط فيه بين الحب وحفظ الذات، قائلا إنه ينطلق من الأنانية والمصلحة، فنحن نحب القريب والصديق من أجل خيرنا، وكل محبة تجلب المنفعة.

تم الانتقال في القرن السادس عشر إلى مرحلة ثالثة من مراحل فلسفة الحب النهضوية يمكن تسميتها بالمرحلة الجنسية- التربوية، حيث تم فيها الاهتمام بمسائل الحب العادية والعملية، من قبيل: كيفية الوقوع في الحب، المغازلة، دلائل جمال المرأة...إلخ، وقد ظهرت مجموعة من الرسائل اهتمت بهذه القضايا، من بينها:

  • حب رجل البلاط.
  • حول جمال النساء.
  • مرآة الحب: قراءة في إشارات المرأة.
  • السيدات الظريفات
  • نصائح للشباب في فن الحب الرائع.
  • جماليات النساء.

تم إذن بمقتضى هذه المرحلة الثالثة في النهضة الأوروبية الانتقال من كسمولوجيا وأنطولوجيا الحب إلى سيكولوجيا الحب، وتمت دراسة الحب في علاقته بجملة من المفاهيم، من قبيل: الخجل، البخل، الجنون، الخوف، الشوق...إلخ. وكان لهذا النمط من الاهتمام انعكاسه في الفن والأدب النهضوي، ونظر في هذا السياق إلى الجسد العاري كرمز للعفة والفضيلة والبراءة والحقيقة، وانعكست هذه التصورات في مسرحيات شكسبير خصوصا "روميو وجولييت".

4. فلسفة الحب الحديثة

حاول شستاكوف في الفصلين الثالث والرابع من مؤلفه دراسة فلسفة الحب الحديثة وحتى تلك التي ارتبطت ببدايات الفلسفة المعاصرة، فتحدث عنه أولا كحالة وجدانية، قبل أن يتحدث عنه لدى المدرسة المثالية الرومانسية.

دُرس الحب كحالة وجدانية من زاوية علم النفس ونظرية المعرفة، ويتضح ذلك لدى ديكارت René Descartes في كتابه "انفعالات النفس"، حيث أكد فيه أنه بالإمكان التمييز بين أنواع من الحب حسب طبيعة الانفعال، ومن ثم يمكن أن يتجسد كتعلق أو صداقة أو تبجيل. وأكد فرنسيس بيكون Francis Bacon في سياق نقده لمختلف أشكال الأوهام أن الحب في المسرح يتجسد كمتعة وملهاة، ولكنه على مستوى الواقع يختلط بانفعالات الألم والحزن.

تحدث باروخ اسبينوزا Baruch Spinoza أيضا في كتابه "الأخلاق" عن الحب قائلا إنه لذة ناتجة عن سبب خارجي، وأكد أن الحب الخالص من الانفعال هو حب الله، وهو حب عقلي، علما أن الله يتصوره اسبينوزا ليس سوى الطبيعة الخالقة، فالحب العقلي للطبيعة هو الذي يجعل الإنسان يبلغ الحرية، ويقترن انفعال الغيرة بالحب، من حيث هي تردد في النفس ناتج عن وجود الحب إلى جانب الكراهية في نفس الوقت. وقد نظر بليز باسكال Blaise Pascal في مؤلفه "خواطر" إلى الحب أيضا كانفعال ناتج عمّا يقدمه لنا المحبوب من خير.

وقد حاول كل من توماس هوبس Thomas Hobbes وغوتفريد لايبتنز Gottfried Wilhelm Leibniz وجون جان روسو Jean-Jacques Rousseau دراسة الحب في علاقته بالسعادة وبالبناء الاجتماعي، وتم التأكيد في هذا السياق على كون المدينة تشوه ميول الإنسان الطبيعية بما في ذلك الحب، فهي تقمع إحساسه الطبيعي من خلال محاولتها قولبة العلاقات الاجتماعية، وقد انعكست كل هذه الاجتهادات الفلسفية على أدب وفن القرن الثامن عشر.

في سياق أكثر دقة، حاول إيمانويل كانط Emmanuel Kant تأسيس الحب على مبدأ أخلاقي ينظر من خلاله إلى الآخر كغاية في ذاته، وفق الأمر المطلق الذي يعتبر بمثابة تشريع شامل، يستجيب لمبدأ الواجب والضمير الأخلاقي، غير أنه وجد نفسه محرجا، لأن الحب هو ضد الإلزام والإرغام، فهو لا يخضع بسهولة لمقولة الواجب، إذ يرتبط بالإشباع واللذة والشهوة، مما جعله يلجأ لفكرة الزواج من أجل حل هذه المعضلة، بما هو إلزام مبني على توافق يخرج الحب لدى الإنسان من دائرة الاستغلال والحيوانية، إذ يقول إنه: من الممكن تهذيب الرغبات الجنسية وتحويلها من غريزة بهيمية إلى واقعة حضارية؛ فالزواج هو اتفاق بين شخصين ينتميان إلى جنسين مختلفين مبني على الالتزام بالتمتع الدائم والمتبادل بخصائصهما الجنسية.

اتفق فردريك هيغل Friedrich Hegel في كتابه "أصول فلسفة الحق" نسبيا مع كانط، لأن الحب يفترض نفي المحب لوجوده الخاص ومحاولته اكتساب هذا الوجود في ذات الآخر، غير أن الحب من هذا المنطلق يكشف عن تناقض آخر وهو أنه ينفي استقلالية الذات، إلا أنه يكتسب أساسه الأخلاقي في الزواج، باعتباره نوعا من التركيب يستمر عبر ولادة الأبناء وتربية الأطفال، وهكذا يكون الحب بدون زواج لا أخلاقيا، فالحب هو أساس الزواج، وليس الزواج هو أساس الحب مثلما اعتقد كانط الذي تحول لديه الحب إلى صيغة متبادلة للاستهلاك بموجب عقد، وهنا يظهر أن الالتزام لا ينبغي أن يكون قانونيا بل أخلاقيا، بسبب تذبذب درجات الحب وعدم ثبوت المحبين على حال، ولعل هذا هو ما جعل الزواج يظهر في رومانسية فيشته Johann Gottlieb Fichte المبثوثة في كتابه "المبادئ الأساسية للحق الطبيعي" يظهر كشرط غير ضروري للحب، ومن ثمة فهو ليس معيارا للأصالة العاطفية، ويبقى بناء على ذلك الحب الرومانسي هو الحب المثالي.

جاءت بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى في تاريخ الفكر الأوروبي يمكن تسميتها بالمرحلة الما بعد رومانسية، مثلها كل من سورن كيركوغارد، وأرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer وفردريك نتشه، حيث حاول كيركوغارد إحياء النزعة الإيروسية التي لم يكن معها الحب مبدأ أخلاقيا، مؤكدا في كتابه "أثر الحب: بعض التأملات المسيحية"، أن الحب لم يصبح ظاهرة أخلاقية إلا في العصور الوسطى، حيث اقترن بالواجب، والحق أن هنالك تناقضا بين النزعة الإيروسية المرتبطة بالعاطفة، والنزعة الأخلاقية المرتبطة بالواجب الذي يفترض التخلي عن الأنا.

سيستمر هذا النقد مع شوبنهاور في كتابه "العالم كإرادة وتمثل"، حيث أكد أن الحب هو انعكاس لإرادة عمياء وغريزة لا عقلانية هدفها استمرار النوع البشري، ومن تم فهو ضد النزعة الرومانسية التي تقدس الحب، حيث إن ماهية الحب واهمة وخادعة، ودليل ذلك الندم الذي يعقب تلبية شهوة الحب، إنه نداء مجهول قاهر للجسد ينبغي التغلب عليه.

سيتقوى هذا النقد مع نتشه الذي سيؤكد أن الحب هو ضد الغيرية، وأنه تجلٍّ من تجليات الأنانية، ويعبر عن ذلك، بصريح العبارة قائلا: من أكبر الجرائم في علم النفس استبدال الحب بالغيرية... فالحب هو تعبير عن الأنانية. سيرفض نتشه من هذا المنطلق تقديس المرأة وإضفاء الصبغة الرومانسية على الحب.

سينعكس هذا التعدد والغنى الذي عرفته فلسفة الحب خلال هذه الحقبة، على فلسفة الفن الأوروبية المرتبطة بالحب، حيث ستتعدد المدارس الفنية والجدال القائم بينها، ففي الوقت الذي ركزت فيه الرومانسية على المرأة وجمالها، اتجهت المدرسة الواقعية إلى الكشف عن الحب كما هو في الواقع رافعة شعار لا نرى ملائكة، وستتوجه الكلاسيكية الجديدة إلى إحياء الطابع الإغريقي للحب، في الوقت الذي ستتجه فيه المدرسة الانطباعية إلى الكشف عن الانفعالات المرافقة للحب.

5. فلسفة الحب الروسية

بقي هنالك نوع من الفراغ لفترة طويلة داخل الفلسفة الروسية فيما يتعلق بالحب، حيث كان هذا الموضوع حكرا على الأعمال الأدبية والفنية، ونجد في هذا السياق الشاعر بوشكين Alexandre Pouchkine يربط بين الحرية والحب على منوال ربطه للسياسة بالأخلاق، كما صورت روايات ليو تولستوي Léon Tolstoï طبيعة الحب التراجيدية، من خلال التركيز على أشكال التطرف في الحب الجسدي.

غير أنه ومنذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ظهرت فلسفة الحب الروسية بقوة، محاولة الاستفادة من مختلف التصورات السابقة التي عرفها تاريخ الفكر الأوروبي فيما يخص هذا الموضوع، فوقفت عند حدود الاتصال والانفصال بين الإيروس والأغابي، قبل أن تحاول في بداية القرن العشرين التأسيس لمفهوم أصيل حول الحب، قام على أساس الاعتراف بتعقد الظاهرة وارتباطها بمجالات بحثية شتى، من قبيل: علم الأخلاق، علم الجمال، علم النفس، اللاهوت... إلخ.

ويمكن عموما الحديث عن فلسفة الحب الروسية من خلال اتجاهين اثنين؛ الأول هو الاتجاه الفلسفي الأفلاطوني الذي حاول إحياء نظرية الإيروس، وقد تزعمه الفيلسوف فلادميير سولفيوف Vladimir Soloviev، الذي دافع عن أهمية الحب الفردي في تجليه الروحي والجسدي، من خلال سلسلة من الكتب القيمة، منها:

  • قراءات في الإنسان- الله.
  • معنى الحب.
  • دراما حياة أفلاطون.

هذا الكتاب الأخير هو بمثابة تعليق على مأدبة أفلاطون، وفيه يعبر عن إيمانه بمبدأ وحدة الوجود، وهي وحدة تتحقق إنسانيا من خلال الحب بما هو قوة قادرة على لجم الأنانية وجعلها تستحيل إلى إنسانية، ومن تم لا يكون الحب مجرد نزعة جنسية لاستمرار البشر؛ فالحب الجنسي هو لحظة تحقق المساواة بين المحب والمحبوب، حيث يسعيا معا إلى استعادة الوحدة الأولى التي كان يتجسد فيها الإنسان ككائن يشمل البدايتين الأنثوية والذكرية.

أما بخصوص الاتجاه الثاني، فيمكن القول إنه اتجاه قروسطوي تزعمه للاهوتي فلورينسكي الذي تبنى نظرية الأغابي، واشتغل على مفهومي المحبة والرحمة المسيحيين؛ فالحب الديني حب مبني على الشفقة التي هي في نهاية المطاف شفقة الخالق على جميع المخلوقات، لذلك نجده يقول في كتابه "القطب وتأكيد الحقيقة": الحب بدون الله ليس حبا. إن الحب لديه خروج من الذات، وهو بذلك ضد النزعة البيولوجية الغريزية الأنانية، ويتراكب الحب في نهاية المطاف في الذات الإلهية، إنه حب روحي أكثر مما هو جسماني، والروح روح إلهية في نهاية المطاف.

حاول الأدب الروسي المتأخر الجمع بين هاذين الاتجاهين، وقد تجسد ذلك بألمع صورة في أعمال الروائي دوستويفسكي Fiodor Dostoïevski، وقد أنجزت بهذا الصدد دراسات نقدية كثيرة، من بينها على سبيل المثال: "دستويفسكي في الحب والخلود"، و"رؤية دوستويفسكي للعالم".

6. فلسفة الحب في القرن العشرين

ساهم التطور التقني وتنامي الطابع الاستهلاكي للمجتمع الرأسمالي في استبدال موضوع الحب بموضوع الجنس خلال الحقبة المعاصرة، وهو ما جعل الأبحاث تنطبع بطابع سيكولوجي أكثر مما هو فلسفي "لقد حل Homo sexuel الإنسان الجنسي، محل Homo sapiens الإنسان المفكر"[9]. وقد ساهمت وسائل الاتصال عبر تقنية الإشهار في جعل الرموز الجنسية حالة في كل مكان، وصار الاقتصاد ليبيديا بكل المعاني بلغة فرنسوا ليوطار Jean-François Lyotard.

من هذا المنطلق، تم تطوير الدراسات السيكولوجية الفرويدية، خصوصا المتجسدة في أعماله:

  • دراسات سيكولوجية.
  • ثلاثة مقالات في نظرية الجنس.
  • ما وراء مبدأ اللذة الجنسية.

وتم الكشف عن الكيفية التي يتغلغل بها الجنس في اللاوعي الإنساني، حيث لا يتجسد الحب كرغبة، بل كرغبة في الرغبة ذاتها، مما يكشف عن كونه تجليا من تجليات الدوافع الذاتية للمحب، لذلك كان العشق والهيام يرتبطان دوما بالحالات غير السوية على حد تعبير إريك فروم Erich Fromm. إنه انكشاف لقوى الإيروس والتانتوس.

كان لنظرية الحب الفرويدية تأثير في عدد من الباحثين، من أبرزهم ولهيلم رايش Wilhelm Reich مؤسس الماركسية الفرويدية، حيث أكد في مختلف دراساته، خصوصا:

  • المادية الدياليكتيكية والتحليل النفسي.
  • وظيفة الرعشة الجنسية.
  • السيكولوجية الجماهرية للفاشية.

إن الكبت الجنسي يخلق النموذج المازوشي للشخصية، وينقلب إلى عنف وقمع قد يقود إلى القتل الجنسي، وهذا المبدأ يمكن من خلاله القيام بتحليل نفسي للديكتاتوريات المعاصرة أيضا.

هنالك أيضا هربرت ماركيوز Herbert Marcuse، خصوصا في دراساته:

  • الإيروس والحضارة.
  • مقالات في التحرر.

حيث حاول التأكيد ضدا على فرويد Sigmund Freud أن هنالك إمكانية لبناء ثقافة متحررة من الكبت، وأكد أن الإيروس هو السبيل لتحقيق الذات في ظل وجود مدينة قمعية بشكل المعاصر، ويتطلب هذا الأمر تحويل النزعة الجنسية إلى إيروس يغير إحساس الإنسان وإرادته وعقله.

من بين السمات البارزة أيضا لفلسفة الحب في القرن العشرين، ارتباط الحب بالعنف، وهو ارتباط يجد مبدأه كذلك عند فرويد الذي نظر إلى الحب كنفي أو كعملية قتل، خصوصا في كتابه "ما وراء مبدأ اللذة الجنسية"، إذ هي لذة ترتبط بالنزعة العدوانية الفطرية في الإنسان.

من بين أبرز المدارس الفلسفية التي عالجت مشكلة الحب في علاقتها بالعنف نجد أيضا المدرسة الوجودية من خلال أعمال زعيمها جون بول سارتر Jean-Paul Sartre الذي درس الحب في إطار دراسته لإشكالية الحرية، حيث قال إن السعي إلى الآخر عبر الحب يولد النزاع، لأن الحب يتطلب إخضاع الحرية المستقلة للآخر، وجعله مادة لرغبتنا، وليس هذا الأمر مرتبطا بلحظة الحيازة الجسدية للآخر، بل يتجلى كمحاولة لامتلاك الحرية بما هي حرية، فحرية الآخر هي أساس ماهية المحبوب.

يظهر ارتباط الحب بالعنف أيضا من خلال ظاهرة الإباحية Pornography التي أصبحت تحدد شكل الحياة الواقعية، وقد عبر فياتشيسلاف عن ذلك قائلا: "الإباحية، مثلها مثل أي فن مزيف، تسعى إلى تقريب كل ما هو وهمي ومزيف إلى الحقيقة والواقع"[10].

لقد ساهمت هذه الظاهرة المنتشرة عبر وسائل الاتصال في اختلاط معايير الإيروسية مع الإباحية، وقد أدى ذلك إلى سيادة مظاهر مختلفة من العنف الجنسي، وإلى توتر في العلاقات الزوجية التي صار يحكمها الإحساس بالنقص الجنسي. وقد تعمق هذا الجرح من خلال الاستغلال التجاري للجنس، حيث لم تعد هنالك رقابة على أشكال الإباحية كما كان عليه الحال من قبل، بل صارت برعاية ثقافية، حيث تتدخل في نشرها وتشكيلها مجهودات فكرية وتقنية مهمة.

حاول مجموعة من الفلاسفة الكشف عن صلة الحب بالعنف خلال القرن العشرين، ومن بينهم خوسي لويس أورتيغا José Ortega الذي كتب كتابين مهمين حول الموضوع، وهما:

  • في الحب.
  • الحب، الألم، الأمل.

كما ظهر اتجاه نسوي مقاوم للنزعة الذكورية في الحب، وقد مثلثه جوليا كريستيفا Julia Kristeva من خلال كتابها "أساطير الحب"، الذي كشفت فيه عن النزعة الذكورية في فلسفة الحب الغربية، حيث كانت المرأة دائما مفعولا بها، وتتجسد كوعاء لتفريغ المكبوت الجنسي دون أن تؤخذ آلامها وآمالها بعين الاعتبار.

وقد واكبت هذا النقد النسوي للنزعة الذكورية ترسانة مفاهيمية مؤسسة لفهم جديد، على رأسها مفهوم الجندر Gender الذي قدم نفسه كبديل لمقارنة ثقافية عوض مفهوم الجنس ذي الخلفية البيولوجية التي تعطي الأولوية العضلية والجنسية والقوامية للرجل على حساب المرأة.

يندرج في هذا السياق أيضا، "تاريخ الجنسانية" الذي يقرأ على ضوء باقي أعمال ميشيل فوكو Michel Foucault الذي حاول الكشف عن أنماط السلطة في الخطاب، بما في ذلك الخطاب الذي يقدم نفسه كخطاب علمي رصين ومحايد، ومن بين أبرز هذه الأعمال نذكر:

  • المرض النفسي والعيادة.
  • تاريخ الجنون.
  • المراقبة والمعاقبة.
  • حفريات المعرفة.

لقد كشف فوكو من الكيفية التي صار بمقتضاها الجنس وسيلة وأداة في يد السلطة، حيث عملت هذه الأخيرة منذ القديم على قمع النزعة الجنسية بشتى طرق الرقابة والطابو: الدين، الدولة، التربية واللغة، وهي كلها طرق في يد السلطة، ومن تم يكون تاريخ الجنسانية هو تاريخ قمع الجنس، ويعبر عن ذلك فياتشيسلاف بقوله: "بقي الجنس أداة للسلطة وما يتبدل هو تقنية القمع، فبدلا من التابو والمحظورات الدينية، ظهرت علوم التربية والتدريس Pédagogies، والطب الجنسي... التي تأخذ على عاتقها مهمة تنظيم السلوك الجنسي"[11]، ومن تم يتضح أن الثقافة العربية لم تنظر إلى الجنس على أنه موضوع إشباع ومتعة صرفة. وقد حاول الفن الأوروبي المعاصر مواكبة هذه العلاقة الجدلية بين الحب والعنف من خلال مجموعة من الأعمال من قبيل لوحة الاغتصاب لريني ماغريت René Magritte.

خلاصة وإضاءات

هكذا إذن نأتي إلى نهاية هذه الورقة التي عنينا فيها بمراجعة كتاب "الإيروس والثقافة" لصاحبه الفيلسوف الروسي فياتشيسلاف شستاكوف، وهو من وجهة نظرنا من بين أبرز الكتب التي كتبت حول التاريخية الفلسفية لمفهوم الحب الذي بقي مهمشا في الفلسفة، رغم جوهريته.

وقد حاول المؤلف تتبع تطور فلسفة الحب الأوروبية بالانتقال من حقبة إلى أخرى، حيث بدأ بفلسفة الحب اليونانية والرومانية، واهتم بها اهتماما ظاهرا، لأنها من وجهة نظره الأس الذي تشكلت بالانطلاق منه فلسفة الحب الغربية برمتها، وقد انطبع الحب في هذه المرحلة بطابع إيروسي، وهو الطابع الذي سيفتقد في العصور الوسطى تحت تأثير الدين المسيحي الذي سيبشر بالحب الأخوي أو الأغابي كسبيل لنشر قيم المسيحية على الأرض، وسيحاول فلاسفة عصر النهضة أن يعيدوا بعث مفهوم الحب في الثقافة الغربية بمعناه اليوناني في إطار إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والله، وسيتطور هذا الأمر في الحقبة الحديثة التي سيدرس فيها الحب كحالة وجدانية بالانطلاق من علم النفس ونظرية المعرفة، وسيحاول فلاسفة القرن الثامن عشر قراءة الحب قراءة أخلاقية واجتماعية من خلال مناقشته على ضوء فكرة الزواج. أما بخصوص الفلسفة المعاصرة، فسيدرس فيها الحب على ضوء إشكالات جديدة مرتبطة بهيمنة وسائل الاتصال وسيادة منطق الربح وتنامي البعد الاستهلاكي، وسيواكب مجموعة من الفلاسفة تعرية هذا الواقع الذي أصبحت فيها السلطة تتجسد بكيفية خفية وتوجه قضية الحب توجيها مغرضا.

يبقى أن نشير في الأخير إلى أن مضامين الكتاب أغنى من تختصر فيما سبق من سطور، وقد اكتفينا بالتركيز على المشهور من الأعلام والمؤلفات، في الوقت الذي انفتح فيه المؤلف على تفاصيل وأعلام كثيرة.

ويمكن أن نضيف في هذا السياق، أننا بحاجة إلى كتاب موازٍ يتتبع تطور فلسفة الحب المشرقية، بما في ذلك فلسفة الحب الإسلامية، ويحضرنا في هذا السياق المجهود الفكري المؤسس الذي قام به ابن حزم في "طوق الحمامة"، كما يحضرنا إيمان متصوفة الإسلام وعلى رأسهم ابن عربي بمفهومي الحب والعشق، من حيث هو سبيل لتحقيق وحدة روحية تعود فيها الروح إلى أصلها الإلهي، على منوال تلك الوحدة الجسدية التي رام اليونانيون تحقيقها من خلال الحب الجسدي، بما سعي من المحبوب إلى الاتصال بأصله الأنثوي أو الذكري، حيث كان الإنسان الأول يتمتع بالبدايتين الأنثوية والذكرية.

في الأخير أذكر بأن دراسة فلسفة الحب وأدبياته وتنمية ثقافة جنسية داخل مجتمع من المجتمعات يجعل منه مجتمعا مؤهلا لترسيخ قيم المساواة بين الجنسين، وتفادي خطر بعض الأمراض النفسية التي يولدها النقص أو الحرمان والقمع الجنسي، إذ لا يوجد سبيل آخر لعقلنة العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين بني البشر بصفة عامة إلى سبيل الفلسفة والثقافة، وكل كبث وقمع ليس سوى تأخير لانفجار أخلاقي أو نفسي محتمل.

  


[1] فياتشسلاف شستاكوف، الإيروس والثقافة: فلسفة الحب والفن الأوروبي، ترجمة نزار عيون السود، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 2010

[2] نفس المرجع، ص 17

[3] نفس المرجع، ص 26

[4] نفس المرجع، ص 33

[5] نفس المرجع، ص 36

[6] نفس المرجع، ص 82

[7] نفس المرجع، ص 87

[8] نفس المرجع، ص 118

[9] نفس المرجع، ص 269

[10] نفس المرجع، ص 290

[11] نفس المرجع، ص 307