تطور العلاقة بين المعرفة والسلطة في الفكر الشيعي الاثني عشرية

فئة :  مقالات

تطور العلاقة بين المعرفة والسلطة في الفكر الشيعي الاثني عشرية

تطور العلاقة بين المعرفة والسلطة

في الفكر الشيعي الاثني عشرية

تمهيد:

تعد ممارسة السلطة ضرورة حياتية منذ أن وُجد الإنسان على الأرض؛ فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يستطيع تلبية احتياجاته بمعزل عن الآخرين، ولا يستطيع العيش في مجتمع دون تنسيق المهام السياسية والاقتصادية مع أقرانه، مما استدعى وجود سلطة بشرية لتنظيم تلك الأوضاع، لكي يستقيم الاجتماع البشري، والحول دون تحولها إلى مصدر للصراعات والفوضى[1].

وتلك السلطة كي تصبح شرعية في نظر من يُمارس عليهم، تحتاج إلى تقديم مقولات معرفية (دينية، إيديولوجية، فلسفية) تبرر بها وجودها على رأس السلطة؛ فممارسة السلطة تتطلب وجود حد أدنى من الشرعية، وإن نُزع غطاء الشرعية عنها، تصبح مسألة وقت حتى تسقط أو تُستبدل بسلطة غيرها لديها مقولات مغايرة تُقنع بها المحكومين.

ومن هنا ترتبط العلاقة العضوية بين المعرفة من جهة كونها مقولات، وخطابات، وأفكار، وحقائق، تبرر تواجد السلطة واستمرارها، وبين السلطة كتقنية تستخدم المعرفة وتوجهها لممارسة الإخضاع بشكل مباشر وغير مباشر. وعند حديثنا عن المعرفة هنا في تلك الدراسة نقصد بها القراءات المختلفة للواقع، سواء أكانت قراءات دينية، أم أيديولوجية.

أما العلاقة بين الدين والسياسة، فهي علاقة مترابطة في أيّ مجتمع من المجتمعات البشرية على مدار التاريخ الإنساني، حيث يستخدم الدين وتأويلاته لإضفاء الشرعية على الممارسات السياسية بمعني تسييس الدين، أو يستخدم الدين وشريعته كمرجعية يستشهد بها الحكام في ممارستهم السياسية، فالسياسة هي ركيزة الحياة في المجتمع، بها تدار الحياة العامة وتنتظم أمورها بها، فهي تتغلغل في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدين في المقابل يعد رؤية كونية تشمل جميع الأنشطة الإنسانية، فهو المرجع الأخلاقي الذي يحتكم إليه البشر ليديروا به حياتهم الخاصة والعامة. لذلك، فالسياسة والدين منذ القدم ومرورًا بالحداثة وما بعد الحداثة يعدّان منافسين شرسين؛ فتارة تخضع السياسة للدين وتحتكم إليه، وتارة تقوم السياسة باحتواء الدين وتوظيفه لمصلحتها[2].

المذهب الشيعي:

يعد المذهب الشيعي أحد أقدم المذاهب الدينية السياسية في الإسلام، ويعد قوام أساس ذلك المذهب هو اعتقاد أتباعه بأن "علي بن أبي طالب" -رضي الله عنه- هو الخليفة المختار من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفوا في كون الاختيار نصًّا كالإمامية والإسماعيلية، أو عين بالوصف كالزيدية[3]، ويعد من أهم أسباب نشوء ذلك المذهب هو المغالاة في حب آل بيت النبي، وقد ساعدت العديد من الأحداث التاريخية في زيادة تلك المشاعر، ويعد أهمها استشهاد على رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم في سنة 40 للهجرة، ثم تنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان، والقسوة التي لاقوها أنصار علي رضي الله عنه من الأمويين جراء الفتن السياسية، والتي أدت في النهاية إلى استشهاد الحسين بعد خروجه على يزيد بن معاوية في كربلاء. أما السبب الثاني، فهو دخول العديد من الموالي في الإسلام خاصة الفرس، وما أحدثوه من تحول اقتصادي واجتماعي.[4]

ويتكوَّن أساس السلطة عند المذهب الشيعي، والتي تعرف بالإمامة على مبدأ الوصية[5] المبني على حديث موضوع منسوب للرسول يقول فيه: "أنا سيد النبيين، ووصيِّي سيد الوصيِّين وأوصياؤه سادة الأوصياء"، ثم يعدد أوصياء الرسل كافة منذ آدم حتى يقول: "وأنا أدفعها إليك يا علي، وأنت تدفعها إلى وصيك، ويدفعها وصيك إلى أوصيائك من ولدك واحدًا بعد واحد، حتى تدفع إلى خير أهل الأرض بعدك، ولتكفرن بك الأمة، ولتختلفن عليك اختلافًا كثيرًا شديدًا"[6]. والعديد من الروايات التي لا يتسع المقام لذكرها هنا. وتعرَّف الإمامة بأنها عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملَّة على وجه يجب اتباعه على الأمة كافة، ويعد الإمام عند الشيعة الاثني عشرية معصوما بمقتضى دوره الديني المنصوص عليه طبقًا للوصية؛ لأنه يقوم بوظائف تختلف عن الحكام غير المعصومين، ويقرر تلك الوظائف المحلّي في كتابه الألفين[7] ويعد أهمها: تحصل الأحكام الشرعية في جميع الوقائع من الكتاب والسنة وحفظها، وجمع الآراء على الأمور الاجتماعية التي مناط تكليف الشارع بها كالحروب والجماعات، وإقامة الحدود الشرعية، وتولية القضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقدرة على تطبيق العدل وحفظ الأمن بين الناس المجبولة على حب الشهوة والغضب والتحاسد والتنازع. وقدرته على استنباط الأحكام يقينًا لا ظنًا.

ومن هنا تعد الإمامة عند الشيعة واجبة ضرورية؛ لأنها -في نظرهم- إتمام لمعنى النبوة، وهي جزء أساس من الدين[8]، فهي تعد أحد الأصول العقائدية لديهم، بخلاف أهل السنة والتي تقع عندهم الإمامة في الفقهيات لا العقائد. وبالتالي لا يقوم الدين بدون الإمام المعصوم، وترتب على ذلك أنه تم تكفير من لم يؤمن بركنية الإمامة عند بعضهم؛ إذ يقول الصدوق: "يجب أن يعتقد أن المنكر للإمام كالمنكر للنبوة، والمنكر للنبوة كالمنكر للتوحيد"[9].

يتضح مما سبق، العلاقة الوطيدة بين المعرفة الدينية والسلطة في أساس المذهب الشيعي، وكيف يعد دور المعرفة الدينية وحاملها الركن الأساسي الذي يضفي الشرعية على السلطة السياسية، بالإضافة إلى إضفاء القداسة على السلطة السياسية بسبب إيمان الشيعة بمفهوم العصمة وكون الإمام منصوص عليه، ولا يعين بالاختيار كما هو مقرر عند أهل السنة.

الفرقة الاثنا عشرية والتجربة التاريخية:

تعد الطائفة الاثنا عشرية إحدى أكبر الطوائف في المذهب الشيعي، وقد أُطلق عليهم مسمى الاثنا عشرية لأنهم يعتقدون بإمامة اثنا عشر رجلًا من آل البيت، وهم على النحو التالي[10]:

1)      علي بن ابي طالب رضي الله عنه (40هـ)

2)      الحسن بن علي رضي الله عنه(50هـ)

3)      الحسين بن علي رضي الله عنه(61ه)

4)      علي بن الحسين(95ه)

5)      محمد بن علي بن الحسين الباقر(114ه)

6)      جعفر بن محمد بن الحسين(148ه)

7)      موسى بن جعفر الكاظم(183ه)

8)      علي بن موسى (203ه)

9)      محمد بن علي(220ه)

10-  علي بن محمد الجواد (254ه)

11-  الحسن بن علي العسكري(260ه)

12-  محمد بن الحسن العسكري (256-....)

تنوعت طبيعة العلاقة بين المعرفة والسلطة في المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، حيث مرت بثلاث مراحل أساسية كما يراها الباحث؛ أولها كانت مرحلة الانغلاق على الذات، والتي أتت بعد الغيبة الكبرى للإمام محمد بن الحسن العسكري، ورفض أئمة المذهب الانخراط في أي عمل سياسي، ثم مرحلة الاحتكاك غير الشرعي بالسلطة منذ بداية الغزو المغولي للأراضي الإسلامية، وبداية عهد الدولة الصفوية وقد أطلق عليها الباحث مسمى غير الشرعي لكون التنظير الفقهي الأساسي ظلَّ متمسكًا بنظرية الانتظار السلبي رافضًا الانخراط في العمل السياسي، بالرغم من وجود العديد من المتغيرات في الاجتماع السياسي التي أوجدها الغزو المغولي[11]، بالإضافة إلى وصول الشاه إسماعيل الصفوي إلى سدة الحكم في الدولة الصفوية، والذي اتخذت من المذهب الاثني عشري مذهبًا رسميًّا لها، واحتوت العديد من الفقهاء في الهيكل السياسي والإداري، ثم المرحلة الثالثة والمعاصرة، وهي التي تم بها تجديد الفقه الشيعي وتحويل نظرية الانتظار من السلب إلى الإيجاب من خلال نظرية ولاية الفقيه، والتي تبلورت على يد الخميني.

المرحلة الأولى: الانغلاق على الذات

بدأت المرحلة الأولى مع وجود الأمويين والعباسيين كدول قامت بمحاربة الشيعة ومنعهم من السيطرة على مقاليد الحكم، بالإضافة إلى طبيعة شخصية الباقر، وابنه جعفر الصادق الزاهدة عن الانشغال بالسياسة ودسائسها ورغبتهم في الاكتفاء بالإمامة الروحية، حيث رأوا أن مسألة إقامة الإمامة كونها هدفًا مؤجلًا لا ينبغي استعجاله[12]، ومع الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر "محمد بن حسن العسكري" اعتبر فقهاء الشيعة أن مسألة الدولة أو السلطة غير مطروحة في ظل غياب الإمام المعصوم؛ إذ رأوا أن عملية إقامة الإمامة للأمراء ليست من اختصاصهم إذا كان الإمام مغلوبًا، بل إنه ليس فرض عليهم بالأساس[13].

فالمذهب الاثنا عشري تاريخيًا كان يرفض الإقرار بالسلطة السياسية السنية، لكنه في المقابل لم يقم بالثورة عليها، ولم يؤيد الخروج عليها، حيث كان الغرض الأساسي لفقهاء الإمامية هو الانكباب على الحوزة الدينية ودراسة الفقه، وانتظار عودة الإمام المعصوم، لكن هذا لم يمنع من مشاركة بعض فقهاء الشيعة من تولي المناصب السياسية في الدول السنية، لكنها كانت مشاركة مع الإقرار بفساد تلك السلطة وعدم شرعيتها. وابتكر فقهاء الشيعة مسلكًا لتبرير تلك الإشكالية بين مستجدات الواقع وطبيعة التمذهب الإمامي؛ إذ يقول الباحث أحمد محمود[14]: "لقد ارتأى الإمامية حلًّا لهذا الإشكال تجميد النشاط السياسي، فظهر ما يُعرف بنظرية الانتظار التي توجب على الشيعة عدم الانضواء تحت أي راية سياسية قبل عودة المهدي أو الإمام. وقد تعززت هذه الرؤية بما نسبوه إلى الأئمة من أقوال تفيد أن كل راية تُرفع قبل قيام المهدي، فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله".

ومن ثم، اتسمت العلاقة بين المعرفة والسلطة في المرحلة الأولى في التجربة المذهبية الإمامية بالانفصال على مستوى التنظير السياسي؛ من أجل انتظار عودة الإمام المعصوم، مما جعل دائرة الفقه الشيعي تدور في فلك الحوزات الدينية وأمور التعبد.

المرحلة الثانية الاحتكاك غير الشرعي:

بدأت المرحلة الثانية مع الغزو المغولي لإيران وبعض الأقاليم في المشرق الإسلامي، حيث أوجد ذلك الغزو العديد من التغيرات على مستوى الاجتماع السياسي؛ إذ قام بتمهيد الطريق أمام الفرق الشيعية بالانتشار، والذي أدى إلى قيام الدولة الإيلخانية المغولية التي سيطرت على إيران والعراق والأناضول بتبني المذهب الإمامي الاثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة في عهد السلطان الإيلخاني أولجايتو (703-717ه)، والذي قام بنشر التشيع في إيران ونشر التعصب بين الشيعة وأهل السنة من خلال قيامه بسب الصحابة، وأمر الخطباء في عصره بإسقاط أسم الخلفاء الراشدين من الخطبة، وحرص السلطان أولجايتو على استخدام سلطة المعرفة في حكمه، حيث قام بتقريب العلماء الشيعة منه، ويعد أهمهم العلامة الحلي والذي يعد من أبرز الذين نشروا المذهب الاثني عشري في عصره[15].

ومع نشوء الدولة الصفوية ووصول الشاه إسماعيل الصفوي إلى سدة الحكم، قام بتبني المذهب الاثني عشري كمذهب رسميًا للدولة الصفوية، وفرض على المجتمع الإيراني ترك التسنن وحملهم على المذهب الشيعي بالقوة، وتعول رغبة إسماعيل الصفوي في نشر التشيع إلى اعتقاده بأنه يتقرب إلى الله بهذا الفعل، بالإضافة إلى رغبته في توحيد المجتمع الإيراني، والذي يتكوَّن من الفرس والترك والبلوج والأرمن والعرب تحت راية مذهبية واحدة من أجل صد المخاطر الإقليمية التي كانت تحيط بدولته الناشئة، ويعد أبرز تلك المخاطر هيَّ الدولة العثمانية ذات المذهب السني[16].

وأراد إسماعيل الصفوي إضفاء المرجعية المذهبية الشيعية على تصرفاته ونظامه الإداري والسياسي فقام باستقطاب علماء الشيعة من مختلف الأقطار العربية لمساعدته على إدارة المجتمع وتوجيه دفة التشيع، حيث يقول المؤرخ أيرا لابيدس[17]: "بادر إسماعيل إلى استيراد فقهاء شيعة من الاثني عشرية من سوريا، والبحرين، وشمال شرق الجزيرة العربية، والعراق"، ثم أردف مكملًا "بعد ذلك عكف الصفويون على تنظيم العلماء في الجهاز البيروقراطي، خاضع لسيطرة الدولة وتحكمها"، مما أتاح للعلماء دخول السلك الإداري وتوسيع سلطاتهم في المجتمع في المقابل قاموا هم بالتسليم لسلطة الدولة القائمة.

على الرغم من كل تلك السياسات المذهبية التي قام بها الشاه إسماعيل الصفوي، لم تؤدِّ على المستوى التيار الفقهي الاثني عشري السائد إلى حدوث تغير في نظرة فقهاء الإمامية لتلك الدولة بوصفها دولة متغلبة سلطانية كسائر الدول؛ إذ يبرر الباحث أحمد محمود ذلك بسبب رسوخ عقيدة الغيبة في ذهن فقهاء الإمامية، والتي تؤدي إلى استبعاد وجود أي شرعية دينية للدول القائمة، إلى أن يأتي الإمام المهدي[18]. فتلك المرحلة شهدت علاقة ترابطية بين المعرفة والسلطة على مستوى الممارسة العملية دون التنظير الفقهي.

المرحلة الثالثة: نظرية ولاية الفقيه

كان الدور الذي شغله علماء الاثني عشرية في الدولة الصفوية تداعيات على تطور اتجاه فقهي يقوم بإعادة بناء العلاقة بين المعرفة الدينية والسلطة السياسية في ظل غيبة الإمام، والذي أدى بدوره فيما بعد إلى تبلور نظرية ولاية الفقيه على يد الخميني؛ إذ ظهرت إرهاصات ذلك الاتجاه على يد أحمد النراقي في عام (1185-1245ه)، حيث يقول الكاتب علي فياض[19]: "فمع المولى النراقي تحوَّلت ولاية الفقيه من كونها موقفًا فقهيًّا إلى كونها نظرية سياسية-فقهية متكاملة". ثم آراء محمد حسن نجفي (1266-1200ه) في كتابه جواهر الكلام عن موقفه الفقهي حول دور الفقيه في ظل غيبة الإمام فيقول: "يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية، عن أدلتها التفصيلية العدول، إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه السلام)، كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك"[20] لكن ظلَّت في النهاية كل تلك الإرهاصات لا تشكل سوى تيار فقهي محدود الانتشار، بخلاف التيار الفقهي السائد المتمسك بنظرية الانتظار.

إلى أن أتى الخميني في النصف الثاني من القرن العشرين، وقام بثورة على التراث الفقهي الشيعي الاثني عشري فيما يتعلق بالدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للفقيه في ظل غيبة الإمام؛ إذ يستنكر قائلا في كتابه الحكومة الإسلامية: "هل يجب أن تبقى الإحكام الإسلامية طيلة فترة ما بعد الغيبة الصغرى إلى اليوم حيث مضى أكثر من ألف عام، ومن الممكن أن تمر مائة ألف عام أخرى دون أن تقتضي المصلحة ظهور صاحب الأمر فهل يجب أن تبقى مطروحة ولا تطبيق؟ وليعمل كل امرئ ما يشاء؟ ولتعم الفوضى؟". فيعقب على من يعتقد أنه ليس هناك ضرورة لتشكيل الحكومة الإسلامية، فهو منكر لضرورة تطبيق الأحكام الإسلامية ولجامعيتها[21].

وقد قام الخميني بإعادة توضيح كيف يحتاج الدين إلى سلطة سياسية لإنفاذه؛ إذ يقول: "فالقانون والنظم الاجتماعية تحتاج أساسًا إلى منفذ. ففي جميع بلاد العالم كان الأمر دومًا بهذا النحو، فالتشريع وحده لا فائدة فيهن التشريع وحده لا يؤمن السعادة للبشر. وبعد التشريع يجب أن توجد سلطة تنفيذية تنفذ القوانين والأحكام العادلة للحاكم على الشعب، لذا فكما قام الإسلام بالتشريع، فإنه أقام سلطة تنفيذية أيضًا، ووليًا للأمر يتصدى للسلطة التنفيذية"[22].

وبعدما قام الخميني بتوضيح أهمية الربط بين السلطة السياسية وتطبيق الشريعة حتى في ظل غيبة الإمام مخالفًا بذلك نظرية الانتظار السلبي الذي هيمنت قرونًا طوال على الفقه الشيعي الاثني عشري، يقوم بهدم شرعية أي حكومة لا تحتكم إلى شريعة الإسلام، وبيان أن الحكومة الوحيدة الشرعية التي يجب على المسلمين اتباعها هي الحكومة ذات المرجعية الإسلامية، حيث يقول: "إن إسقاط الطاغوت – أي السلطات غير الشرعية القائمة في مختلف أنحاء الوطن الإسلامي – هو مسؤوليتنا جميعًا. يجب أن نستبدل بالأجهزة الحكومية الجائرة والمعادية للشعب مؤسسات خدمات عامة تدار وفقًا للقانون الإسلامي"[23].

ما يهمنا في تلك النقطة هو توضيح ضرورة كون الشريعة ومرجعيتها هي الأساس الذي ينبني عليه شرعية أي سلطة سياسية عند الخميني، فهو يتفق في تلك النقطة مع التيار الفقهي السائد في المجتمعات الإسلامية، وإن كان لم يرضخ العديد من الفقهاء الإمامية لنظرية ولاية الفقيه، وظلُّ متمسكين بالفقه الانتظاري.

وقد رأى الخميني أن القدرة على إنتاج المعرفة الدينية لابد أن يتحلى بها ممارسي السلطة السياسية، فعند إقراره بضرورة السلطة لتنفيذ أحكام الشريعة، فلابد من الشخص المترأس للسلطة التنفيذية أن يكون لديه ملكة الاستنباط والاجتهاد لكي يستطيع الحكم بموجب الشريعة؛ إذ يقول: "وهو أن الخليفة والحاكم يجب أن يكون عارفًا أولًا بالأحكام الإسلامية، أي عالمًا بالقانون، وأن يكون عادلًا ثانيًا، ويتمتع بالكمال العقائدي والأخلاقي، والعقل يقتضي ذلك". ثم يكمل قائلًا: "إذ إن (الفقهاء حكام على السلاطين) فلو كان السلاطين متبعين للإسلام، فيجب أن يتبعوا الفقهاء ويسألوهم عن القوانين والأحكام، ومن ثم ينفذونها. وهي هذه الصورة يكون الحكام الحقيقيون هم الفقهاء". ومن هنا يتضح ارتباط المعرفة والسلطة في الرؤية الخمينية لطبيعة ممارسة السلطة[24].

ويعزو الباحث أن سبب نجاح تنظير الخميني الفقهي لولاية الفقيه عن سابقيه هو الاختلاف التي شهدته البلاد الإسلامية في الاجتماع السياسي، حيث أتت اجتهادات النراقي ومحمد حسن النجفي في مجتمعات تحتكم بالفعل إلى شريعة الإسلام، وإن كان من يمارس السلطة لا يحوز على الشرعية بسبب غيبة الإمام، لكن في نهاية الأمر كان حكمًا إسلاميًّا، بينما أتت تنظيرات الخميني في عهد الدولة الإيرانية الحديثة، والتي كانت تقودها نخبة علمانية متغربة تمامًا، حيث قامت بالتضييق على الفقهاء ومحاربة تجليات الدين الاجتماعية، والتشجيع على الالتحاق بالتعليم العلماني الحديث وترك التعليم الحوزي، وغيرها من الممارسات التي استهدفت بشكل أساسٍ استئصال المكوِّن الديني في المجتمع، وإعلاء المكون القومي الفارسي؛ مما أدى إلى وجود مناخ عام مناسب لتلقي نظرية ولاية الفقيه التي ثارت بشكل أساسٍ على النظام العلماني القائم.

الخاتمة:

من خلال تتبع العلاقة بين المعرفة والسلطة في التجربة الشيعية الإمامية، يتضح أن هذه العلاقة قد شهدت تحولات جوهرية تبعًا للسياقات التاريخية والسياسية التي مرت بها الطائفة. فقد بدأت العلاقة في طورها الأول بالانكفاء والانفصال، حين سادت نظرية "الانتظار السلبي" التي جعلت من غيبة الإمام المعصوم مبررًا لعدم الانخراط في الشأن السياسي، بينما انتقلت لاحقًا إلى طور أكثر تفاعلية مع الواقع، وإن بقي ذلك التفاعل في إطار غير مؤسس نظريًّا، كما في العهد الصفوي. أما في الطور الأخير، فقد شهدت هذه العلاقة تحوّلًا نوعيًّا مع بروز نظرية "ولاية الفقيه"، التي حاولت تقديم تصور بديل عن دور المعرفة الدينية في إدارة الدولة في ظل غياب الإمام.

وما بين المراحل الثلاث، نلحظ أن المعرفة في السياق الإمامي لم تكن يومًا عنصرًا محايدًا، بل كانت دائمًا حاضرة – بشكل أو بآخر – في صياغة المشروعية وتبرير ممارسات السلطة أو رفضها. كما أن تطور هذه العلاقة يعكس في جوهره التفاعل الجدلي بين النص الديني والواقع السياسي، وبين الثابت العقائدي والمتحول التاريخي. ومن هنا، فإن فهم البنية السياسية للمذهب الشيعي الإمامي لا يكتمل دون التعمق في دور المعرفة الدينية بوصفها أداة للفهم، ومصدرًا للسلطة، وساحة للتأويل.

[1] عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار نهضة مصر، المجلد الأول، القاهرة، ط9، 2019، ص340

[2] عمرو بسيوني، الداعية والسياسي، الجزيرة (مدونة)، نوفمبر2016، أخر دخول 18-3-2025. متاح على: https://aja.me/tzazl0.

[3] منال أبو زيد الشهابي، الإسلام الثوري "ولاية الفقيه في إيران نموذجًا": دراسة في فلسفة السياسة، مجلة كلية الآداب، ع14، 2019، ص142

[4] محمد سليم العوَّا، المدارس الفكرية الإسلامية (من الخوارج إلى الإخوان المسلمين)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت، 2016، ص ص111-112

[5] الوصية هي أن يعهد الإنسان بتولي شخص بعد وفاته أمر يتعلق به أو بغيره، وفي المذهب الشيعي يقصد بها العهد الذي يوصي به النبي إلى من يخلفه.

[6] علي فياض، نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2008، ص ص106-107

[7] المحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف المطهر، الألفين، دار التعارف للمطبوعات، الكويت، 1985. ص25-29

[8] علي فياض، مرجع سبق ذكره، ص110

[9] محمد السيد الصياد، سؤال السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، مجلة الدراسات الإيرانية، مج6، ع16، 2022، ص9

[10] طارق بن سعيد، الغيبة عند الشيعة "الاثنا عشرية" وأسبابها-دراسة تحليلية نقدية، مجلة الدراسات الإسلامية والبحوث الأكاديمية، ع84، 2017. ص ص175-176

[11] أحمد محمود إبراهيم، السلطة ومسألة الشرعية عند الشيعة الاثني عشرية، مجلة الدراسات الإيرانية، مج4، ع12، 2020، ص15

[12] المرجع السابق، ص12

[13] محمد السيد الصياد، مرجع سبق ذكره، ص10

[14] أحمد محمود إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص14

[15] المرجع السابق، ص15

[16] المرجع السابق، ص ص17-18

[17] أيرا م.لابيدس، تاريخ المجتمعات الإسلامية ج1 (ترجمة فاضل جكتر)، دار الكتاب العربي، ط2، بيروت، 2011، ص ص 420-421

[18] أحمد محمود، مرجع سبق ذكره، ص19

[19] علي فياض، مرجع سبق ذكره، ص138

[20] المرجع السابق، ص138

[21] الخميني، الحكومة الإسلامية، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 2011، ص ص 42-43

[22] المرجع السابق، ص40

[23] المرجع السابق، ص206

[24] المرجع السابق، ص ص 70-71