الاحتجاج بين الحق والقانون


فئة :  قراءات في كتب

الاحتجاج بين الحق والقانون

تقديم:

يتكون كتاب «ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون[1]» من خمسة أبواب: تهتم الأبواب الثلاثة الأولى بالاحتجاج في الفكر الفلسفي المغربي، والأبواب الأخرى، بحث في الإشكالات الحقوقية والقانونية المحيطة بمفهوم الاحتجاج. والكتاب هو مجموعة من الإشكالات والأوراش الفكرية المفتوحة التي يمكن أن تتحول إلى كتب أخرى، خصوصا وأن أغلبها جديد عن الساحة الفلسفية المغربية والعربية. وهذا ما يجعل منه مدخلا وأرضية للباحثين من أجل بلورة أطاريح في مجالات الفلسفة السياسية: القانون والأخلاق، القانون والشريعة، الحق والقانون والدين، الثيولوجيا السياسية إلخ. ونظرا، لكون مضامين الكتاب، قد تم عرضها في قراءة أخرى؛ فإن هذه الورقة، هي مناقشة لبعض فصول الكتاب، من خلال الأسئلة التالية: لم كتاب في ثقافة الاحتجاج في هذه اللحظة التاريخية؟ ماطبيعة الاحتجاج في اللاهوت السياسي؟ ما العمل عندما يتعارض الحق في الاحتجاج مع القانون؟ ثم هل احترام القانون يحقق العدالة؟ وما طبيعة هذه العدالة؟ من هو المواطن؟ وما حدوده وتجلياته؟

إن أول ما يثير القارئ لكتاب الأستاذ عز العرب الحكيم بناني، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، هو سياق نزوله. فأن يختار المؤلف – والاختيار تأويل – نوعا محددا من المقالات التي تدخل في إطار مشروع يروم إيجاد أرضية معيارية مشتركة للاحتجاج[2]، في سياق مغربي يعج بالحركات الاحتجاجية المختلفة، له أكثر من دلالة، ويحتاج إلى بحث عن طبيعة العلاقة التي يريد الكتاب نسجها بين فكر الاحتجاج وممارسة الاحتجاج.

وبرزت الحركات الاحتجاجية بالمغرب كنزوع نقدي يطالب بإعادة النظر في كثير من التصورات والمفاهيم حول السياسة والاجتماع بالبلد. وكشف الفعل الاحتجاجي بالمغرب عن تحولات عميقة في الوعي الاحتجاجي. فمن المطالبة بالحداثة إلى التركيز على التحديث، ومن الاحتجاج الأيديولوجي إلى الاحتجاج السياسي، ينكشف تفاعل العقل الاحتجاجي المحلي مع تحولات العقل والفعل الكونيين؛ خصوصا وأن التحديث مسؤولية أفراد، ترتبط فيه المسؤولية بالمحاسبة، بينما الحداثة مسار اجتماعي كامل ليس في مكنة الأفراد، قد يبلغها المجتمع أو يقف في وجهها. إضافة إلى انتقال الفعل الاحتجاجي من البعد الفئوي القطاعي إلى أشكال جماهيرية، من احتجاج تحت غطاء تنظيمات حزبية ونقابية وحقوقية إلى شكل جماهيري يفرز قياداته الميدانية لحظيا. وهذا التنظيم خارج التنظيمات الرسمية، إعلان عن عجر المؤسسات الوسيطة عن مسايرة وهج الوعي السياسي للمواطن، وهو أيضا، بمثابة نقد واضح للديمقراطية التمثيلية بصيغتها المغربية.

في خضم هذه الحركية الاحتجاجية، تعالت أصوات تساءل المثقف عن موقفه ودوره في هذه اللحظة المصيرية من تاريخ الصراع الاجتماعي. ومن هذه الزاوية، يمكن اعتبار هذا الكتاب، محاولة لتقديم بعض إمكانات التفاعل مع هذه الأصوات، ودفاع عن منزلة المثقف وعن طبيعة نشاطه الاحتجاجي. فقد يشارك المثقف في توجيه الاحتجاج، دون حضوره المادي الميداني، عبر الكتابة، لأن الكتابة حول الاحتجاج تدوم أكثر من الاحتجاج نفسه. ويبرز هذا التفاعل بوضوح من خلال النماذج الفلسفية والفكرية التي اختارها المؤلف. نماذج تحضر شعوريا أو لاشعوريا داخل بنية التيارات الفاعلة ميدانيا في الحركة الاحتجاجية.

الاحتجاج في اللاهوت السياسي:

عاد الكاتب، إلى التجليات الأولى لثقافة الاحتجاج في المجتمع الإسلامي، من خلال براكسيس «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وكشف كيف شكلت هذه المبادئ الكبرى بوادر ظاهرة الاحتجاج وقمع الاحتجاج في ذات الوقت؛ وبما أنَّ 'المعروف' و'المنكر' لم يتمتّعا في البداية بدلالةٍ مضبوطةٍ، فقد كانا سلاحاً فتّاكاً في يد المعارضين، من أجل الدّفاع عن الحقِّ الإلهي وحقوق البشر. مقولتان (المعروف والمنكر) بمصاديق شتى، لم تستقر معاني المعروف ولا المنكر على دلالة مضبوطة، واستمر وجود منطقة رمادية تتسع تارة أو تضيق لدى هذا المذهب أو ذاك، بين مفاهيم الكفر والفسق والإيمان أو مفاهيم العدل والظلم والعنف. إن الانطلاق من تعاليم الفرقة وتراثها الثابت واليقيني، جعل الحكم على الواقع حكما أخلاقيا معياريا لا موقفا معرفيا، لأنه من متفرعات تلك الحقيقة ومصاديقها. لم يكن المتكلم يرى في التعددية الكلامية إلا مظهر انحراف سلوكي وعقائدي نتيجة اتباع الهوى والإعراض عن دين الله/ الفرقة، غير أن الإحساس بالظلم كان يشكل في الغالب مضمون «المنكر» ويحظى بأهمية أكبر بالمقارنة مع الأمر بالمعروف. ولتجنب غياهب الثيولوجيا السياسية، والابتعاد عن تشابك السياسي والميتافيزيقي والإيديولوجي، اختار المؤلف المقاربة الفلسفية لمناقشة قضية الاحتجاج[3]. بيد أن هذا الاختيار، لم يصمد طويلا، إذ سرعان ماعاد الكاتب إلى حقل اللاهوت العملي، من باب اللاهوت اللاهوت الأخلاقي لدى طه عبدالرحمان، وعلي عبد الرازق، ومارتن لوثر، والقديس أوغسطين، وتوما الإكويني.

إنّ فكرة الله بالنسبة إلى المتكلم السياسي هي فكرة عملية[4]، بعيدة عن التجريد الميتافيزيقي الأرسطي، لأن الإيمان ليس مجالا مستقلا عن الحياة الدينية والاجتماعية [5]، بل هو التزام engagement يمس الوجود الإنساني في كليته، فهناك علاقة وطيدة بين الإيمان والتاريخ والمعاد.

يرتبط الكلام السياسي ببراكسيس[6] للإيمان في بنيته المزدوجة: الروحية والسياسية، وكل إبعاد للإيمان عن التاريخ، هو بمثابة سقوط في نزعة صوفية غنوصية، تقسم تعسفا الموجود الإنساني إلى جسد وروح، وتجعل الجسد تحت تصرف الدولة والقانون، بينما تترك الروح لله. إن الثيولوجيا اليوم غير مطالبة بإنشاء ميتا‑ نظرية ثيولوجية، تأملية لامتناهية، على غرار الثيولوجيا الميتافيزيقية السابقة، بل وظيفتها الرجوع إلى الذوات الفاعلة وممارساتهم وبراكسيسهم، بمعنى أن تتحول إلى ثيولوجيا عملية[7]. وهذا الانتقال تفرضه التحولات الفلسفية والعلمية.

الاحتجاج من الحداثة إلى التحديث:

ليس عبثا، أن يركز الكتاب على الحداثة السياسية عند محمد سبيلا، وتحويل الأحزاب إلى شركات، قصد تدبير جيد للموارد البشرية والمادية، قبل صياغة البرامج السياسية. ولا تخفى أهمية الحداثة السياسية كمكون لايتجزأ من صور الحداثة الأخرى. وارتبطت بالتدبير الجيد، وشرعت مجموعة من الأحزاب السياسية في تحويل رجال السياسة إلى مديرين على غرار المقاولات، والكلمة المفتاح هي الماركوتينغ والتدبير المحكم. إن هذا التصور الإداري يعتبر أنه يجب توفير حد أدنى من التدبير الحداثي قبل الإقدام على وضع برامج سياسية، بما أن التدبير يعتبر الشرط الأدنى الذي يجب توفيره في حالة فشل البرامج السياسية أمام هول الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا الذي جعل محمد سبيلا يتحدث عن فشل إيديولوجية المشروع المجتمعي.

وإذا كانت الحكامة الجيدة مطلب لا ينفي أحد أهميته؛ فإنه لا ينبغي أن ننسى أن الحكامة مجرد آلية للتدبير الديمقراطي، وليست روح السياسة، كما أنها تنبني على فكرة قصور المجتمع وعجزه عن الانتقال من التحديث إلى الحداثة، أو من التنظيم الإداري إلى العلاقات السياسية[8]. ويدفعنا إلى مساءلة هذا النموذج: هل كل شخص نجح في قيادة شركاته ومقاولاته، مؤهل لقيادة الدولة والمجتمع؟ هل رئيس الشركة الناجح هو حاكم ناجح؟ أليس هناك اختلاف بين الدولة كأرقى اجتماع بشري والمقاولة والقبيلة؟

تتميز الدولة بتوفير فضاء عمومي، ولترسيخ ثقافة الاحتجاج في هذا الفضاء، ولمحاربة الاستبداد، استدعى الكاتب أعمال محمد عابد الجابري، الداعية إلى الاعتماد على الآليات الديمقراطية بدل الاختيار الثوري. وهذا الاختيار الإصلاحي يحمي بموجبه الجابري الحق في الاحتجاج من جهة من خلال التنازل السياسي، ومن جهة ثانية، يرسخ ثقافة الاحتجاج بالرجوع إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وبما أن المواطن المغربي مشبع بالقيم الدينية وغيور على إرثه الثقافي، فأنه من اللازم ربط حقوق الإنسان بالأفكار الأخلاقية الإسلامية.

غير أن الجابري، ترك بياضات كثيرة معلقة، أهمها: غياب تحديد واضح بين طاعة الحاكم والولاء للقانون؛ وهو بهذا يندرج داخل الفكر السياسي الذي لا يجد بديلا ثالثا خارج العصيان (أو الاحتجاج المشروع) والولاء للحاكم. وبذلك ترجح كفة السياسة كفة المعيارية القانونية. والسبب في ذلك، أن فكر المقاومة والاحتجاج شكل ثقافة سياسية لم تستطع تقوية سلطة القانون فوق الحاكم والمحكوم. فإذا تعارض الاحتجاج مع الضوابط القانونية، يصبح من المشروع انتهاك القانون حفاظا على الحق في الاحتجاج أو حفاظا على المصلحة العليا، وهذا ما يؤدي فعليا إلى المس بقدسية المعايير القانونية.

تسمح الآليات القانونية بتأطير علاقة الحاكم بالمحكوم، وتمنح لكل طرف حقوقه وواجباته الواضحة تحت قيم العدالة والكرامة، وتجنبنا السقوط في مفاسد الأيديولوجيات الشمولية، التي تصورت الدولة مجرد أداة في يد حزب وحيد، يتصرف طبقا لقوانين علمية مزعومة تتعلق بالحياة في المجتمع (قوانين العرق، قوانين التاريخ...)[9]. وتخفف من جشع أوليغارشية عابرة للدول، تستند إلى المرجعية الاقتصادية، التي تحمل في طياتها كل بذور التصور الشمولي، الذي يختزل القانون إلى أداة صالحة فقط لتنفيذ التشريعات الخارقة التي يفترض فيها أن تلزم الجميع. فقوانين السوق تبدو غير شخصية، وتحول الدولة أيضا إلى أداة في يد حزب أو فئة. وما ملاءمة قوانين التجارة والأعمال مع قوانين الاتحاد الأوروبي والمعايير الدولية، إلا تعبير عن التأثير الكبير الذي تمارسه التزامات المغرب الخارجية، على عمل الحكومة والبرلمان، أقلها التبادل الآلي للمعلومات لأغراض جبائية استجابة للضغوط الأمريكية.

العدالة كأفق للاحتجاج:

لقد راهن المؤلف على القانون كأساس للدفاع عن الحرية، وعن الحق في الاحتجاج داخل القانون. لكن هل احترام القانون كفيل بتحقيق العدالة؟ أليست المساواة أمام القانون في بلد اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية هي الوجه الآخر للاعدالة؟ ما العمل عندما تكون صناعة القانون نفسها مخالفة للحق؟

سعى جون راولز (1921 - 2002) إلى تقديم المبادئ الأساسية التي تسمح بتحديد الطريقة التي توزع بها المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كل الثروات المادية واللامادية، وهي تؤطر اشتغالها داخل بنية المجتمع في دولة ديمقراطية ليبرالية لا تعتبر اللامساواة بمثابة النقيض الجوهري للعدالة، كما أن المساواة أمام القانون من أركانها. بيد أن الصراع حول العدالة وطبيعتها في دولة لاديمقراطية، يبدأ في مرحلة سابقة عن الوقوف أمام القانون، في مرحلة صناعة النص القانوني. إن التصور المعياري للعدالة يغفل الطابع الفعلي للأفراد والتبلورات الاجتماعية، التي تتسم بالتعدد والتنوع على مستوى الاختيارات الفردية، نتيجة تصورهم للخير. وهو ما جعل أمارتيا سن (... - 1933) Amartya Kumar Sen يدعو إلى الالتفات إلى الوضعيات الاجتماعية والانطلاق منها للتفكير في العدالة. الفعلي في حياة الناس واختياراتهم التفضيلية، وهو ما يطرح ضرورة التمييز بين الوسائل والغايات. فهناك تباين بين الشروط الاقتصادية والحريات الأساسية، إذ إن بعض الشرائح الاجتماعية الفقيرة تتقيد حرياتها في الآن نفسه (أمد الحياة، التعليم، العمل، الصحة...) لذلك يعتبر التركيز على حياة الناس الفعلية هو المطلوب معاينته ضرورة، في مقابل هاجس التقعيد الصوري لنظرية كاملة حول العدالة؛ أي أن المطلوب هو التفكير في إجراءات عملية لردم التفاوتات القائمة وتحسين شروط الحياة الإنسانية، وهو ما يجعل من تركيز أمارتيا سن Amartya Sen على التنمية كعملية توسيع للحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس هي بوابة العدالة[10].

لقد ركز أمارتيا سن في معالجته للعدالة على أشكال اللامساواة القائمة بين الأفراد، دون إهمال العدالة المؤسساتية. وهذا راجع لاهتمامه بالمجتمعات التي لازالت تعاني الهشاشة والفقر والتخلف. وقد نسج نظرية القدرات لإبراز أهمية تأثير ما يمكن أن يملكه الشخص على ما يمكنه تحويله عبر قدرات لتحقيق الأهداف واقعيا[11]، كآلية لفهم الفقر والأمراض والإعاقات والفروق الفردية.

ومادام أن الذي يعبر عن صوت المواطن ومطالبه، هو البرلمان، فهو الذي يجب أن يجسد السلطة التشريعية. في حين نلاحظ تبخيسا للدور الدستوري لهذه المؤسسة البرلمانية، واستبعادا لها من صناعة التشريع وإنتاج النص[12]. ولعل أحد أوجه المركزية هو تهميش السلطة التشريعية وإفراغها من مهامها بمبررات قلة خبرة البرلمانيين في صياغة النصوص التشريعية، يظهر جليا في الدستور وفي النظامين الداخليين لمجلسي النواب والمستشارين، حيث تستحوذ السلطة التنفيذية الحصة الأكبر في المبادرة التشريعية.

تؤدي هذه الوضعية إلى تحويل الصراع من صراع حول تأويل النص، إلى صراع من أجل إنتاجه وصناعته. وإذا كانت الإدارة، تتحجج بغياب الكفاءة، فإن ذلك، يعكس مأزق بناء دولة الحق والعدالة؛ فالبرلماني هو الذي يحمل المطالب الاجتماعية الواقعية، والصورة الواقعية عن العدالة الاجتماعية، وليست مصالح مديريات التشريع بالوزارات، التي يعهد إليها بصناعة النص بدعوى قدرتها على إنتاج نصوص قانونية تحترم القاعدة القانونية ومعاييرها.

وعندما تفقد السلطة التشريعية دورها، فإن ذلك، قد يفقد السلطة المنطق المؤسساتي فتغرق في جنون قاتل[13]. وهذا يدفعنا للتساؤل عن القيم المؤولة للدستور المغربي، بالاستناد إلى تاريخ الفلسفة السياسية، الذي يكشف، مثلا، عن تاريخية القيم المؤولة للدستور الألماني، بعد استعانة المشرع الألماني، بعد النازية، بمفهوم الكرامة، ثم بقيم تأسيسية أخرى كالعدالة والإنصاف والمساواة والإجماع العقلاني ونبذ العنف؟

وتحتاج منظومة تحقيق العدالة، كذلك، إلى كفالة احترام مبدأ سيادة القانون وكفالة الحق في التقاضي، والتزام الدولة بتوفير الإمكانات الفعالة لضمان ولوج المواطنين للقضاء، عند الحاجة. ويتجسد ذلك، أيضا، بسمو القانون على كل الإرادات الفردية والجماعية داخل الدولة، لأن ذلك أحد أوجه قوة الحق وانتصار على حق القوة. والإصرار على سيادة القانون، لا يجعلنا نغفل على أهمية الخير، وذلك، تجنبا للسقوط في خطاب، يبتلع كل ما هو إتيقي جماعاتي، باسم أولوية الحق على الخير، وهذا ما نبه إليه كل من مايكل صاندل[14] Sandel وماكنتير Mcintyre، عندما ربطا تصور مبادئ العدالة داخل نطاق تصورات الخير[15].

وما دام أن قيمة العدالة تتأثر بتداخل المصالح والعلاقات القائمة بين الدول، مما يتطلب حسب أمارتيا سن توسيع التفكير في العدالة والظلم ليتجاوز مجتمع محدد ودولة بعينها، وينفتح على البعد العالمي. وهذا ما دفعه إلى التأكيد على ضرورة الانتباه إلى تعدد التصورات الخاصة بالعدالة وتجنب التصور الأحادي، فقد نحتاج في مجتمع ما الاعتماد على مبادئ للعدالة غير متضمنة في العدالة كإنصاف الراولزية. فإن الكتاب، لم يغفل، هؤلاء الذين يحتجون باسم القيم الكونية للعدالة، وباسم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فخصص الباب الرابع لمعالجة المبادئ الكونية للعدالة وعلاقة الاحتجاج بالعصيان المدني ودور الفلسفة في العدالة والصفح.

المواطنة حدودها وتجلياتها:

تطرق الكتاب إلى المواطنة وحدودها في الباب الخامس، واعتبر أن المواطنة هي الاشتراك في الوطن؛ أي في المجال العمومي، وليس في حيز جغرافي وسياسي عارض. يوجد فرق بين المواطنة citoyenneté والجنسية nationnalité. تضمن الجنسية الحقوق المدنية والسياسية، مثل المشاركة السياسية. أما المواطنة، فتكتفي بقسم محدود يتعلق بالالتزامات المهنية والاسرية والاجتماعية. يتمتع المواطنون بنفس حقوق واجبات المواطنة، حتى لو كانوا ينتمون إلى جنسيات مختلفة. يؤدي المواطن الضرائب بموجب مبدأ المواطنة وليس بالرجوع إلى الجنسية[16]. تقوم المواطنة على وجوب احترام قانون الالتزامات والعقود. روح المواطنة أخلاقي، ولكن جسدها قانوني. ولا تستكمل المواطنة إلا إذا ما جمعنا بين الروح والجسد. غير أن هناك من يعترض على التقنين، ويعتبر أن المواطنة أخلاق قبل أن تكون تقنين، لاسيما وأن هناك من يعتبر التوازن العقدي غير مضمون بين المتعاقدين. وهكذا، يعتبر البعض أن الأطراف القوية هي التي تركز على روح المواطنة، مادامت لا تراعي التوازن المطلوب بين الحقوق والواجبات[17]. يستند التصور الليبرالي للشخص على الفكرة المضللة لذات متشظية، ذرية، شبحية، ذات من دون هوية وبلا أي مضمون مادي للخير أو للحق. فنمط المعقولية الذي تؤسس له الليبرالية المجرد من أية هوية، والباحث عن معايير لا شخصية هو أمر مستحيل[18]، إذ يفضي إلى نمط الشخص الفصامي أو الشخص اللاسياقي، ولعل هذا ما يشير إليه صاندل حين يقر بأن الذات الراولزية هي ذات حائزة على الغايات والقيم وتصورات الخير، لكنها نفس الذات التي تتحدد هويتها بالانفصال عن محيطها وبخاصة عن الذوات الأخرى[19].

يظهر الاستغلال السياسي للمواطنة من خلال إبراز التعارض بين الحق والقانون وبين الحق والواجب، وبين حقوق الانسان وحقوق المواطن. تركز الحرية في صورها الجديدة في الفلسفة الحديثة على الحق والإنسان، بينما يركز المنظور الجماعاتي على الواجب والقانون والمواطنة؛ أي أن المنظور الجماعاتي ينطلق من مفهوم الصالح العام والمصلحة المشتركة وقيم الخير من أجل المساهمة في الحياة المدنية بدل النظر للحرية نظرة ليبرالية[20].

خاتمة:

ارتبطت السياسة بالمجال الترابي، فإن كل الحقوق مرتبطة بامتلاك المكان، فمن يمتلك المكان يمتلك الحقوق، ومن لا مكان له لا حقوق له. من يمتلك الشارع يمتلك السلطة، ولهذا راهنت كثير من الحركات الاحتجاجية على امتلاك مكان ما في الشارع (ميدان التحرير...)، ونجحت بعض الدول في منع تحقيق هذه الرغبة، لأنها تعرف أن المكان طريق السلطة. فانكفأت جذوة تلك الحركات، لكن عندما تغيب العدالة الاجتماعية، والمواطنة الكاملة الفاعلة، ودولة المؤسسات الفعالة، فإن الاحتجاج السلمي هو السبيل لتغيير أهل المكان. والانتقال إلى الديمقراطية التشاركية، يفرضه اختلاف وتباين انتظارات الجهات والمناطق بالمغرب. فلا جدوى من استناد الدولة إلى توفير الأمن كوسيلة لإثبات حاجة الناس إليها، لأن مناطق كثيرة في المغرب ليست في حاجة للأمن كالمدن الكبرى، بل هي توفر الأمن ذاتيا، بحكم طبيعة بنيتها السوسيولوجية والعرقية، وهي في حاجة لمشاريع تنموية ومؤسسات تعليمية وعلمية.

 

المراجع:

-    بناني الحكيم، عز العرب، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، مقالات في الأخلاق والسياسة، منشورات مختبر الدراسات الرشدية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – ظهر المهراز، فاس.

-       أمارتيا سن، التنمية حرية مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والفقر، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، العدد 303، ط1، 2004، الكويت.

-       أمارتيا سن، نظرية في العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010

-       آلان سوبيو، الإنسان القانوني، بحث في وظيفة القانون الأنثربولوجية، ترجمة، عادل بن نصر، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012

-    Jean Baptiste Metz, la foi dans l’histoire et dans la société, traduit par Paul Corset et Jean-Louis Schlegel, Cerf, 1979, Paris.

-    Marcel Xhaufflaire, la théologie politique, introduction à la théologie politique de J. B. Metz, tome 1, 1972, Cerf, Paris.

-    Sandel, J, Machael, liberalism and the limits of justice, second edition, Cambridge University Press 1998, USA. Rainer Forst, the right to justification, translated by Jeffrey Flynn, Colombia University Press,2007

-    Rainer Forst, contexts of justice: political philosophy beyond liberalism and communitarianism, translated by John M. M. Farrell, university of Califoria Press, 2002

[1]. بناني الحكيم، عز العرب، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، مقالات في الأخلاق والسياسة، منشورات مختبر الدراسات الرشدية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – ظهر المهراز، فاس، ص. 11. الكتاب عبارة عن سلسلة من المقالات التي نشرت في كتب جماعية مختلفة.

[2]. بناني الحكيم، عز العرب، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، ص. 11

[3]. بناني الحكيم، عز العرب، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، ص. 5

[4] .Jean Baptiste Metz, la foi dans l’histoire et dans la société, traduit par Paul Corset et Jean-Louis Schlegel, Cerf, 1979, Paris, p. 70

[5]. آيات كثيرة تربط بين الإيمان والعمل الصالح والفوز في الآخرة. الايمان + العمل الصالح= الفوز في المعاد. منها: «وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار» البقرة، الآية: 125

[6]. مفهوم البراكسيس: البراكسيس هو النشاط الإنساني الهادف، وفكرة النشاط الإنساني تتضمن في جوهرها بالضرورة جانبين: ذاتي وموضوعي. او النية والقصد والجانب الداخلي عند الفاعل ثم الظروف الخارجية، فان الجانبين يرتبطان بعلاقة جدلية، فالجانب الداخلي لدى الانسان – النظرية- محكوم هو نفسه بالإطار الاجتماعي الذي يجد نفسه فيه – التطبيق-. «كل مولود يولد على الفطرة، فابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه"، كما ورد في الحديث. وينتقد متز البراكسيس الأخلاقي الكانطي، باعتباره غير بريء وليس محايدا، وهو ما ينعكس على الثيولوجيا. الوعي الثيولوجي بأهمية البراكسيس يجعلها تتجاوز بعده الأخلاقي إلى امتداداته الاجتماعية والسياسية. Jean Baptiste Metz, la foi dans l’histoire et dans la société, p. 74

[7] .Marcel Xhaufflaire, la théologie politique, p. 75

[8]. الحكيم بناني، عز العرب، ثقافة الاحتجاج، ص. 39- 54

[9]. آلان سوبيو، الإنسان القانوني، بحث في وظيفة القانون الأنثربولوجية، ترجمة، عادل بن نصر، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص. 265

[10]. أمارتيا سن، التنمية حرية مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والفقر، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، العدد 303، ط1، 2004، الكويت، ص. 23

[11]. أمارتيا سن، نظرية في العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010، ص. 112-117

[12]. انتقدت المحكمة الدستورية تخلي المؤسسة التشريعية عن صلاحياتها التشريعية، كما رفضت المس بصلاحيات المحكمة الدستورية...جاء هذا ضمن القرار الذي أصدرته المحكمة الدستورية أخيرا بشأن عدم دستورية مواد من القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين.

[13]. آلان سوبيو، الإنسان القانوني، ص. 265

[14] . Sandel, J, Machael, liberalism and the limits of justice, second edition, Cambridge University Press 1998, USA, pp.175-183

[15] .Rainer Forst, the right to justification, translated by Jeffrey Flynn, Colombia University Press, 2007, p.171

[16]. بناني الحكيم، عز العرب، ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون، ص ص. 181-182

[17]. بناني، ثقافة الاحتجاج، ص ص. 182-183

[18]. Rainer Forst, the right to justification, op. p.164

[19]. Rainer Forst, contexts of justice: political philosophy beyond liberalism and communitarianism, translated by John M. M. Farrell, university of Califoria Press, 2002, p.9

[20]. بناني، ثقافة الاحتجاج، ص. 183