التراث والتاريخ شوقي جلال
فئة : قراءات في كتب
التراث والتاريخ
شوقي جلال
فكرة الكتاب
لا شك أن مفردة "التراث" تنتمي إلى مجال التاريخ؛ فالتراث يُفهَم على أنه كل ما وصل إلينا من الماضي البعيد والقريب للثقافة الإسلامية، وقد يشمل كذلك ما وصل إلينا وينتمي إلى ثقافات أخرى. ويشمل التراث جوانب متعددة يمكن حصرها في ثلاثة أبعاد:
(1) الجانب المادي: ويضم المخطوطات، الوثائق، والآثار... ويُعرف هذا بالتراث المادي، وهناك منظمات وهيئات دولية ومحلية في كل بلد تسهر على الحفاظ عليه من خلال الترميم والحماية من الضياع.
(2) الجانب العلمي والنظري: ويشمل مختلف الآراء والتصورات والتفاسير، أي المدونات الكبرى في الثقافة الإسلامية، في ميادين العلوم الشرعية والعقلية، كالفلسفة، والفقه، والكتابات السياسية والأدبية...
(3) الجانب الشعبي: ويتعلق بالأمثال والحكايات والسرديات الشفوية، والتصورات الذهنية المرتبطة بالحياة اليومية.
من هذا المنطلق، فإن التعاطي الموضوعي والعلمي مع التراث يرتبط إلى حدٍّ كبير بفهمنا للتاريخ وتصوّره، ومدى وعينا به؛ إذ إن الإنسان كائن تراثي بطبعه، فلا يمكن الحديث عن الإنسان والثقافة بمعزل عن الإرث التاريخي. لكل فرد ماضٍ، ولكل ثقافة تاريخ يميزها. فإذا تم التعاطي مع الماضي بمنهجية تقوم على اعتباره تجربة ينبغي البناء عليها وتجاوزها، أمكن تحقيق وعي حضاري. أما التوقف عند الماضي، وإسقاطه على الحاضر من خلال رفض كل جديد، فهو ما يؤدي إلى فقدان الوعي الحضاري والوقوع في الاستلاب. فالمعرفة التاريخية العلمية تحصّن الإنسان من هذا الاستلاب.
الوعي بالتاريخ أو "التاريخية" هو نفي للأسطورة؛ لأنه تأكيد لتاريخية الفعل والعقل والشروط المؤثرة فيهما. فالأطر المعرفية والقيمية ليست ثابتة، بل تتشكل من عوامل نفسية وتاريخية وسوسيولوجية وثقافية. ولكل عصر رؤيته وفكره، بما يتناسب مع حركته الاجتماعية. والتغير يعني انفتاح العقل المتطور لفهم واقع دائم التغير، فلا يعود من المنطقي أن تُحكم المجتمعات بأفكار وقوالب ذهنية جامدة، بل بالوعي النقدي. وهذا يتطلب مواكبة الواقع المتغير وتفسيره وفق مناهج علمية، والتعبير عنه بلغة وفكر مشترك.
التاريخية إذن تعني التجدد الإبداعي في الفكر والقيم، وتؤكد أن الإنسان ليس كائنًا جامدًا مكررًا، بل فاعل عقلاني مبدع، يناضل ضد الهيمنة الفكرية والانغلاق العقائدي، وضد كل ما يسحق فرديته ويمحو خصوصيته. فالإنسان والمجتمع والثقافة ليست قوالب يعاد إنتاجها باستمرار، بل كينونات متجددة.
يقربنا هذا الكتاب من طبيعة العلاقة المنهجية بين الوعي بالتاريخ وقراءة التراث. فمعظم المشاريع الفكرية العربية انشغلت بسؤال التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد. فمثلًا: اشتغل المفكرون العرب على تراث ابن رشد باعتباره نموذجًا للعقلانية، وعلى تراث الشاطبي لصلته بالمقاصد، وعلى تراث ابن عرفة للعرف، وعلى تراث ابن خلدون لقيمة العبرة. إذ يُنظر إلى التاريخ كفعل في الزمان والمكان، وكخبرة إنسانية وحضارية.
لكن للأسف، لم يصل هذا الوعي التاريخي إلى جمهور المسلمين بنفس المستوى، فالعقل المسلم لا يزال مشدودًا إلى الماضي أكثر من مواجهته لتحديات الحاضر.
أهم موضوعات الكتاب
يرى المؤلف أن العودة إلى التراث في بعض أوجهه اتجاه سياسي وأيديولوجي، ومن ثَم يظهر الخلط بين وقائع التراث كوقائع تاريخية وبينها كأسطورة وقِيمة، وبهدف خدمة أيديولوجية معينة [أيديولوجية إسلامية، قومية، تقدمية، حداثية...] يغلب النهج الانتقائي، وننسى أن روايات التراث لا معنى لها إلا ضمن بِنية تاريخية واجتماعية وثقافية وعلى أساس علمي، وفق هذا السياق نظمت مختلف مواضيع الكتاب نذكر منها: الوسطية وخصوصية الاعتقاد/ تاريخية القيم والتراث/ أزمتنا الثقافية والتحديات الداخلية/ التراث والحداثة/ الغزو الثقافي/ التاريخ والمستقبل / الوعي التاريخي والنهضة … وصور من تجارب الأمم/ حول قضية إعادة كتابة التاريخ.
التراث وإعادة كتابة التاريخ
ينبغي تصحيح الإعراض عن القراءة التاريخية للتراث؛ وذلك بالعمل على دراسته وفهمه في سياقاته الثقافية والاجتماعية. فمن غير المعقول أن نستحضر اليوم مجمل ما قال به الشافعي أو الغزالي أو ابن تيمية، استحضارًا يحتفي بالمضامين معزولةً تمامًا عن ظروفها الزمانية والمكانية، وكأنها مقولات مكتملة الصلاحية لكل زمان ومكان. وهذا ما يشكّل جانبًا كبيرًا من مشكلة العقل المسلم، حين يردّد الأقوال والنصوص دون أن يُرفقها بعللها وسياقاتها التي أنتجتها؛ إذ قد تكون تلك الأسباب والدوافع التي أدت إلى ظهورها قد زالت وانقضت، ولم يعد لها وجود في واقعنا المعاصر. وبغياب الأسباب، تفقد تلك المقولات والمضامين كثيرًا من حجّيتها وفاعليتها في الواقع الجديد. والتمسّك بها كما هي، دون محاولة البناء عليها أو اجتراح مضامين جديدة، يؤدي إلى انحطاط في التفكير، بسبب تراكمها وتحولها إلى عبء ثقيل، يعيق تجدد الفكر والنظر.
مع الأسف تراكمت مختلف مضامين النصوص بشكل كمّي "عبر قرون الانحطاط، وهي لا تزال باقيةً حيَّة، تفرض نفسها على كل جهدٍ للتحديث، وتؤثِّر بالسلب على جميع جوانب حياة المجتمع وتعوق مسيرته. لقد انصبَّ اهتمامنا وانتقادنا على بحث آثار الاستعمار الغربيِّ في العصر الحديث وحدَه، كما نحصُر دراستنا في إطار ظواهر معاصرة نعانيها، ولا ننظر نظرًا تاريخيًّا نقديًّا محققًا إلى العوامل التاريخية والاجتماعية والفكرية التي تنتمي إلى تُراثنا السَّابق على الاستعمار الغربي، وهي عوامل فرضت هي الأخرى، عراقيل داخليَّة على حياتنا الثقافية ووجداننا القومي؛ عراقيل معرفية وروحية أو قيمية جعلَتْنا مقيَّدين."[1] ولا ينبغي أن يذهب الفهم بأننا ندعو إلى القطيعة الكلية مع التراث، أو القفز عليه، أو التخلي عنه، لماذا؟ لأن التراث جزء لا يتجزأ من مكونات الذات، فالتخلي عنه أو القطيعة معه، قطيعة مع جذور الذات، لكن المطلوب هو بناء علاقة معه تستوفي شروط العقل والنظر.
وينبغي ألا نغفل بأن "التراث واقع إنساني اجتماعي تاريخي، أمَّا أنه واقع؛ فذلك لضَرورته، وأن نفيه نفي لوجود الإنسان ذاته، من حيث هو وجود واعٍ بحكم جِبِلته أو تكوينه البيولوجي وتطوره، وأمَّا أنه اجتماعي، فذلك أنه رَهْن بوجود المجتمع، ثمرة له، ولا حياة إلَّا به، وتعبير عن الوجود الاجتماعي بتناقضاته وصراعاته. وأمَّا أنه تاريخي؛ فذلك لأنه حركة متصلة معبرة عن حركة المجتمع في تحوُّلٍ وتجدُّدٍ مع وجود خيط جامع رابط يُمثل هوية المجتمع صعودًا وهبوطًا، وأنه كظاهرة اجتماعية يتعين فهم أسباب نشوء الجديد وعلاقاته، وأسباب انحسار عناصر وبروز أخرى."[2]
إبعاد النظرة التاريخية في قراءة التراث، ساهمت في اتساع المذهبية والطائفية؛ إذ "نعيش حالة تمزق لا مثيل لها بين الشعوب أفضت إلى ما يمكن أن نسميه «بؤس الوعي التاريخي». نمجد التاريخ ولا نعيه على نحو عقلاني نقدي وفي تطوره الاجتماعي. نفرط في الحديث عن العراقة التاريخية وننكر الجذور. نزهو على الآخرين من منطلق انحياز أيديولوجي وبات من غرائبنا أننا نلعن بعض مراحل تاريخنا أو نطمسها عن عمد. نتحدث عن الجاهلية وكأنها صفحة سوداء أو مساحة من الفضاء. ونفاخر بحضارة السبعة آلاف سنة التي تعيش جذورها في أعماق وجداننا سلوكًا وثقافة، ولكننا نجهلها ويلعنها بعضهم عن جهل. وفي جميع الأحوال لا يُشكل التاريخ القريب أو البعيد رؤية نسَقية إلى الذات القومية في بعدها التاريخي وفي علاقتها مع الآخرين. وأسهم التعليم العام بدور في ترسيخ حالة «بؤس الوعي التاريخي» مثلما أسهمت أسباب ثقافية اجتماعية أخرى. ولا يزال التاريخ عندنا، مثلما كان عند الأقدمين، رواية لوقائع يجري انتقاؤها وفاءً لانحياز أيديولوجي على نحو يتفق مع هوى أصحاب السلطان كلٌّ في عصره. التاريخ ذكريات وروايات عن وقائع متناثرة ننتقي منها ما نشاء دون سند من الحقيقة الموضوعية. ونسوق الرواية، والمنتزعة من سياقها التاريخي الاجتماعي، لنرويها على سبيل العبرة من موقف تفرضه المصلحة واللحظة. ثم نُسقط العبرة بزوال الظرف."[3]
لا زلنا اليوم في حاجة "إلى إعادة كتابة التاريخ وقراءته على نحو جديد، وهي دعوة يراها الرافضون مقولة خاطئة وخطرة، وتشكيكًا في تاريخ الأمة وتراثها، وإخلالًا بمنطق العقل السليم. وكأن قواعد المنطق السليم أن نحافظ على القديم شكلًا ومبنًى، ونلتزم به قالبًا".[4]
في غفلة أن القديم كان له عصره وأهله وقضاياه، وينبغي قراءته وفق محيط أهله.
[1] نفسه، ص. 72 (بتصرف)
[2] نفسه، ص. 88
[3] نفسه، ص. 202
[4] نفسه، ص.209 (بتصرف)