السرد الاستعماري-2


فئة :  مقالات

السرد الاستعماري-2

تنبّأت رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، باعتبارها مثالا من أمثلة السرد الاستعماري، بالأفعال الوحشية التي اجتاحت العالم في القرن العشرين، ولعلها تكون إحدى الروايات التي فضحت "دوافع الجشع الكامنة خلف التوسّع الاستعماري" كما ورد في سيرة جوزيف كونراد. ومعلوم بأن كونراد استثنى بريطانيا من انتقاداته العنيفة للظاهرة الاستعمارية، فلطاما اعتبر نفسه مواطنا وفيّا بعد تجربة نفي طويلة عاشها قبل حيازته الجنسية الإنجليزية. ولم يتمكّن من رؤية ممارساتها الاستعمارية في كثير من البلاد المحتلّة، وما أنحى عليها باللوم، وإلى ذلك ما كان بوسع كونراد رؤية العالم إلا باعتباره امتدادا للغرب، بل رآه عالما "مقطّع الأوصال إلى مناطق خاضعة لسيطرة المجال الغربي"، وعلى هذا اعتبر "الوصاية الأوروبية مُعطى بديهيا" في عالم ممزّق لا يتمكّن إلا الغربيون من إخماد الفوضى التي ضربت أطنابها في أرجائه. اصطنعت أوروبا كورتز، وأرسلته إلى أفريقيا، وقبل أن يلفظ أنفاسه فيها، نجح في جعل نفسه ربّا من أرباب القبائل الوثنية، ففي عمق أفريقيا دُفن الطموح الاستعماري.

وعلى المنوال ذاته، ولكن بتوسّع، قدم "مارلو" شهادته عن "لورد جيم" في رواية تحمل العنوان نفسه، وهو مندوب متعهّدي السفن في بحار جنوب شرق آسيا، ووظيفته استقبال المراكب حال اقترابها من الشواطئ، وإرشادها في الإرفاء داخل المراسي النائية، وتوفير ما يحتاجه بحّارتها من طعام وشراب. وكان جيم فتى إنجليزيا دؤوبا حاز شرف أمة بسطتْ نفوذها على كثير من البلاد، لكنه تشرّد في مشارق الأرض، وانتحل هذا الاسم ليخفي به إثما اقترفه في مقتبل عمره "كان معروفا باسم "جيم" المجرّد، من دون إضافة أخرى، عند البيض من رجال الأعمال في الميناء، وعند قباطنة السفن أيضا، وكان له، بطبيعة الحال، اسم آخر، ولكنّه كان حريصا على إخفائه. وكان تنكّره فيه من الثغرات ما يجعله كالغربال لا يهدف إلى إخفاء شخصية بل إلى إخفاء حقيقة. فإذا ما وجد أنّ هذه الحقيقة قد اقتحمت تنكّره، وظهرت منافرة من خلاله، فإنه كان يغادر الميناء الذي يعمل فيه حينئذ، ويرحل إلى ميناء أخرى، يكون عادة في الشرق. وكان سبب تمسّكه بالعمل في الموانئ هو أنه كان أحد رجال البحر المنفيين".

انتهت بجيم مغامراته البحرية إلى الإقامة في الشرق الأقصى بأن أصبح ضابطا للباخرة "بتنا". قامت هذه السفينة العتيقة بنقل فوج كبير من الحجيج قصد مكة لأداء فريضة الحج، وبشروعها في الإبحار ظهر التراتب، فقد تولّى قيادتها خمسة بحارة من الرجال البيض، على رأسهم قبطان بدين فظّ الطباع ينظر للحجيج بوصفهم قطيعا من "الماشية" أو "الزواحف". اخترقت السفينة المضائق، والخلجان، وخلال الرحلة استسلم الحجيج لمصيرهم "تحت سقف الخيمة الأبيض كان الحجيج نائمين، وقد استسلموا إلى حكمة الرجال البيض، وإلى شجاعتهم، وأمنوا إلى قوتهم وهم كفّار، وإلى الهيكل الحديدي لسفينتهم التي تسير بالنار. ولقد نام هؤلاء الحجاج الذين ينتمون إلى تلك العقيدة الصارمة على الحصير، أو على البطاطين، أو على الخشب العاري، على كل سطح في السفينة، وفي كلّ ركن مظلم فيها، وقد لفّوا أنفسهم في قماش مصبوغ، وتلفّعوا بأسمال قذرة، ورؤوسهم مسندة إلى صُرر صغيرة، ووجوههم على أذرعهم المثناة، الرجال والنساء والأطفال منهم، وقد اختلط الشيوخ بالشباب، والعجزة بالأقوياء، وتساوى الجميع في النوم الذي هو أخو الموت".

تحيل هذه الصورة السردية على التناقض الحضاري بين مؤمنين أسلموا قيادهم لكفّار يوصلونهم إلى بيت الله، وحفنة من الرجال البيض المغامرين الذين انعزلوا عن سائر الحجيج، فقد جاء غربيون إلى أقصى الشرق لنقل مؤمنين منكفئين على معتقدهم الديني قاصدين التبرّك بالقِبلة التي هي مزار آمنوا بأنه يطهّرهم من آثامهم، فتلك هي النظرة الاستشراقية للمؤمنين الكسالى الموغلين في عبادات غامضة، فيما كان الغربيون، ومنهم جيم، يتدبّرون أمر الرحلة ببراعة لا يملكها إلا الرجال البيض. وخلال إبحارها الليلي اصطدمت السفينة بصخور اخترقت مقدّمتها، وربما تكون ارتطمت ببقايا سفينة غارقة، وسرعان ما تخلّى عنها بحّارتها البيض في الظلام من دون علم بما سيكون عليه مصيرها، ومصير الحجيج النائمين على سطحها.

قفز جيم إلى قارب النجاة، بإلحاح من البحّارة، وقد تملّكه الخوف من الغرق قبل أن يتأكّد من غرق السفينة التي حجبها الظلام عنه؛ فتوّهم أنه نجا بنفسه؛ لأن مصيره سيكون الهلاك لو بقي فيها، لكن إحساسا دفينا بالإثم جعله يتمنّى لو شارك الغرقى مصيرهم، فلا يجوز أن يتخلّى البحار عن مسؤوليته في وقت الخطر، ولا ينبغي أن يتحمّل الأبرياء وزر خطئه؛ فالهاجس الأخلاقي المسيحي، الذي تربّى عليه، جعله يتكفّل بنتائج أفعاله، وعاش بإحساس من خان الأمانة التي عهدت إليه، فليس من شيم البحّار الأبيض الهرب عند أول شعور بالخطر، إنما عليه تأمين حياة الآخرين قبل اتخاذ قرار مغادرة السفينة. وقد سيطر عليه التنازع بين شعوره بالذنب والبراءة قبل أن ينجلي له مصير الباخرة "بتنا". وحينما علم بنجاتها من الغرق ازداد شعوره بالخطأ؛ لأنه تعجّل قرارا قبل التأكّد من صحته.

ظهرت الرؤية الاستعمارية للعالم في روايتي "قلب الظلام" و"لورد جيم" بتجوالِ عدد كبير من المغامرين البيض في أفريقيا وآسيا

فاق شعور جيم بالإثم دوره الحقيقي في واقعة ترك السفينة في أعالي البحار، فهو لم يختر الهرب وسيلة، بل شلّته مفاجأة ارتطامها بجسم صلب، وفقدانها التوازن، وإصرار البحّارة عليه للقفز إلى زورق النجاة، والفوضى التي رافقت ذلك في ظلام حالك أخفى عنه كلّ شيء. وإن خامره شكّ خفيف بخطئه فلم يرتق إلى رتبة اليقين بأنه تخلّى عن مسؤوليته، وظلّ كذلك طوال الليل، وهو يكافح الأمواج الهائجة مع البحّارة بحثا عن الخلاص، ثم تفاقم شعوره بالذنب بعد أن عرف الحقيقة إلى أن عرض عليه مارلو المساعدة في الابتعاد عن عالم البحر بكامله، واللجوء إلى جزيرة في أرخبيل الملايو، والحال، فلا تفسير للتوتّر النفسي الذي عاشه جيم إلا باستحضار التربية الدينية التي تلقّاها صغيرا في بلاده، فقد تعلّم تحمّل المسؤولية، وتعرّض للاختبار في أول شبابه ضابطا بحريا، وكان أن حاول، من غير نجاح، دفع هذا الشعور عن حياته بالنأي عن العمل بحّارا.

لم تغرق السفينة كما توهّم بحّارتها الهاربون، إنما عامت، طوال الليل، على سطح البحر من دون قيادة إلى أن قطرتها بارجة فرنسية إلى ميناء عدن، فتبيّن أنّ البحارة أذنبوا، لأنهم فروّا تاركين الحجيج قبل أن يتأكّدوا من حال السفينة، واتفقوا على رواية تبرّئ ساحتهم ماخلا جيم الذي اعترف بالخطأ، وقدّم شهادة تُدين البحّارة، لكنه لم يحتمل مجاراتهم في التهرّب من المسؤولية، فلاذ بمكان ناء يريد محو ذكرى عار أسهم فيه، وذلك من نتاج النزوع الأخلاقي الذي تربّى عليه، فقد ولد في بلدة إنجليزية اشتهرت بـ"التُقى والسلام"، وكان والده قسّيسا متبحرا بالمعرفة الدينية، ليجعل الناس "صالحين يتميزون بالتقوى وخشية الله".

تعرّض البحارة لمحاكمة لم تتعدّ تحميلهم المسؤولية، ووقع تجريد جيم من شهادته البحرية، وخلال المحاكمة التقى بمارلو الذي قدم له العون في الابتعاد عن حياته البحرية، فسهل له أمر الرحيل إلى جزر نائية لا يعرفه فيها أحد، وفيها بدأ بناء حياة جديدة، حيث خلبّ لبّ الأهالي بأعماله. تغلغل جيم في أوساط القبائل الملاوية، واستغل النزاع القائم فيما بينها، واستخدم مهارته في الحرب بوصفه رجلا أبيض لا يُقهر، وانتصر على الخصوم، وبسط السلام، وأصبح السيّد الأبيض المطاع، والحاكم الفعلي لإحدى جزر الملايو. وحينما فارق الحياة ترك خلفه أسطورة شخصيّة ذائعة الصيت.

اكتسب الشريد الإنجليزي "جيم" لقبا مبجّلا في الجزر النائية، فقد نُعت بأنه "سيّد" بين أقوام أضفوا عليه الإجلال، وأذعنوا له إذعانا كاملا، وتطوي كلمة "لورد" معاني كثيرة تترابط فيما بينها للدلالة على علوّ الشأن، والقيادة، والزعامة، والنُبل، والهيبة، والشرف، وتتعدّاها للإشارة إلى الحاكم الذي يتولّى تدبير أمور أتباعه؛ فـ"اللورد" هو المتبوع، وسائر الخلق أتباع يقدّمون له الخدمة، ويعلنون الطاعة. ولا يُخلع هذا اللقب إلا على ذوي الشأن، والمكانة المميزة، في الإمبراطوريات الراسخة. ولمّا كان جيم متشرّدا أضاع بوصلة الحياة في وطنه، فمن المحال أن يكون سيّدا فيه، فلا تأهيل له ليكون سيّدا في مجتمع السادة، وعلى هذا حاز اللّقب بفرض نفسه سيّدا في بلاد الآخرين.

من الصحيح أنّ الأصل اللغوي لكلمة "لورد" لها صلة بالرجل الذي تتوفّر فيه الزعامة، فيكون قادرا على إعاشة أتباعه، وحمايتهم من الجوع، ودرء الخطر عنهم، فيكون صاحب أطيان واسعة يتنعّم بها، ولكن لابدّ أن يحوز اللورد على نفوذ يرغم به الآخرين على قبول سلطته عليهم، والانصياع له، فمصدر السيادة انتزاع الاعتراف به حاكما، وهو دور انتزعه جيم بالدهاء، والإحساس بالكرامة المميزة للرجل الأبيض. ولا يغيب عن البال أنّ شخصية جيم تنويع سردي لشخصية "روبنسون كروزو" في رواية دانيال ديفو، الذي تشرّد في أعالي البحار، قبله بنحو قرنين، وانتهى به الأمر إلى جزيرة شبه مهجورة، فتولّى إعمارها، وتملّكها، وأصبح سيّدها المطاع. انتهى الطريد الإنجليزي حائزا على السلطة والمال في أرخبيل الملايو، وزعيما مبجّلا لأتباع سلّموا له قيادة أمرهم، وخلعوا عليه لقب "التوان" الذي يقابل، بلغة أهل جزر الملايو، لقب "لورد" في لغة أهل الجزر البريطانية، فامتلكهم وجزرهم بدهائه، فجيم هو ترميز شخصي للإمبراطورية التي ترسل أساطيلها إلى أطراف العالم، وتدرجها ضمن أملاكها، وتحيل أهلها أتباعا لها.

لم يتمكّن السرد الاستعماري من استخدام اللقب المحلّي "توان" إلا مرّات معدودات احتاجت إلى الشرح، وبه استبدل اللّقب الإنجليزي "لورد" تعريفا لنكرة مقصودة، فحملت الرواية في عنوانها اللقب الإنجليزي لجيم. وقد أخفت التسمية المُضللة ما هو أهم من ذلك بكثير، إذ جعلت من فضاء العالم الشرقي مسرحا لأعمال الرجال البيض، يتناوبون عليه بأدوار الحكّام، والبحّارة، والتجار، والقادة، وحتى جامعي الفراشات، لكنه شحّ على أهله بالصور الإيجابية، فكاد يُغرق المئات منهم، وقد انقادوا خانعين لمعتقد ديني، وجعل من أهالي تلك البلاد قطعانا من التابعين الذين لا إرادة لهم إلا تسليم قيادهم لمغامر أبيض حمل في دمائه نُبل الإنجليز، وشرفهم الاستعماري، ودفع بهم إلى الوراء من فضاء السرد، فما ظهروا إلا بوصفهم مصدرا للشفقة، أو موضوعا للحُكم، وهم يخوضون نزاعات دموية لأسباب لا صلة لها بالعقل والشرف. وعلى هذا جاء "لورد جيم" من الحاضرة الاستعمارية ليرغمهم على الطاعة، وتهذيب السلوك.

ظهرت الرؤية الاستعمارية للعالم في روايتي "قلب الظلام" و"لورد جيم" بتجوالِ عدد كبير من المغامرين البيض في أفريقيا وآسيا، فهم قادة السفن، وتجّار العاج، ولهم تعود ملكية الجزر والشركات، ويستخدمون المواطنيين الأصليين في الأعمال الخدمية والحربية والتجارية التي تسهّل لهم السيطرة على مرافق الحياة في تلك الأنحاء، ولا يكاد الراوي "مارلو" يرى في تلك الأصقاع سوى البيض القادمين من بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وألمانيا، وسويسرا، وبلجيكا، يستغلّون الأهالي، ويناصرون طرفا على طرف دفاعا عن مصالح بلادهم، وحماية طرق التجارة البحرية. ولا يظهر أهل البلاد إلا باعتبارهم أشباحا لا هويات فردية لهم، وهم تابعون لهذا التاجر أو ذاك القرصان، أو أنهم أُجراء في هذه الجزيرة، أو يقومون بأعمال خدمية في تلك السفينة، وحينما يستقلّون بوضعهم يشيعون الفوضى، ويحتربون فيما بينهم طمعا في الثروة والسلطة، فكونراد يريد القول، كما خلص "إدوارد سعيد" في كتابه "الثقافة والإمبريالية" إلى ذلك: بأن الغربيين هم الذين يقررون مَنْ هو المواطن الأصلي الجيّد، ومَنْ هو السيئ، فالمواطنون الأصليون لا يملكون وجودا كافيا إلا باعتراف الغربيين بهم، فهم الذين خلقوهم، وعلّموهم أن ينطقوا، ويفكّروا، وحينما يتمرّدون، فذلك يؤكد سلامة رأي الغربيين بهم بأنهم أطفال أغبياء.

وعجّت روايتا "قلب الظلام" و"لورد جيم" برجال بيض اكتسبوا شرفهم من لون بشرتهم، وأعمالهم الجريئة، فجابوا البحار الشرقية والجنوبية، وتوغّلوا في اليابسة طمعا في الثروة قبل العودة إلى بلادهم محمّلين بها، فيما احتجب حضور أهل البلاد خلف سرد إمبراطوري جرى التركيز فيه على ذوي البشرة البيضاء، وهم يعاقرون الخمور، أو يتناولون الأطعمة الفاخرة، أو ينتصرون في الحروب المحلّية، أو يكافحون الأمواج بحثا عمّا يتاجرون به مع المدن الأوربية التي جاءوا منها، والعمل على إشاعة القيم الغربية، باعتبارها الفيصل بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والشرّ والخير؛ فالرجل الأبيض منذور لإحقاق الحقّ في أرض الآخرين، بما في ذلك شعور جيم بتأنيب الضمير لأنه من أرومة إنجليزية أصيلة. وعلى هذا كافح طوال حياته، وتوفي شامخا "وظلّ إلى النهاية خياليّا عتيدا، لا يمكن النفاذ إلى أعماق شخصيته"، وبذلك حاز نجاحا "جاوز كلّ حدّ للخيال"، فعلى الحافة الشرقية للعالم، وفي تلك الجزر المتناثرة، غرس رجل أبيض أسطورة الكبرياء الاستعمارية.

يعود مارلو، في الروايتين، الى بلاده ليروي لمستمعين إنجليز مغامرات رجال بيض تعرّف عليهم في أعالي البحار، أو في قلب القارات، لكن أبطاله لا يعودون إلى مساقط رؤوسهم، فلا عجب أن يقضي كورتز وجيم نحبيهما في المستعمرات النائية بعيدا عن الأوطان الأصلية، ويكتسب كل منهما أسطورته في مجتمعات بريئة من الدنس والطمع، فذلك هو مآل الاستعمار. ومع أن مارلو حاول خلع الأعمال النبيلة عليهما بدواع لها صلة بضحالة وعي كونراد بالظاهرة الاستعمارية، لكن شهادة مارلو تُبطن غير ما تظهر، فمن حيث رغب في تجريد شخصياته من الأعمال المشينة فضح تورّطها في أعمال شنيعة في المستعمرات، فالنُبل لا يكتسب شرعيته، ولن يكون كذلك، في العبث بأرواح الآخرين بدعاوى كبرياء الرجل الأبيض، وتقدير أعماله الجليلة.