الشعبويَّة: مرض الديمقراطيَّة المزمن


فئة :  مقالات

الشعبويَّة: مرض الديمقراطيَّة المزمن

الشعبويَّة: مرض الديمقراطيَّة المزمن([1])

حين يحدث أن تُعقد المفاضلة بين الأنظمة السياسيَّة، ويقال حينها عن "الديمقراطيَّة" إنَّها أقلّ الأنظمة السياسيَّة سوءاً، فإنَّه قد يتبادر إلى أذهان بعض الباحثين أنَّ أحد جوانب هذا "السوء" يتمثل في "النزعة الشعبويَّة" باعتبارها "الوجه الحالك للقمر". وتزكي هذا الميل إلى الاعتقاد بوادر شتّى؛ منها ما صار يلحظ في عالمنا اليوم من تنامي ظاهرة "الشعبويَّة" في العديد من البلدان، بعضها ذات تقاليد ديمقراطيَّة عريقة. إذ أمسى بعض الباحثين السياسيين يرون أنَّ الشعبويين حاضرون في كلّ مكان، وذلك أيَمَّمْتَ بوجهك نحو القارّة الجديدة (دونالد ترامب بالولايات المتحدة الأمريكيّة، نيكولاس مادورو بفنزويلا...)، أم نحوتَ القصد صوب القارّة القديمة موطن أشدّ الديمقراطيّات عراقة (فيكتور أوربان بهنغاريا، وبيبي غريو بإيطاليا، وكازينسكي ببولندة، ويور غايدر بالنمسا، وماري لوبين بفرنسا...).

والحال أنَّ ما يؤلّف بين هذه الأحزاب والأنظمة ـ على تبايناتها ـ علائم جامعة؛ منها الديماغوجيَّة (الهجوم على الخصم ـ النخب ـ بالكلمات). ومنها الموقف الناقد للمؤسَّسات القائمة، وللمؤسَّسة الرّسميَّة (Establishment) على وجه الخصوص، واعتبارها معادية للشعب. ومنها قول هذه الشعبويَّة: "لا"، لليمين ولليسار على حدٍّ سّواء. ومنها إيمان هذه التوجُّهات باستحالة الخسارة الانتخابيَّة، واعتبارها أنَّ المشكلة تقع في قلب النظام السياسي والمؤسَّسة الرسميَّة، وأنَّ هناك مؤامرات ما تفتأ تُحاك ضدّ الشعب ودسائس ما تزال تُقام عليه.

هذا وقد تجدَّد الحديث عن "الشعبويَّة" مؤخّراً إثر انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. إذ تحدَّث جورج دون في مساهمة له ضمن الكتاب الجماعي ـ "ترامب والفلسفة السياسيَّة" (2018) الذي يرسم صورة للسياسي "الشعبوي" منذ عهد سقراط إلى اليوم ـ عمَّا سمَّاه "الشعبويَّة الترامبيَّة"[2]، المتمثلة، عنده، في النزعة الاجتماعيَّة المحافظة، بينما وجد بعض من ساهم في ذاك الكتاب في بيرني ساندرز العديل الذي يقف على الضّفة الأخرى ممَّا أسموه "اليسار الشعبوي"[3]؛ بحيث يخيّل إليك أنَّه أينما ولّيت وجهك ـ أذات اليمين أم ذات الشمال ـ فإنَّ الشعبويَّة تنتظرك.

لكن، ترى: ما هي "الشعبويَّة"؟ ومن يكون "الشعبويُّون"؟

الشعبويَّة: مبنى ومعنى

في أحد أبرز الكتب التي ظهرت حديثاً ووقفت نفسها على فحص ظاهرة "الشعبويَّة": "ما الشعبويَّة؟"[4] يذهب الباحث السياسي الألماني وأستاذ الفكر السياسي المعاصر بجامعة برينستون يان-فرنر ميلر (1970- ...) إلى اعتبار أنَّ "الشعبويين" يمكن أن يتحدّدوا على مستويين اثنين:

1- على المستوى السياسي: الشعبويُّون هم من يقولون: "نحن من يمثل حقاً الشعب الحقيقي"، "أمّا الأحزاب الأخرى، فإنَّها تفتقد إلى الشرعيَّة كلَّ الافتقاد"؛ لا سيَّما منها الشرعيَّة الأخلاقيَّة أو المعنويَّة. وإنَّما أصحاب الأحزاب الأخرى "فاسدون" و"مرتشون" لا يخدمون "لصالح" الشعب ولا "لمصلحته". على جهة السلب، ما كلّ من ينتقد النخب السياسيَّة بشعبوي بالضرورة. ففي النظام الديمقراطي لكلّ فرد الحقّ في أن ينتقد، بما في ذلك الديمقراطيَّة نفسها والنخب عينها؛ لكنَّ الشعبويين يعتقدون بجازم الاعتقاد أنَّهم وحدهم من يمثل حقَّ الشعب الحق.

2- على مستوى تصوُّر "الشعب" نفسه: يعتبر الشعبويُّون أنَّ من يواجههم لا ينتمي إلى الشعب الحقيقي، ويضعون مقام "الآخرين" [الأجانب، المجنَّسين ...] ومنزلتهم ومكانتهم موضع تساؤل، ويطعنون في أمر "مواطنتهم" و"مواطنيتهم"؛ بحيث يرون أنَّ كلَّ "الأغيار" يُعدّون بمثابة غير مواطنين أقحاح. وهذا التصوُّر الذي تنفرد به النزعة الشعبويَّة هو ما يسمّيه فرنر: الاحتكار المعنوي لتمثيل "الشعب الحقيقي". فمن شأن الشعبويَّة أن تعلن على وجه الدوام ولا تكفّ عن إعلان ذلك: "أنا الشعب".

يرى فرنر أنَّ الشعبويَّة تتّسم بسمتين جوهريَّتين: نزوع عدائي مستحكم ضدّ النزعة التعدّديَّة؛ وعداء مستفحل ضدّ النزعة الديمقراطيَّة

ويقيم فرنر ضرباً من "جنيالوجيَّة" النزعة الشعبويَّة، فيميّز في تاريخها بين ما يدعوه: "ما قبل تاريخ الشعبويَّة" و"تاريخ الشعبويَّة" على الحصر. ويتمثل ما قبل تاريخ الشعبويَّة في أنظمة سياسيَّة سابقة على الشعبويَّة ـ شأن "التوتاليتاريَّة" و"الفاشستيَّة" و"النازيَّة" ـ لكنَّها تتقاطع معها في بعض السمات. غير أنَّه يرى أنَّ ما كلّ نزعة شعبويَّة تنحو منحى شموليَّاً [توتاليتاريَّاً] بالضرورة. إذ قد تصاحب التوتاليتاريَّة ـ في شكلها الفاشستي والنازي على وجه الخصوص ـ عناصر ثلاثة: التجنيد المستمر للمجتمع، تمجيد العنف، العنصريَّة العرقيَّة، وهي عناصر قد لا توجد حتماً في النزعة الشعبويَّة. على أنَّ ما يوجد في النظامين معاً ـ التوتاليتاري والشعبوي ـ هو ادّعاء أصحابهما أنَّهم يمثلون "الشعب الحقيقي"، ويمثلون الشعب "حقيقة"؛ أي سمة "الاحتكار المعنوي والخلقي" لتمثيليَّة الشعب "الحقيقيَّة". هذا فضلاً عن مناهضة النزعة التعدّديَّة، بينما في الديمقراطيَّة لا يظهر الشعب إلّا متعدّداً (أطروحة هابرماس)، والعداء للديمقراطيَّة التي لا يوجد فيها مفهوم عن شعب منسجم بالتمام والكمال، بينما الشعبويُّون يؤمنون بوهم "الانسجام الطبيعي" الذي يفترض في شعب معيّن يعدّونه شعباً خالصاً نقيّاً جوهريّاً.

تأسيساً عليه، يرى فرنر أنَّ الشعبويَّة إنَّما تتّسم، على العموم، بسمتين جوهريَّتين: 1- نزوع عدائي مستحكم ضدّ النزعة التعدّديَّة؛ إذ ما يفتأ لسان حال الشعبويين يردّد القول: "نحن ونحن فقط من يمثل الشعب". 2- عداء مستفحل ضدّ النزعة الديمقراطيَّة، مع اعتبار "الشعب" فاعلاً في مستقبله، وإنشاء صورة رمزيَّة للشعب "الحق"، مع السعي الدائم إلى التأثير فيه على نحو ما فعل برلوسكوني بامتلاكه لوسائل إعلام قويَّة خاصَّة. ومن هنا اعتقاد الشعبويين في فكرة "الأغلبيَّة الصامتة"، وادّعاؤهم أنَّهم هم من يمثلها ولا أحد سواهم. أَوَ لم يقل دونالد ترامب مخاطباً الناخبين الأمريكيين: "إنَّما أنا صوتكم"!

وقد ذهبت المفكِّرة السياسيَّة البلجيكيَّة شانتال موف (1943 - ...)، في كتابها "وهم التوافق" (2016)، إلى أنَّ الشعبويَّة تتحدَّد من حيث هي طريقة في بناء الحدود السياسيَّة: نحن/ هم. وهي طريقة في بناء هويَّة سياسيَّة عابرة للمجتمع. كما نزعت إلى القول إنَّ النزعة الشعبويَّة السائدة نزعة يمينيَّة. وتلقاء ذلك دعت إلى "حركة شعبيَّة" يساريَّة تقف ضدّ اليمين[5]. أمَّا فرنر، فلا يؤمن بمفهوم "الشعبويَّة" بالنسبة إلى اليسار. فلا حاجة، في تصوُّره، إلى شعبويَّة بوفق هذا المعنى. ولا ينبغي، عنده، تقليد الشعبويين بأيّ حال، بل ينبغي أحياناً تجاهلهم.

ويتساءل فرنر: هل الشعبويَّة تصحيح للديمقراطيَّة التمثيليَّة بديمقراطيَّة مباشرة؟ والجواب عنده كالتالي: الحال أنَّ المسألة، عند الشعبويين، ما كانت مسألة استفتاء على من هو الشعب الحقيقي، بل إنَّهم يصادرون، قبلاً وبدءاً، على من هو "الشعب الحق". وهنا يلعب المخيال السياسي دوراً مهمّاً: يتخيّل الشعبويُّون شعباً "منسجماً" "متناغماً" "متّسقاً"، يخلعون عليه صفات "النقاء" و"الطهر" و"البراءة" من كلّ ما من شأنه أن "يلوّثه"، ويعتبرون أنفسهم هم من "يمثل" هذا الشعب، ووحدهم من "يجسّد" إرادته.

والحقّ أنَّ للنزعات الشعبويَّة الحاليَّة سياقاً تنساق فيه. إذ لعبت مسألة "الانفتاح" و"الانغلاق" دوراً أساسيّاً في تغذية النزعة الشعبويَّة: ذلك أنَّ موجة العولمة العاتية الجارفة، وتكوّن ثقافة عالميَّة عابرة للحدود مدمّرة للخصوصيَّات، دفعت بالشعبويين إلى اللعب على وتر "الترهيب" من الغير و"التخويف" به ومنه؛ ومن هنا كان "رهاب الأجانب". كما أنَّ الشعبويين يلجؤون إلى توظيف "رأسمال رمزي" هو ما يسمّونه "الأغلبيَّة الصامتة" مدَّعين أنَّهم هم من يمثل هذه الأغلبيَّة التي يخلعون عليها كلَّ صفات البراءة والمظلوميَّة والنزعة الأضحويَّة.

وقد وجدت أوروبا اليوم نفسها أمام خيارين اثنين لا يكاد يوجد لهما ثالث: إمَّا حكم التكنوقراط، أو حكم الشعبويَّة، إمَّا "الفكر الواحد" أو "الفكر الشعبي". ومنطق "إمَّا" و"إمَّا" هذا ظهر، مثلاً، في مسألة العملة الأوروبيَّة. وفي كلتا الحالتين ثمَّة استبعاد للنقاش، ونفي لتبادل الحجج، وإنكار للتعدُّد؛ ممَّا تنشأ عنه بالضرورة ألوان من الحرمان من الحقّ في أخذ الكلمة. هذا مع تقدّم العلم أنَّ "الديمقراطيَّة" لا تعني، بالدرجة الأولى، الحقّ في المشاركة في الانتخابات، وإنَّما أن تتاح للمرء فرصة لعرض أفكاره ولإقناع الآخرين، وأن يتصالح مع نفسه بقبوله الهزيمة متى حدثت.

ومن هنا يستنتج فرنر أنَّه من شأن التكنوقراطيَّة أن تتنشأ عنها الشعبويَّة. وهذا ظاهر في العبارة التي لطالما تتردَّد على ألسنة أنصار الشعبويَّة: "إنَّهم لا ينصتون إلينا!" ممَّا يعني أنَّ فرص الاختيار قد تقلصت، وذلك أمام أنظمة تحوَّلت ـ بفعل إيلاء الأولويَّة للشأن الاقتصادي على الأمر السياسي ـ إلى أنظمة تكنوقراطيَّة تشتغل تحت يافطة سياسيَّة. فمثلاً، تكاد تتشابه الإجراءات الماليَّة بين أغلب وزراء الماليَّة الأوربيين؛ بحيث يمكن استبدال بعضهم ببعض: تشابهت الأبقار علينا.

من شأن التكنوقراطيَّة أن تتنشأ عنها الشعبويَّة

وفي الجملة، ينبئ هذا الأمر عن أنَّ الشعبويَّة علامة على "أزمة التمثيليَّة": مَنْ يمثل مَنْ؟ وكيف؟ وإلى أيّ حد؟

ويطرح صاحب كتاب "ما الشعبويَّة؟" "بديلاً" في تصوُّر مقاومة النزعة الشعبويَّة والخروج منها:

1- يتساءل، بدءاً، هل الشعبويَّة "مرض" يصيب الديمقراطيَّة؟ وقبل ذلك هل هي، أوَّلاً، "مرض" بإطلاق؟ وأطروحة فرنر أنَّه لا يمكن اعتبار الشعبويَّة "مرضاً" أو علامة على "مرض" (Pathologie). وهو يدعو إلى التوقّف عن "تمريضها"؛ أي عن عدّها مرَضاً. فعنده ما زالت الديمقراطيَّة نظاماً يشتغل بهذا القدر أو ذاك، وبهذه الوتيرة أو تلك، على نحو ما أبان عنه الأمر في تجربة اليونان وإسبانيا الأخيرة.

2- عنده أنَّه لا يمكن الردّ على نزعة معاداة الديمقراطيَّة بمعاداة للديمقراطيَّة؛ أي أنَّه لا يمكن التخلّص من الشعبويَّة بقمعها، وإنَّما بالعمل على إزالة أسبابها، ومن هذه الأسباب هيمنة النزعة التكنوقراطيَّة على الشأن السياسي.

3- وعنده أيضاً أنَّه لا يمكن اعتبار الشعب قابلاً للاختزال إلى تعريف واحد، فالشعب بطبيعته متعدّد أو تعدّدي، ولا يحقّ لأيّ حزب كان أن يقول: "أنا الشعب".

4- على أنَّه لا يمكن منع الأحزاب الشعبويَّة؛ لأنَّ من شأن ذلك أن يقوّيها؛ وذلك بأن يمنحها "تعلة" و"عاذرة" و"ماحلة" إلى نقد الديمقراطيَّة.

5- لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، رفض الاندماج في أوروبا، وقد صار العديد من أنظمتها السياسيَّة شعبويّاً (النمسا، بولونيا، إيطاليا...).

وبالجملة، لا توجد وصفات سهلة لتجاوز النزعة الشعبويَّة. فلا يمكن مواجهة الإقصاء بإقصاء مضاد. وذلك لأنَّ من شأن هذا الإقصاء ـ إن هو اتُخذ القرار بشأنه ـ أن يعزّز دوماً تظلّمات ودعاوى وشكاوى الشعبويين بأنَّهم مقصيُّون؛ إذ ما يزالون يردّدون القول: "النخب لا تصغي إلينا"، ولا وجود لنقاش ديمقراطي، وإنَّ هناك موانع ومحرَّمات وطابوهات للنقاش تقيمها المؤسَّسة الرسميَّة المتمكّنة. لا بدَّ إذن من مناقشة الشعبويين.

على أنَّ فرنر يضع لهذه المناقشة أخلاقيَّة حتى لا تسقط في لعب لعبة الشعبويين أنفسهم؛ فالحديث إليهم ليس كحديثهم هم؛ أي الحديث بلغتهم. وهي أخلاقيَّات تقوم على المبادئ التالية: لا يمكن قبول لعبتهم الاختزاليَّة، ولا الموافقة على طريقة عرضهم للمشاكل (كقول أحد الشعبويين الفرنسيين: لدينا مليونا عاطل ولدينا مليونا مهاجر، فلنطرد المليوني مهاجر، ولنحلّ محلّهم المليوني عاطل...). لا بدَّ من وضع خطوط حمر: مثلاً ادّعاء وجود مؤامرة، أكانت داخليَّة أم خارجيَّة، على نحو ما ينطق به دوماً لسان حالهم: لا يمكن أن نخسر الانتخابات، وإذا ما حدث أن "خسرنا"، فإنَّ وراء الكواليس نخباً فاسدة متآمرة، وفساداً انتخابيَّاً، وتزويراً للانتخابات (على نحو ما ادّعاه ترامب قبل ظهور النتائج التي كذّبت مزاعمه...)، كما لا يمكن اعتبار أنَّ كلَّ المشاكل إنَّما هي مشاكل تتعلّق بالهويَّة؛ وبالتالي القول: إذا طردنا الوافدين علينا، حللنا المشكلة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة! فضلاً عن ضرورة التشكيك في الوعد الذي تقطعه النزعة الشعبويَّة على نفسها والذاهب إلى أنَّ هناك انسجاماً تامّاً للشعب، بحيث لا يوجد هذا الانسجام، في الحقيقة، إلّا في المتخيّل السياسي للنزعة الشعبويَّة.

الشعبويَّة وأزمة السياسي

يمكن قراءة تنامي النزعات الشعبويَّة على أنَّها "أعراض" عن "أزمة" عميقة كان قد نبَّه إليها أحد مفكّري السياسة غير المعروفين في العالم العربي. وكان قد كتب رجل السياسة والباحث البريطاني وليام والدغريف (William Waldgrave) (1946 - ...) مقالة تكريميَّة بعد وفاة المفكّر السياسي البريطاني برنارد كريك (Bernard Crick) (1929 - 2008) ـ صاحب كتاب "أوجز المداخل إلى [مفهوم] الديمقراطيَّة" (2002) ـ وذلك بعد أربعة أعوام، حملت من العناوين العنوان الإشكالي المثير: "لماذا ما زلنا نحتاج إلى برنادر كريك" (2012)[6]؟ وقد اعتبر الناقد في هذه المقالة أنَّ كتاب برنارد كريك "في الدفاع عن السياسة" (1962) يُعدّ بحقّ من بين أهمّ وأفضل الكتب التي قدَّمت بلسماً شافياً ضدّ الأمراض التي قد تصيب السياسة ـ ومنها مرضان: النزعة التكنوقراطيَّة والنزعة الشعبويَّة ـ كُتب له أن ينشر في تاريخ الفكر السياسي الغربي برمّته.

وقد كان برنارد كريك كتب هذا الكتاب الرائد بعد أن أتى حين من الدهر على مثقفي الغرب والرأي العام الغربي بعامَّة صاروا يعدُّون فيه "السياسة" ـ بعد حربين عالميتين مدمّرتين، وسيطرة أنظمة سياسيَّة شموليَّة وطغيانيَّة وديكتاتوريَّة فتَّاكة، وتورُّط العديد من سياسيي الغرب في فضائح ممارسات فساد وإفساد للحياة السياسيَّة مجلجلة ـ لعبة من رجس الشيطان قذرة، فكان أن آل حال المدافع عن "السياسة" و"الشأن السياسي" ـ والحال هذه ـ كحال "محامي الشيطان". فما بالك إن هو ذهب برنارد كريك ـ في كتابه هذا ـ إلى اعتبار أنَّ السياسة أمر حيوي، بل هي أهمّ نشاط يمارسه البشر على الإطلاق؟

إنَّما الحاجة إلى برنارد كريك هي، أوّلاً وقبل كلّ شيء، الحاجة إلى السياسة. إذ كتب الرجل ما كتب وقد أمست فكرة تروج بين الكثير من الأوساط مفادها أنَّ بمكنة الإنسان أن يحكم من غير ما حاجة إلى السياسة. أَوَ ليس "العلم" و"التقنية" كفيلين بأن يحلّا كلَّ مشاكل البشريَّة، بما في ذلك المشاكل السياسيَّة، من غير ما حاجة إلى سياسة وساسة؟ هو ذا جوهر دعوى النزعة "التكنوقراطيَّة"، التي تروم أن تحكم الناس بتوسّل "تقنيات" للحكم ترى أنَّها لا يمسّها باطل، والتي يمكن تلخيص شعارها في القول: "أخرج، يا هذا، الساسة من السياسة، ودع الخبير وحده يتصرَّف. آنها لَكَمْ سوف تسعد وتهنأ!" الحلّ إذن كلّ الحل يكمن في أن تدع الحكم للخبراء والتقنيين والفنيين والمهندسين والأطباء وعلماء الاقتصاد ورجال الأعمال، فإن أنت فعلت، هنأت وسعدت.

والحال أنَّ حاجتنا إلى برنارد كريك تبدأ من حيث يظهر عوار هذا النمط من النظر، ومن حيث يفشل نموذج حكم التكنوقراط ـ أهل التخصُّص الفنّي من الكوادر العليا ـ الذي أثبت في العديد من المناسبات العجز الذريع، وعلى الرغم من ذلك ما زال يجد من يدافع عنه اليوم، لا سيَّما في أزمنة الشدائد السياسيَّة. وممَّا طمَّ الوادي على القرى أنَّ النزعة الشعبويَّة أتت لتعتبر نفسها بديلاً عن فشل النموذج التكنوقراطي الذي لا يدع للناس من خيار يختارونه؛ ومن ثمَّة من سياسة. ههنا نحتاج إلى برنارد كريك لكي يذكّرنا بأنَّ مشاكل السياسيَّة ـ التعدديَّة، المواطنة، المشاركة، تدبير الاختلاف... ـ ما كانت من الشأن الفني [التقني] المحض في شيء. وإنَّما يتمثل "كنه" السياسة، عنده، في ما يلي: "يمكننا تعريف السياسة ـ أبسط تعريف يكون ـ بوصفها النشاط الذي يستهدف الحصول على التوافق وإقامة التصالح بين مختلف المصالح ومتباين المنافع في وحدة حكم معيّن؛ وذلك عبر تفويض مختلف الأطراف قسطاً من السلطة يتناسب ودورهم في رفاهيَّة الجماعة أو الأمَّة وبقائها"[7]. وتبعاً لذلك، كانت السياسة أمراً "حيويّاً" و"مصيريّاً". وهي التي تضمن صيرورة الأمم صيرورة سلميَّة وسليمة، كما أنَّ عليها تتوقّف مصائر الأمم: فإمَّا إلى سلام داخلي وخارجي، هو ذا مقتضى السياسة، أو إلى حرب أهليَّة أو دوليَّة، هو ذا مقتضى ما صار يسمّيه بعض المفكّرين السياسيين المعاصرين: اللّا سياسة.

فهذه حاجة أولى إلى السياسة في زمن التكنوقراطيَّة، وذلك بوصفها حاجة إلى من يذكّرنا بأنَّ السياسة فنّ تحقيق المصالحة والتوافق والتراضي، وما كانت هي من المشاكل الفنيَّة التقنيَّة ـ التي من شأنها أن تعالج بمعالجة "موضوعيَّة" و"فنيَّة" ـ في شيء، ولا ينبغي لها أن تُعَدَّ كذلك.

وثمَّة حاجة أخرى ثانية إلى الرجل تتعلّق، هذه المرَّة، بمسألة "الديمقراطيَّة". والذي عند برنارد كريك لكي يقوله لنا، بهذا الصدد، والذي ما فتئ يكرّره منذ كتاب "في الدفاع عن السياسة"، هو التالي: كلّا، ما كانت "الديمقراطيَّة" كلمة سحريَّة بمكنتها حلّ كلّ معضلات السياسة. وليس يمكن لأيّ نظام أن يفلت من لفحة المشاكل السياسة ما أن يعلن أنَّه "ديمقراطي" أو ما أن يتبنَّى "الديمقراطيَّة". ما الديمقراطيَّة في جوهرها إلّا تقنية سياسيَّة قد خلت من قبلها، ولربّما ستأتي بعدها، تقنيات سياسيَّة أخرى. وباعتبار الديمقراطيَّة "تقنية"، فإنَّها، شأنها في ذلك شأن سائر التقنيات، تكون نافعة إِنْ هي أعملت في محلّها، وتستحيل كارثيَّة إِنْ هو أسيء استخدامها.

ولعلَّ من أبين أساليب سوء استخدامها "النزعة الشعبويَّة" القائمة على دغدغة عواطف الناس واستدرار رضاهم. فلطالما حذّرَنا برنارد كريك من مغبّة السقوط في هذا المنزع الفتّان الذي يشبه جزيرة "سيرسي" اليونانيَّة التي تحكي المرويّات الإغريقيَّة القديمة والأساطير أنَّها كانت تسحر الرجال بصوت حوريّاتها الفاتنات، حتى إذا ما هي تمكّنت منهم، سلبتهم عقولهم وتركتهم صفر العقول. إذ ليس من شأن المرء أن يكون "ديمقراطيّاً" إن هو اكتفى بأن يصيخ السمع إلى ما تريده "الأغلبيَّة"، وعمل على أن يمنحها ما تريد.

كلّا، ما كانت هذه غاية رجل السياسة، وليس ينبغي له؛ وإلّا استحال هو إلى طاغية، وأيّ طاغية! وقد استشهد برنارد كريك بتشرشل الذي قال في آخر مؤتمر صحفي قيّض له أن يعقده ببوسطن، في الوقت الذي كان فيه الرئيس إيزنهاور حائراً محرجاً في أمر ما يفعله في شأن تأبين السناتور الأمريكي المثير للجدل ماكارثي: "إنَّ رجل السياسة الذي لا يستطيع أن يتحمّل تدنّي الشعبيَّة ليس يستحقّ هذا الاسم".

ليس من شأن المرء أن يكون "ديمقراطيّاً" إن هو اكتفى بأن يصيخ السمع إلى ما تريده الأغلبيَّة، وعمل على أن يمنحها ما تريد

هذا ولطالما نبَّه صاحب "في الدفاع عن السياسة" على أنَّ فهم السياسة ـ على نحو ما صارت تتحدَّث به صحافة مردوخ، والمماثل للنحو الذي كانت تتحدّث به عنها صحافة الثلاثينيّات من القرن الماضي التهييجيَّة الفضائحيَّة القائمة على مبدأ: "اكتشف، أيُّها السياسي، ما يرغب فيه الناس، وحققه لهم تحقيقاً!" ـ إنَّما هو فهم للسياسة لو اتخذ وطبّق لكان كفيلاً بأن يدمّر المجتمع الحرّ التعدّدي التسامحي المعقد التركيبة لطبع متأصّل فيه، وأن يجعل النزعة الشعبويَّة تجتاج كلّ الدول الاجتياح الذي لا سيطرة عليه.

وثالث الدروس التي يمكن أن يفيدها المرء ممَّا كتبه برنارد كريك في "السياسة" و"الديمقراطيَّة" إنَّما هو انقشاع الوهم الساذج الذي لطالما اعتقد فيه رجال السياسة بالغرب لمّا هم عدّوا أنفسهم دعاة واعظين ومرشدين لغيرهم من الشعوب، وكان أن صيَّروا الديمقراطيَّة دعوة قدسيَّة...وكان أن ذهبوا إلى الاعتقاد بأنَّه يكفي الدول، التي ترغب في التحوُّل إلى الديمقراطيَّة، أن تلجأ إلى الاستعاضة عن طاغية معزول بصندوق انتخابات يراقبه مراقبون أجانب، حتى تستحيل هي، ببركة من الصندوق المقدَّس، إلى ديمقراطيَّة، وأنَّه ما أن يتمّ إنجاز الانتخابات حتى يتفتق المجتمع المدني من تلقاء نفسه أو ينشأ عفو الخاطر، كما تنشأ الفطر هكذا فجأة عن غدارة. وقد نسي هؤلاء أنَّ الاستفتاءات على الشؤون السياسيَّة، مثلما يمكن أن تكون أدوات للديمقراطيَّة، فإنَّه قد يحدث أن تتحوَّل إلى مسرحيّات هزليَّة في أيدي الطغيان. إذ ما فتئ الرجل يذكّرنا، بهذا الصدد، بأنَّ هتلر كان قد حصل من الموافقة الشعبيّة عام 1940 لمواصلة الحرب على عدد أكثر ممَّا كان قد حصل عليه تشرشل في انتخابه!

وهكذا يمضي برنارد كريك قائلاً: "لربَّما كانت الديمقراطيَّة اللفظة الأكثر تشوُّشاً في عالم الشؤون العامَّة". وأطروحته بهذا الصدد بادية منذ البداية: الديمقراطيَّة إن فهم منها بالفهم الوسيلي أنَّها آليَّات تُتَّخذ ـ شأن صناديق الاقتراع ـ غير كافية وحدها. إن هي فهمت الفهم الليبرالي ما كفت: "لئن كانت الديمقراطيَّة، بحسبانها حركة اجتماعيَّة، قد انبغى أن توجد في كلّ أشكال الحكم السياسي الحديثة تقريباً، فإنَّها، إن هي أخذت وحدها منعزلة باعتبارها مسألة مبدأ، قد تدمّر السياسة"، وذلك لأنَّ الغالب عليها أن يفهم منها حكم الأغلبيَّة، كيفما كان رأي هذه الأغلبيَّة، أشيوعيَّة كانت أم فاشستيَّة أم غير ذلك...، وفي هذه الحال، فإنَّ: "الحاجة إلى الديمقراطيَّة، وقد تمَّ عدُّها مجرَّد آلة حكم، من شأنها أن تخلق الحاجة إلى صنع الشعبيَّة، ودغدغة عواطف الجماهير ـ وذاك هو جوهر الشعبويَّة ـ وصنع التوافق المزيّف، وتدمير كلّ معارضة"[8]. ومن هناك، فإنَّ من شأن هذه الأنظمة المدعوَّة "ديمقراطيَّة"، وقد استبدَّت بها فورة الشعبويَّة وحميّتها، ألّا تؤدي بالأنظمة الحرَّة إلى الاستقرار، وإنَّما بالضدّ من ذلك أن تقوّي الأنظمة غير الحرَّة، بل هي التي من أمرها أن تجعل التوتاليتاريَّة ـ الأنظمة الشموليَّة أو الكليانيَّة (أنظمة هتلر وموسوليني وستالين النازيَّة والفاشيَّة والشيوعيَّة) ـ أمراً ممكناً. وقد عبَّر المفكّر السياسي عن هذه المسألة بالعبارة: "من شأن الديمقراطيَّة أن تكون غيورة من الحريَّة السياسيَّة، ومن أمر الحريَّة السياسيَّة أن تخشى الديمقراطيَّة". وكان أن استشهد لهذه المناسبة برأي المفكّر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل (1805-1859) الذي يقول فيه: "لئن هو حدث أن تحطَّمت مؤسَّسات أمريكا الحرَّة، فإنَّه ينبغي عزو ذلك إلى القدرة الخارقة التي تملكها الأغلبيَّة". ثمَّ إنَّه خلص إلى القول في أمر فصل المقال في ما بين الديمقراطيَّة والسياسة من اتّصال وانفصال: "فإذن، الديمقراطيَّة ـ إن نحن نسبنا إليها أجمل المعاني التي نودّ أن ننسبها إليها ـ إن كنّا نقدّر الحريَّة والاختيار الحرّ والنقاش والمعارضة والحكم الشعبي، كلّ هذه الأشياء مجتمعة، إنَّما هي شكل من أشكال الحكم، وليست شيئاً يمكن تأميله في كلّ مرحلة من مراحل تطوُّر بلد أو في كلّ ظرف أيّاً كان. وعادة ما تعني السياسة الاكتفاء بأقلّ ممَّا نرغب فيه، وذلك لأنَّنا نرغب أيضاً في أن نحيا من غير عنف أو خوف دائم من العنف الذي قد يواجهنا به أناس يريدون أشياء أخرى. لكنَّ الديمقراطيَّة، بمعناها التاريخي والسوسيولوجي الأوضح، إنَّما هي سمة من سمات الحكومات الحديثة، أكانت حرَّة أم غير حرَّة"[9].

وبالجملة، حين يكون من الممكن أن تمسي الديمقراطيَّة متوائمة مع السياسة، فإنَّ السياسة، بالفعل، تضحي لا تأمل أن توجد من دون الديمقراطيَّة؛ لكنَّ السياسة تحتاج إلى أن يدافع عنها في العديد من الأحايين ضدّ الادّعاءات الحصريَّة للعديد من تصوُّرات الديمقراطيَّة التي يمكن أن تقود إمَّا إلى استبداديَّة ديمقراطيَّات الشعب ـ الديمقراطيَّات الشعبيَّة [الشعبويَّة] ـ أو إلى فوضى سياسيَّة عارمة...، ذلك أنَّ الديمقراطيَّة محض عنصر ضمن عناصر السياسة، فإن هي سعت إلى أن تستحيل كلَّ شيء، دمَّرت وقتها السياسة، محوّلة بذلك التناغم الاجتماعي والقيمي المطلوب إلى توحيد قسري عنيف.

[1]. نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13

[2]. Angel Jaramillo Torres and Marc Benjamin Sable (Editors), Trump and Political Philosophy, Leadership, Statesmanship and Tyranny, Palgrave Macmillan, 2018, p.97.

[3]. Ibid, p. 237.

[4]. Jan-Werner Müller, Qu’est ce que le populisme ? Définir enfin la menace, Premier Parallèle, 2016.

[5]. Chantal Mouffe, L’illusion du consensus, Paris: Albin Michel, 2016, p. 53 sq.

[6]. William Waldgrave, “Why We Still Need Bernard Crick”, in the Political Quarterly, Vol. 83, No. 4, October–December 2012.

[7]. Bernard Crick, in defence of politics, the University of Chicago press, Chicago/London, 1962, p16-17.

[8]. Ibid, p 54.

[9]. Ibid, p 68.