العادِيات ضَبْحاً أَم الغادِيات صُبْحاً؟ قراءة بديلة لبعض الآيات القرآنيّة


فئة :  حوارات

العادِيات ضَبْحاً أَم الغادِيات صُبْحاً؟ قراءة بديلة لبعض الآيات القرآنيّة

العادِيات ضَبْحاً أَم الغادِيات صُبْحاً؟ قراءة بديلة لبعض الآيات القرآنيّة[1]

المشاركون في الندوة:

 د. حسام الدين درويش - د. منذر يونس - د. ميادة كيالي

الدكتورة ميادة كيالي:

يسعدني أن أرحّب بكم في انطلاقة هذه السلسلة من النشاطات والفعاليات الجديدة، التي تسعى مؤسسة مؤمنون بلا حدود إلى تنظيمها حتى نهاية العام؛ وذلك بتغطية حوارات مع مؤلفي آخر إصدارات المؤسسة، ومن خلال ندوات شهرية.

لقد تبلورت فكرة اللقاءات، بعد نجاح سلسلةٍ من النشاطات التي أبدعنا فيها منذ العام الماضي بمعية د. حسام الدين درويش؛ إذ تم استغلال فترة المعارض لنلتقي بأصدقائنا المؤلفين والمفكرين المتعطشين للاشتغال مع مؤمنون بلا حدود، ومن خلالها. وعلى الرغم من الركود الذي سببته جائحة كورونا على المشهد الثقافي عموماً، حافظت المؤسسة، خلال هذه الفترة الصعبة، على رصيدٍ ممتازٍ من الإنتاج المعرفي، وتابعت رسالتها رغم كلّ الصعوبات، حيث أصدرت عناوين تصدرت اللوائح في العديد من دورات جوائز الكتاب للكتب العربية. وقد شهد لنا كبار المفكرين والمثقفين على هذا الدور البناء في بناء الإنسان، وتوعيته، في المجالين الثقافي والمعرفي بشكلٍ عامٍّ، والديني بشكلٍ خاصٍّ.

لقد حازت مؤسسة مؤمنون، أيضاً، ثقةً واحتراماً لافتين على الصعيد الغربي. وهذا شيءٌ لمسته خلال الفترة الماضية من حرص أسماءٍ كبيرةٍ من المؤلفين ودور النشر والجامعات الغربية على التعاون معنا، وإنتاج ترجماتٍ مهمّةٍ ومتميزةٍ. واليوم، نبدأ رحلةً جديدةً، على تطبيق «زوم»، مع بثٍّ مباشرٍ على صفحة المؤسسة على فيسبوك، انطلاقاً من إيماننا الراسخ غير المحدود بأهمية الوعي المعرفي الجاد الذي ينقل الإنسان من براثن الجهل إلى قلب المعرفة النابض بقيم الإنسانية النبيلة. وسنواصل هذا النشاط الثقافي، بعد التزامنا بإصدار الكتب القيمة ما بين تأليفٍ وترجماتٍ، وسنفتح باب النقاش والحوار، مستضيفين كتّاباً وباحثين، لتبادل النقاش المعرفي الرصين حول أهم القضايا التي اشتغلت عليها المؤسسة معرفيّاً وأكاديميّاً. وأريد التشديد على موضوعٍ مهمٍّ هو أن «مؤمنون» مؤسسةٌ أكاديميةٌ تستقبل الأعمال والبحوث الرصينة، وتشتغل عليها، لتقدمها لأوسع شريحةٍ ممكنةٍ من جمهورها، من باحثين وطلاب ومهتمين، من خلال تنظيم حواراتٍ وندواتٍ، وسنقدمها اليوم عبر التطبيق، لطرح الأفكار بكلّ أمانةٍ وصدقٍ، وسعياً إلى فسح المجال لتلاقح الأفكار وتطويرها، من دون أن يعني أن ما نقدمه يعبر بالضرورة عنا؛ إذ إن ما يعبر عن «مؤمنون» هو الإيمان بالعلم والمعرفة وصناعة الفكر الحر.

هذا اللقاء اليوم هو أول اللقاءات عبر منصة «زوم»؛ فقد وضعنا جدولاً للحوارات والندوات التي ستنظمها مؤسسة مؤمنون، وهو جدولٌ قابل للتوسع؛ أي لن يكون نهائيّاً، ويمكن إن شاء الله، أن يتحقق ذلك بجهود الأصدقاء والمهتمين جميعاً، لنضيف فقراتٍ من الندوات والمشاريع.

نستضيف اليوم الدكتور منذر يونس، وسيحاوره د. حسام الدين درويش، لإثراء النقاش، وتسليط الضوء على إصداره الجديد، «العاديات ضبحاً». وقبل البدء بالحديث عن الكتاب، اسمحوا لي أن أرحب بانضمام د. حسام الدين درويش إلى فريق مؤمنون بلا حدود، بشكل رسمي، حيث كان في البداية ضيفاً، ثم تحوّل إلى أحد العناصر الرئيسة في مؤمنون بلا حدود، وسيسهم في هذه الندوات والفعاليات، بجهوده وإمكاناته العلمية والعملية التي وضعها تحت تصرفنا. ولقد كنت وإياه في الإعداد والتنسيق للحلقات الحوارية، والتي سيستمر برنامجها بجهودنا وجهودكم إلى نهاية العام، ويمكن في العام القادم، أيضاً. وسنعمل على توسيع هذه الحوارات وتحويلها إلى مادةٍ مكتوبةٍ؛ لأننا نفكر في الاشتغال على هذه اللقاءات، لإضاءة إصداراتنا الجديدة من المشاريع البحثية والكتب وكل نشاطاتنا، لمزيدٍ من الاستفادة.

نرحّب بكل الأصدقاء والمهتمين، وكل السّعداء بعودة النشاط وتجدد الدماء في عروق مؤمنون بلا حدود بعد سنواتٍ عجافٍ امتدت من وباء كورونا وتأثرت حتى اليوم بوباء العنف والقهر والظلم الذي أثر في المشهد الثقافي عموماً، وأسهم في إحباط مسيرة التقدم نحو الأمام. وكما قلت، فإن إيماننا اللامحدود بالمعرفة وبناء الإنسان الواعي هو الذي دفعنا إلى الاستمرار والرهان على هذا الوعي وعلى قيمة المعرفة بشكل عامٍّ. و أجدّد الترحيب بكل فريق مؤمنون بلا حدود المصغر، وفيه نبض المؤسسة. وإنني سعيدة بالرجوع إلى إحياء هذه اللقاءات من جديدٍ، وإن شاء الله، نتمنى أن تنجح وتستمر.

إذن، البداية اليوم، ستكون مع أحدث إصدارات مؤمنون بلا حدود، وهو كتاب «العادِيات ضَبْحاً أَم الغادِيات صُبْحاً؟ قراءةٌ بديلةٌ لبعض الآيات القرآنيّة»، وهو من الكتب المترجمة؛ لأنه كُتب باللغة الإنجليزية، وترجمه الأستاذ علي بن رجب، وهو من تونس، بتعاون وإشراف الدكتور منذر يونس. وكم هو مهمٌّ أن يكون بين المترجم والمؤلف هذا التناغم والمعرفة باللغة الأم، واللغة المترجمة منها وإليها. وقد حصل هذا في أكثر من حالة من الكتب المترجمة لدى «مؤمنون». وقد شكلت الترجمة في مؤمنون بلا حدود، خلال الأربع سنوات تقريباً ما يزيد عن 30 أو 40 في المئة من إصدارات المؤسسة، بعناوين مهمّةٍ وصلت للقائمة الطويلة والقصيرة في دورات جوائز عديدةٍ.

«العاديات ضبحا أم الغاديات صبحا»، هو عنوانٌ في صيغة سؤالٍ، يخلق لدى المتلقي العديد من الأسئلة؛ كيف، وهل يجوز، ولماذا تتزاحم تلك الأسئلة لفهم آليات هذه القراءة والمنهج المتبع؟ وإلى ماذا استند صاحبها؟ والسؤال الأهم: ما الهدف من هذه الدراسة؟ ويروي الدكتور منذر يونس، في التمهيد لكتابه، سيرةً موجزةً من حياته، والتي تعكس التربية الدينية والعلاقة مع القرآن منذ الصغر ما بين البيت والمدرسة، وسأحاول تلخيص هذا التمهيد؛ لأنني أحببته جدّاً، وفيه فائدةٌ ليكون مدخلنا للبدء بالحوار.

كلنا، على ما أعتقد، نحمل ذكرياتٍ من الطفولة، حول قضايا الدين وتعليم الدين. وقد تختلف من ذكرياتٍ حميدةٍ إلى أخرى صعبةٍ. ففي البيت، كان الدكتور منذر يحفظ القرآن عن والده، وهو طفلٌ صغيرٌ. حفظ قصار السور، المتعارف على تلقينها للأطفال، وحفظها، قبل سنّ التمدرس. ولكن حتى هذه الآيات تركت في ذاكرته بعض الكلمات الغامضة واستفهاماتٍ وجب عليه فهمها بطريقةٍ أو بأخرى. ذهب إلى المدرسة الابتدائية، والجميع يعرف من الأجيال السابقة، ومنها جيلنا، طبيعة التعليم الموصوف بالتشدد عموماً. فما بالنا بقضايا الدين. يروي المؤلف حادثةً حصلت مع أحد أصدقائه؛ وقد كان طفلاً، في الصف الثاني الابتدائي، تلعثم في قراءة سورة التين، واختتمها بمقولةٍ ألهبت وأغضبت المعلم، وأدت إلى عقوبته بالجلد، وهو طفلٌ لا يعرف ولا يعي فداحة الخطأ الذي ارتكبه حتى يستحقّ هذه العقوبة.

انتهت مرحلة الدراسة، وتخصص منذر في اللغة العربية، ثم جذبته اللغة السريانية واللغة العبرية، لإيمانه العميق بأن هناك علاقةً وثيقةً بين اللغات الثلاث. حتى إنه، في كتابه، يقول إن اللغتين العبرية والسريانية شقيقتا اللغة العربية. بدأت تجربته المهمة بالبحث في المفردة القرآنية، حين أصبح مدرّساً للغة العربية في جامعةٍ أمريكيةٍ، حيث طلب منه أحد الطلاب، ممن لديهم خلفيةٌ إسلاميةٌ، أن يقدم مساقاً دراسيّاً يساعدهم على فهم لغة القرآن. فقرر التركيز، في هذا المساق، على قصار السور من جزء عمّ، وهو جزءٌ يحتوي على السور الصغيرة، والتي تحوي إيقاعاً معيناً يساهم ويساعد، في حفظها، بشكلٍ كبيرٍ. وغالباً ما تكون مألوفةً لدى الطلاب الذين يحفظونها ويتلونها في صلواتهم. من جهةٍ أخرى، هذه السُّور أيضاً فيها بعض الكلمات التي يشوبها بعض الغموض، مما شكل نوعاً من التحدّي والرغبة لدى الدكتور منذر، حتى يستجلي هذا الغموض، ويحاول أن يستكشف كنه هذه الكلمات. وقد بدأ، بالفعل، تدريس هذا المساق على أمل الفهم أو الوصول إلى فهمٍ أوسع، قصد حلّ مشكلة هذا الغموض. وقد استند في ذلك إلى عددٍ من التفاسير والترجمات والقواميس؛ لكن، لم يحصل على شيءٍ يرضيه في خصوص ما يبحث عنه. بحث في كلماتٍ مثل إيلاف، العاديات، كنود وغيرها، ولم يستطع حلّ ألغازها. فتعمق في الدراسة أكثر، وعاد إلى التفاسير والمصادر الإسلامية، مثل الطبري ومجاهد والفراء وغيرهم. كما اطَّلع على الأعمال التي استخدمها كثير من المسلمين، وبعد بحثٍ وجهدٍ طويلين، توصل إلى ما توصل إليه اليوم، وهو موضوع حوارنا ونقاشه.

لقد قدم منذر يونس، بالنتيجة، في عمله، قراءةً بديلةً لما ورد في بعض السور القرآنية، مثل كلمة إيلاف في سورة قريش، وقراءة بديلة لسورة البلد، وللآيات الخمس الأولى من سورة النازعات، بالإضافة إلى سورة العاديات التي قدم فيها قراءة جديدة للعاديات ضبحا، وقد كانت موضوع وعنوان الكتاب، الذي قدمه، بناءً على منهجيةٍ متماسكة العناصر، في ثمانية فصولٍ.

وأودّ الإشارة إلى أن الترجمة العربية زادت فصلين على المادة الأصلية للكتاب، لضرورة التوجه للقارئ العربي. فكان الفصل الأول هو المقدمة، وشمل الفصل الثاني كلمات: نِعمة، أُلفة، لُزوم، عادة - أم سفينة؟ قراءة بديلة لكلمة «إيلاف» في سورة قريش. وتضمن الفصل الثالث: ثديا الأمّ، أم طريق الخير والشرّ: قراءة بديلة لسورة «البلد». أما الفصل الرابع، فعنونه ب: الملائكة، الموت، النجوم، النفس، القِسِيّ، الأوهاق، السفُن، الخيل-أم النساء؟ الآيات الخمس الأولى من سورة النازعات. وتضمن الفصل الخامس: العاديات ضبحاً أم الغاديات صبحاً؟ قراءة بديلة لسورة العاديات. أما الفصل السادس، فشمل الحديث عن الأصل والمُضاف في النصّ القرآني، وتناول الفصل السابع دور المفسّرين وأهل اللغة في فرض معانٍ وطمس غيرها. أما الفصل الثامن، فجاء في صيغة خاتمةٍ. العديد من الأسئلة تخطر في البال، منذ البداية، والتي نضعها منذ قراءة العنوان، في عهدة المحاور. أختم بما ختم به الدكتور منذر خاتمة الكتاب: مسألة الاختلاف على كلمات، مثل كلمة إيلاف أو كبد أو برهان هي كلمات عربية قديمة، مشتركة ما بين واحدةٍ أو أكثر من أخواتها من اللغات السامية؛ أو هو استعارة أو تمت استعارتها، هي ليست مشكلةً (كبيرةً)، بل هي مسألةٌ ثانويةٌ لا تهمنا كثيراً. ما يهمنا، اليوم، ونراه أساساً في بحثنا، هو ما يمكن أن يساعدنا، بالدرجة الأولى، في الوصول إلى فهمٍ أفضل للنص القرآني ورسالته.

أعطي الكلمة للدكتور حسام الدين درويش، وأشكر كلّ الذين لبّوا نداءنا للحضور ومشاركتنا اليوم هذا اللقاء، متابعة شائقة، وأهلاً وسهلاً.

د. حسام الدين درويش:

شكراً دكتورة ميادة على تقديمك لسلسلة الندوات عموماً، وللكتاب وللدكتور منذر. يمكن القول إننا لا نعرف متى ستنتهي هذه السلسلة، ولا نبحث عن مثل هذه المعرفة، ولا عن الختام المسك لها. ما نبحث عنه هو البداية المسك مع الدكتور منذر. ومع هذا التقديم، أشكر كلّ من حضر، وكل مهتمٍّ. في البداية، سأحاول أن أعطي فكرةً عن مسار الندوة اليوم؛ إذ سأبدأ بإعطاء الكلمة للدكتور منذر، حيث سأطرح عليه بعض الأسئلة العامة والأساسية، ليقدم كتابه، ويقدم فكرةً عن مضمونه وأفكاره العامة والأساسية، ثم سأطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات النقدية التي تأخذ في الحسبان وجهات نظرٍ مختلفةٍ.

مرحباً دكتور منذر، أعتذر عن التأخر.

السؤال الأول والأساسي الذي يمكن طرحه هو عن قصة هذا الكتاب: متى، وكيف ظهرت فكرته الأساسية؟ وكيف تبلورت إلى أن تحولت بالفعل إلى نصوصٍ أو مقالات أو أبحاث؟ ثم كيف صدر الكتاب باللغة الإنجليزية، وما كان مسار ترجمته إلى اللغة العربية؟ وهل يمكن عد النسخة العربية كتاباً جديداً بمعنىً ما، بسبب اختلاف العنوان والمضامين والإضافات؟ هل يمكن أن تحكي لنا قصته، كي يتعرف الناس عليه، وتكون لديهم رغبة في قراءته؟ ويمكن أن يكون لقاء اليوم فرصةً، ليطلعوا على مضمونه.

د. منذر يونس:

أول شيءٍ، شكراً لك دكتور حسام، والشكر موصول للدكتورة ميادة على المقدمة الجميلة جدّاً، وهي مقدمةٌ شملت تقريباً تاريخ الكتاب. لذلك، لن تكون هناك أشياء كثيرةٌ يمكنني إضافتها؛ فكل ما ذكرته صحيحٌ، فيما يخص علاقتي بالموضوع، وتطور فكرته.

فمنذ صغري وأنا عندي اهتمامٌ قويٌّ وتساؤلات كثيرة عن أشياء في القرآن، خصوصاً كلمات وتعابير واجهتُ صعوبة في فهمها، ولم أجد لها إجاباتٍ واضحةً مقنعةً. سأبدأ، من هنا، من جامعة كورنيل، حيث طلب منّي بعض الطلاب المسلمين غير العرب تقديم مادّةٍ خاصّةٍ تساعدهم في فهم لغة القرآن. طلبوا هذا منّي، بصفتي مدرّساً للغة العربيّة، ومديراً لبرنامج اللغة العربيّة في الجامعة، وأذكر أنّه كان هناك طلاب من باكستان وأندونيسيا وتركيا والبوسنة؛ هناك طلابٌ كثيرون مثل هؤلاء الطلّاب في الجامعات الأمريكيّة من كلّ بلاد العالم تقريباً. عندما شكّلت أوّل صفٍّ كان هناك ستة طلابٍ، سألتهم ماذا يريدون منّي بالضبط، فقالوا إنّهم يقرؤون القرآن ويحفظونه بشكلٍ جيّدٍ، ويقرؤون الترجمة الإنجليزية، ولكن لا يفهمون أبسط الكلمات، مثل «قُل، يوم، منه، لَم، الناس، شرّ، خير»؛ أي إنهم يحفظون من دون فهم كثيرٍ من الكلمات والتعابير. عندما قمت بتجميع مادّة الكتاب، قررت أن أستعمل السور القصيرة؛ أي سور جزء «عمّ»، كما تفضلت الدكتورة ميادة. اخترت جزء «عمّ» لعدة أسباب؛ أولاً، لأنها سورٌ قصيرةٌ وسهلة الحفظ، وثانياً، هي ما يستعمل الطلاب الذين أدرّسهم أصلاً في صلواتهم؛ أي إنّهم يعرفون سوراً مثل الفاتحة، الناس، الفلق، والتوحيد، وغيرها من السور القصيرة. إضافةً إلى ذلك، كنت ولا زلت أحاول، منذ مدةٍ، فهم كثير من أسرار الكلمات في هذه السور، مثل عبارة العاديات ضبحاً، أو كلمة كنود، أو كلمة إيلاف وغيرها. كلمات كثيرة كنت أسمعها وأنا طفلٌ، وبعد دخولي المدرسة، وكنت أسأل الناس عن معانيها، ولم يعطني أحدٌ إجابةً مقنعةً.

بدأت تدريس المادة. ولما كان الطلاب يسألونني عن معاني بعض هذه الكلمات الصعبة، كنت أحرَج وأعطيهم المعنى المتعارف عليه، كما هو في الترجمات الإنجليزيّة، ولكنني لم أكن مقتنعاً بتلك المعاني. مثلاً، عندما كنت أحاول شرح كلمة إيلاف في سورة قريش، لم أجد في الترجمات شيئاً مقنعاً، من الناحية اللغويّة، ومن خلال سياق السورة.

بدأت أنظر في التفاسير المعروفة مثل تفسير الطبري، للحصول على إجاباتٍ أكثر إقناعاً ممّا هو موجودٌ في الترجمات الإنجليزيّة. وجدت أن التفاسير ليست مقنعةً أيضاً، ولكن كان هناك اختلافٌ بين الترجمات الإنجليزيّة والتفاسير؛ ففي حين تعطيك الترجمات معنىً واحداً للآية أو الكلمة، تقدّم التفاسير عدّة احتمالاتٍ. وأحياناً تجد المفسّرين يقولون: «والله أعلم».

من الأشياء التي لفتت نظري شيءٌ كتبه الطبري في تفسير سورة البلد. كان عندي شعورٌ، كلّما قرأت السورة قبل قراءة الطبري، أنّ كلمة النجدين في «وهديناه النجدين» لا يمكن أن تعني «طريق الخير وطريق الشرّ» كما هو متعارف عليه. لماذا؟ تقول السورة: «ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين». كنت أقول لنفسي: ألا تكون الهداية طريقاً واحداً، وليس طريقين متناقضين؟ كيف يمكن أن تعني الكلمة طريق الخير وطريق الشرّ؟ وأيضاً، لماذا هذه النقلة من أجزاء جسم الإنسان ومعجزات الخلق، العينين واللسان والشفتين، إلى طريق الخير وطريق الشرّ؟ كان عندي زميلٌ في الجامعة مهتمّ بالدراسات القرآنيّة ومطّلعٌ على أجزاءٍ كبيرةٍ منها، كنّا نتحدّث عن المادّة والسورة بشكل محدّد، فقلت له: أبايعك أنّ كلمة النجدين تشير إلى ثديي الأمّ. ونظرنا في تفسير الطبري، وإذا به يقول، حرفيّاً، في بداية تفسيره لآية «وهديناه النجدين»: «والنجدين ليسا بالثديين». بدا لي تفسير الطبري عندها أشبه بطفل عمل شيئاً كان من الخطأ عمله، ككسر شبّاك على سبيل المثال، ولا يعرف أحد أنه كسر الشباك، ويريد الإنكار، رغم أنّه لا أحد يعرف ذلك. في رأيي مثل ذلك الإنكار هو نوع من الاعتراف، وإلا لماذا يُذكر؟ ويرجع الطبري ويكرّر المقولة في رواية الأحاديث عدة مرات؛ إذ يقول: عن فلان وعن فلان النجدين ليسا بالثديين، وإنّما طريق الخير وطريق الشرّ.

عند ذلك، تأكّدت أنّ حدسي عن معنى الكلمة كان في محلّه، وأنّ تفسير «الثديين» ينسجم انسجاماً كاملاً مع الآيات السابقة: معجزات العينين والرؤية، واللسان والشفتين، وأهمّيتهما في حياة الإنسان وهداية الرضيع إلى ثديي أمّه. انظر إلى هذه المعجزات: هل هناك ما هو أكثر إعجازاً من المولود الذي ينزل من بطن أمّه، وخلال وقت قصير يبدأ البحث عن ثديها ليرضع، سواء كان إنساناً أم حيواناً.

تولّدت عندي ثقة بعد أن صدق حدسي في فهم لغة القرآن، لتحدّي التفاسير والترجمات التقليديّة. بدأت أبحث في المصادر عن معانٍ بديلة للكلمات والعبارات التي حيّرتني منذ طفولتي: مثل العاديات ضبحاً، نقعاً، كنود، إيلاف، النازعات غرقاً، وغيرها. وبدأت أتساءل، وبجرأةٍ أكبر، كيف يكون معنى كنود الكفور الجاحد، وبعدها تأتي آية «وإنّه لحبّ الخير لشديد»؟ وكيف يمكن لكلمة نقعاً أن تعني الغبار، مع أنني لم أجد أو أسمع لها استعمالاً، بهذا المعنى، خارج هذه السورة؟ فالفعل نقَعَ والاسم نقْع، كما نعرفهما، يستعملان بمعنى نقع الملابس في الماء، وليس الغبار.

وسّعت دائرة بحثي، وبدأت أدرس ما كتبه الباحثون الأوروبيّون؛ أي من نسمّيهم بالمستشرقين، واطّلعت على عددٍ من الكتُب التي تُحاول فهم لغة القرآن. من هؤلاء الباحثين «غنتر لولنغ» الذي قال إنّ جزءاً كبيراً من القرآن كان يتكوّن من أناشيد دينيّةٍ أعيدت صياغتها بإعادة تنقيطيها. وأضاف أنه يجب قراءة القرآن من دون النقط، كما جاء في الرسم العثماني. وقادني ما كتبه لولنغ إلى كتاب «السبعة في القراءات» لابن مجاهد، حيث يمكن قراءة النصّ بعدّة طرائق شريطة الالتزام بالرسم العثماني.

د. حسام الدين درويش:

اسمح لي دكتور منذر - بما أنك ذكرت وجود الدراسات السابقة - بالإشارة إلى أننا نتحدث عن مسألةٍ تبدو بالنسبة إلى بعض الناس بديهيةً، ولا تحتاج إلى الحديث عنها أصلاً، من ناحيةٍ. لكنها تبدو، من ناحيةٍ أخرى، إشكاليةً وخلافيةً. ما أريد قوله هو أنه إذا أردنا وضع كتابك في السياق التاريخي، فهو يتابع نقاشاتٍ أو نصوصاً أو أبحاثاً موجودة في تاريخ (وحاضر) العالم الإسلامي وغير الإسلامي؛ أي إن المسلمين الأوائل كانت لديهم مثل هذه النقاشات والقراءات والاختلافات والتعددية من جهةٍ، كما أن بحثك هو متابعةٌ لأبحاثٍ علميةٍ رصينةٍ معاصرةٍ من جهةٍ أخرى.

إذا أردنا وضع بحثك في هذا السياق التاريخي، ينبغي التشديد على أن الاختلاف في القراءات والتفسيرات موجودٌ مسبقاً، وأن ما تقدمه ليس بدعةً، ومن ثم ليس ضلالةً، حتى من منظور المتزمتين. فأنت، في هذا الخصوص، لم تقدم بدعةً جديدةً لم يسبقك إليها أحد، ولم تستحدث شيئاً لم يكن له سابقٌ. فهذا الاختلاف عريقٌ من ناحيةٍ أولى. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو أن مقبولية التعدد كانت سابقاً أكبر بكثير مما هي عليه الآن، حيث يهيمن نفي أو إنكار التعددية، ويحوَّل المعنى إلى «واحدٍ أحدٍ»؛ أي يصبح المعنى واحداً أصلاً، مثل الإله الواحد. فالوحدانية في المعنى أصبحت تشبه الوحدانية في الألوهية. ما قولك في هذه المسألة، إذا ما وضعنا كلّ هذه الأمور في السياق التاريخي؟

د. منذر يونس:

طبعاً، لدينا الدراسات الإسلامية الأولى؛ التفاسير الأولى، وكانت هناك تعدديةٌ كثيرةٌ، وقراءاتٌ متعددةٌ. وبعد ذلك، تم حصرها في سبع قراءاتٍ، في القرن العاشر الميلادي. ومن أشهر من كتبوا، في هذا المجال، نذكر ابن مجاهد، في كتابه «السبعة في القراءات». فعلاً، كانت تعدديةٌ واختلافات، لكن حسب ما يقول تيودور نولدكه، فإن (معظم) الاختلافات الموجودة في كتاب ابن مجاهد اختلافاتٌ قليلةٌ وجانبيّةٌ. ويبدو أنه تم التخلص من الاختلافات المهمة قبل ذلك؛ إذ لا نجد اختلافاتٍ كثيرةً في كتاب ابن مجاهد، بل ما نجده هو اختلافاتٌ في النقط أو الحركات الإعرابية، فقط.

في الوقت الراهن، لا توجد في العالم العربي، بشكلٍ عامٍّ، دراساتٌ مشابهةٌ، مثل دراسة لولنغ وغيره من المستشرقين. فكتاب لولنغ هو الذي لفت نظري إلى مسألة النقط، حيث قال إنه، في البداية، لم تكن توجد نقط في القرآن. ومن خلال لولنغ تعرفت على ابن مجاهد، واكتشفت أنه فعلاً كانت هناك قراءات مختلفة. فكان المبدأ أنه ما دام الرسم واحداً، فمن الممكن أن يُقرأ بطرائق مختلفةٍ: «يعلمون» «تعلمون»، «نعلم»، «تعلم»، «فتبينوا»، «فتثبتوا»، وهكذا. يمكن القول وباختصار: نعم، كانت هناك تعدّديّةٌ في القراءات أكثر بكثيرٍ ممّا هو موجود الآن. أما اليوم، فهناك قراءةٌ واحدةٌ، لا يمكن الاختلاف معها.

د. حسام الدين درويش:

يعني أنت توافق توماس باور الذي يقول، وأنا هنا أنقل النص حرفيّاً من كتابه «ثقافة الالتباس: نحو تاريخٍ آخر للإسلام»: «بينما كان علماء القرن الرابع عشر يعتبرون تعددية النص القرآني إثراء، يعتبر المسلمون اليوم وجود قراءة مختلفة للقرآن في الغالب شيئاً غير مرغوب فيه، وبينما يرحّب علماء الإسلام التقليدي بتعدد إمكانات تفسير القرآن، يعتقد مفسرو القرآن الحاليّون، سواء في الغرب أو في الشرق، سواء كانوا أصوليين أو إصلاحيين بأنهم يعلمون بالضبط ما هو المعنى الوحيد الحقيقي لموضعٍ قرآنيٍّ ما، وبينما كان اختلاف علماء الرأي في العصور الأولى، بناءً على حديثٍ معروفٍ للنبي، رحمةً للأمة، تعدّ عند كثيرين 'شرّاً لا بد من استئصاله'».

نحن نتحدث عن هذا الاختلاف، على الرغم من أن ابن مجاهد الذي تحدثت عنه، والذي اتخذ مسافةً من السلطة السياسية، كان يستعين بتلك السلطة في «القضاء» على خصومه، أو على من لا تعجبه قراءتهم، فقد كان يقوم بالتبليغ عنهم للسلطة السياسية، التي تقوم بحجزهم واعتقالهم واستتابتهم، لكي يعودوا عن قراءاتهم أو تفسيراتهم المختلفة. وعلى الرغم من ذلك كله، يمكننا أن نتحدث عن وجود تعدديةٍ، وقبول بمشروعية هذه التعددية في ذلك العصر. وعلى العكس من النظرة التقدمية للتاريخ، ووفقاً للمقارنة التي يقدمها توماس باور، نجد أن العالم الإسلامي في حالة انحدارٍ وتقهقرٍ في هذا الخصوص، مع العلم أن اتجاهاً مهيمناً في العالم الإسلامي المعاصر لا يصدق أصلاً أنه كانت هناك في الماضي مثل هذه التعددية، فهم لا يقتصرون على عدم قبولها، بل ينكرونها أيضاً. ما رؤيتك لهذه المسائل؟

د. منذر يونس:

أعتقد - وأنا أخرج الآن عن التحليل اللغوي البحت - أنّ قبول التعدّدية في العصور الإسلاميّة الأولى كان ناجماً عن ثقةٍ مبنيّةٍ على قوّة المسلمين والدولة الإسلاميّة في تلك العصور. فالقوّة تعطيك الثقة التي لا تشعر معها بالتهديد ممّا حولك، بعكس ما هو حاصلٌ الآن، حيث العرب والمسلمون، بشكلٍ عامٍّ، في حالة ضعفٍ أمام الأمم الأخرى، ويخافون من كلّ أنواع الاختلاف والتعدّديّة، ولكني أفضّل أن أترك مثل هذه الأمور لغيري من المختصّين، كالمؤرّخين وخبراء علم الاجتماع والنفس.

د. حسام الدين درويش:

ليست هناك مشكلة، لكنك تناولت هذا الجانب بطريقةٍ أو بأخرى، عندما حاولت تفسير أسباب التحريف. فحينها، كنت تتساءل: هل هو خطأٌ مقصودٌ أم غير مقصودٍ؟ هل هو ناتجٌ عن جهلٍ أم هو تغييرٌ مقصودٌ وهادفٌ؟ وقد رجحتَ، أحياناً، أنه ناتجٌ عن جهلٍ، لكنك، في أحيانٍ أخرى، رأيت أنه مقصودٌ لأسبابٍ مختلفةٍ. وهذا هو رأيك في خصوص المسائل المتعلقة بالمرأة عموماً، حيث رجّحت أن التغيير كان بغرض الحد من حضور أو بروز الصورة الفاعلة والإيجابية للمرأة. وهذا يعني أنك عندما تناولت اختلاف القراءات والجانب اللغوي فسرت ذلك، أحياناً، بمسائل غير لغويةٍ.

د. منذر يونس:

ربّما كانت هناك أخطاء، وربّما كان هناك جهلٌ في فهم بعض الكلمات أو النصوص، ولكنّي أرجّح أنَّه، في حالاتٍ كثيرةٍ، كان هناك أجندةٌ معيّنةٌ عمل المفسرون على تطبيقها. عندما تقرأ سورة النازعات مثلاً، يقول المفسّرون إنّ النازعات ربّما تشير إلى الموت أو النجوم أو النفس أو الأوهاق أو السفُن أو الخيل، ولا يذكرون النساء كخيارٍ محتملٍ من هذه الخيارات. في حين أنّه عندما نستعمل اسم الفاعل في صيغة جمع المؤنّث التي تنتهي بــــــــــــ«ات» كما في مؤمنات وكاتبات وعاملات، يخطر على بال الإنسان العربي فوراً أن الحديث هو عن النساء. السؤال، إذن، لماذا تمّ تجنّب الحديث عن النساء بالتحديد، في هذا السياق؟ طبعاً، لا يمكنني إعطاء إجابةٍ كافيةٍ شافيةٍ مئة بالمئة، فأنا لست متأكّداً من صحّتها؛ لأنه ليست لدينا أدلّةٌ أثريّةٌ أو نصوصٌ أو مخطوطاتٌ قديمةٌ تدعم نظريّتي. يمكن، طبعاً، أن نعثر على نصوصٍ أو مخطوطاتٍ قديمةٍ في المستقبل، لكن الآن ليس عندنا غير هذه الآيات والنصوص التي أحاول أن أعيد قراءتها بشكلٍ متّسقٍ من الناحية اللغويّة، ومن حيث المنطق اللغوي والفهم الإنساني للغة. يبدو لي، من قراءتي، أنه كان هناك اتجاهٌ لهذا النوع من الأجندة التي تعارض النساء، أو تهدف إلى إبعادهنّ عن المجال العام. طبعاً، أنا متأكّدٌ أنّ هناك من سيعمل، جاهداً، لتفنيد هذه الظاهرة. لكن إذا نظرنا، بموضوعيّةٍ ودون تحيّز، نجد أنه عندما يؤذّن المؤذن يتوجه الرجال فقط إلى الصلاة. لماذا؟ يجب أن تُطرح هذه الأسئلة، وأن نحاول الإجابة عنها. إجابتي عنها من خلال إعادة قراءتي لبعض السور، أنّه تمّ تهميش أو تحييد دور النساء في المجال العام، وفي علاقتهن بالنصّ القرآني حسب التفسير المتعارف عليه بين المسلمين اليوم.

د. حسام الدين درويش:

دعني أقول إنك انطلقت أول شيءٍ من الرسم العثماني، ومن أهم تفسيرٍ، وهو تفسير الطبري، ورجعت، طبعاً، إلى ابن مجاهد والقراءات السبع، وأكثر شيءٍ ركزت عليه هو المقاطع أو الجوانب التي تبدو غير واضحةٍ، والتي تلكأ أو تردد المفسرون في تحديد معناها. وهذا ما أشرت إليه، وأنت محقٌّ، في حديثك عن أنّ نفي الطبري أو إنكاره أن تكون كلمة «النجدين» تعني «النهدين»، يشبه مبادرة الطفل إلى إنكار أنه فعل ما فعله، من دون أن يسأله أحد عن ذلك. وأودّ أن أشدد على مسألةٍ مهمّةٍ، في هذا الصدد. من يستمع الآن، أو سيستمع لاحقاً، إلى كلامك هذا، سيتبيّن له أن الطريقة التي تتحدث بها، في هذا اللقاء، هي غاية في الدقة والإيجابية، من الناحية العلمية؛ فعندما تقول: «أرجّح»، و«هنا، لست متأكداً»، و«لا نعرف في هذه المسألة»، فإن هذه التعبيرات لا تعكس ضعفاً، كما قد يظن أو يتوهم كثيرون، وإنما تعبر عن ابتعادٍ محمودٍ عن الجزم أو اليقين الدوغمائي، الذي يتجاوز حدود المعطيات والمعلومات التي نملكها، ولا يقتصر على ترجيح احتمالٍ على آخر.

في المقابل، اسمح لي بالإشارة إلى أنك تبدو، أحياناً، في الكتاب، واثقاً لدرجةٍ مفرطةٍ؛ لأنك تعطي الانطباع بأنك تعتقد أن رأيك فقط هو الصحيح، وكلّ ما يختلف عنه أو يخالفه غير صحيحٍ أو غير معقولٍ. فإلى أيّ حدٍّ تمتلك هذا الجزم أو الترجيح، سواء على المستوى الشعوري أو الاعتقادي الخاص بك، أو على المستوى النصي؟ مع العلم أنني أقرّ بأن الاتجاه المهيمن في كتابك، حتى في نهايته أو خاتمته، هو صيغة الترجيح والإقرار بأن أطروحتك وآراءك هي تأويلٌ (مرجحٌ) بين تأويلاتٍ أخرى، أو مجرد احتمالٍ أكثر ترجيحاً من بقية الاحتمالات.

د. منذر يونس:

يمكن وصف الكثير من استنتاجاتي بترجيحاتٍ، لغياب الحجّة الماديّة، كنصّ أو مخطوطة أو نقش أو ما إلى ذلك؛ لكن سأقدّم مثالين درستهما في الكتاب أعتقد اعتقاداً يقارب اليقين بصحّتهما، وهما إعادة قراءتي لكلمة «مذءوماً» في سورة الأعراف (الآية 18) وكلمة «كبد» في سورة البلد.

في الحالة الأولى «مذءوماً» هناك مخطوطةٌ يرجع تاريخها إلى نهاية القرن السابع الميلادي؛ أي هي من أقدم المخطوطات القرآنيّة، وتعرف بمخطوطة المكتبة الوطنية الفرنسية رقم 328. تظهر فيها كلمة مذءوماً بفراغٍ بحجم حرف بين الذال والميم، يبدو أنّ حرفاً تمّ محوه لسببٍ أو لآخر؛ أيّ إنّ الكلمة تظهر في المخطوطة على شكل مذ وما. والكلمة جزءٌ من عبارة مذءوماً مدحوراً. ومن حسن الحظّ أنّ هناك مخطوطةً موجودةً الآن في المتحف البريطاني، المخطوطة رقم 2165، ترجع إلى الفترة التاريخيّة نفسها، وترد فيها عبارة «مذموماً مدحوراً» في الآية رقم 18 من سورة الإسراء. بناء على ذلك، يمكن أن نستنتج أنّ عبارة مذموماً مدحوراً وجدت في الحالتين، ثمّ حدث شيءٌ ما للميم الأولى في مذموماً في حالة سورة الأعراف، حيث اختفت أو مُحيت، وعندما تمّ نَسخ نُسخ القرآن في وقتٍ لاحقٍ، تمّ ملء الفراغ الذي تركته الميم بالهمزة؛ لأنّه ممكن إدخال الهمزة، مثلها مثل النقط والحركات، من دون التأثير في الرسم.

أمّا كلمة «كبد»، فكان عندي شكوكٌ في التفسير المتعارف عليه، وهو أنّها تعني المعاناة، ثمّ قارنت سياقها بسياقٍ مشابهٍ في سورة التين. تقول الآية التي تقع فيها كلمة «كبد»: «لقد خلقنا الإنسان في كبد»، وفي سورة التين هناك آيةٌ تقول: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم». تشابه عبارة «لقد خلقنا الإنسان» في الحالتين حفّزني على دراسة المصادر القديمة لتفسير كلمة «كبد»، فإذا بالكثير من المفسّرين الأوائل الذين يذكرهم الطبري في تفسيره، يقولون إنّ معناها «في كبد منتصباً» أو «في أحسن صورة».

هناك أمثلةٌ أخرى في الكتاب على حالاتٍ يقرب فيها ترجيحي من اليقين، أرجو للقارئ أن يدرسها ويبدي رأيه فيها.

د. حسام الدين درويش:

إن إحدى أهم الحجج التي يستند إليها هذا الترجيح، والقول بمشروعية وتاريخية الاختلاف بين القراءات، هي أن القرآن كان ينقل بالتواتر النصي الكتابي، وليس بالتواتر الشفاهي. ووفقاً لهذه الحجة، لدينا رسمٌ عثمانيٌّ ليس فيه أو عليه نقطٌ أو تنقيطٌ أو علاماتٌ أو حركاتٌ إعرابيةٌ أو همزاتٌ، إلى آخره، ثم حصلت مسافةٌ من الزمان بين اللحظة التي جُمع فيها النص واللحظة التي تمت فيها عملية التنقيط وإضافة الهمزات والحركات الإعرابية لاحقاً. وخلال تلك الفترة الفاصلة بين اللحظتين، كان القرآن المنقول نصّاً مكتوباً، وليس كلاماً شفاهياً محفوظاً في الصدور. في المقابل، هناك من يرفض هذه الأطروحة، وينكر وجود اختلاف القراءات، ويقول إن نقل القرآن، وحفظه، كان شفاهياً أصلاً أو بالدرجة الأولى؛ بمعنى أنه لم تكن هناك مشكلةٌ كبيرةٌ في معرفة كيفية قراءة كلمة «تبينوا/ تثبتوا»، الخالية من النقط؛ لأن القراءة كانت شفاهيةً. وأنت خصصت الخاتمة، تقريباً، لهذه المسألة. ومن شروط البحث العلمي ألا يكتفي الباحث بالمحاجة لصالح أطروحته فقط، وإنما عليه أن يأخذ في الحسبان الحجج المضادة لحججه، حتى «لا يغنّي كلٌّ على ليلاه»؛ فما قولك في القول إن الأصل أو النقل كان شفهيّاً أو شفاهيّاً، ومن ثمَّ، لم تكن هناك مشكلة في معرفة ماهية الكلمات، وكيفية قراءة الرسم العثماني بدقةٍ. وهذا يعني أنه لم يكن هناك لا اختلاف في القراءات، ولا تعددية في المعاني؟

د. منذر يونس:

هناك ثلاث نقاط يمكن أن أذكرها للإجابة عن هذا السؤال المهمّ؛

أوّلاً: هناك ما لا يقلّ عن ثلاثة باحثين اعتقدوا أنّه على الأقلّ كانت هناك أجزاء من القرآن كانت مكتوبة أوّلاً قبل أن يتمّ تواترها شفهياً. هؤلاء الباحثون هم Fred Donner Gunter Luling Christoph Luxenberg. مثلاً يقول «فرد دُنَر» إنّ كلمة «فرقان» في القرآن ترجع إلى كلمتين سريانيتين؛ هما «فُرقانا» و«بوقدانا»، ويضيف إنّ الأمر اشتبه على المحرّرين الأوائل للقرآن، حيث خلطوا بين الكلمتين؛ لأن الدال والراء في السريانيّة متشابهتان في الشكل، فظنّوا أنّهما الكلمة نفسها.

ويقوم جزءٌ كبيرٌ من دراسات «لولنغ» و«لوكسنبرغ» على فرضيّة أنّه على الأقل هناك أجزاءٌ من القرآن كانت مكتوبةً قبل أن يتم تناقلها شفهيّاً

ثانياً: دليلٌ آخر هو أنّه إذا نظرنا إلى كتاب «السبعة في القراءات» لابن مجاهد، لوجدنا أنّ أكثر الاختلافات بين القرّاء أساسها اختلاف النقط. كلماتٌ لها الرسم نفسه، ولكن تختلف نقطها كما في «يعلمون/ تعلمون»، «فتبيّنوا/ فتثبّتوا» وغيرها. لو كان هناك تواترٌ في نقل هذه الكلمات، فلماذا يكون هناك اختلافٌ أصلاً؟ فالتواتر يعني صحّة النقل الشفهي ولا مجال للخطأ. وإذا كان هناك خطأٌ لسببٍ أو لآخر، كإبدال كلمةٍ بأخرى، فلماذا يكون الإبدال بكلمةٍ لها نفس الشكل في الرسم، وليس «أعلم/ تعلم» أو «فتبيّنوا/ فتأكّدوا»، حيث يكون هناك اختلافٌ في الرسم.

ثالثاً: دليلٌ آخر، وهو ما ورد في كتاب المصاحف للسجستاني عن حديث للرسول: «قال: حدثنا عبد الله، وحدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى، قال حدثني عمي يحيى بن عيسى الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تأتيني كتب لا أحبّ أن يقرأها كل أحد، هل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية؟ أو قال: السريانية؟» فقلت: نعم، فتعلمتها في سبعة عشر يوماً».

إذا أخذنا كلّ هذه النقاط مجتمعةً، فيمكن الاستنتاج أنّه كانت هناك أجزاءٌ من القرآن تمّت قراءتها أولاً قبل أن يتمّ حفظها وتواترها شفهيّاً.

د. حسام الدين درويش:

فقط للتوضيح، ثمة من لا ينكرون أن هناك نقلاً مكتوباً، لكنهم يقولون إنه كان متوازياً مع نقلٍ شفاهيٍّ. وبهذا، لا ضير في وجود نصٍّ مكتوبٍ غير واضحٍ؛ لأن هناك حفظاً شفاهيّاً للنص يحصّنه من التحريف.

د. منذر يونس:

إذا أخذنا النقاط الثلاث التي ذكرتها كقراءة بقدانا وفرقانا على شكل كلمةٍ واحدةٍ هي الفرقان بالقرآن كما أشار إلى ذلك فرد دنر، وكذلك ما كتبه لولنغ ولكسنبرغ وما نُقل عن زيد بن ثابت، الذي عيّنه عثمان بن عفّان رئيساً للجنة إخراج النسخ الأولى للقرآن، أضف إلى ذلك ما قلته في الكتاب عن الفروق بين القراء في النقط والحركات فقط، كلّ هذا يشير إلى أنّ بعض أجزاء القرآن، على الأقلّ، كان تناقلها، في البداية، عن طريق الرسم فقط.

د. حسام الدين درويش:

على أيّ أساس رجحت هذه القراءة البديلة على القراءات المتوفرة؟ فعنوان الكتاب خلق لدى الناس رغبةً في معرفة الأساس المعرفي واللغوي والتاريخي الذي سمح لك بترجيح قراءتك على القراءات التي كانت موجودةً؟

د. منذر يونس:

شكراً. كما ذكرت في الكتاب، سورة العاديات فيها عدة مشاكل نحويةٍ ومشاكل في الكلمات كذلك. مثلاً، إذا قرأت السورة، فهي تقول: «والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً، فأثرن به نقعاً»، فالضمير في «به»، على ماذا يعود؟ فأثرن به نقعا؟ صعب جدّاً أن تجد المشار إليه في هذا الضمير. ومن الأشياء التي لفتت انتباهي كذلك، هي كلمة كنود، فكلمة كنود تفسّر على أنّها الإنسان الكفور أو الجاحد. وبعدها تقرأ «ولحب الخير لشديد». فمثل هذه الأشياء لفتت نظري مبدئيّاً، ثم إذا نظرت إلى السورة نفسها، فيها 31 كلمة، وتجد ست كلماتٍ منها موجودةٌ مرةً واحدةً فقط في القرآن، وبشكلٍ غريبٍ نوعاً ما. مثلاً، كلمة «نقعاً»، في عبارة «فأثرن به نقعاً»، تعني دائماً، في التفسير، الغبار. ويبدو غريباً أن يكون النقع بمعنى الغبار هنا. والنقع عادة من نقع ينقع؛ بمعنى ينقع الملابس في الماء أو شيئاً كهذا. إضافةً إلى ذلك، كلّ التفاسير التي قرأتها أو اطلعت عليها، تقول إنّ كلمة العاديات، في «العاديات ضبحاً»، تشير إلى الخيول. لكن باستثناء العدو والركض، ليس في كلمة «العاديات» أي شيءٍ عن الخيول بحد ذاتها. وفي القرآن نفسه، الفعل عدا يعدو عدواً، ليس له معنىً آخر، في القرآن، غير الجري والسرعة، إلا في هذه السورة. في المقابل، هناك مجموعةٌ أخرى من المفسرين يقولون: إن العاديات تشير إلى الجمال، الجمال في الحج، ثمّ يقولون: «العاديات ضبحاً فالموريات قدحاً»، معناها الخيول التي تصدر الشرر من حوافرها، فكيف للجمال أن تثير الشرر من حوافرها؟ هذا أمرٌ غريبٌ ومستحيلٌ. ومن هذا المنطلق، فالنظر إلى السورة، بشكلٍ عامٍّ، يبين وجود أشياء كثيرةٍ فيها تثير تساؤلاتٍ. لذلك، بدأت أبحث وأتأمل، ودرست، ثمّ قدمت هذه القراءة. ولا أدّعي أنّ هذه هي الحقيقة أو الإجابة النهائية عن كل الأسئلة، وإنما هي محاولةٌ، في هذا الكتاب، ولفتح باب النقاش. ونحن أهل اللغة وأبناء اللغة، ولا يجب ترك الأمر للمشايخ، لزعمهم بامتلاك معرفة الكلمات والمعاني والتفاسير والقواعد، وفي الوقت نفسه، حين تسألهم عن معنى كلمةٍ ما، في كثيرٍ من الأحيان، لا يعطونك جواباً شافياً، وإنما يغرقونك في التفاسير والأحاديث، وقال فلان عن فلان عن فلان، ولا تحصل على تفسيرٍ واضحٍ ومقنعٍ. وأنا عشت هذه التجربة؛ أي كنت أسأل، من دون أن أحصل على جوابٍ شافٍ، يتسق مع ما هو موجود في القرآن أو مع الفهم الإنساني للأشياء.

د. حسام الدين درويش:

اسمح لي أن «أزاود عليك». في الكتاب، هناك تحليلاتٌ أكثر دقةً بكثيرٍ من تلك التي تقدمها هنا في إجاباتك الشفهية عن الأسئلة. فأطروحتك وقراءتك ليستا مجرد تشكيكاتٍ عامةٍ، وإنما تتضمن تحليلاتٍ لغويةً نحويةً ونصّيةً وصرفيةً وإملائيةً وسياقيةً وتاريخيةً؛ إذ تأخذ في الحسبان كيفية وضع المسألة موضع شكٍّ، أو موضع تساؤلٍ من ناحيةٍ، والعوامل التي ترجّح، أحياناً، قراءةً بديلةً مغايرةً للقراءة السائدة، من ناحيةٍ أخرى. وكما تعلم، لا يكتفي البحث العلمي بأن يقدّم ما يعده حجةً مقنعةً أو رأياً صحيحاً؛ فالأهم هو أن يحاول تسويغه، وأن يقدم حججاً مؤيدةً له، من ناحيةٍ، وتأخذ في الحسبان الحجج المضادة وترد عليها، من ناحيةٍ أخرى. ومن وجهة نظري، هذا ما حاولت أنت، في كتابك، أن تفعله تماماً.

أود أن أنتقل إلى نقطةٍ أخرى، وهي مسألة الهوية في المعرفة. تكلّمت، في البداية، في مقدمة الكتاب أو في الفصل الأول، عن مفارقةٍ، يمكن تقديمها، بطريقةٍ تبسيطيةٍ واختزاليةٍ، بالصيغة التالية: لدينا، من جهةٍ أولى، عربٌ مسلمون لا يشككون ولا يبحثون، ولدينا، من جهةٍ ثانيةٍ، أناسٌ لديهم مناهج علميةٌ لكن غير معترفٍ بهم؛ لأنهم مستشرقون، أو أجانب او غير عربٍ أو غير مسلمين... إلخ. فإلى أي حدٍّ ينبغي أن تكون لهوية الشخص أهميةٌ، في هذا الصدد؟ فما أهمية أن يكون الباحث عربيّاً أو غير عربيٍّ، مسلماً أو غير مسلمٍ، أوروبيّاً أو غير أوروبيٍّ،... إلخ؟ وثمة من يقلل من قيمة النتاج المعرفي للمستشرق لمجرد كونه مستشرقاً أو غير عربيٍّ، أو غير مسلمٍ... إلخ، مع العلم أن المستشرقين قد قدموا خدماتٍ كبيرةً جدّاً للثقافة العربية والإسلامية. المفارقة، هنا، أننا نفتخر أو نفاخر بأننا نقلنا إلى الأوروبيين الفلسفة والمعارف اليونانية، وأنه لولا العرب والمسلمين لما عرف الأوروبيون أرسطو وأفلاطون وغيرهم؛ لأن العرب والمسلمين هم من حفظوا المعارف اليونانية، وسمحوا للأوروبيين لاحقاً بمعرفتها والاستفادة منها والبناء عليها. في المقابل، عندما يقدم لنا الأوروبيون شيئاً مفيداً أو معرفةً ما، ننتقص منهم ومنها، لمجرد أنهم أجانب أو مستشرقين! أرى أنك جمعت في شخصك وبحثك مزايا «الطرفين». فمن ناحيةٍ أولى، أنت تجنبت قصور غير العرب وغير العارفين باللغة العربية؛ لأنهم يقرؤون القرآن من خلال الترجمات. وهذه الترجمات غير دقيقةٍ، وتتضمن طمساً للاختلاف ولكثيرٍ من المعاني، في مواضع كثيرةٍ، ولأسبابٍ كثيرةٍ، كما أشرت أنت إلى ذلك، محقّاً، في كتابك؛ أي إنك ضليعٌ في اللغة العربية أصلاً، وأهّلتك دراستك اللغوية ودراسة اللغة وعلوم اللغة عموماً، واللغة العربية خصوصاً، لأن تكون باحثاً وخبيراً، في هذا الخصوص. فإلى أي حدٍّ، وبأي معنىً، يمكن القول إن مسألة الهوية حاضرةٌ في المعرفة؟ أنت تشير إلى أن الألماني نولدكه، مثلاً، لم يُقبل أو هوجم؛ لمجرد أنه غير عربيٍّ أو غير مسلمٍ. وبغض النظر عن موقعك أو موقفك الإيماني، أنت تحاجج أن القرآن نفسه يحث على ما فعله مستشرقون كثر، وعلى ما تفعله أنت، أو على ما تحاول أنت فعله، في هذا الكتاب: القيام بدراسةٍ علميةٍ موضوعيةٍ للنص القرآني، مثله مثل أي نصٍّ آخر، من دون إحاطته بهالةٍ من التقديس. وتشير، في هذا الخصوص، إلى عبارة «إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون». وتحاول تبرير مشروعية الدراسة العلمية الموضوعية من الداخل الديني القرآني، من الداخل اللغوي. فأنت حاججت المشايخ أو رجال الدين بلغتهم بلغة الدين، وبنصوصٍ قرآنيةٍ. فإلى أي حدٍّ ترى أنه من الضروري لنا أن يكون هناك أساسٌ دينيٌّ لهذه المعرفة ولتلك «الدراسات العلمية الموضوعية»؟

د. منذر يونس:

في رأيي، الشخص المثالي من عمل مثل هذا البحث هو العربي الضليع في اللغة العربية، الذي يمتلك حسّاً لغويّاً، ويتقن اللغة العربية إتقاناً جيّداً، ويملك، في الوقت نفسه، متطلّبات البحث العلميّ الحديث، حيث إنّه يدرس النصّ دراسةً علميّةً موضوعيّةً واضعاً الناحية الإيمانيّة جانباً. ومن الممكن طبعاً أن يكون مؤمناً، شرط ألا يعرقل ذلك إمكانية تعامله مع النص بوصفه موضوعاً للبحث العلمي. تحضرني، في هذا السياق، مشكلةٌ نعاني منها كثيراً في العالم العربي، وهي مشكلة نقص أو فقدان الثقة في أنفسنا. فنحن غالباً ما نشعر بأن أيّ شيءٍ يأتينا من الخارج ينطوي على نوعٍ من المؤامرة، أو يهاجم أو يهدم أو يهدد هويتنا. ولو كانت عندنا ثقةٌ أكثر أو أكبر في أنفسنا، كما كان الحال في الماضي، حيث كان أجدادنا يقبلون التنوّع والاختلاف والنقد أكثر منّا بكثير لتوفّر الثقة في أنفسهم، بسبب وضعهم السياسي والعسكري وحضورهم القوي في العالم. لكن، ما يحدث اليوم، هو أن باحثاً مثلي، يحاول دراسة النصّ القرآني، وفهمه فهماً علميّاً موضوعيّاً، يتمّ تصنيفه على أنّه متآمرٌ وخائنٌ للتراث وللأمّة، أو عميلٌ للاستعمار الغربي، وما إلى ذلك، وتتمّ مهاجمته بهدف «الدفاع عن القرآن أو اللغة العربية»، لمجرد أنه يقدم قراءةً بديلةً مختلفةً مع القراءة المعتمدة أو مخالفةً لها. لهذا، أعتقد أنه يجب إعطاء ثقةٍ للناس، وتوعيتهم، في هذا المجال؛ فأنا عربيٌّ، وهذه لغتي، ومن العيب أن أقرأ القرآن يوماً بعد يومٍ، وسنةً بعد سنةٍ، دون أن أفهمه. من حقّي أن أفهمه، وألا أترك الفرصة لغيري ليحتكر فهمه، أو أجلس وأقول: أنا لا أفهم القرآن كما كنت في الماضي، وهذا أمر صعب، واللغة قديمةٌ ولست متخصصاً، ولذلك أترك المسألة للمتخصصين. المفترض أنني بوصفي عربيّاً، وانطلاقاً من أن هذه لغتي، وهذا ديني، وهذه حضارتي، فأنا أولى بفهمها وبشكلٍ علميٍّ، وليس إيمانيّاً فقط؛ أي ينبغي ألا أنطلق من منطلق الشخص المدافع الضعيف، ولو كانت هناك عيوبٌ أغطيها، بل يجب أن أكون باحثاً موضوعيّاً، وأن أكشف كل شيءٍ، وأتواصل مع العلماء في الغرب الذين يبحثون في مثل هذه الأمور وأشاركهم. لذا، فبدل الدوائر أو أقسام الشريعة في الجامعات العربية، أتمنى أن تكون هناك مراكز دراساتٍ دينٍ مقارنٍ مثلاً، بالمعنى الصحيح، فتدرّس المسيحية واليهودية وسائر الأديان، وكلّ اللغات، بموضوعية، ويكون هناك أناس مختصون هدفهم علميٌّ بعيدٌ عن الإيديولوجيات، وأن تكون، مثل ما هو موجود في الغرب، جامعاتٌ تعطي المجال للجميع للدراسة، سواء كان مسيحيّاً أو مسلماً أو يهوديّاً أو بوذيّاً أو من أي دين، أن يدرس علم الأديان المقارن، ويدرس النصوص، ويخضعها للبحث العلمي.

د. حسام الدين درويش:

يبدو أن الحالة الدفاعية التي تتحدث عن أن «المسلمين»، يشعرون بها، في هذا الخصوص، موجودةٌ لدى (بعض) الباحثين أيضاً، حيث يبدو أنهم يشعرون بها، أو يعتقدون أن بحثهم العلمي غير الإيماني بحاجة إلى تبريرٍ وتسويغٍ وإظهار حسن النوايا. فالدكتور جورج تامر الذي ترجم كتاب «تاريخ القرآن» لنولدكه، ذكر حرفيّاً، في تقديمه لترجمته، «ليس الغرض من الجهد العلمي الذي يضم نتائجه هذا الكتاب الحط من قدر القرآن الكريم والنبي محمد. إنه بالأحرى محاولةٌ علميةٌ صادقةٌ لاستكشاف مضامين مهمّةٍ في الكتاب العزيز، بواسطة ربطها الوثيق بشخص النبي وحيوية دعوته». ويبدو لي أن النص الإسلامي أقل خضوعاً لهذه الموضوعية العلمية، وأن العالم الإسلامي أقل تقبّلاً لها، عموماً. وعند قراءتي لمقدمة كتابك، تولّد لديّ الانطباع بأنك في الحالة الدفاعية المذكورة، وأنك تشعر بالحاجة إلى تبرير دراستك، بالقول إن هذه لغتنا ومن حقنا أن نسعى إلى دراستها وفهمها، ويجب ألا نسمح للمشايخ أو غيرهم أن يصادروا هذا الحق.

أختم بسؤالٍ أخيرٍ عن التوظيف الإيديولوجي أو العملي أو الفائدة المتوخاة من مثل هذه الدراسات. يبدو الاختلاف بين قراءتيْ «تبينوا» و«تثبتوا» ثانويّاً وضئيل الأهمية؟ فلماذا ننشغل، ونُشغل الآخرين به؟ في المقابل، هناك حالاتٌ يبدو أن الأمر أخطر بالفعل. مثلاً القراءة المختلفة لسورة «الكافرون». فمع حذف الألف تتحول عبارة «لا أعبد ما تعبدون» إلى «لأعبد ما تعبدون»؛ أي من عبارة نفيٍ إلى عبارة قسمٍ وتأكيدٍ؛ ويتحول الأمر من تشديدٍ على الاختلاف في العبادات والعقائد والآلهة إلى تأكيد الإله الواحد المشترك الذي يعبده الجميع؛ أي تتحول السورة من سورةٍ تكفيرية للآخرين بامتيازٍ، إلى سورة توحيدٍ وقواسم مشتركة بين المختلفين في العقائد، وهذه المسألة من أهم المسائل. وفي رأيي هذه القراءة المختلفة معقولةٌ جدّاً؛ لأن الألف ليست ألف مدّ، وكانت لا توضع غالباً. وحتى المعنى يحولها من سورة شقاقٍ وصدامٍ بين المختلفين في الدين وفي العبادة، إلى آية توحيدٍ ووحدانيةٍ، حيث يصبح الجميع يعبدون الإله نفسه، ويكون الاختلاف في الدين ليس اختلافاً جذريّاً. ويمكن أن يكون لمثل هذه القراءة المختلفة نتائج مهمةٌ جدّاً؛ لأنها يمكن أن تسهم في تحويل علاقة المسلم بالآخر من علاقة حربٍ أو صدامٍ إلى علاقة سلمٍ، وهذا هو المطلوب. فإلى أي حدٍّ يمكن أو ينبغي تركيز القراءات الجديدة على الأقسام التي يمكن توظيفها لتقدم شيئاً مهمّاً؟ الاختلاف حول «تبينوا أم تثبتوا» لا يهم كثيراً. في المقابل، تبدو القراءة النسوية التي تقدمها أنت أحياناً، في كتابك، والقراءة البديلة لسورة الكافرون، أكثر ضرورةً وأهميةً. والقراءة المذكورة لسورة «الكافرون» شدتني كثيراً؛ لأنها تمس الصلب في علاقة المسلمين بغير المسلمين. فهل تتوقف أنت عند القراءة اللغوية، أم إنك مشغولٌ بما هو أكثر من مسألة اللغة، حيث تنشغل، أيضاً، بمسألة تطبيق هذه النصوص في عالم البشر وفي العلاقة بينهم؟

د. منذر يونس:

أولاً، لابد أن أذكر أن القراءة البديلة لسورة «الكافرون» ليست فكرتي، بل هي فكرة الباحث الألماني جيرد بيون، فهو من ذكرها، واستبدل قراءة النفي بالقسم والتوكيد في «لا أعبد-لأعبد». وقد علّق، في مقالته، على رأي أحد أساتذة الدراسات الإسلاميّة في جامعة في مدينة هيوستون الأمريكيّة، الذي ترجم القرآن وعلّق على سورة الكافرون بقوله: خلافاً لما يقوله بعض الناس عن إمكانيّة التعايش بين المسلم وغير المسلم، فإنّ الإسلام يضع حدّاً بين المسلم والكافر، حيث يستحيل أن يعيش المسلم مع غير المسلم؛ فقد أعطى هذا المترجم في الجامعة الإسلاميّة في هيوستون تفسيراً متطرفاً جدّاً. لكن، وعلى النقيض من ذلك، تدعو قراءة بيون إلى ضرورة النظر إلى هذه السورة من المنظور أو التفسير الإنساني الذي يقبل الآخر. ويجدر التنبيه إلى أهمّيّة بيون في الدراسات القرآنيّة، وخاصّة المصاحف القديمة، حيث قاد هو وزوجته مشروع ترميم مصاحف صنعاء، وهو مشروعٌ كبيرٌ ومهمٌّ جدّاً. فقد ذهبا إلى صنعاء، بتنسيقٍ مع الحكومة اليمنية في السبعينيات، بعد العثور على مجموعةً من المصاحف القديمة في مسجدٍ في صنعاء، وقام بيون وزوجته بتصوير تلك المصاحف، ودراستها دراسةً جيدةً، وذكر أن ثمة اختلافاتٍ بين المصاحف التي عمل عليها والمصاحف الموجودة، ويقال إنه ممنوعٌ نشر بعض هذه الاختلافات خوفاً من ردّ فعل الناس؛ لأن هناك اختلافاتٍ كبيرةً ومهمةً بين النسخ القديمة والنسخة الحالية المعتمدة. لكن المهم في الموضوع هو أن عمله مهمٌّ جدّاً، وأن فهمه المختلف لسورة الكافرون واستنتاجاته المختلفة مهمّة جدّاً في حقل دراسة لغة القرآن. فقد بيّن، مثلاً، كيف أن الألف أضيفت، وفي هذه الحالة حين تقول: لأقسم بهذا البلد، في سورة البلد، واضحٌ أن لأقسم، لا يمكن أن تكون لا أقسم، فهذه اللام للتأكيد، وليست للنفي. لذلك، فوجود الألف هنا يرجح أنّها كانت إضافةً. وطبعاً، أؤكّد هنا ما أقوله أنّني أرجّح أن الألف كانت مضافةً، وبدل أن تكون لأعبد، أضافوا الألف وصارت لا أعبد، ووضعت ذلك الحاجز بيننا وبينهم، بدل توكيد ما هو مشترك بيننا وبينهم.

د. حسام الدين درويش:

أودّ أن أشكرك على تلبيتك دعوتنا لإجراء هذا الحوار وعلى تفاعلك اللطيف والإيجابي مع كل الأسئلة والتعقيبات، وأترك لك المجال لتختم هذا الحوار بما تودّ قوله أو إضافته، ولم تسمح لك الأسئلة بأن تقوله أو تضيفه فيما سبق.

د. منذر يونس:

كان فرج فودة كاتباً ومفكراً مصرياً معروفاً. في الثامن من يونيو/حزيران 1992 اغتاله شابّ اسمه عبد الشافي رمضان. اعتقل عبد الشافي وتمّت محاكمته. سأله قاضي المحكمة: لماذا قتل فرج فودة؟ فردّ بأنّه قتله بناء على فتوى الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد، ثمّ سأله القاضي في أيّ كتاب من كتب عمر عبد الرحمن قرأ ذلك، فأجاب عبد الشافي بأنه لا يقرأ ولا يكتب.

تجمع هذه الحادثة المأساويّة بين عدد من القضايا أهمّها، طبعاً، فقدان مفكّر مهمّ بمجرّد الاختلاف معه في الرأي. وكيف للأمم أن تتقدّم من دون المفكّرين ومن دون الاختلافات في الرأي؟ الاختلاف في الرأي دائماً يولّد النقاش وإعمال الفكر والبحث عن الأفضل والتقدّم. إذا نظرنا حولنا، لرأينا أنّ أفشل المجتمعات هي المجتمعات التي يحكمها رأي واحد، ولا تسمح بالاختلاف والتنوّع الفكري.

القضيّة الثانية هي الجهل، فكما يقول المثل: «عدوّ عاقل خير من صديق جاهل». فالجاهل لا يدرك خطورة ما يفعله ولا يحسب النتائج، ويمكن للقاصي والداني أن يستغلّ جهله لتحقيق مآربه.

والقضيّة الثالثة هي استعداد الكثير ممّن نصّبوا أنفسهم حماةً للدين والتراث لتكفير غيرهم، والحكم عليهم بالإعدام، كما فعل عمر عبد الرحمن بفرج فودة.

لماذا أقول هذه الكلمات الآن؟ الجواب هو أنّني أرجو أن يقرأ الناس الكتاب ويفهموه قبل الحكم عليه، وأن يحاجونني بشكل علمي موضوعي، وسأكون مسروراً جدّاً وشاكراً لسعيهم، إذا جاءوا بأدلّة علميّة موضوعيّة، لتفنيد ما جاء في الكتاب أو بعضه، فذلك مهمٌّ؛ لأنّه ينقل النقاش إلى مرحلة أكثر تقدّماً. المهمّ ألا نكتفي بما هو موجود، وهو غياب الفهم للكثير ممّا ورد في القرآن، وأنا على يقينٍ من أنّ ذلك الفهم سيتحسّن إلى حدٍّ كبيرٍ، إذا فتحنا باب النقاش العلمي الموضوعي، واجتمع ذلك الكمّ الهائل من المواهب والمعارف، في مجتمعنا العربيّ، لفهم أهمّ نصٍّ في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة.

د. حسام الدين درويش:

جزيل الشكر لك على هذه الكلمات الختامية التي كانت مسكاً بالفعل. كما أشكر كلّ من حضر هذه الندوة وتفاعل معها بالأسئلة والتعليقات والملاحظات (النقدية) المفيدة.

 

 

[1] - عقدت هذه الندوة عبر الزوم في 28 حزيران/ يونيو 2024. وتجدون التسجيل الكامل لها على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=wLsHTlhOSck&t=2000s كما تجدون النص المنشور على موقع مؤمنون بلا حدود: https://www.mominoun.com/articles/ فهم-لغة-القرآن-لتحدي-التفاسير-والترجمات-التقليدية-9301