الفواعل الثّلاثة في الإصلاح الدّيني بالمغرب


فئة :  مقالات

الفواعل الثّلاثة في الإصلاح الدّيني بالمغرب

غالباً ما تفقد الكلمات أو المصطلحات أو المفاهيم معانيها، حينما تتحوّل إلى معنىً ونقيضه، أو وجود وعدم، داخل سياق اجتماعيّ أو سياسيّ أو ثقافيّ لم تعد له القدرة على ضبط المفاهيم، كما لم تعُد له القدرة على إنتاجها. واقعٌ ينقل كلّ شيء، ويقول كلّ شيء، لكنّه لا يعي أنّه ضحية هذا الابتذال، وهذه التّبعية الثّقافية والاقتصادية. وربّما قد يكون ضحية هذا الآخر الذي ينقل عنه مفاهيمه، حتى كادت اللغة أنْ تفقد وظيفتها التواصلية، لتصير بلا معنى، أو وظيفة، أو مجال. هذا الواقع الفكري أشار إليه نبيل معلوف[1]، وهو يتداول أحد أكبر المفاهيم غرابة، وربّما تداولاً في السّياق المعاصر، ألا وهو مفهوم الهوية، غير أنّ هذا التّداول يكشف لنا عن أزمة لا بدّ من التوقّف عندها، وضبط إشكالياتها، لأنّ الكلمات التي نزعم أنّها الأكثر شفافية، غالباً ما تتحوّل إلى الكلمات الأكثر خيانة. هكذا هو التّاريخ، وهكذا هو منطق اللغة. فالهوية مثلاً، ونحن نزعم أنّنا ندرك معناها، أو نمسك بغموضها، نستمرّ بالوثوق بها، وإنْ راحتْ تعني نقيضها بصورة خبيثة. لا غرو في ذلك، ما دام أنّ وظيفة خطاباتنا، وكذا مفاهيمنا هي الحجب والتّورية أكثر من الإفصاح والكشف. فما نستبعده أو ننفيه قد يصير هو الأكثر حضورا وتداولا، وقد نعشق الحرية والحقوق في الوقت الذي لا نتقن فيه إلا صناعة الاستعباد، أو على الأقلّ القبول به والدّعوة إليه. وقد ندعو أيضاً إلى قيم تبدو في جوهرها نبيلة، حينما نرفع شعارات المساواة والعدالة، في الوقت الذي لا ننتج فيه إلا التّفاضل، والطبقية. أمّا دعواتنا إلى التحضّر والتقدم والمستقبل، فغالباً ما تنكسر أمام بنيات ذهنية تمجِّد الماضي بكلّ تفاصيله، وتلعن كلّ جديد حتى لو كان يحقّق كرامة ضائعة ما دام يعرّي على جرحٍ نرجسيّ غائر.

ينتمي مفهوم الإصلاح الديني إلى المفاهيم الواردة أو المستوردة من السّياق المسيحي، وتحديدًا الأوروبي، ليعبِّر في بعض الأحيان عن نقيضه، أو على الأقل ليثير نوعاً من التّشويش الظاهر تارة، أو الخفيّ تارة أخرى. وأحيانا كثيرة يصير هذا المفهوم نفسه، وبفعل عوامل كثيرة عائقاً أمام أيّة عملية إصلاح، خاصّة إذا خضع إلى مزايدات سياسية، أو دينية حينما يصير عنواناً لصراع أريد له أنْ يكون أبديا بين أصوليات متناحرة ومتصارعة حدّ الموت. كان لأوروبا قدم السّبق في إعطاء النّموذج في الإصلاح الديني بمختلف تجلياته؛ فالممارسات التي عرفها الحقل الدّيني المسيحي، خاصّة ما ارتبط منها بالكنيسة مثلت نقطة سوداء في تاريخ القهر والفساد والانحطاط الديني، إذ لم تكتف الكنيسة فقط بتمثيل الربّ على الأرض، بل تجاوزت مجالها لتصير رمزاً للفساد الأخلاقي والسّياسي بكلّ ما تحمله هذه الكلمات من معاني. وظلّ الواقع الدّيني خارج مجال الإصلاح، وتحت سلطة رجال الدين الذين استطاعوا أنْ يمسكوا بكل خيوط التردي الحضاري الذي عاشته أوروبا حينها. شجّع هذا الوضع انطلاقة مشروع نهضوي قاده مجموعة من الفلاسفة والعلماء تبلور في مشروع إصلاحي هدفه الخروج من ضيق الأفق الذي رسمه رجال الدين. ولم تكن هذه النهضة وليدة الصدفة أو العبث، بل كانت إرهاصاتها الأولى نتاجا لثلاث حركات كبرى عرفتها أوروبا: وهي بعث الآداب القديمة، والإصلاح الديني، وظهور العلوم الطبيعية.

أما النهضة الأدبية، فكانت نتيجة تحرير العقل الإنساني من الجمود الديني ومن الخرافة، وبعث روح الحرية والحياة للخروج من ربقة التخلف. وقد حمل لواء هذه النهضة كل من بترارك ودانتي وغيرهم من رجالات الأدب[2]. أما الإصلاح الديني، فلم يكن هو الآخر بمعزل عن هذه الحركة، بل ترافق الاثنان ليشكلا عمودي نهضة أوروبا. فانتهى الأمر بالناس إلى الثورة على الكنيسة وسلطتها ووجوب حرية الفرد واستقلاله، وأن يتصل بالله مباشرة، فلا يحتاج إلى توبة راهب أو قسيس[3]. أما العامل الثالث، فكان نشأة العلوم الطبيعية ودراسة الظواهر الطبيعية بالتجربة العلمية كما فعل كوربنيكوس في اعتباره الأرض كوكبا من الكواكب الشمسية، أو كما اهتدى إليه جاليليو وكبلر وغيرهما من النتائج العلمية.

كانت هذه مسوغات ومبررات النهضة في أوروبا، وكان الإصلاح الديني هو ثمرة هذا الجهد الإنساني، لينتقل بذلك هذا المفهوم إلى الحقل العربي والإسلامي، ويصير عنوانا لحركة ثقافية ودينية وتجديدية. فنقل الأسئلة النهضوية الأوروبية إلى المجال الإسلامي فرض مقاربة تستدعي السياق والتاريخ والعوامل، وتستفيد من الإمكانيات المتاحة ليتحول الواقع العربي إلى واقع أوروبي، ويتحول إصلاح الفكر الديني المسيحي إلى إصلاح للفكر الديني الإسلامي وفق خصوصيات كلّ واقع على حدة. لم يكن الإصلاح الدّيني ثمرة لمنطق تطوّر الدين الداخلي كما يقول أحمد برقاوي "بل المدخل لظاهرة الإصلاح الديني يقوم على النظر إلى هذا الاتجاه بوصفه تجاوزا لعجز الإيديولوجيا الدينية السائدة عن الاستجابة لمطالب فئات اجتماعية نمت وتطورت في قلب التحولات الطبقية والسياسية والثقافية"[4].

نشأت الحركة الإصلاحية الدينية، سواء في المشرق أو المغرب من تحسّس القائمين عليها والداعين لها للانحلال الاجتماعي وانتشار ما اعتبروه بدعا وضلالات في الإسلام وابتعادا عن أصول العقيدة، ناهيك عن الاحتلال العسكري لبعض الأقطار العربية والغزو الذي رافقه وعجز الدول الإسلامية عن مواجهة التحدي الخارجي.[5] كلّ هذه العوامل وغيرها كثير دفعت برواد الفكر النهضوي - بعد أن استوعبوا الدرس الإنساني، وفهموا الحضارة الأوروبية، وعاشوا تجارب الأمم والحضارات- إلى أنْ يجيبوا عن سؤال النّهضة من خلال كل ما راكموه من تجارب وعاشوه ودرسوه. فكانت بذلك الانطلاقة إلى مشروع تصحيحي أصيل يستلهم من روح الدّين الإجابات عن تساؤلات العصر، ويحرّر العقل الإسلامي مما ترسّب فوقه من عوامل الجمود والتخلّف والانحطاط الذي سبَّبَه التّقليد، باعتباره أحد تجلّيات الواقع المتردِّي الذي عرفته دول المنطقة. ففكرة الإصلاح كما تبلورت عند المؤسِّسين الأوائل لم تكن بمعزل عن الأسئلة التي يفرضها الواقع. فكان فِكر الإصلاح متمحوراً حول مجموعة من النّقاط التقى عليها من اعتبر النهضة هي رهينة بالعودة إلى منابع الدين الصحيح كما تصوره حاملو لواء النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

*- استرجاع هيبة المسلمين رهين بالعودة إلى دينهم النقي. وهكذا دعا الأفغاني إلى وحدة الدول والشعوب وإزالة الفرق بين المذاهب الإسلامية[6].

*- تحرير الفكر الديني من قيود التقليد وفتح باب الاجتهاد

*- التوفيق بين العقل والإيمان

*- التدقيق في النصوص الدينية واستخلاص الصحيح منها

*- رفض تقليد الغرب دون تمحيص

*- اطلاع العلماء المسلمين على التيارات الفكرية الحديثة ضرورة لا بد منها

*- الطريق إلى التمدن هو الإصلاح الديني.

*- الدفاع عن الإسلام والحضارة الإسلامية. [7]

لم يقف الإصلاح الديني عند هذا الحد، بل تجاوز سؤال النّهضة والتخلّف ومواكبة التطور العلمي، إلى الإصلاح السّياسي بما فيه الجواب عن سؤال السّلطة في الإسلام، وإصلاح نظم الحكم المستبدة التي تعدُّ عاملاً من العوامل المؤثّرة حينذاك في الوضعية التي وصل لها العالم العربي.[8]

هذا عن أوروبا والمشرق العربي؛ أمّا انتقال هذا المفهوم إلى السّياق المغربي، فهو غاية دراستنا. وسنعتمد في ذلك على كتاب "سرّاق الله" لكاتبه ادريس هاني، وهو يرصد تجربة الحركة الإسلامية في المغرب، موضّحا بذلك الفواعل والعوامل التي تحكَّمت في الإصلاح الدّيني بالمغرب، وأوجه الاختلاف مع المشرق، والآليات التي تساعد في بلورة ما يسمَّى بالإصلاح الدّيني، بوصفه نقطةً مشتركة لمجموعة من المتدخّلين أو الفاعلين في الشّأن الدّيني داخل المغرب. كما لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الحقل الديني في المغرب عرف محاولات إصلاحية في فترات متباينة من تاريخه الطويل، والتجأت إليه الدّولة كلّ ما دعت الظروف السّياسية لذلك. وهذا يشير بوضوح إلى أنّ مسألة الإصلاح الدّيني ليست مسألة مستحدثة، أو وليدة ظروف لحظية. فابن رشد مثلا، أو الرّشدية إذا أردنا أنْ نتحدّث عن طريقة التّفكير، هي في حدّ ذاتها توجُّهٌ فكريّ إصلاحيّ، قارب مسألة الإصلاح الدِّيني، بالاشتغال على سؤال الفلسفة والدّين، من خلال الردّ على الغزالي، وبيان تهافت كتابه تهافت الفلاسفة، وكذلك العمل على التّوفيق بين الشّريعة والحكمة، ونبذ دعوى الانفصال. وكذلك فعل الشّاطبي في كتاباته المتعلّقة بعلم المقاصد في محاولة لإصلاح الفقه وأصول الاستنباط والاجتهاد في الشّريعة الإسلامية.

لم يخلُ المغرب الحديث بمعزلٍ عن كلّ هذه التّأثيرات من محاولات إصلاحية، بما في ذلك تلك التي اشتغلت إبّان فترة الحماية الفرنسية، وكانت مهووسة بسؤال الإصلاح كالحجوي الثّعالبي، وابن الموّاز، بالرّغم من أنّها لم تكن على قدْرٍ كبير من الشُّهرة، مقارنة بنظيرتها المشرقية. وهذا بالتَّأكيد راجعٌ لعدَّة عوامل، تتجاوز الفكرة القائلة بأنّ مصر أو المشرق تعرَّضَتا لصدمة الحداثة قبل أنْ يتعرّض لها المغرب. وإنّما هناك عامل آخر يبدو مهِمّا في هذا السّياق، دون أنْ يعني هذا أنّه العامل الوحيد، ألا وهو بُعد المغرب أنْ يكون فاعلاً في المشرق العربي، خلافاً للحواضر والمراكز الكبرى كبغداد ودمشق والقاهرة، بل كان كلّ المشتغلين بحقل الإصلاح الديني، يتَّجهون نحو المشرق. وهذا لا يمنع من أنْ يكون هناك نبوغٌ مغربي كما كان يسمّيه عبد الله كنون، تفاعَل مع المشرق، وصاغ الأمور بصيغة مغربية خالصة، حيث يمكننا أنْ نعتبر ابن طفيل صورة أخرى متطوّرة عن ابن سينا، وابن حزم صورة أخرى على داوود مؤسّس المذهب الظاهري، وابن رشد صورة أخرى للفارابي أو الفلسفة المشَّائية.

فما هي يا ترى محدِّدات الإصلاح الدّيني في المغرب؟ ومن هم الفاعلون فيه؟ وكيف يتفاعلون فيما بينهم؟

1- الفواعل الثّلاثة في الإصلاح الدّيني بالمغرب:

لا بدّ من الإشارة في هذا المقام أنّ هذه الثُّلاثية ليست خاصّة فقط بالمجال المغربي دون غيره، إلا بالقدْر الذي تساهم فيه الثّقافة والتّاريخ والجُغرافيا في بلورة خصوصيات الشّعوب والبلدان. لهذا أشار إدريس هاني إلى هذا المعطى، وهو يؤكِّد أنّ هذه الفواعل ليست ميزةً، ولا أيضا نقيصة، لكنّها فقط تؤكّد أنّ الفواعل تشكِّل مشهداً لمشاريع إسلامية مختلفة، كما أنَّها تشير إلى أنّ للدِّين وظيفة اجتماعية إلى جانب وظيفته التعبُّدية. ويمكن اختزال هذه الفواعل في ثلاثة عناصر:

أ- الفاعل الدّوْلتي étatique: ويمكننا أنْ نعوّض عبارة الدّولتي كما أشار إليها إدريس هاني، بالفاعل الرّسمي، أو الخطاب الرّسمي للدّولة. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ أيّة دولة أو سلطة كما يقول القمُّودي[9] تحتاج إلى الأساس النّفسي العقلي للسّلطة، فأيّة سلطة تنْتُج عن أساسٍ نفسي عقلي يحدِّد اتجاهها الفكري والسياسي، والأدوات التي تمارس بها هذه السلطة. ولكي تتمكَّن هذه السّلطة من بسط نفوذها تحتاج إلى إيديولوجية تمثِّل البُعد المعلن من السّلطة. ويستند الأساس النّفسي العقلي بدوره إلى الوعي التّاريخي لمفهوم السّلطة، وما يتضمّنه هذا الوعي من تصوّرات ومفاهيم، وأنظمة سياسية واقتصادية. ومن خلال هذا الوعي ينشأ الفهم السّياسي للسّلطة، كما ينشأ الفهم السّياسي للدّين وعلاقته بالسّلطة.

إنّ هذا الوعي التاريخي بمفهوم السّلطة يجعل صاحب القرار "من بيده السّلطة"، يؤسِّس ويكيِّف سلطته مع المعتقدات والتصوّرات الاجتماعية، ويصيغ سلطته بناء على هذه الأفكار، وتحويلها إلى وقائع وعلاقات وأجهزة ومؤسسات تقود المجتمع الذي تحكُمه؛ أي إن أيّة سلطة لها وجهان: الوجه المعلن الذي سمّاه الإيديولوجية، والوجه الخفيّ الذي سمّاه السيكولوجيا: "فالوجه المعلن الذي تمثِّله الإيديولوجيا هو ما تتبنّاه السلطة، وتسعى إلى تحقيق مقولاته ومفاهيمه وتصوّراته في الواقع، بوصفه إيديولوجية كلّية عامة للمجتمع، الذي تهيمن عليه وتحكمه وتقُوده"[10]. فحسب القمودي لا يمكن أنْ تكون سلطة إلاّ مرفوقةً بالوجه المعلن وهو الإيديولوجيا، التي تتحقَّق السّلطة من خلالها، إذ إنّ كلّ سلطة تقوم على إيديولوجية ظاهرة تسعى إلى تطبيقها في كلّ مرافق الدولة ومؤسّساتها لضمان استمراريتها.

أمّا الوجه الخفيُّ للسلطة وهو السّيكولوجيا، فهذا تُخفيه السلطة عمداً، وتمثّله مجموع الرّغبات، والحاجات والدّوافع النفسية. فالجانب السيكولوجي تلجأ إليه السلطة، لأنّها تعي جيّدا محدودية قدرة الإيديولوجيا. كما أنّ هذه الأخيرة لا تستطيع أنْ تلبّي كلّ الحاجات التي تسعى إليها السلطة، غير أنّ هذه الأخيرة قد تشتطُّ كما يقول القمودي في بعض تطبيقاتها الإيديولوجية، في محاولة منها بسط المزيد من الهيمنة على المجتمع الموجودة فيه. أمّا أوجه ممارسة السّلطة، فلا يمكن أنْ تتأسّس إلا على شرعية معينة تخوِّل لها صلاحيات وإمكانيات مادية ومعرفية. فالسُّلطة بهذا التّحديد هي شرعية تخوِّل الحقَّ لمن يمتلكها في ممارسات هذه السّلطة. ولممارسة السّلطة أوجه عديدة اختزلها الأمريكي جون كينيث جالبيرث في كتابه "تشريح السّلطة" إلى ثلاث كيفيات: يمكن إجمالها في ما يلي:

- الكيفية القسرية: عندما تمارس السّلطة بطريقة قسرية عن طريق العنف، والإكراه لكسب الخضوع. وغالبا ما تلجأ هنا السلطة إلى أساليب التعذيب والسجن والحرب، في محاولة منها ترهيب المعارضين لها أو المتربِّصين بها. والعنف هو أوّل مصادر السلطة، إلى درجة أنّ هناك من الفلاسفة من يسمّي عنف الدولة أو السلطة بالعنف المشروع، وهي الوحيدة التي لها الحقّ في ممارسته.

- الكيفية التعويضية: وهذه مناورة من مناورات السلطة. فكل معارض تسعى السلطة إلى احتوائه، وضمان سكوته. بهذه الكيفية، عندما تعتمد السلطة على المال والمكافآت والهبات والهدايا، وتشجيع اقتصاد الريع والامتيازات.

- الكيفية التلاؤمية: عندما تعتمد السلطة على الحوار وتبادل الرأي، وتسعى إلى التوافق.

وبالرجوع إلى ما أكدناه سابقا، يمكننا أنْ نتحدّث عن ثلاثة أشكال من الدّول في العالم الإسلامي أشار إليهم إدريس هاني، وهي:

- دولٌ شبه علمانيةpseudo laique: من حيث طبيعة نسقها السّياسي، ومضمونها الدستوري، حتى لو ظلَّ الدّين فاعلاً رئيسا في التّوازنات السّياسية والاجتماعية.

- دول دينية أو شبه دينية pseudo théocratique: يمثل الدين فيها دوراً حاسماً، مثل السّعودية وإيران، والمغرب، مع وجود فوارق الثّقافة، والتّاريخ، والجغرافيا. خاصّة بالنسبة إلى السياق المغربي، فهو يتميّز بفرادة أنّ الدّين جزءٌ أساسي من التّركيبة السّياسية والاجتماعية، غير أنّ الدولة لم تتخلّ عن الرّهانات الحداثية للمجتمع، وتلك فرادتها بالمقارنة مع مثيلاتها. فالمغرب هو هذه الازدواجية بين ثقافتين سياسيتين: ثقافة سياسية تقليدية ونموذجها الإرشادي هو الإسلام الشَّعبي، وثقافة سياسية حديثة تركِّز على المكتسبات الحداثية والإنسانية التي وصل إليها عالم اليوم.

ب- الفاعل السّياسي أو الحزبي: تمثله الحركات الإسلامية لا سيما تلك المنخرطة في اللعبة السّياسية.

ت- الفاعل الأنتلجنسي: ومعناه جملة العلماء والمفكرين والمثقفين الدينيين. وقد ظهرت هذه الفئة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويمثلها بوضوح علال الفاسي.

2- الفواعل وتعدُّد النّماذج Paradigmes:

لا يمكن أنْ نتحدَّث عن الإصلاح الدّيني في المغرب، في غياب هذه الفواعل، أو لنقُلْ بتعبير أدقّ هؤلاء المتدخلّون في الحياة السّياسية والاجتماعية للمغرب، غير أنّ لكلِّ فاعلٍ من هذه الفواعل حساباته ورهاناته الخاصّة، تتّفق في بعض الأحيان في مسمَّى الإصلاح، وتختلف في شكله، وربّما في مشروعه. وهذا لا يعني أنّ هناك نوعاً من التوافقات قد تحدث بفعل العوامل المختلفة، وحسب طبيعة السّياق الذي تجري فيه العملية. ولنبدأ بسرد هذه النماذج:

- رهان الدولة أو البراديغم الدّولتي paradigme étatique: للدّولة دوما حساباتها الخاصّة، فهي تعبير عن موازين قوى، ورهاناتها تختلف جذرياً عن رهانات الفاعل الحزبي، أو المثقف أو المفكر، وقد لا يعني لها الحديث عن الإصلاح الديني شيئاً، إلا باعتباره تجدُّدٌ حتميٌّ يفرضه التحوّل في آليات الوظيفة الاجتماعية للدّين؛ بمعنى أنّ عملية الإصلاح الدّيني هي تجدُّد مطلوبٌ داخل نسق سياسي وتاريخي يفرضه الواقع.

- الرّهان الحزبي الحركي: وهذا رهان يرى أنّ الامتداد داخل فئات الشّعب لا يمكن أنْ يتأتّى إلا عن طريق الدعوة والإرشاد، فإصلاح الفرد هو سبيل إصلاح المجتمع. لهذا تخترق هذا العمق عن طريق الدعوة، والإحسان، وكذلك عن طريق العمل من داخل المنظومة السّياسية نفسها، حتى تتحرّك من خلال قوانينها داخل بنية المجتمع.

- الرّهان الأنتلجنسي أو براديغم المثقف الديني: هذه الفئة أيضاً لها حساباتها النَّهضوية والإصلاحية، وهي خاضعة لنموذجين: المعرفة والإيديولوجيا؛ فهي وإنْ كانت منفتحة على أدوات نقدية تتيح لها الاطّلاع على أفكار وثقافات، فإنَّ سقوطها في المستنقع الإيديولوجي هو سقوط حتميّ، حيث تساهم بمدّ الفاعل الحركيّ بمسوّغات إيديولوجية، بالمعنى الذي تصير فيه الإيديولوجيا منبعاً للتّضليل والتّبرير.

3- جدل الفواعل الثلاثة:

بعد أنْ تعرَّفنا على أهمّ الرّهانات التي تتحكّم في الفاعلين داخل الحقل الإصلاحي الدّيني في المغرب، يمكننا أنْ نختصر ذلك في أنّ حساب الفاعل الرّسمي هو الهيكلة والضّبط، وآليته القهر، باعتباره أحد تجلِّيات ووظائف الدّولة. كما أنّ رهان الفاعل الحزبي الحركي هو النُّفوذ والتوسُّع والاختراق، وآليته الدّعوة والتّعبئة. أمّا الفاعل الأنتلجنسي أو المثقّف الدّيني، فحساباته معرفية نهضوية، وآلياته نقدية علمية.

لكن كيف تعمل هذه الفواعل مع بعضها البعض؟

هنا يمكننا أنْ نشير إلى ما أكّد عليه إدريس هاني نفسه، أنّ الدَّولة تتعامل مع هذا الموضوع، وتجد مبرّراته في مسوِّغ الضَّبط، وهي غير معنية إلا بالتّوازنات السّياسية والاجتماعية، ومراقبة حركة المجتمع، والكشف عن قضاياه، وحساسياته الثّقافية والدّينية. فغالباً ما يكون دورها هو دور انفعالي بيروقراطي، تنظيمي. وهي غير معنية بطرح قضايا، وإشكالات، إلا بالقدْر الذي تنضج فيه الشّروط الموضوعية للمجتمع، وتحوّل الأفكار إلى حاجة ملحّة تضمن للمجتمع سيرورته وصيرورته، وتضمن للسّلطة والدولة والمؤسَّسات سيرها الطّبيعي والعادي.

أمّا الإسلام الحركي، فيجد مسوّغه في مبرّر الأسلمة، أو الإسلام هو الحلّ لكلّ القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمرّ منها المجتمعات المعاصرة. ظلّ هذا الشّعار يمثل المسوّغ الشّرعي لكلّ الحركات الإسلامية بما في ذلك الحركة الإسلامية المغربية، إلى غاية وصول أغلبها إلى سدة الحكم في بعض المناطق العربية، لينكشف من جديد أزمة الخطاب، وانعدام الحلول، والمفارقات الكبيرة بين التّنظير والواقع. من هنا يمكننا أنْ نقول بأنّ الخطاب الأصولي، هو خطابٌ موتور، ومتأزِّم، لأنَّه جزءٌ من المشكلة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، وليس جزءاً من الحل. ونقصد هنا بالأصولية الدّينية تحديداً تلك التوجّهات الدّوغمائية التي تريد أنْ تقنع النّاس بأنّ المجال الدّيني الإسلامي هو مجالٌ تجتمع فيه ثنائية الدّين والسّياسة إلى الحدّ الذي يصعب فيه افتراقهما، أو تلك التوجهات التي تهمّش الدور الإنساني في عملية التشريع. ويشترك في هذا التوجّه جميع الحركات الإسلامية الكبرى بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين، ووصولا إلى ما تفرّع عنها من حركات وجماعات تختلف في الشّكل، وتتّفق في المضمون، وهو إيديولوجية الخلاص في ما يسمى عندهم بتطبيق الشّريعة. وهنا لا يسعنا إلا أنْ نتفّق مع ما أشار إليه أشرف حسن منصور بأنّه من الخطأ أنْ نعتبر الأصولي المعاصر رجل دين أو تقوى، أو أنْ الأصولية هي حركة إحياء ديني. فالعكس هو الصحيح، إذ إنّ الأصولي المعاصر هو ناشط سياسيّ بامتياز لا يهمّه من الدّين إلا التّوظيف السّياسي، كما لا يهمّه من الأخلاق إلاّ تعبئة الجماهير[11].

لكن أين تكمن مشكلة الخطاب الأصولي في علاقته بالإصلاح الدّيني؟:

هنا يمكننا الإشارة إلى خطاب الأزمة الذي يمثّله، وهو خطابٌ يهدف إلى الهيمنة، والتوسُّع، عبر آلية الدَّعوة والحشد. وهذه تجلّيات مظاهر أزمة الخطاب الحركي الإسلامي:

أ- خطاب انتظاري: يعبّر عن عجز الكائن الإنساني، على الإحاطة بفكرة الإله المتعالي عن مدركات الإنسان المادية، والمتجاوز لحدود الطّبيعة والتّاريخ. يفسّر حركة التّاريخ وفق سقفه المعرفي الضيّق، ليجعل الإله حالاًّ في الطبيعة متحكِّما في قوانينها، هذا الإله الذي ينهي كلّ المشاكل، تارة بتدخله المباشر والفوري، وتارة أخرى بإرسال المخلّص في الفكر الغنوصي الوثني.

ب- خطاب ماضوي: يفقد الإنسان فيه أيضا سيطرته على المصير، كما يتحول فيه إلى لعبة في يد القدر كلّما عجز عن الانخراط في مشكلات عصره، وانسياقه فقط وإقامته في الماضي، باعتباره العصر الوحيد الذي استجمع شروط النّقاء والصّفاء.

ت- خطاب يمجِّد الجماعة على الوطن: هذه خاصّية من الخصائص المميّزة للأصوليات والجماعات التي تعتمد على الحشد والتّجميع والتّوحيد لكي تشعر الجماعة بوحدتها وقوّتها. وليتحقّق هذا الفعل، لا بدّ من فكرة جامعة، أو إيديولوجيا تهدف بالدّرجة الأولى إلى التّجميع والتّبرير.

أمّا الفاعل الأنتلجنسي أو المثقَّف الديني، فهو لم يقارب لحدود اللَّحظة الرّاهنة سؤال الإصلاح الدّيني أو موضوع الاجتهاد، معالجة تهدف إلى الخروج من مأزق التخلّف، والتّبعية. لكنْ ما يعاب على هذه الفئة هو أنّ كل الأسئلة الإصلاحية الكبرى غالباً ما تأتي من نخبٍ أخرى، وغالبا ما يواجهها هذا الفاعل بنوعٍ من التّحوير والمناورة إبقاءً على الوضع القائم، واستمرارا للثقافة التّقليدية، في مواجهة الحداثة والتّحديث.


[1]- نبيل، معلوف. الهويات القاتلة. بيروت، دار الفارابي، ط1، 2004. ص19

[2]- زكي، نجيب محمود. (1936). قصة الفلسفة الحديثة. القاهرة. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. ص37

[3]- المرجع السابق. ص38

[4]- برقاوي، أحمد. (1999). محاولة في قراءة عصر النهضة (الإصلاح الديني/ النزعة القومية). (ط2). دمشق. الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع. ص60

[5]- المحافظة، علي. الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة. (1798/1914): الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية والعلمية. الأهلية للنشر والتوزيع. ص70

[6]- عمارة، محمد. (1988). جمال الدين موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام. دار الشروق. ص80

[7]- الاتجاهات الفكرية. ص73 وما بعدها.

[8]- محاولة في قراءة عصر النهضة. ص68

[9]- القمودي، سالم. (1999). سيكولوجية السلطة: بحث في الخصائص النفسية المشتركة للسلطة. (ط1). مكتبة مدبولي. ص19

[10]- المرجع نفسه. ص27

[11] - أشرف، منصور. (2010). الرمز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان. (ط1). رؤية للطباعة والنشر. ص185