الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة وأفق العلاقة الوجوديّة؛ ما بين العرب والأمازيغ في شمال إفريقيا المغرب أنموذجًا


فئة :  مقالات

الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة وأفق العلاقة الوجوديّة؛ ما بين العرب والأمازيغ في شمال إفريقيا المغرب أنموذجًا

 الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة وأفق العلاقة الوجوديّة؛

ما بين العرب والأمازيغ في شمال إفريقيا

المغرب أنموذجًا


1 - تقديم:

إنّ السّؤال عن الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة، في الحقيقة سؤالٌ أنطولوجيّ، يروم الكشف عن ماهيّة الذّات الأمازيغيّة، وبيان موقع هذه الذّات داخل المجتمع وعالم الحضارة الإنسانيّة، من خلال ما تبدعه من قيم وأفكار وصنائع؛ فإثبات الوجود يقتضي - أولًا - المرور بالفكر، على أنّه جوهر الذّات الإنسانيّة العاقلة[1]، والإنسان الأمازيغيّ*[2] بوصفه "كينونة واعية"، لا ينفصل جوهره - إطلاقًا - عن نطاق الإنسان الصّانع (Homo Faber)؛ الّذي يتجلّى في العالم، ويتبدّى فيه إنيةً فاعلةً، تُقِرُّ هويّتها بما تُنْتِجُهُ، وتُثْبِت كينونتها في ما تقدّمه إلى الآخرين من معارف وإنجازات، صحيح أنّ التّاريخ ماكر وناكر لأفضال الكثيرين على البشريّة، لكن - مع ذلك - يبقى الأثر أقوى ممّا كان، وأدقّ من كلّ ما حرّفته الأيادي الخبيثة، أيادي أعداء الذّاكرة الإنسانيّة، والفكر الأخلاقيّ الكونيّ، الّذين عرقلوا مسار كثير من الأمم، وعطّلوها عن اللّحاق بموكب النّماء والتّقدّم، وشعب الأمازيغ - إحدى هذه الأمم - ظلّ بسبب الأحكام الإيديولوجيّة ومكر التّاريخ وعنف اللّغة، شعبًا غامضًا تكتنفه الألغاز والأسرار، وما زال - إلى يومنا هذا - يثير الكثير من الأسئلة والإشكاليّات، سنحاول في بحثنا المتواضع هذا، الوقوف على بعضها - خاصّة - ما يتعلّق بمشكلة الهويّة الأمازيغيّة وعلاقتها بنظيرتها العربيّة داخل الفضاء المغربيّ، وذلك بتحديد أسباب تمزّق الهويّة الاجتماعيّة للمغاربة (الأمازيغ والعرب)، وإبراز أسس هذه الهويّة في الحاضر وآفاقها المستقبلية، ثمّ بيان بعض مظاهر الإرث الثّقافيّ الأمازيغيّ، وأهميّة هذا الإرث في توطين الهويّة الوطنيّة وتوطيد العلاقات الاجتماعيّة، وصون الثّقافة والقيم والأفكار والآثار العقليّة من الضّياع والفناء.

2 - كونيّة الذّات الأمازيغيّة:

كلّ من يفكر في الغير، ويرى فيه ذاته الأخرى، يدرك بحقّ مقام ومعنى الإنسان الكونيّ، الإنسان الّذي يؤمن بأن العالم لم يخلق لأناه وحدها؛ إنّما خلق لكلّ الذّوات البشريّة، كيفما كانت أعراقها وأديانها وأوطانها وثقافاتها، ومن واجب كلّ ذات احترام العالم باحترام الذّوات الأخرى المختلفة عنها ثقافيًّا، والاعتراف - اللّامشروط - لها بالوجود والانتماء، بتقبّل اختلافها واستضافة هذا الاختلاف في دنياها بكلّ حبّ وحفاوة، فدين الإنسانيّة: هو دين للتّعايش، يقتضي محبة الآخر - الشّبيه والمختلف - على حدّ سواء، ومنح نفس القيمة لهويّتهما وثقافتهما، بعدّهما هويّة واحدة وثقافة واحدة، وعدم النّزوع نحو بثّ روح الشّرّ والعداوة بينهما.

هذه النّظرة الكونيّة إلى الإنسان وإلى الثّقافات الإنسانيّة، هي ما ينبغي إقرارها وتحقيقها في الواقع الاجتماعيّ، وإن وقفت إكراهات الحياة وإشكاليّات الوجود مانعًا أمام فعل ذلك، صحيح أنّ هذه الفلسفة - فلسفة الحبّ الإنسانيّ - لا تعدو أن تكون مجرّد حلم أو يوتوبيا متعالية عن الواقع الأرضيّ لحياتنا، غير أنّها تبقى - مع ذلك - رغبة قويّة تسكن حرارة نفوس الذّوات الشّريفة، وأرواح عُبَّاد عقيدة الحبّ الكونيّة الخالدة، وعشّاق القيم النّبيلة، ومُتَقَبِّلُوا الآخر رغم غرابة ثقافته، أو انفصال جذور هويّته عن هويّتهم الثّقافيّة الخاصّة.

ما دام الحديث عن الإنسان مقرونًا بالرّغبة في تحقيق الهويّة الكونيّة للمجتمع البشريّ على كافة مستويات الحياة؛ فإنّ لسان الحال يفرض مقاله على العقل، لكي ينظر في مقام الأمم الإنسانيّة؛ فينزع عن هذا المقام ما علق به من ترسبات الماضي العنيف الأليم، وتمزّقاته العرقيّة والثّقافيّة.

إنّ المقام الّذي نقصده - هنا - ليس مكانًا صوريًّا مجردًا، أو فضاءً مثاليًّا وميتافيزيقا على النحو الأفلاطونيّ؛ بل هو وطن ملموس شُيِّدَ لخدمة الخير لكلّ النّاس أنَّى كانت أعراقهم وأصولهم، فمفهوم الوطن ضرب من ضروب الهويّة، ورمز دالّ على السّكون والسّكينة، عوالمه المتعدّدة وألوانه الثّقافيّة المتنوّعة، ومظاهره الرّمزيّة المختلفة، علامات شاهدة على سماقته، وقيمته العليا بالنّسبة إلى كلّ أفراد المجتمع بشتّى مشاربهم.

وحتّى لا يكون كلامنا عن الإنسان وعن هويّته الثّقافيّة كلامًا بلا هويّة، وحديثًا عابرًا في كلام عابر؛ اخترنا موضوعًا لهذا السّياق، استقيناه من عمق بلادنا وصلب وطننا (المغرب)، ويتعلّق الأمر - هنا - بقضية الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة، هذه الثّقافة الّتي ظلّت تبحث لنفسها عن الوجود والوطن داخل عالم وجودها، في جوّ اجتماعيّ مضطرب تسكنه الأغاليط والمشاحنات، ووسط مناخ متوتّر يكتنفه الخداع والتّدليس والتّأليب و.. إلخ، جوّ مؤدلج ساهمت في خلقه أطراف بشريّة غير مسؤولة، همّها الوحيد هو خلق الفتنة والصّراع بين القبائل والأعراق (العرب والأمازيغ نموذجًا)، وذلك بتفضيل عرق على عرق آخر وتلميعه، ونسبة الوطن إلى أحد هذه الأعراق دون سواها، وعدّ العرق الآخر لاجئًا غريبًا عن الدّيار، ووحشًا كاسرًا غايته السّيطرة على الأرض والهيمنة عليها.

سياسة لا إنسانيّة كهذه: هي سبب تفكّك وحدتنا، وتمزّق علاقاتنا الاجتماعية لزمن طويل، علاقات وصلت ذروة انفصالها حدّ التّشاحن والتّطاحن والسّباب، وترسيخ قيم العنف والكراهيّة في نفوس الأبناء، بتصوير الآخر المختلف عنهم على أنّه شيطان لعين، أو غريب خطير يلزمهم نبذه واحتقاره والحذر منه على الدّوام، في كلّ مجالات الحياة الاجتماعيّة (التّربية، السّياسة، العمل، الزّواج، التجارة، وكلّ المعاملات اليوميّة).

لقد سادت في المغرب ولزمن طويل موجة من العبارات والأفكار السلبيّة الخطرة، فرّقت شمل معظم شتائل هذا البلد، خطابات فتّاكة، لم يتمكن آباؤنا وأجدادنا (العرب والأمازيغ) من وقف شرّها، لسذاجة تفكيرهم ومحدوديّة معارفهم، ثمّ لعدم وعيهم بحمولتها الشّريرة الكامنة فيها، وأنا - لأنّي عربيّ صغير يتوطّن داخل قبيلة عربيّة - كنت أسمع بعض العبارات عن الأمازيغ - هنا وهناك - لم أكن أدرك أبعادها أو أعرف جذورها ومنابعها، أو أفهم سياقات انبثاقها، بسبب صغر سنيّ، وقلّة خبرتي، وضعف قدراتي العقليّة، وعدم امتلاكي الرّؤية الفكريّة اللّازمة الّتي تؤهّلني - آنذاك - لمواجهة تلك الأفكار ونقدها.

اقتحم خُبْثُ تلك الأفكار كياني وانتشر في ذاتي الصغيرة انتشار النار في الهشيم، فصرت أرى الأمازيغيّ بعيون الآباء والأجداد لا بعينيّ، وأحترس منه كما يحترس الفأرمن بطش القطّ، لقد صوّر لي مجتمعي الإنسان الأمازيغيّ على أنّه جحيم يهدّد الهويّة، وعفريت يحطم قواعد السّلم والاستقرار، عفريت صعد من أعماق الأرض، أو قَدِمَ من عوالم الظّلام، ليطفئ أنوار وجودنا، ويُحَوِّلَ أيام نهارنا المشمسة إلى ليالي حالكة.

هذه الأحكام والحمولات الفكريّة السّلبية - نفسها - كانت أيضًا لدى الأمازيغ عن العرب، أحكام عمل المجتمع الأمازيغيّ بدوره على ترسيخها في أذهان وعقول أبنائه الصغار، حرب ثقافيّة وماديّة، نخرت جسد الأجيال وجسد الوطن، وأثّرت في الهويّة السّياسيّة والثّقافيّة المغربيّة كلّها، فبقي المجتمع المغربيّ يعيش على إيقاع التّصادم العلائقيّ، والتّناطح العرقيّ الفارغ من أيّ معنى أو إضافة.

لازلت إلى الآن أتذكّر أيام كنت تلميذًا في السّلك الإعداديّ والثانويّ، في ثانويّة المرابطين، التّابعة لإقليم بولمان، هذه الثّانوية؛ الّتي كانت (ولا زالت إلى الآن) فضاءً تربويًّا يجمع أمازيغ الأطلس المتوسّط والعرب على حدّ سواء، حينها كنت أرى في ساحة المدرسة طوائف عرقيّة وتكتّلات تلاميذيّة قَبَلِيَّة شديدة الارتباط، عرب هنا، وأمازيغ هناك، علاقاتنا ونظراتنا المتبادلة كانت جدّ محدودة، ومسكونة بهاجس الارتياب والحذر، أمّا داخل حجرات الدّرس؛ فكان التّعسكر باديًا في التّكتّلات الحاصلة على مستوى الصّفوف؛ حيث نادرًا جدًّا ما تجد أمازيغيًّا يجلس بقرب عربيٍّ على نفس الطّاولة، وعندما يحدث سوء فهم بين العربيّ والأمازيغيّ لسبب من الأسباب، تتحوّل العلاقة إلى معركة مباشرة، تبدأ نيرانها بتبادل عبارات السّبّ والقدح، من قبيل: آ العروبيّ المكلّخ– آ الشّلح الملقط ...إلخ، وغيرها من العبارات المتوارثة الماسّة بالكرامة والعرق والهويّة والإنسانيّة، قذف وسباب كانت ذروتهما تصل حدّ العراك، وتعمل أطراف كلّ عرق على توحيد صفوفها للانتقام من عدوّها الآخر، المعادي لها ثقافيًّا، والمختلف عنها عرقيًّا، لقد كان الفضاء الخارج عن أسوار المؤسّسة سَاحَةَ وَغَى تُقْرَعُ فيها طبول الحرب، إلى أن يتدخّل النّاس أو رجال الدّرك لوقف النّزيف حتّى لا يتنامى صبيبه، كانت الصّراعات عرقيّة وثقافيّة في العمق، معارك من أجل الهويّة المعطوبة والوجود الوهميّ، إن هذه المعارك؛ هي امتداد - لا شعوريّ - للصّراع التّاريخيّ الّذي اشتعلت فتائله بين العرب والأمازيغ، منذ أن احتلّ المستعمر الكولونياليّ الفرنسيّ بلاد المغرب.

لكن، بعد أن تَقَدَّمْتُ في السّنّ والدّراسة، واحتككت بالآخرين البُعَدَاءُ عَنّي، خاصّة في السّلك الجامعيّ، تمكّنت - شيئًا فشيئًا - من التّحرّر من ثقل الموروث الثّقافيّ المتحجّر، واستعطت نزع تلك الأحكام السّلبيّة المنغلقة، الّتي كانت تسد أمامي كلّ منافذ الحوار والتّواصل مع الآخر المختلف، حينها، اكتشفت بالملموس أنّ هذا الآخر ليس شبحًا مخيفًا، ولا جحيمًا ينبغي الابتعاد عنه أو القطع نهائيًّا معه؛ بل هو إنسان مثلي، وذات عاقلة تحمل أحلامًا وتملك إحساسًا وعاطفة، هذه المعرفة الذّاتيّة الّتي حصّلتها عن الغير، تَوَسَّعَتْ معالمها ونضجت بشكل أكبر عندما أَحَلَّتْ بي لعنة الفلسفة، حينها لم أعد أرى نفسي عربيًّا، ولم أعد أنظر إلى الأمازيغيّ على أنّه أمازيغيّ؛ بل صرت أنظر إلى كِلَيْنَا على أنّنا إنسانين، أَلْقَى بهما القدر في عالم الوجود، كي يتكاملا ويتعاونا مع بعضهما ومع باقي الأعراق البشريّة الأخرى، لبناء الشّرط الإنسانيّ والحضارة البشريّة، وتحقيق السّلم والأمن العالميّ، بعيدًا عن قيم الحقد والعداوة والعنف؛ الّتي لا تعمل إلّا على تدمير مصير وهويّة الإنسان الكوكبيّ، مفهوم الهويّة صار - بالنّسبة إليّ - كونيًّا بعدما كان عرقيًّا ومحليًّا لا يتجاوز حدود القبيلة.

رؤيتي العقلانيّة الأخلاقيّة هاته، لا تتعارض - إطلاقًا - مع الخطابات الكونيّة - دينيّة كانت أو فلسفيّة - فالرّسائل الرّبانيّة المنزلة من السّماء تؤكد على التّعايش بين النّاس، وتدعو إلى تجنّب الخلافات الجنسيّة أو العرقيّة أو الثّقافيّة، فالله عزوجل - في كتابه الكريم - يقول: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِير}[3]، هذه الحكمة الرّبانيّة، وهذا اللّطف الإلهيّ، لا يدرك معناهما إلّا المؤمنون بعقيدة الحبّ، رُحَمَاءُ القلوب، أصدقاء الإنسان الّذين ذكرهم الأنبياء والحكماء والفلاسفة في نصوصهم بلسان الطُّهْرِ والمحبّة، قال الفيلسوف العربيّ المتصوّف (محيي الدّين بن عربي) في قصيدة له تحت عنوان "ألا يا حامات الأراكة والبان": (أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت.. ركائبه، فالحبّ دينيّ وإيمانيّ)[4]، لكن كيف للحبّ أن يقلّص المسافات الفاصلة بين النّاس، ويربط ما بين المختلفين والمتخالفين؟ وما السّبيل إلى الحدّ من ثقافة التّغريب والغرابة، وتحقيق الإنسانيّة المشتركة، سواء ما بين العرب والأمازيغ، أو ما بين هؤلاء وباقي المجتمعات البشريّة السّاكنة أرض هذا الوجود؟

3 - العرب والأمازيغ: قيم مشتركة وروابط حبّ قويّة تؤسّس لهوّيّة وطنيّة لا نظير لها.

لقد سعى المستعمر الغربيّ - أيّام دخوله إلى المغرب - إلى خلق الشّنآن والصّراع بين مكوّنيه الأصيلين: العرب والأمازيغ، وذلك بهدف تفكيك وحدة هويّتهما الاجتماعيّة المغربيّة المشتركة، وتسهيل عمليّة السّطو على ثروات مغربهم الماديّة والرّمزيّة، واحتلال أراضيه الواسعة بكلّ أريحيّة، عمليّة التّأليب هاته تمّت بتسخير الفرنسيّين لكلّ الوسائل والطّرق، كان من بينها القدح في العرق الأمازيغيّ، باعتبار الإنسان الأمازيغي بربريًّا بليدًا قليل الفهم والذّكاء، ووحشًا يقبع خارج دائرة العالم الإنسانيّ، كائن غريزيّ همجيّ يعيش في البراري والجبال كالعجماوات، ومخلوق بدائيّ بينه وبين الحضارة والعقل والتّاريخ هوّة سحيقة، وجدار سميك يستحيل اختراقه.

هذا الوصف المحتقِر، والنّظرة العنصريّة - اللّاإنسانيّة - من الغرب المحتلّ، انعكست آثارهما بشكل سلبيّ على الوحدة الوطنيّة للمغاربة؛ حيث كرّست منطق الشّقاق بين ساكنة البلد، وخلقت العنصريّة بين الأعراق، لفترة طويلة، حتّى أصبح مصير الوطن عرضة لأيّ اختراق وهجوم، سياسة كهذه لم تعبّر إلّا عن خبث التّفكير الاستعماريّ، وتدني مستوى القيم الأخلاقيّة الغربيّة الزّاعمة التحضّر والارتقاء.

بعد هذا المخاض التّاريخيّ العصيب، استقلّ المغرب من جأش المستعمر، فلم يعد مشكل الاستقرار الاجتماعيّ لقبائل المغرب، متعلّقًا بالوجود المباشر للفرنسيّين، بقدر ما أصبح الأمر مقترنًا بمخلّفات هؤلاء، وأفكارهم الانفصاليّة الّتي كرّسوها ورسّخوها في نفوس المغاربة طيلة سنوات وجودهم على أرض المغرب، فاتّسعت - جَرَّاءَ ذلك - هُوَّةُ التّباعد والعداوة بين العرب والأمازيغ، حتّى بدأت أصوات بعض النّشطاء الأمازيغ تلوح في الفضاء، وتقول: "إنّ العرب احتلّوا المغرب، واستوطنوه في الزّمن الغابر، وألغوا عنه صفته الأمازيغيّة، وإنّه - منذ ذلك الزّمن - والأمازيغ يقاومون هذا الاحتلال، ويسعون إلى دحره بكلّ الوسائل، وإعادة المغرب إلى الصّورة الّتي كان عليها قبل أن تطأه أقدام العرب الهمج المتخلفين؛ أي المغرب الأمازيغيّ النّقي الخالي من العرب، لغةً، وثقافةً، وحضارةً، وحتّى إنسانًا، إن كان في الإمكان ذلك[5].

لكن، هل ثمّة علاقة بين هذا التّصوّر الّذي يروّج له هؤلاء النّشطاء الأمازيغ عن العرب، بالواقع المغربيّ كما يعيش فيه حاليًّا المغاربة عربًا وأمازيغ؟

واقعنا المغربيّ اليوم، يقول عكس ذلك تمامًا؛ فالاندماج حاصل في المجتمع، والتّزاوج قائم بين الطّرفين، ولدينا عدد كبير من المغاربة من أصول عربيّة متزوّجون من نساء من أصول أمازيغيّة، كما أنّ لدينا نفس العدد - أو يفوقه - من المغاربة من أصول أمازيغيّة متزوّجون من نساء من أصول عربيّة، ولديهم أبناء مختلطون، نصفهم أمازيغيّ، والنّصف الثّاني عربيّ، والأسر تتزاور وتتلاقى بينها في الأعراس والمآتم والمناسبات الدّينيّة، وتتقاسم الأفراح والأتراح، ولا نشعر في الأسواق، أو في الشارع، أو في المدرسة، أو الإدارة، أو المستشفى، أو المسجد، أو في مقرّات الأحزاب أو النّقابات أو الجمعيّات، ..إلخ، أنّ هناك فرقًا بين المغربيّ من أصول عربيّة، والمغربيّ من أصول أمازيغيّة.[6]

إنّ هذه المؤشّرات؛ دلائل ملموسة تبرز أنّ العرب والأمازيغ منسجمون ومتآخون فيما بينهما، لهم نفس الحقوق، ويخضعون - معًا - للقانون بالتّساوي دون تمييز، فلماذا - إذن - اصطناع عقدة المظلوميّة وتصوير الأمازيغ من طرف هؤلاء النّشطاء، كأنّهم ضحايا قمع واضطهاد ناجمين عن احتلال عربيّ لأرضهم المغرب؟ الواقع الحاليّ الّذي نعاينه بأمّ العين، يشهد أنّ المغاربة - على اختلاف أصولهم العرقيّة - يتعايشون متساكنين، ومتفاهمين، ومتعاونين بينهم.

فالدّماء المتجانسة، والأرض الجامعة، والإسلام المشترك، كلّها أسس قويّة تكسر مقولات الغرب الخبيثة، ومفاهيم أعداء الهويّة الثّقافيّة والعرقيّة للعرب والأمازيغ، صحيح أنّ هناك اختلاف فكريّ وثقافيّ بين هذين الأخيرين على مستويات عدّة؛ (كاللّغة، وبعض الطّقوس الاجتماعيّة، والعادات، والتّقاليد، والفنون، ..إلخ)، إلّا أنّ هناك قواسم مشتركة وتبادل ثقافيّ وديّ متناغم بينهما؛ فالاختلاف الحاصل لا يعني الخلاف، ولا يؤدّي إلى التّمزّق، بقدر ما يسهم في إغناء الهويّة الكليّة وتثبيت أركانها، وحتّى لا يظلّ حديثنا عن الهويّة الوطنيّة للمغاربة عامًّا، وغير شفاف؛ فإنّه من اللّازم علينا - مادام الموضوع حول المجتمع الأمازيغيّ - عرض بعض صور الإرث الثّقافيّ الأمازيغيّ، وإزالة كلّ ما علق بالأمازيغ من مغالطات إيديولوجيّة، وإنكار لَعِينٍ لثراء وتنوّع ثقافتهم، من قبل بعض عشّاق العدم والانشقاق والتّدليس.

فما مظاهر الثّقافة الأمازيغيّة في المغرب؟ وما قيمة دور هذه الثّقافة وأهميّته في بناء هوية المجتمع الأمازيغيّ خاصّة والمغربيّ عامّة وتشكيلهما؟

4 - التّراث الأمازيغيّ.. ثقافة غنيّة يعتزّ بها كلّ المغاربة:

أ - مظاهر التّراث:

يحفل المجتمع الأمازيغيّ المغربيّ بإرث رمزيّ ومادّيّ عريقّ، متجذّر في التّاريخ البشريّ منذ أمد بعيد، إرث لازالت آثاره وصوره ومعالمه بارزة في واقعنا وحياتنا إلى يومنا هذا، وتتجلّى الجذور الأمازيغيّة للثّقافة المغربيّة في ميادين كثيرة؛ كالموسيقى، والرّقص، والحكايات الشّعبية، وفنّ الزّخرفة، والصّناعات الحرفيّة، ولكون الثّقافة الأمازيغيّة ظلّت لقرون طويلة ثقافة شفهيّة في المقام الأوّل[7]؛ فإنّ الحكايات والأمثال والحكم الشّعبية: هي الّتي تمثلها اليوم أبلغ تمثيل على المستوى اللّغويّ، وما زال الشّغل الشّاغل للباحثين في ميدان اللّغة الأمازيغيّة؛ هو كتابة هذا الإرث الشّفهيّ، ونشره في الكتب والمجلّات المتخصّصة، وكذا مواقع الإنترنت، وقد عمل المغرب في هذا الإطار على إقرار اللّغة الأمازيغيّة لغةً رسميّة للبلاد، تتمتّع بنفس القيمة الّتي لدى العربيّة؛ حيث أعلن عاهل البلاد (الملك محمد السّادس) جعلها مدرسيّة، حتّى يتعلّمها أبناء هذا الوطن جميعًا دون استثناء، وذلك بنيّة الحفاظ على الثّقافة الأمازيغيّة، وإشعاعها على الصّعيد الدّوليّ، بإخراجها من عزلتها نحو الفضاء العالميّ الواسع.

أمّا على مستوى العادات والتّقاليد الثّقافيّة؛ فتتجلّى هذه الثّقافة في فنّ الطّبخ التّقليديّ؛ (بركوكش الأمازيغيّ الأصيل، تاروايت أو العصيدة، رفيسة أفلوس وغيرها من الأكلات الأمازيغيّة الأخرى)، وطقوس اجتماعية كثيرة (حفلات الزّفاف، ..إلخ)، ومناسبات فلّاحيّة أو مواسم زراعيّة[8] يحتفل بها إلى يومنا هذا، وأشهرها؛ عيد "يناير" أو رأس السّنة الأمازيغيّ المشترك بين كلّ النّاطقين بالأمازيغيّة.

وقد شملت الثّقافة الأمازيغيّة - أيضًا - كثيرًا من الضّروب الشّعريّة الأمازيغيّة، الّتي لا زالت تحافظ على وجودها حتّى يومنا هذا، ومن بينها؛ النّوع الغزلي المسمّى "إيزلي" و"الأهليل": هو قصيدة دينيّة ابتهاليّة معروفة في مناطق كثيرة ناطقة باللغة الأمازيغيّة (جنوب المغرب مثلًا)، كما يعرف الشّعر الأمازيغيّ أنواعًا أخرى؛ كالقصائد الملحميّة والسياسيّة والفلسفيّة.

ومن الواضح؛ تغلّب الصّبغة الشّفهيّة على الشّعر الأمازيغيّ، لذا؛ فهو - أساسًا - شعر إنشاديّ أو غنائيّ، ويؤكّد ذلك الباحث الجزائريّ (يوسف نسيب)، فهذه الإنتاجات الشّعريّة الأمازيغيّة قلّما تكون فرديّة؛ بل هي - في الغالب - "ظاهرة لا يمكن فصلها عن الثّقافة الجماعيّة، ويجب أن تدرس في إطار صلتها بحياة الجماعة"[9].

تمثّل الرّقصات الأمازيغيّة القديمة تشكيلة بالغة الغنى، ومن بين هذه الرّقصات المعروفة في المغرب؛ "تيسيت" الّتي يؤدّيها راقصان أو ثلاثة، و"أحواش" و"أحيدوس" وهما رقصتان جماعيّتان[10]، وتعدّ هذه الرّقصات احتفالًا غنائيًّا راقصًا عرفت به القبائل الأمازيغيّة جنوب المغرب، تقيمه في مواسم الخصب، وجني المحاصيل، ومع بداية فصل الرّبيع، كما تحتفي فيه بزوّارها وأعراس أبنائها وأفراحهم، .. إلخ.

كما أن من العناصر الّتي تكوّن الهويّة الأمازيغيّة - حاليًّا - موسيقى ذات أصول قديمة، تمتزج فيها تأثيرات متنوّعة (عربيّة ومتوسطيّة وزنجيّة)، وقد نالت هذه الموسيقى شهرة عالميّة بفضل الجرأة الخلّاقة لمغن مثل؛ إيدير، ولوجود جاليات أمازيغيّة معتبرة في أوروبا وأميركا

كما احتفظت الثّقافة الأمازيغيّة بفنّ زخرفيّ موغل في القدم، و"يتجلّى هذا الفنّ الزّخرفيّ العريق في نسيج الزّرابيّ وصناعة الخزف؛ حيث يتّخذ شكل رسوم هندسيّة تستعمل - في أغلب الأحيان - حروف أبجديّة التّيفيناغ[11]، كما أنّ الصّناعات الحرفيّة (من ذهب وفضّة وغيرهما) عنصر آخر لا يمكن تجاهله من عناصر هذه الثّقافة؛ بل هي إحدى الوسائط الّتي بدأت تعرف بها على المستوى العالميّ.

غير أن أبلغ تجليّات الهويّة الأمازيغيّة - حاليًّا - من غير منازع؛ هو استمرار استعمال اللّغة الأمازيغيّة في الوجود والنّماء، إنّ محافظة هذه اللّغة على نفسها من الاندثار دون أدب مكتوب، أو تدوين معجميّ، أو نحويّ لأمر أشبه ما يكون بالمعجزة، وكما يقول باحث مغربيّ: "لولا استمرار هذه اللّغة في الوجود، لاستطاع أعداء الأمازيغيّة - بأسهل ما يمكن - أن يحوّلوا هذه الثّقافة إلى مجرّد منظومة فولكلوريّة[12].

ورغم الوجود القويّ للّغتين (العربيّة والفرنسيّة) في بلدان المغرب العربيّ والسّاحل الإفريقيّ، ما زالت القرى في بلاد القبائل تدعى بأسمائها القديمة، مثلها مثل القرى المغربيّة أو التّارقيّة.

كما أنّ كثيرًا من مدن المغرب ما زالت تحمل أسماءها الأمازيغيّة الأولى، حتّى وإن عرّبت هذه الأسماء أو فرنست، "إنّ أسماء الأماكن دليل بليغ على تشبّث الأمازيغيّة بالأرض؛ فأسماء المدن والقرى والوديان والجبال والفجاج، و.. إلخ، في معظمها أسماء أمازيغيّة، أمّا أسماء الأماكن العربيّة؛ فهي - غالبًا - نتيجة ترجمة حرفيّة لأسماء أمازيغيّة أو نتيجة قرارات إداريّة[13].

ويعدّ بعث الأسماء الأمازيغيّة البائدة أحد المعارك الرّمزيّة، الّتي خاضتها الحركة الثّقافيّة الأمازيغيّة في الجزائر، ضد الحظر الّذي كان مفروضًا عليها، ونلاحظ في المغرب نفس ظاهرة بعث الأسماء الأمازيغيّة القديمة، وصار ركن "أسماء الأعلام" ركنًا ثابتًا في مواقع الإنترنت الّتي أنشأتها هذه النّخب[14].

ب - أهميّته وأدواره في تأسيس الهويّة:

إذا كانت الثّقافة - بمعناها الواسع - هي: مجموع المعارف والمعتقدات، والفنون، والأخلاق، والقوانين، والأعراف الّتي عمل الإنسان على إنتاجها في عالمه الإمبريقيّ، للتّعبير عن ذاته وحياته وعالمه، وفكّ مشكلات وجوده؛ فإنّ كلّ الإنتاجات الاجتماعيّة الّتي عرفها التّاريخ الإنسانيّ تدخل في هذا الباب، سواء كانت عربيّة أو جرمانيّة أو رومانيّة أو آشوريّة أو آسيويّة أو فرعونيّة أو هنديّة أو أمازيغيّة، وليس من الحكمة والعدل طمس أيّة ثقافة من هذه الثّقافات، أو عزلها عن دائرة الوجود الإنسانيّ، كيفما كانت الأسباب أو الظّروف؛ لأنّ فعل ذلك يعدّ جريمة في حقّ العقل الإنسانيّ، وضربًا لقيمة الذّوات البشريّة المنتجة لها وهويّاتها؛ فهذه الثّقافة صادرة عن فكر أصحابها، منبثقة من عمق كينونتهم الجماعيّة للتّعبير عن هواجسهم ومشاعرهم وقضاياهم الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والكونيّة، وأيّة محاولة لمحوها أو المساس بها تعدّ - بلا شكّ - إجهازًا فاتكًا لماهيّتها، وإقبالًا وحشيًّا على قتل مجتمعها، ومحو هويّته الإنسانيّة من سجل الوجود الإنسانيّ.

ومادامت الهويّة: هي العنصر الثّابت في الشّيء أو الشّخص أو الجماعة (الماهيّة/ الجوهر)، أو الخصائص الجوهريّة الّتي بها يكون مجتمع ما حاضرًا مع ذاته، ومتماسكا في كيانه، ومقاومًا كلّ العوارض والتّغيرات الّتي يخلقها الواقع أو الزّمان، فإنّ الثّقافة؛ هي القاعدة الأساسيّة التي تجعلنا نحكم: أنّ لهذا المجتمع أو ذلك حضور قويّ في ساحة الأمم البشريّة، وبدونها (بدون الثقافة) يصبح الحديث عن مجتمع إنسانيّ، حديثًا بلا معنى، وكلامًا مسكونًا بالسّخرية والبهتان، فالثّقافة هي الّتي تحدّد هويّة المجتمع، كيفما كان عرق هذا المجتمع أو أصله.

من الواضح - إذن - أنّ الأمازيغ ليسوا كائنات عدميّة منبوذة الأثر، ولا مخلوقات غريزيّة محرومة العقل؛ بل هم شعب ثريّ الثّقافة، وغنيّ الوجود - بشر مثلنا - لهم فكر يعقلون به الأشياء، ووعيٌ يميّزون به بين الخير والشّرّ، وبين الفضيلة والرّذيلة، وإرادة يختارون بموجبها ما يليق بحياتهم، ثمّ ذاكرة يحفظون فيها أحداثهم التّاريخيّة وإبداعاتهم الثّقافيّة الحيّة، فثقافتهم هي عين وجودهم وجوهر هويّتهم.

5 - انعدام أخلاق، أفول ثقافة، واختفاء إنسان:

عنوان دقيق، سافر بي نحو عوالم الذّاكرة الإنسانيّة، وبواطن التّاريخ البشريّ؛ حيث الحقيقة تتبدّى للعيان بوضوح، حقيقة المجتمع المغربيّ المجروح، المكتوي بنار الانفصال والانشقاق، انفصال عرقيّ ساهم المستعمر الكولونيالي في خلقه وترسيخه، بهدف إرباك الوحدة السياسيّة والوطنيّة لسكان المغرب، وتكسير هويّتهم عبر بربرة المجتمع الأمازيغيّ ومحاولة طمس وتزييف حقيقته، ثمّ العمل على تحريض وتأليب العرق العربيّ ضدّهم، مستعملين - في ذلك - كافة أساليب الشّحن والكذب والتّضليل، وقد نجم عن ذلك نجاح المخطّط الاستعماريّ، وتفكّك الوحدة الاجتماعيّة للمغاربة باشتعال فتائل الحرب والصّراع، والتّباعد بين قبائل المغرب المختلفة لفترة طويلة من الزّمن.

هذا الأسلوب الإمبرياليّ اللّاأخلاقيّ واللّاإنسانيّ؛ هو ما عاشت على إيقاعه شعوب بشريّة من قبل، وتجرّعت من قدحه الويلات والمحن، والقارئ المتأمّل في تاريخ الشّعوب والثّقافات، يدرك - بلا ريب - الممارسات السّلبيّة الّتي لاقتها بعض الشّعوب، وعمليّات الإقصاء والطّمس والحشر والقتل الّتي مورست عليها، وعلى هويّتها وثقافتها وحياتها من طرف مجتمعات وشعوب أخرى، بسبب الجشع والطّمع والرّغبة في السّيطرة والاستحواذ، ولنا في تاريخ الهنود الحمر في القارّة الأمريكيّة، أقوى المشاهد والأدلة الدّالة على ذلك؛ فالإبادات الجماعيّة الّتي تعرّض لها هؤلاء الهنود داخل موطنهم الأصليّ (أمريكا)، من طرف المحتلّ الإسبانيّ الأبيض، تشي بغياب إنسانيّة الإنسان، وغلبة الرغبة الجامحة على الأخلاق والقيم الكونيّة.

" لم يكن الهنود يتوقّعون أن يأتيهم هذا العذاب والفناء على أمواج بحر العذاب أو المحيط الأطلسيّ؛ بل العجيب والمؤسف أنّ الهنود ظنّوا أنّ المستوطن الجديد آلهة رحيمة، جاءت لتنقذهم من الشّرور، فقد كان لدى الهنود أساطير يؤمنون بها تتحدث عن مجيء آلهة عبر أمواج المحيط من جهة الشّرق، تخلّصهم من جميع الشّرور، لذا؛ كانوا يجمعون الذّهب - في القرون السّالفة - لتقديمه قربانًا إلى هذه الآلهة، لمّا وصل الإسبان، قام الهنود بتحميل سفنهم بالذّهب اعتقادًا منهم أنّهم آلهتهم المنتظرة، وسرعان ما أدرك هذا الوحش الأبيض أنّه أمام فريسة سهلة، وعرف ما ينبغي عليه فعله؛ وهو الإبادة والاستيلاء على أرض الذّهب والخيرات"[15].

فما يندى له الجبين؛ هو المكر الإيديولوجيّ الّذي يمارسه الإنسان اللّاإنساني على الغير، حيث نشر المغالطات والصّور الكاذبة القالبة للحقيقة، والنّاكرة للحقّ، فما نسمعه عن الهنود الحمر أو نعرفه عنهم في الأفلام السّينيمائيّة، يكشف بجلاء رغبة الآخر المتعسّف في تصوير هؤلاء الهنود، أنّهم كانوا أناسًا همجيّين متوحّشين، يختبئون في رؤوس الجبال ليهجموا على الأمريكان البيض المساكين، ويطاردونهم ليقتلوهم، ويمزقوهم بوحشيّة، إنّ هذه الصّورة الّتي أوصلوها لنا، وحفروها في أذهان النّاس، ما هي - في الحقيقة - إلّا سلب وطمس للصّورة الحقيقيّة لواقع الهنود الحمر، بعد أن سلبوا أرواحهم وأراضيهم، وما هي إلّا محاولة دفن جريمة بشعة راح ضحيتها أكثر من 112 مليون إنسان، ينتمون إلى أكثر من أمّة وشعب، ثمّ القضاء عليهم بأفظع عمليّات الإبادة في التّاريخ، وأبشع الأساليب والطّرق الوحشيّة في مائة وخمسين عام من الزّمن[16].

عاش الهنود - الحمر قبل المحنة والجحيم الغربيّ - حياة بسيطة وهادئة، تغمرها قيم الصّدق والسّلم والتّسامح، وتمجيد الأخلاق والحضارة الروحيّة، واحترام المرأة بمنحها مكانة خاصّة شكّلت أساس هويّتهم، وسياق وجودهم الاجتماعيّ، وعدّوا كلّ من يؤذيها حيوانًا شبيهًا بالبهيمة، وكانوا أناسًا مسالمين، وتراثهم مليء بالمعاني الإنسانيّة، والرّفق بالإنسان والحيوان. يقول القسّ الإسبانيّ (برتولوميو دي لاس كاساس)، المولود في عام 1484م، واصفًا هؤلاء السّكان المحليّين في كتاب أهداه إلى الملك فيلييب الثاني: "إنّهم بسطاء وطيّبون لدرجةٍ كبيرةٍ، وصبورون ومتواضعون وسذّج جدًّا، ومطيعون بعيدون عن الشّرور والحيل والخداع، وهم يبدون التزامًا كبيرًا بتقاليدهم، ويطيعون الإسبان، لا يتنازعون، ولا يتقاتلون، ولا يحملون حقدًا على أحد، لا تجد عندهم مشاعر الانتقام والحقد والعداء، هم فقراء جدًّا، ولكنّهم لا يحملون مشاعر الطّمع والحرص والنّهم"[17].

أمّا المكتشف (كريستوف كولومبوس)، فيقول في رسالة بعثها إلى ملك وملكة إسبانيا: "هؤلاء النّاس طيّبون جدًّا، ومسالمون جدًّا، بحيث أنّي أقسم لجلالتيكما، أنّه لا توجد في العالم أمّة أفضل منهم"[18].

هذا المثال التّاريخيّ المؤلم، ليس سوى نموذجًا من نماذج مجتمعات إنسانيّة كثيرة، تعرّضت - هي الأخرى - للبطش، والتّنكيل، والسّرقة الثّقافيّة، ومحو التّاريخ الاجتماعيّ الخاصّ بها؛ فمنها ما أبيد عن آخره، ومنها ما فَقد قوّته، وأُفرغَت مركّباته الثّقافيّة من كلّ الإنتاجات الفكريّة والفنّيّة والعلميّة الرّفيعة، ونسبت إلى الآخر الخبيث، على أساس أنّه صاحبها ومبدعها، فَحُكِمَ بذلك على المغلوبين بالضّياع وفقدان الكينونة والهويّة، بالتّالي؛ الإقصاء والتّهميش.

لقد كان من المتوقّع - إذن - أن يعرف المغاربة نفس المصير المحزن (المؤلم)، الّذي عرفه - آنذاك - أهالي القارّة الأمريكيّة الّذين أبادهم الإسبان، لولا أنّ الوحدة الّتي رأينا كيف نشأت ونضجت منذ ست قرون، وبلغت درجة كافية من الكثافة والوعي بالنفس، مكّنتهم أن يجابهوا - بردّ فعل جماعيّ - الضّربات الّتي لم تكن تصيب - في أوّل الأمر - إلّا البعض منهم"[19].

6 - ما ينبغي أن يكون:

هو الاعتراف بأصالة الثّقافة الأمازيغيّة، وأيّة ثقافة بشريّة أخرى، بعدّها ثقافة إنسانيّة، مثلها مثل باقي الثّقافات، لها مكانتها وقيمتها على الصّعيد المحليّ والدّوليّ، والعمل على إشعاع هذه الثّقافة، ليتعرّف الآخرون على عوالمها، ويغتنوا من ثرائها ومخزونها المعرفيّ الشّاسع، في إطار علاقة تبادليّة يحكمها منطق الأخذ والعطاء، هذا الحوار الثّقافيّ بين المجتمعات والشّعوب، يمنح العالم والوجود الإنسانيّ طابعه الحقيقيّ، وينزع عنه قيم العنف والتّغريب، فبنو البشر العقلاء - أَنَّى كانت أجناسهم وأعراقهم وعقائدهم وألوانهم - ليسوا أشياء ولا ينبغي التّعامل معهم على هذا الأساس؛ بل هم ذوات عاقلة، توجد على أنّها غايات في ذاتها، لا مجرّد وسائل يمكن أن تستخدمها هذه الإرادة أو تلك وفق هواها، ومن واجبنا - بما أنّنا كائنات عاقلة - أن نحترم خصوصيّات وقيم وثقافات بعضنا البعض، وألّا نسيء إلى أيّ مجتمع وإلى أيّ شخص كيفما كانت الأحوال؛ لأنّ فعل ذلك يعدّ إساءة لذاتنا وللإنسانيّة جمعاء، كيف لا ونحن - جميعًا - من آدم وآدم الأب من تراب[20].

يقول الفيلسوف الألمانيّ كانط، في هذا الصّدد: "تصرّف على نحو تعامل معه الإنسانيّة في شخصك، كما في شخص غيرك - دائمًا وأبدًا - على أنّها غاية في ذاته، وليست مجرّد وسيلة بتاتًا"[21]، وما دام الإنسان الأمازيغيّ ذاتًا واعية متفرّدة بهويّتها الثّقافيّة الخاصّة بها؛ فلا يحقّ لأحدٍ تغريبه أو تهميشه من دائرة الوجود البشريّ، لمجرد أنّه ليس شبيهًا به في اللّغة والثّقافة والعرق؛ فالاختلاف يجب ألّا نتّخذه سبيلًا للتّناحر والانفصال؛ بل - على العكس من ذلك - ينبغي أن نستثمره بما يغني حضارتنا الإنسانيّة جمعاء، وكلّ من ينظر إلى الأمازيغيّ على أنه غريب بعيد عن الذّات والحضارة، فليعلم: أنّ الغربة في ذاته، وأنّ البعاد كامن في عمق كينونته؛ فالغريب - كما عبّرت عنه (جوليا كريستيفا*[22])، ليس اسمًا مستعارًا للحقد وللآخر، أو ذلك الدَّخيل المسؤول عن شرور المدينة كلّها، ولا ذلك العدوّ الَّذي يتعيَّن القضاء عليه لإعادة السّلم إلى الجماعة، إنَّ الغريب يسكننا على نحو غريب، إنَّه القوَّة الخفيَّة لهويّتنا، والفضاء الَّذي ينسف بيتنا، والزَّمان الَّذي يتحقّق فيه وفاقنا وتعاطفنا، ونحن إذ نتعرَّف على الغريب فينا نوفّر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته، إنّ الغريب بوصفه دالًّا يجعل (النّحن( إشكاليًّا وربما مستحيلًا، يبدأ عندما ينشأ لديّ الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا - جميعًا - على أنّنا غرباء، متمرّدون على الرّوابط والجماعات [23].

7 - خاتمة:

موضوع الهويّة الثّقافيّة الأمازيغيّة: هو موضوع لا ينفصل عن موضوع الهويّة الثّقافيّة المغربيّة والإنسانيّة ككلّ، على أن الأمازيغيّ إنسان ينتمي إلى الواقع، ويشارك بوعيه وتفكيره في الرقي بالوطن والحضارة البشريّة، بإبداع ما يناسبهما من معارف وأفكار وفنون وقيم كونيّة، غير أنّ فعل ذلك لا يحدث بشكل فرديّ؛ إنّما بانخراط الآخرين من أبناء مكانه الأرضيّ - أمازيغ وعربًا وإلخ، فنداء الثّقافة - بوجه عامّ - يُلْزِمُ بني الإنسان كافّة - وكذا الثّقافات - بضرورة التّعايش والتّجانس والاستضافة، لأنّ في ذلك خير للمجتمع وثراء للإنسانيّة جمعاء.

 

المصادر أو المراجع المعتمدة:

1 - القرآن الكريم، [سورة الحجرات (49): (13)].

 - 2يوسف نسيب، "مدخل إلى الشّعر القبائليّ"(بالفرنسيّة)، منشورات دار الأندلس، الجزائر، 1993م، ص 19

 - 3 الأمازيغيّة؛ بين الثّقافيّ واللّغويّ (بالفرنسيّة)، مقال منشور في مجلة "تيفيناغ"، العدد الثّامن، 1995م.

4 - الأمازيغ عبر التّاريخ؛ نظرة موجزة في الأصول والهويّة، للدّكتور: العربي عقون، (pdf).

5 - "أميركا والإبادات الثّقافيّة.. لعنة كنعان الإنكليزيّة"، كتاب للدّكتور والمفكّر منير العكش، حمّلناه بصيغة (pdf) على الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.ask4yourbook.com/2016/05/pdf_5.html

ندعو القارئ المهتمّ بهذا الإطار إلى قراءة كتاب آخر للمفكّر منير لعكش، بعنوان: "حقّ التّضحية بالآخر، أمريكا والإبادات الجماعيّة"، النّاشر: رياض الرّيّس للكتب والنّشر، الطّبعة الأولى، 2002م، عدد الصّفحات 201. لتحميل الكتاب بصيغة (pdf)؛ اتبع الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.narjes - library.com/2015/09/blog - post_53.html

6 - إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: فيكتور دلبوس دولاغراف، 1969م، ص 149

7 - Etrangers à nous - mêmes, Fayard, 1988, Julia Kristeva, p 7.

المقالات والبحوث الإلكترونيّة وروابطها:

8 - محيي الدّين بن عربيّ، من قصيدة بعنوان: "ألا يا حمامات الأراكة والبان"، على الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=19269

9 - العرب والأمازيغ إخوة، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://elaph.com/Web/opinion/2015/3/992901.html

10 - من بين الأعياد الزّراعيّة في المغرب؛ تدشين الموسم الزّراعيّ المسمّى بـ"المعروف"، وكذا عيد الاستسقاء، الباحث المغربيّ: علي أمهان، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: www.mondeberbere.com

11 - المنشأ البربريّ للثّقافة المغاربيّة، انظر الرّابط الإلكترونيّ: www.mondeberbere.com

12 - الوجه الثّقافيّ واللّسانيّ للهويّة الأمازيغيّة، انظر الرّابط الإلكترونيّ: http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/199bbb0a - 3536 - 4ca2 - bae2 - 9ca163862e50

13 - أكبر جريمة في تاريخ البشريّة، بقلم: بدر عبد الله، للاطلاع على الموضوع، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.kabbos.com/index.php?darck=402

14 - جرمان عيّاش، أصول حرب الرّيف، لمعرفة تفاصيل السّياق؛ اقرأ مقالة "العرب والأمازيغ إخوة"، على الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://elaph.com/Web/opinion/2015/3/992901.html


[1]- تصوّر فلسفيّ أسّسه الفيلسوف العقلاني ديكارت، رائد الفكر الفلسفيّ الحديث (ق 17)، في كوجيطوه المعروف "أنا أفكّر إذن أنا موجود".

[2]- الأمازيغ أو إيمازيغن، هي كلمة يرجح أصلها؛ إمّا إلى مفرد كلمة "أمازيغ"، الّتي تعني: الرّجل الحرّ أو النّبيل في لغة الطوارق الأمازيغيّة القديمة. ووفقًا للحسن بن محمد الوزان، المشهور بـ (ليون الإفريقيّ)، صاحب كتاب "وصف إفريقيا"؛ فإنّ كلمة (أمازيغيّ) قد تعني: "الرّجل الحرّ".

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%85%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%BA

[3]- القرآن الكريم، [سورة الحجرات (49): 13].

[4]- محيي الدّين بن عربي، من قصيدة بعنوان: "ألا يا حمامات الأراكة والبان"، على الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=19269

[5]- العرب والأمازيغ إخوة، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://elaph.com/Web/opinion/2015/3/992901.html

[6]- نفسه.

[7]- كان انتشار أبجديّة (التّيفيناغ) ضعيفًا جدًّا، وينحصر- أساسًا- في نقوش على المعالم الأثريّة القديمة، وقد احتفظ الطّوارق بشكل خاصّ بهذه الأبجديّة، في كلّ من الجزائر، والنّيجر، ومالي.

[8]- من بين الأعياد الزّراعيّة في المغرب: تدشين الموسم الزّراعيّ المسمّى بـ"المعروف"، وعيد الاستسقاء. الباحث المغربيّ علي أمهان، انظر الرابط الإلكتروني الآتي: www.mondeberbere.com

[9]- يوسف نسيب، "مدخل إلى الشّعر القبائليّ"، منشورات دار الأندلس، الجزائر، 1993م، ص 19. (بالفرنسيّة)

[10]- المنشأ البربريّ للثّقافة المغاربيّة، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: www.mondeberbere.com

[11]- المرجع السّابق نفسه.

[12]- الأمازيغيّة؛ بين الثّقافيّ واللّغويّ" (بالفرنسيّة)، مقال منشور في مجلة "تيفيناغ"، العدد الثّامن، 1995.

[13]- المنشأ البربريّ للثّقافة المغاربيّة، انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: www.mondeberbere.com

[14]- الوجه الثّقافيّ واللّسانيّ للهويّة الأمازيغيّة. انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي:

http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/199bbb0a-3536-4ca2-bae2-9ca163862e50

[15]- أكبر جريمة في تاريخ البشريّة، بقلم بدر عبد الله، للاطلاع على الموضوع كاملًا؛ انظر الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://www.kabbos.com/index.php?darck=402

[16]- أدعو القارئ العزيز هنا إلى قراءة كتاب "أميركا والإبادات الثقافية.. لعنة كنعان الإنكليزية" للدكتور منير العكش,أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة ومدير الدراسات العربية في كلية الفنون والعلوم بجامعة سفك بولاية بوسطن الأميركية يتناول تاريخ نشوء الولايات المتحدة الأميركية كدولة ونظام على مبدأ احتلال الأرض واستبدال شعبها الأصلي بشعب آخر في إطار نظرية عنصرية تشرعن إبادة الآخر جسدا وثقافة وكيانا اجتماعيا باسم الدين والحضارة في إطار الفكر المنفعي الرأسمالي الذي طبقه المهاجرون الإنجليز على كافة المستوطنات التي أقاموها في العالم.

كما أدعوه أيضا إلى قراءة كتاب آخر للمفكر منير لعكش بعنوان: حق التضحية بالآخر، أمريكا والإبادات الجماعية، الناشر: رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى: 2002م، عدد الصفحات: 201. لتحميل الكتاب بصيغة pdf عليكم بالرابط التالي: http://www.narjes-library.com/2015/09/blog-post_53.html

[17]- أكبر جريمة في تاريخ البشرية، بقلم بدر عبدالله، للإطلاع على الموضوع كاملا، أنظر الرابط الإلكتروني التالي: http://www.kabbos.com/index.php?darck=402

[18]- نفسه.

[19]- جرمان عيّاش، أصول حرب الرّيف. لمعرفة تفاصيل السّياق؛ اقرأ مقالة "العرب والأمازيغ إخوة" على الرّابط الإلكترونيّ الآتي: http://elaph.com/Web/opinion/2015/3/992901.html

[20]- أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في التّفاخر بالأحساب، ح 5116

[21]- إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: فيكتور دلبوس دولاغراف، 1969م، ص 149

[22]- باحثة فرنسيّة من أصل بلغاريّ، 1941م.

[23]- Etrangers à nous-mêmes, Fayard, 1988, p 7: Julia Kristeva.