بلاغة الحكمة الصوفيّة: مقاربة بلاغيّة حِجاجيّة للحِكَم العطائيّة


فئة :  مقالات

بلاغة الحكمة الصوفيّة:  مقاربة بلاغيّة حِجاجيّة للحِكَم العطائيّة

 مقدّمة:

نَتَنَاوَلُ فِي هَذَه الورقة خِطَابَ الحِكمةِ الصُّوفيةِ، منْ مَنْظُورٍ يُراعِي خُصُوصِياتِ هَذَا النَّوْعِ منَ الخطاباتِ، والمُقَوِّمَاتِ والسماتِ التي يَنْفَرِدُ بهَا عَنْ بَاقِي الخِطَابَاتِ الأُخْرَى، وذَلِكَ وَفْقَ مَنظورٍ بلاغيٍّ حجاجيٍّ، يتصورُ أنَّ خِطَابَ الحكمةِ الصُّوفيَّةِ، على الرغمِ من كونِه خطابًا تطغى فيه سماتُ الأدبيةِ، إلا أنَّه مع ذلك لا يخلو من تأثيرٍ وإقناعٍ، بل إِنَّ المقصديةَ التي تَغلُبُ على الحِكْمَةِ الصوفيةِ، هِيَ التأثيرُ فِي المتلقِّي، وحملُه على القيامِ بالفعلِ؛ أَيْ إِنَّها تسعى إلى تأديةِ مجموعةٍ من الأفعالِ اللُّغويةِ الإنجازيةِ.

إِنَّ الحِكِمَ العطائيةَ التي نَتَنَاوَلُهَا فِي هَذِهِ الدِّرَاسَةِ، تنتمي إلى الخِطَابِ الأدبِيِّ، تُثبتُ ذلك مجموعةٌ من السِّمَاتِ والمقوماتِ الفَنِّيةِ، التي تَسِمُها بطابعِ الأَدَبِيَّةِ، كاعتمادِ المُوَازَنَاتِ الصَّوتيةِ، من سجعٍ وجِناسٍ وتوازٍ... والاِستنادِ إِلَى الإِيجَازِ، والصورِ البلاغيَّةِ من تشبيهٍ واستعارةٍ...إلخ. لكن هذا لا يَمْنَعُ هذه الحِكَمَ من أن تكونَ خِطابًا إِقْنَاعِيًّا عَمَلِيًّا، يُحَاجِجُ عبرَ أقنعةٍ منَ البَلَاغَةِ، ويُقَدِّمُ عبرها إيديولوجيةَ الصوفيةِ، وَرُؤَاهُمْ وتَصَوُّراتِهِمْ عن الإيمانِ والوُجُودِ وَالحَيَاةِ والزُّهدِ والاعتِكافِ... أَيْ إِنَّ الأمرَ يتعلقُ هنا بتداخلِ مَا هُوَ أَدَبِيٌّ جماليٌّ بِمَا هُوَ حِجَاجيٌّ تداوليٌّ، وهو تداخل لا يمكن أن ننفيَه بأيِّ حَالٍ من الأحوال، لأنَّ مثلَ هَذَا النَّوعِ منَ الخِطاباتِ يُشَكِّلُ بَلَاغَتَهُ انْطِلَاقًا من هذا التَّداخُلِ، لذلك فإنَّ هَذِهِ الدِّرَاسَةَ سَتَسْعَى جاهدةً إلى تَمَثُّلِ بَلَاغَةِ الحِكْمةِ العَامَّةِ...

وَلَمَّا كُنَّا نَنطلقُ من فكرةٍ مَركزيَّةٍ تدعِّي أَنَّ الِحكَمَ العَطَائِيَّةَ، تَتَقَصَّدُ أسَاسًا التَأْثِيرَ العَمَلِيَّ فِي المُتَلَقِّي، عبرَ نسيجٍ بَلاَغِيٍّ، قَائِمٍ عَلَى بَلَاغَةِ الأُسلُوبِ وَجَمَالِيَّةِ التَّعْبِيرِ، فإننا سَننظُرُ إلى وظيفيَّةِ الأُسْلُوبِ الحِجِاجِيَّةِ، بمعنى آخر، فإنَّ التَوَجُّهَ الَّذِي يَحكُمُ هذه الدراسَةَ هُوَ: الاعتِقَادُ الرَّاسخُ بأنَّ المُتَكَلِّمَ لمْ يُوظِّفِ الصُّورَ والأساليبَ البَلاَغِيَّةَ، إلا لَيَخْدُمَ غرضَه من الحِكَمِ، فَهُو كانَ يهدفُ في المقامِ الأَوَّلِ إلى أن يُؤَثِّرَ في المُتلقِّي ويُقنِعَهُ، عبر التَّفَنُّنِ فِي صِيَاغَةِ العِبَارَةِ، وإِخْرَاجِها فِي صُورَةٍ مُونِقةٍ، تُسَاهِمُ فِي إِثَارَةِ عَاطِفَته واسْتِدْرَارِها، لِدَفْعِهِ نَحْوَ القِيَامِ بِالفِعْلِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ عِنايةِ المتكلِّمِ بِالمقاصِدِ الدِّينِيةِ والتربوِيةِ التِي تَتَقَصَّدُ تَخْليقَ المتلقي، عبر منحِهِ العِبرةَ والقُدوةَ الحَسَنَةَ؛ فالخِطابُ يَنِمُّ عَلى انْشِغَالِ صَاحِبِهِ بِنُصْحِ الآخَرِ وإرْشَادِهِ والأَخْذِ بِيَدِهِ إِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ... وَسَنُحاولُ في المَحَاوِرِ القادِمةِ أن نَقِفَ عِند المَسْلكِ الحِجَاجِيِّ الذِي اعتمده ابْنُ عَطَاء، لخلق هذا اِلتَّأْثيرِ فِي المتلقِّي، ولِيُمَرِّرَ لَهُ إِيدْيُولُوجِيَّتَه الصُّوفِيَّةَ الخاصة..

تهدف الحكم الصوفية إلى شحذ همم المتلقي، وجعله منخرطا في منظومة قيمية دينية، قوامها الامتثال إلى الله، وترك ما ينغص عليه حلاوة التفرد به، بغية تحقيق السعادة الأبدية

1 ـ الحكم العطائية واستحضار المتلقي:

يمكن اعتبار الحكم العطائية[1] خطابا تربويا، طرفاه مرسل أو باث، وهو الشيخ ابن عطاء الصوفي (ت709هـ)، ومستقبل أو متلقي مباشر، يمثل المريد، الذي اختار التصوف مذهبا له، أو قل تجربة في التعبد، مع إمكانية صلاحيتها لمتلق عام غير مباشر، وهو الذي يتلقى هذه الحكمَ في لحظة زمنية متلاحقة. ونفترض هنا أن هذه الحكمَ يحركها سؤالٌ مضمرٌ، يطرحه المريدٌ، وهو: "ماذا أفعل كي أكون صوفيا؟"، وهو السؤال الذي سينبري للإجابة عنه الشيخ ابن عطاء، عبر 264 حكمة، فكانت بالتالي هذه الحكمُ بمثابة رسائلَ تربوية، يوجهها الشيخ إلى مريده، بغية إطلاعه على طرق الصوفية ومذهبهم... وقد عمل على استحضار المتلقي في خطابه، لا أدل على ذلك من توجيهه الخطاب بضمير المخاطب "أنت"، الذي يفيد حضور المريد، سواء كان حضورا عينيا أو حضورا ذهنيا، وحضورُ الأمر والنهي؛ أي بناء خطابه على صيغة [افعل ولا تفعل]، وهي صيغة تقوم على استحضار المتلقي، وتراعيه. ثم إن ما يميز هذا الخطابَ هو كونه لا يستحضر خطابا مناقضا له، وهذا ما يوضح سلطته، وحظوته، فالمريد لا يسعه إلا أن يتلقى خطاب شيخه بعين القبول والرضا، بناء على التصور الصوفي الذي يرى أن المريد لا يمكنه أن يحقق السعادة الحقيقية، وأن يصل إلى الله دون أن يسلم إرادته لسلطة شيخه، وأن يقبل عليه إقبالا فيه من التقدير والاحترام ما يخول له التماهي في شخصه والتواشج فيما بينهما، وسلوك سبيل واحد، يؤدي بهما إلى معراج السمو والتعالي عن العالم الدنيوي، والتشرب من معين الحب الإلهي...

إنّ هذه الحكم يمكن اعتبارها حججا، أو أفعالا لغوية إنجازية، تتوجه إلى المتلقي المريد، ناصحة واعظة موجهة، الأمر الذي يجعلها لا تتقصد الإخبار، وإنما تتغيا أساسا تأدية وظيفة إنجازية، مرتبطة بإحداث التأثير في المتلقي؛ أي إنّ الأمر هنا يتعلق أساسا بخطاب وجداني، قائم على ما سماه أرسطو الباتوس، فهي تهدف إلى استثارة عواطف المتلقي، واستدرارها، لأجل أن ينخرط في المنظومة الإيديولوجية للشيخ، ويعملَ وفقا لها، وهذا ما يجعلها ــ الحكم ــ توظف على نطاق واسع الصور والأساليب البلاغية والموازنات الصوتية [الإيقاع] لخدمة غرضها... إن الحكم الصوفية تهدف -من بين ما تهدف إليه- إلى شحذ همم المتلقي، وتحفيزه، وجعله منخرطا في منظومة قيمية دينية، قوامها الامتثال إلى الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه، وإفراد العبادة له، وترك ما ينغص عليه حلاوة التفرد بالله تعالى، بغية تحقيق السعادة الأبدية، ونيل المرتبة العلية...

1 ـ 1 ـ ضمير المخاطب "أنت":

أشرنا سابقا إلى أن ما يثبت أن المتكلم يستحضر المتلقي في خطابه التوجه بالخطاب إلى ضمير المخاطب أنت، فمن سمات هذه الحكم أنها تحتفي بالمتلقي، وتعبر عنه بضمير يثبت وجوده وقيمته عند المتكلم، كما يثبت أن المتكلم صاغ حكمه انطلاقا من استحضاره لمخاطبه ـ المريد، كما أن هذا الأسلوب القائم على تعيين المخاطب بضمير أنت يدل على أن المتكلم لا يدخل مع المخاطَب في أي صراع، لذلك فهو خطاب لا يواجهه أي اعتراض... إن مثل هذه الصيغة في الخطاب، هي من الصيغ التي تنتشر كثيرا، في الوصايا والنصائح، الأمر الذي يدل على الطابع المتداخل لهذه الحكم، فهي يمكن أن تكون حكمَ وصية، كما يمكن أن تكون حكم نصح، ويمكن أن تكون مرة ثالثة حكما وعظية... إن التوجه بالخطاب إلى الآخر بضمير المخاطب ليس ذا طابع عفوي وساذج، وإنما توجه ذو غاية حجاجية بالأساس، فالخطاب الذي ينسف خطاب شخص ما عادة لا يتوجه إليه بضمير المخاطب "أنت"، وإنما يستعيض عن ذلك بضمير هو، أي إنه يحاول أن ينفي وجوده، فيغدو الخطاب بالغيبة وسيلة لتجاهله، بخلاف ذلك فإن الخطاب بـ"أنت" هنا هو خطاب يؤمن بالآخر، ويشعره بالقرب منه، الأمر الذي يجعل من هذه الحكم، حكما قائمة على التوافق مع المتلقي ومراعاته...

إن الحديث مع المتلقي بضمير المخاطب "أنت"، من سمات الخطابات الشفهية، القائمة على التواصل الحي بين أطراف الخطاب، فهل يعني هذا أن الحكم العطائية بدورها كانت شفوية في بداية الأمر، قبل أن يعيد كتابتها ابن عطاء؟

ثمة أمور تثبت هذا الزعم، فالحكم كما هو معروف عنها خطابات تنتقل بين الناس مشافهة، وتندرج ضمن الخطابات الشفوية، ويتيح لنا هذا الزعم القول: إن ضمير المخاطب "أنت" في هذا السياق؛ يثبت أن الحكم العطائية جرت في الأصل مشافهة، قبل أن تخضع لما تسميه جوليا كريستيفا بـ"إعادة الإنتاج والكتابة"[2]، أو لما سماه حمادي صمود: "فن إعادة المنطوق مكتوبا"[3]، وهما طريقتان تُخرجان الكلام من بعده التاريخي المرجعي، وتُنشئان منه عملا أدبيا فنيا مثلما يقول بذلك راباتيل[4].

علاوة على ذلك، فإنه يمكن اعتبار "أنت" عامة، تنطبق على كل شخص يتلقى هذه الحكم، ويجد في نفسه بدرجة أو بأخرى لمحة من المتلقي الأول المباشر. إن شمولية ضمير "أنت" تضم المتلقي المباشر والمتلقي غير المباشر. كما أنه يمكن أن يتداخل هذا الضمير هنا تداخلا حتميا، سواء مع ضمير المتكلم، أو مع ضمير الغائب، لأن ضمير المخاطب ــ كما يشير إلى ذلك مات ديلكونتيي ــ "هو على الدوام ضمير للمتكلم، وضمير للغائب أيضا"[5].

إذن، يتضح من خلال ما سبق أن الخطاب بضمير المخاطب "أنت" يبقى استراتيجية حجاجية، تدل أولا على استحضار المتلقي في النص، وعلى أن هناك شخصا ما أو شيئا ما خارج ذات المتكلم يملي عليه أفكاره وأفعاله، [6] وتدل ثانيا على التعميم، وشمولية الحكمة، وصلاحيتها لكل زمن ومكان. فالحكم الصوفية، بل والكتابة الصوفية ككل، موسومة بالعمومية والشمولية، وتتوق إلى التوسع والامتداد وكذا الاستمرار، ولبيان ذلك نفترض أن الشيخ عوض أن يتوجه بحكمه إلى ضمير المخاطب، توجه بها إلى ضمير الغائب "هو"، فإن المتلقي حينئذ لا بد أن ينفر منها، ولن يقبل عليها، بالطريقة التي يقبل بها على الخطاب الذي يتوجه إليه، ويستحضره، لأنه سيشعر لا محالة أنها ليست موجهة إليه، ولا تخصه.

1 ـ 2 ـ الأمر والنهي:

كما تجلى استحضار المتلقي في الخطاب الحكمي بضمير المخاطب، فهو يتجلى أيضا في أسلوب الأمر والنهي، وإذ يعزز هذا الأسلوب الطابع التربوي للحكم، فإنه يعزز وظيفيتها الإقناعية، فالشيخ يعمل على حث مريده، وينصحه بتبني جملة من الضوابط والقواعد الصوفية، وهذا ما عمل على تضمينه في أسلوب الأمر، كما ينصحه بالابتعاد عن السلوكيات التي تتنافى مع القيم الصوفية، وهو ما ضمنه في أسلوب النهي. وإذا كان الأمر والنهي يعنيان طلب حصول الفعل من المخاطب أو عدمه على وجه الاستعلاء والإلزام، فإنهما في هذه الحكم لا يفيدان الإلزام، على الرغم من كونهما متوفرا فيهما شرط الاستعلاء، صادرين من أعلى [الشيخ الذي تقدمه لنا الحكم في صورة الرجل ذي الحظوة والكفاءة، يدير الخطاب، ويتحكم فيه] إلى أدنى [المريد الذي يتوجه إليه الشيخ بالخطاب]...

إن أسلوب الأمر والنهي في الحكم الصوفية هو فعل تربوي، مقترن بتحقيق غايات تربوية دينية

إنّ الأمر والنهي في هذه الحكم لم يأتيا على سبيل الإلزام، وإنما على سبيل النصيحة والإرشاد؛ فالمريد يبقى حرا في القيام بما يطلبه منه الشيخ، أو عدم القيام به، إذ إنه ليس ملزما بالتنفيذ، وإنما له كامل الحرية في الاختلاف مع شيخه... وإذا كان للأمر والنهي وظيفة حجاجية، تتمثل في كونهما موجهين لأجل حصول الفعل أو عدمه، أي إن الغرض منهما إنجازي نفعي، فإنهما يستمدان طاقتهما الإقناعية من شخص الآمر أو الناهي، وليس من ذات الصيغة، ولهذا يتحول الأمر إلى معنى الترجي، والنهي إلى معنى الدعاء، حيث لا يكون الآمر مؤهلا شرعيا لتوجيه الأوامر والنواهي[7]. وإذا كان الأمر يعبر عنه بالصيغ الأربع المعروفة: فعل الأمر، فعل المضارع المقرون بلام الأمر، اسم فعل الأمر، المصدر النائب عن فعل الأمر، فإن الحكم العطائية تطغى عليها صيغة فعل الأمر، التي تنتشر انتشارا واسعا فيها، بينما لم تحضر الصيغ الأخرى إلا نادرا، ومن الأمثلة الدالة على حضور الأمر بصيغة فعل الأمر ما يأتي:

ـ ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه؛ في هذا الملفوظ الأمري الطلبي يتضافر التمثيل معه لتعضيد حجاجيته، إذ عمل الشيخ على وضع تماثل بين التواضع ودفن النبت، والجامع بينهما أن الأمرين معا ينتجان، أما الذي لا يتواضع، فإن أمره مثل النبت الذي لا يدفن، لا ينتج. فقد عمل التمثيل هنا على نقل القيمة المتفق عليها من المثال المعروف [دفن النبت ينتج وعدم دفنه لا ينتج] إلى الموضوع [دفن الوجود في أرض الخمول]، وتكمن حجاجية هذا التمثيل في "تأكيد المعنى وتشديده وقوة إثباته بإثبات دليل أو شاهد يقطع بوجوده".[8]

وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الملفوظ يحمل حجة، إذ يمكن إعادة صياغته هكذا: [ادفن وجودك في أرض الخمول [لأن] ما نبت مما لا يدفن لا يتم نتاجه، وهو الذي يثبت لنا أن التمثيل هنا بمثابة حجة سببية يبرر بها الشيخ دعواه... أي إنه وظف التمثيل جوابا عن سؤال مضمر، افترض أن المريد لابد أن يتوجه به إليه: "لماذا أدفن وجودي في أرض الخمول؟" فكان الشطر الثاني من الجملة الطلبية الأمرية جوابا عن الشطر الأول.

ومن نماذجه أيضا:

ـ "أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك ـــ لا تقم به لنفسك"؛

ـ "إذا أردت أن تعرف قدرك عنده ـ فانظر فيما يقيمك".

ونرى هنا أنه اختار صيغة فعل الأمر من دون الصيغ الأخرى، لأنه كان حريصا على أن يمتثل المتلقي ويستجيب لنصيحته، مما يعني أنه يسعى إلى حصول: الامتثال والاستجابة، وهو ما تعمل على تأديته أساسا صيغة فعل الأمر.

وبهذا يمكن القول: إن أسلوب الأمر والنهي في الحكم الصوفية هو فعل تربوي، مقترن بتحقيق غايات تربوية دينية، فالمتكلم صاغ خطابه ليوجه المتلقي الوجهة التي يراها لائقة، ويحذره من أمور قد تكون لها عواقب وخيمة عليه، وهو ما يثبت قيام هذا الخطاب على ثنائية: الحث على القيام بفعل أخلاقي، والتحذير من مغبة الوقوع في أمر آخر، يوصف بأنه لا أخلاقي، أو لا ديني، وقيام هذه الحكم على النصح والتحذير يجعل منها تلتقي مع أحد الأنواع الخطابية الأرسطية، وهو الخطاب الاستشاري، بل يمكننا أن ندرجها بسبب ذلك ضمن هذا النوع من الخطابات، لأن دور الخطيب فيهما معا هو النصح بالفعل أو عدم الفعل، والغاية منهما واحدة هي: النافع والضار، فالحكمةـ شأنها شأن الخطاب الاستشاري. تخوض فيما ينفع الناس، وفيما يضرهم، فترفع من النافع، وتحث عليه، وتحط من الضار وتحذر منه.

2 ـ حجاجية القيم في الحكم العطائية:

يصدر ابن عطاء في حكمه عن مجموعة من القيم، تنصهر في النسيج الحجاجي للحكم، وتتضافر مع الأساليب الأخرى لتعضيد متواليتها الحجاجية العامة، فمن سمات الحكم العطائية ــ والخطاب الصوفي ككل ــ كونها خطابا يحمل في مضامينه مجموعة من القيم الصوفية، تعمل على إذاعتها بين الناس. وليست تحاجج عبر مجموعة منها للتأثير في المريد فقط، وإنما تسعى إلى أن يكون التأثير شاملا وممتدا، ولا حدود له... وهي عبارة ــ في نفسها ــ عن مجموعة من القيم، فكل حكمة هي قيمة صوفية، وليست آلية فقط تلجأ إليها كي تحاجج، أي أنّ القيم منصهرة في نسيجها العام، ومتغلغلة في بنيتها، فما من رغبة لها سوى العمل على إعطاء الشرعية لها، وإضفاء طابع القبول عليها، كي تشيع بين الناس، فيغترف من معينها القاصي والداني، ويقطف من ثمارها المريد وغير المريد. إنّ الحجاج بالقيم في هذه الحكم وسيلة لاستجلاء القيم الأخلاقية الخاصة بالصوفية.

تقدم لنا هذه القيم، التي تعد بؤرة الحكم العطائية، أولا: صورة للشيخ الصوفي ابن العطاء السكندري، وثانيا: هوية المتصوفة ككل، إذ يمكن اعتبار هذه الحكم، دستورا لسالكي التجربة الصوفية، لما تحمله من قيم صوفية، على كل مريد أن يعمل بها، إن هو أراد أن يحظى بالقبول. ويمكن تقسيم هذه القيم إلى نوعين، تبعا لتقسيم بيرلمان لها، وهما[9]:

ــ القيم المجردة: التي يغلب عليها طابع الكونية، أي أنها تكون محل اتفاق المستمع الكوني، كالخير، والمعرفة، واليقين، والرجاء، والظن، والآمال، والخوف، والرحمة، والحب، والكرامة، والحقيقة، والهوى، والحرية، والحياة، والتواضع، والحياء، والعز، والصدق، والصبر......

ــ القيم الملموسة: وهي التي "ترتبط بكائن أو شيء أو جماعة أو مؤسسة منظورا إليها في وحدانيتها"[10]، ومنها: حسن الأدب، والكرم، والتجريد، والاتحاد، والزهد، والعمل، وصحبة الله، والاستقامة، والطاعة، والذكر، والصوم، والصلاة، والإحسان...

وليست تعرى هذه القيم عن توطيد الحجاج وتقويته، بل إن استدعاءها ــ كما يقول فليب بروطون "يشكل في ذاته حجة؛ فهو يؤطر الواقع بقوة، إذ تمتلك القيم غالبا حمولة واسعة، كما تمتلك قوة حث نافذة"[11]، ويستمد رأي ما احتماله، وقوة إقناعه من كونه يتلاءم مع تضافر هذه القيم[12]، الأمر الذي يجعل منها تدعم التجربة الصوفية، وتضفي عليها نوعا من المصداقية.

ويتداخل في تشكل حجاجيتها، في الحكم العطائية، كونها صادرة عن شيخ صوفي؛ فالحكم تستمد قيمتها وحجاجيتها من قيمة المتحدث بها، ومن تلك الصورة التي يشكلها عنه خطابه، "فقيمة الخطاب مستمدة من قيمة صاحبه، وتأثيره في السامعين مستمد من تأثير صورته فيهم"[13]، وهي صورة تنزع إلى أن تكون مصدر ثقة، عند المريد، والسالكين سلوك الصوفية... وعموما، فإن الحكم العطائية تستمد طاقتها الحجاجية ــ إضافة إلى آليات أخرى ــ من القيم التي ترغب في ترسيخها أو نسفها، كما تستمدها أيضا من القيم المتعلقة بالذات المتكلمة...

3 ـ حجاجية الشاهد في الحكم العطائية:

يعد الشاهد من الآليات التي تستند إليها الحكم العطائية، وهي تحاجج بقيم الصوفية. ويتوزع الشاهد فيها ما بين شاهد قرآني، وآخر نبوي، وتختلف طرق توظيفه ما بين اقتباس وتضمين، فقد أورد ابن عطاء هذه الشواهد في حكمه ليثبت دعواه، ويؤكدها، ويمنحها حضورا في ذهن المتلقي، إذ يمكن اعتبار بعض منها حجج سلطة، تنصهر في المتوالية الحجاجية للنصوص الحكمية. وما يمنحها سلطة، هو كونها مستلهمة من معين الثقافة الإسلامية، ومتشربة من قدسيتها الدينية، مما يجعلها ذات طاقات حجاجية، تمتاز بنوع من المصداقية والمقبولية، الأمر الذي يصعب معه الاعتراض على هذه الحجج، المدعمة بشدة للدعوى المطروحة، خاصة إن كان المتلقي متشربا من العقيدة ذاتها التي ينتسب إليها المتكلم... ويمكن إدراج هذه الشواهد التي أوردها ابن عطاء ضمن ما يسمى بالاتفاق المسبق، وعدها موضعا من المواضع الخطابية... ومن أمثلتها التي وردت في الحكم ما يأتي:

ــ اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه، والواصلون لهم أنوار المواجهة. فالأولون للأنوار، وهؤلاء الأنوار لهم؛ لأنهم لله، لا لشيء دونه: "ُقلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ"؛ [ص 51]

ـ الحق ليس بمحجوب، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، إذ لو حجبه شيء ــ لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر ــ لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء ــ فهو له قاهر "وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ"؛ [ص 52]

ـ لا ترحل من كون إلى كون؛ [...] ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى"، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها ــ فهجرته إلى ما هاجر إليه"[ص 53]

إن استحضار هذه الشواهد ــ وغيرها ــ كان بهدف إثبات قاعدة عامة، أو بهدم قاعدة أخرى، فالشاهد الأول يثبت قاعدة الاكتفاء بالله عن كل شيء، وإفراد التوحيد له، والتفرد به عما سواه. وجاء الشاهد الثاني حجة على استحالة الحجاب في حق الله تعالى، لأن الحجاب يقهر الشيء، والله تعالى هو القهار... بينما جاء الشاهد الثالث ليثبت أن على المرء أن يتخلى عن العالم، ويقبل على الله سبحانه وتعالى. وبهذا يكون ابن عطاء قد وجد مسوغا لدعواه في تلك الشواهد، فالقاعدة المثبتة حسب هذا الملفوظ الحجاجي ليست أمرا غير مقبول، أو أمرا وجده المتكلم من تلقاء نفسه، بل إنه يجد سنده في القرآن الكريم والحديث النبوي. وتكتسب الشواهد مصداقيتها من مصادرها المتفق عليها، فالشاهد القرآني، الذي ورد بكثرة، في النصوص الحكمية العطائية، لا يمكن الاعتراض عليه، فقيمته نابعة من قداسته، وهو الأمر ذاته يقال عن الأحاديث النبوية، وهذا ما يجعل من الشواهد حججا ملزمة.

4 ـ بلاغة الأسلوب في الحكم العطائية:

يحظى الأسلوب في الحكم العطائية بأهمية بالغة، فهي تنسج مضامينها انطلاقا منه، حتى إنه لا يمكننا أن نفصل فيها ما بين ما هو جمالي وما هو تأثيري إقناعي، فالتخييل هنا يلعب دورا مهما في تعضيد الوظيفة الحجاجية للنص، وتنهض السمة الأدبية التي تمتاز بها الحكم العطائية، بإخراج الخطاب الحكمي من وظيفته التقريرية المباشرة إلى وظيفته التصويرية، مما يجعل من الأسلوب مقصدا جماليا، توخى من خلاله ابن عطاء زيادة التأثير وشحن الحكم عاطفيا؛ أي إن النسيج العام للحكم، اقتضى من المتكلم، أن يجعل من الأسلوب في خدمة الغرض الرئيس، المتوخى من حكمه. لذلك فالحكم العطائية تنسج بلاغتها العامة في تعالق ما بين مكونين هما: المكون التخييلي والمكون التداولي، وهو ما يجعلها تتفنن في إخراج العبارة مخرجا جماليا، لدرجة يمكن أن نقول معها: إنها تقدم وظيفتها الحجاجية عبر أقنعة من البلاغة.

ويمثل الأسلوب أحد المكونات التخييلية التي تنهض في الحكم بدور تعضيد وظيفتها الحجاجية، وتمنحها صبغة فنية جمالية، فهي لا تعرى عن الانشغال بالمكونات الأسلوبية التي تمنحها طابعا تصويريا، وتسمها بالأدبية والجمالية والافتنان في صياغة العبارة، فتشغيلها على سبيل المثال للجناس والسجع والاستعارة والمجاز والمقابلة والطباق والمبالغة والتكرار، ومزاوجتها بين الأساليب الخبرية والإنشائية، يجعل من الأدبية سمة لا يمكن إنكارها على الحكم العطائية، غير أنها ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة فقط، لخدمة الغرض من الحكم، التي لا تهدف إلى الإمتاع عبر الوظيفة الجمالية، وإنما تتقصد الإقناع، [14] إذ تهدف إلى أن تحدث تأثيرا في المتلقي، ليقبل على طرق الصوفية ومذهبها. ولعل هذا هو ما يجعل هذه الحكم ذات صبغة عملية بالأساس. بناء على ذلك، فإننا في هذا المحور لن ننشغل بالانزياحات الأسلوبية التي وسمت اللغة الصوفية لابن عطاء، وإنما انشغالنا هو انشغال يهتم أساسا بوظيفية هذه الحكم، مما يجعلنا ندرج الأسلوب في المتوالية الحجاجية التي تُحاجُّ بها.

4 ـ 1 ـ بلاغة الإيجاز في الحكم العطائية:

تتميز الحكم العطائية ــ على غرار باقي الحكم ــ بكونها تستعيض في نسيجها البلاغي عن الإطناب بالإيجاز، وتلجأ إلى تكثيف المعاني، وتقليل الألفاظ، فتأتي في هيأة فقرات قصار سهلة على الحفظ والتذكر... وترجع أسباب إيجازها إلى كونها تهدف إلى تعليم المريد مبادئ الصوفية، أي أنها نصوص تربوية تعليمية، وبالتالي فلكي تكون أعلق بالأذهان لجأت إلى الإيجاز، تطبيقا للمقولة الصوفية المشهورة: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"[15]، مما يعني أن ورود الحكم موجزة هو أمر حجاجي بالدرجة الأولى، وذلك للاعتبارات الآتية:

1ـ إن الإيجاز يقدم لنا صورة عن ذات ابن عطاء السكندري، بكونه واسع الرؤيا، ثاقب البصيرة، يقول في عبارات قليلة ما يمكن قوله في نصوص كثيرة، لا أدل على ذلك من الشروح التي تصدت لتفسير حكمه وتوضيح معانيها.[16]

2ـ إن الإيجاز يسهل عملية الحفظ، وهو ما يخدم مقصد الحكم، التي ترغب في أن تصير متداولة؛ أي إنّ الإيجاز هنا يسهل عملية انتشار الحكم وإذاعتها بين الناس شفهيا، ثم إنه يجعل المرء ينجذب إليها، ويقبل عليها بشغف، دون كلل أو ملل، وهذا ما يفسر سبب انتشار الحكم بين الناس، واندغامها في البيئة المجتمعية، وتناقلها باعتبارها قيما عليا، يحاول الناس أن يتمثلوها في حياتهم ومعاملاتهم.

3ـ يمنح الإيجازُ المتكلمَ القدرةَ على شد انتباه المتلقي، "وإعانته على الوصول إلى متعدد المعنى بالكلام الوجيز، دون أن يصيب القصد أيّ شكل من أشكال التردد وسوء الفهم".[17]

وبهذا، فإن الحكم العطائية بنزوعها إلى الإيجاز يكون لها وقع على المتلقي، إذ تثير عواطفه، وإثارة العواطف مدعاة لتحقيق الوظيفة الإقناعية، فهي لا تثير في نفسيته كللا ولا مللا، وإنما راحة واطمئنانا، لذلك لا يمكن عدها إسهابا وهذرا، مما يجعل حبل التواصل بين طرفي الخطاب لا ينقطع[18]، ويصل الفهم غايته القصوى، كما أنه يضمن ألا يعرض المتلقي عن المتكلم...

4 ـ 2 ـ الإيقاع من الوظيفة الجمالية إلى الوظيفة الحجاجية:

تنسج الحكم العطائية بلاغتها ـ إضافة إلى ما سبق ذكره ـ على الإيقاع، إذ تتخللها مجموعة من الظواهر الإيقاعية التي تجعل منها ذات لغة موسيقية رنانة، تخطف الألباب، وتجذب الأسماع، وإذ تضفي هذه الظواهر على الحكم طابعا أدبيا جماليا فإنها لا تنفصل عن مقصديتها الإقناعية، فهي تساهم بدورها في دعم دعوى الحكم، وفي تعميق التأثير الذي تتوخاه، وتزيد من درجة شحذ العواطف واستثارتها، لذلك فإن النظر إليها بمعزل عن وظيفتها هذه يجعلها ظواهر جوفاء، لا قيمة لها إلا في جماليتها، فأي وظيفة تلك التي ستؤديها إذا لم تكن منصهرة مع مقصدية الحكم الحجاجية في بوتقة واحدة؟

لجأ ابن عطاء إلى نسج حكمه بالاعتماد في أحايين كثيرة، على جمل قصيرة، سهلة الورود على الألسنة، وهي في قصرها تتخللها ظواهر إيقاعية عدة، من قبيل السجع والجناس والتوازي والطباق والتكرار والمقابلة، والاعتماد أحيانا على إيراد جمل موزونة، يجعل من الحكمة بمثابة بيت شعري، وغير ذلك من الظواهر الإيقاعية الأخرى.

لقد كشفت الحكم ــ في مجملها ــ عن ثراء صوتي وإيقاعي، تمثل أولا في السجع، فبعضها عبارة عن فقرات قصار مسجوعة، تتقمص أسلوب القرآن الكريم ذي الفواصل القصار المتلاحقة، مما يمنحها زخْما موسيقيا رنانا، ونغما رتيبا... ويتنوع السجع فيها ما بين مطرف: [من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل]، [لا تستغرب وقوع الأكدار، ما دمت في هذه الدار]، ومتوازي [ما كان ظاهر ذكر إلا عن باطن شهود وفكر]، ومرصع [أنار الظواهر بأنوار آثاره، وأنار السرائر بأنوار أوصافه]... وإذا كان السجع يؤدي في الحكم وظيفة جمالية واضحة، متمثلة في إضفاء طابع موسيقي عليها، فإنه لا يقتصر على هذه الوظيفة فقط، بل إن الغاية الأساس منه هي: "التأثير في المتلقي وحمله على الانتباه والتفاعل مع المضامين التوجيهية التي تُلقى إليه؛ فالسجع إذ ينشأ في مقام الإقناع لا يكون مجرد زخرفة صوتية"[19]، ولكنه يندغم في المتوالية الحجاجية للحكم، ويستخدم باعتباره خادما لمقصديتها العامة...

نسجت الحكم العطائية بلاغتها من خلال المزاوجة بين المتعة الفنية الجمالية والفائدة المعرفية والتربوية، عن طريق تحديد المقصدية المرجوة من الخطاب الصوفي

كما تمثل هذا الثراء الصوتي والإيقاعي في الجناس، الذي يحظى أيضا بأهمية بالغة في الحكم العطائية، إذ يعمل بدوره على تدعيم دعواها، وتأكيد معناها، ويتوزع فيها ما بين جناس تام، من أمثلته: [حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها: إذ ما من وقت يرد إلا ولله عليك فيه حق جديد...][20]، فالأوقات الأولى بمعنى الأزمان، والأوقات الثانية بالمعنى الصوفي، وآخر غير تام: [العيوب/الغيوب، تخصيصه/تخليصه، الورد/الوارد، أعدادها/أمدادها، إليها/عليها، إليك/عليك، عنك/منك...].

ويعضد من إيقاع الحكم حضور ظاهرة التوازي، القائمة على التقابل ما بين الألفاظ، أو المتواليات، إن تركيبيا، أو صوتيا... ومن نماذجه:

لا       صغيرة إذا       قابلك    عدله

|         |         |         |         |

و لا     كبيرة   إذا       واجهك فضله

وهو توازي تركيبي وصوتي، في الآن نفسه، لأن فيه تقابلا ما بين متواليتين صوتيتين: [لا/لا، صغيرة/كبيرة، إذا/إذا، قابلك/واجهك، عدله/فضله].

ولا يقتصر التوازي بدوره على كونه مجرد حلية أو زخرفة فحسب، التزمت بها الحكم العطائية، باعتبارها آلية تعبيرية، تمكنها من قابلية الترديد الشفهي بين الناس، بل إنها تساهم في ترسيخ المعنى الذي تبتغيه، والدعوى التي تتقصدها، فالتوازي هنا حامل لدعوى الحكمة [كل شيء بيد الله، فعدله يصير الصغائر كبائرَ، وفضله يصير الكبائر صغائرَ]، وقد ذكرها بطريقة تقابل ما بين المتواليات ليشد الانتباه إليها، ويجعل ذهن المتلقي مستوعبا لها، وعواطفه متأثرة بها. إن التوازي في هذه الحكمة يقدم العبارات بطريقة متساوية ومتماثلة من ناحية صيغ الوحدات اللغوية، فبنية العبارتين معا قائمة على [حرف نفي+اسم+اسم شرط+فعل+ضمير المخاطب+اسم+ضمير الغائب]، وهذا التماثل ما بين الوحدات يدعم التماثل ما بين الكبائر والصغائر في نظر الله عز وجل، فهو قادر بعدله على أن يصير صغائر المرء كبائر، وبفضله على أن يصير الكبائر صغائر.

الخاتمة:

ابتغينا في هذه الدراسة، التي خصصناها لمقاربة الحكم العطائية، مقاربة بلاغية، أن نستدل على أنّها خطابات تواصلية حجاجية، تروم التأثير في المتلقي، وحمله على القيام بالفعل، لأجل ذلك، انشغلنا بالكشف عن الآليات، التي تجعل منها خطابا حجاجيا. وقد كان هذا الانشغال قائما على النظر إلى بلاغة الأسلوب، على أساس أنّها موجهة لخدمة مقصدية الحكم العطائية، وهو ما جعلنا لا نغيب وظيفتها الحجاجية، فالحكم ـبالرغم من الطابع الأدبي الذي تمتاز به، إلا أنّ هذا الطابع الأدبي ينصهر مع الحجج في بوتقة واحدة، لتأدية غرض الحكم العام.

لقد نسجت الحكم العطائية بلاغتها من خلال المزاوجة بين المتعة الفنية الجمالية والفائدة المعرفية والتربوية، عن طريق تحديد المقصدية المرجوة من الخطاب الصوفي، والمتمثلة أساسا في تحفيز المريد ــ وغيره ــ على تبني قيم الصوفية والسير على نهجهم. وفي هذا الحيز تضافرت عناصر الإيجاز والسجع والجناس والتوازي مع عناصر الحجاج، لتعضيد مقصدية الحكم ووظيفيتها، وأسهمت مختلف الإمكانات التصويرية، في جعل المتلقي يتمثل ذهنيا حقيقة الصوفي، كما يسعى الصوفية إلى إيصالها.

كما استبان لنا من خلال هذه الدراسة أنّ الخطاب الصوفي هو خطاب قصدي، لأنه يقصد تحقيق غاية ما، ثم إنه خطاب يمرر إيديولوجيته عبر أقنعة مغلفة من البلاغة، وعبر استخدام ضروب من أزهارها ورياحينها، أي عبر نسيج من العلامات اللغوية، التي تضفي عليها طابعا خاصا، يتماشى وتجربة التصوف الروحية، مما يجعلها تجربة في الكتابة، وليست تجربة في التعبد فقط.

ومن ثم أمكن القول: إنّ جوهر بلاغة النص الحكمي الصوفي، يتمثل في كونه خطابا تواصليا، يستهدف التأثير والإقناع أساسا لتشكيل الخطاب.

 

المصادر والمراجع:

ــ باشا العيادي، فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية ــ تداولية، دار كنوز المعرفة، ط1

ــ مات ديلكونتيي، لماذا لا يمكن لـ"أنت" أن تتكلم ـ الحكي بضمير المخاطب، والصوت ونموذج جديد لفهم السرد، ترجمة: خيري دومة، مقال بصيغة pdf.

ــ محمد اليملاحي، بلاغة الخطاب النقدي ـ الانتصار للشعر والنحو عند عبد القاهر الجرجاني، ضمن كتاب: بلاغة النص النثري، إشراف محمد مشبال، دار العين للنشر، الإسكندرية، مصر، 2013

ــ محمد مشبال، في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتـحليل الخطابات، كنوز المعرفة، ط 1، 2017

ــ الحسين بنو هاشم، نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2014

ــ فيليب بروطون، الحجاج في التواصل، ترجمة: محمد مشبال وعبد الواحد التهامي العلمي، المرطز القومي للترجمة، ط 1، 2013

ــ حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق. محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986

ــ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، كتاب المواقف والمخاطبات، عناية واهتمام: أرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، مصر، القاهرة، ط 1، د.ت.

ــ الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، "ابن عطاء الله السكندري وتصوفه"، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، 1969

ــ نور الهدى باديس، بلاغة الوفرة وبلاغة الندرة ـ مبحث في الإيجاز والإطناب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 2008

ــ مصطفى الغرافي، بلاغة الخطبةـ خطب كتاب "عيون الأخبار" أنموذجا، ضمن: بلاغة النص النثري، إشراف: د محمد مشبال، دار العين للنشر، الإسكندرية، مصر، ط 1، 2013


[1] الحكم العطائيّة لابن عطاء اللّه السكندريّ، شرح ابن عبّاد النفزيّ الرّندي، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1988

[2] باشا العيادي، فن المناظرة في الأدب العربي دراسة أسلوبية ــ تداولية، دار كنوز المعرفة، ط1، ص204

[3] حمادي صمود، عن: باشا العيادي، مرجع نفسه، ص277

[4] نفسه، ص205

[5] مات ديلكونتيي، لماذا لا يمكن لـ"أنت" أن تتكلم ـ الحكي بضمير المخاطب، والصوت ونموذج جديد لفهم السرد، ترجمة: خيري دومة، مقال بصيغة pdf.

[6] المرجع نفسه.

[7] عبد الله صولة، الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته، نقلا عن: بلاغة الخطاب النقدي ـ الانتصار للشعر والنحو عند عبد القاهر الجرجاني، ضمن كتاب: بلاغة النص النثري، إشراف محمد مشبال، دار العين للنشر، الاسكندرية، مصر، 2013، ص 191

[8] محمد مشبال، في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتـحليل الخطابات، كنوز المعرفة، ط 1، 2017، ص 102

[9] الحسين بنو هاشم، نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2014، ص 45

[10] نفسه، ص 45

[11] فيليب بروطون، الحجاج في التواصل، ترجمة: محمد مشبال وعبد الواحد التهامي العلمي، المرطز القومي للترجمة، ط 1، 2013، ص 91

[12] نفسه، ص 91

[13] في بلاغة الحجاج، ص 169

[14] يقول حازم القرطاجني في هذا الصدد: "وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلةٍ، مؤكدةً لمعانيها، مناسبةً لها فيما قُصِد بها من الأغراض، وأن تكون المخيلةُ هي العمدةَ. وكذلك الخطابة، ينبغي أن تكون الأقاويلُ المخيلةُ الواقعةُ فيها تابعةً لأقاويلَ مقنعةٍ، مناسبةً لها، مؤكدةً لمعانيها، وأن تكون الأقاويلُ المقنعةُ هي العمدةَ" = [انظر كتابه: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق. محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986 ص 362].

[15] كتاب المواقف والمخاطبات، محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، عناية واهتمام: أرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، مصر، القاهرة، ط 1، د.ت، الموقف 28، ص 51

[16] نظرا لأهميتها البالغة يقال: إن ابن زروق كتب على الحكم العطائية نيفا وثلاثين شرحا، هذا عدا عن باقي الشروحات الأخرى، حتى إن هناك من اعتنى بها من غير العرب، لمزيد من التوضيحات ينظر كتاب: "ابن عطاء الله السكندري وتصوفه"، للدكتور أبي الوفا الغنيمي التفتازاني، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، 1969، ص: 88 ـ 97

[17] بلاغة الوفرة وبلاغة الندرة ـ مبحث في الإيجاز والإطناب، نور الهدى باديس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 2008، ص 50

[18] نفسه، ص 50

[19] مصطفى الغرافي، بلاغة الخطبة ـ خطب كتاب "عيون الأخبار" أنموذجا، ضمن: بلاغة النص النثري، مرجع مذكور، ص 65

[20] الحكم العطائية، ص 79