توماس هوبز، أو مفهوم الملكوت بين الإلغاء والإرجاء


فئة :  أبحاث محكمة

توماس هوبز، أو مفهوم الملكوت بين الإلغاء والإرجاء

توماس هوبز، أو مفهوم الملكوت بين الإلغاء والإرجاء[1]

كريبي عبد الكريم

باحث من المغرب

التمـهيـد

في أهميَّة المسألة الدينيَّة عند هوبز:

تناول هوبز مجالات متنوّعة من مجالات التفكير الفلسفي، غير أنَّ الصورة التي اشتُهر بها عند كثير منّا هي أنَّه فيلسوف انشغل بالسياسة. هذه صورة صحيحة إلا أنَّها ليست مطلقة. نعم، لقد اندرج تفكير هوبز ضمن مبحث «الفلسفة السياسيَّة»، فوجَّه أغلب إنتاجه لحسم النظر في «نظريَّة الدولة». لكنَّ هناك جوانب أخرى لها قدر كبير من الأهميَّة عند هوبز، لكنَّها، في ظلّ «ضجيج» الحديث عن مفهوم السيادة والعقد الاجتماعي وحالة الطبيعة، تمَّ إهمالها. من بين هذه المجالات نذكر مجال الدّين، الذي لم يؤسّس هوبز فلسفته السياسيَّة إلا من خلال «تصفية الحساب» معه، في اتجاه احتوائه، وليس في اتجاه إلغائه.

وإذا كان ممكناً أن نتفق على أنَّ المسألة السياسيَّة تشكّل عصب فلسفة هوبز، وأنَّ الرجل لشدة اهتمامه بالسياسة كان قد عزم على تأسيس علم جديد أطلق عليه اسم «العلم المدني»، فإنَّه في المقابل لن يكون ممكناً أن نتبيَّن تصوُّرات هوبز السياسيَّة ما لم نستحضر أفكاره ونقده للدّين. ومن أجل أن نلمس أهميَّة الدّين في فلسفة هوبز السياسيَّة، يجب أن نقف عند النقاط الثلاث الآتية:

1. الدّين في كتابات هوبز:

من أجل إدراك أهميَّة الدّين عند هوبز يكفي الاطلاع على الجانب البيبليوغرافي في متنه الفكري. لقد خصَّص قسمين من أصل أربعة أقسام من كتابه العمدة (الليفيتان)[2]، هما القسم الثالث والقسم الرابع للحديث عن الدّين. وخصَّص القسم الأخير من بين الأقسام الثلاثة من كتاب (المواطن)[3] للموضوع نفسه. ودخل في حوار طويل حول الحريَّة مع أحد القساوسة الذي كانت له مكانة كبرى فيما يمكن تسميته «الحزب الكاثوليكي الرومي» في إنجلترا، وهو برامهال. وقد نُشِرَ الحوار بعد موتهما معاً في كتابين[4].

كما كتب نصاً طويلاً عن الهرطقة[5] عَدَّه هوبز تتمَّة لحواره مع برامهال[6].

2. الدّين في العلم المدني:

يجعل هوبز من مهام العلم المدني، أو الفلسفة السياسيَّة، نشر السلم المدني، ولا يقوم السلم المدني ما لم يتمّ الحسم في مسألة طبيعة القوانين الإلهيَّة. يقول هوبز:

«(...) لم يعد ينقصنا، لكي نعرف نظريَّة الواجبات المدنيَّة معرفة كاملة، إلا معرفة القوانين الإلهيَّة. فإنَّنا في الواقع إذا لم نكن على علم بهذه القوانين، فإنَّه حينما تأمرنا السلطة المدنيَّة بشيء ما فلن نعرف إن كان أمرها هذا يتعارض مع القوانين الإلهيَّة أم يتوافق معها. إنَّ هذا الجهل هو ما يجعلنا حيناً نأثم في حقّ الله لشدّة إفراطنا في طاعة حاكمنا المدني، أو يجعلنا حيناً آخر نخرق أوامر السلطة المدنيَّة لشدة خوفنا من أن نعصي الله. ولتجاوز هاتين العقبتين من الضروري لنا أن نعرف ما هي القوانين الإلهيَّة»[7]؟

لن يحصل السلم المدني أيضاً، ما لم يتمّ تحديد معنى حياة الخلد ومعنى العذاب؛ أي ما لم يتمّ تحديد معنى الخلاص. فما لم يتمّ تحديد معاني هذه القضايا الدينيَّة، لن يكون هناك سلم مدني.

يقول هوبز: «نظراً لأنَّ حياة الخلد هي جزاء يفوق بكثير الحياة الحاليَّة، وأنَّ العذاب الأبدي عقاب أكبر من عقوبة الموت الطبيعي، فإنَّه مطلوب من كلّ من يرغب في تجنُّب الفتن والحروب الأهليَّة، من خلال طاعة السلطة المدنيَّة، أن يعرف ما الذي تعنيه حياة الخلد والعذاب الأبدي في الكتاب المقدَّس؛ وأن يعرف ما هي الخطايا والمخالفات، وما هي الجهة التي إن أخطأنا في حقّها كنّا من المخلّدين في العذاب الأليم، وأن يعرف أخيراً ما هي الأفعال التي يجعلنا القيام بها من المنعمين في حياة الخلد»[8].

3. الدّين في القرن السابع عشر

يفيدنا الوضع العام للقرن السابع عشر الميلادي في أوربا بأنَّ الدّين واصل حضوره في هذا القرن بالقوَّة نفسها التي كان يحضر بها في القرون السابقة. كان الدّين حاضراً بقوَّة في أذهان الناس وفي حياتهم. كان الديّن أيضاً حاضراً حضوراً حارقاً في إنجلترا. لقد رفعت قوى سياسيَّة ودينيَّة لواء الدّين إبَّان الثورة الإنجليزيَّة (1640 - 1660) أو ما كان يسمّيه هوبز الحرب الأهليَّة. ويكفينا شهادة على التأثير الكبير للدّين في حياة الناس خلال عصر هوبز ما قاله، حينما صرح بأنَّ سبب الفتن والحروب في الدول المسيحيَّة كان منذ القديم: «هو الصعوبة التي يجدها الناس (التي لم يتم القضاء عليها بعد) في التوفيق بين طاعة الله وطاعة الحاكم، حينما يظهر أنَّ أوامرهما تتعارض فيما بينها» (الليفيتان، 605). فلننتبه إلى تلكم الجملة الاعتراضيَّة التي وضعها بين قوسين، والتي تؤكد أنَّ الدّين كان مسألة حارقة في أيام هوبز: «التي لم يتمّ القضاء عليها بعد».

بسب ما سبق ذكره، لم يُهْمِلْ هوبز الدّين؛ بل تعامل معه بشكل جدّي، ودخل في حوار شرس وساخر مع الإكليروس الكنسي. لقد كانت المسألة الدينيَّة تطرح رهاناً سياسياً استراتيجياً لا يؤثر فقط في الأوضاع في إنجلترا؛ بل كان أثره يمسُّ كلَّ بلدان أوربا. محتوى هذا الرهان هو الصراع بين أطروحتين كبيرتين: تستلهم الأولى نظريَّة «القيصريَّة البابويَّة»، وتستلهم الثانية نظريَّة «التيوقراطيَّة البابويَّة»[9]. اختلفت الأطروحتان في الإجابة عن السؤال الآتي: «لمن الحكم، للبابا أم للحاكم المدني»؟ أجابت التيوقراطيَّة البابويَّة بأنَّ الحكم للبابا، وأجابت القيصريةَ البابوية بأنَّ الحكم للحاكم المتسيّد. كان الصراع في عمقه صراعاً بين «اللاهوت السياسي» وبين «السياسة المدنيَّة». وقد اعتمد هوبز في نقده للَّاهوت السياسي، الذي تمثله التيوقراطيَّة البابويَّة، على فكرتين: واحدة ترى أنَّ «الكنيسة» في روما سلطة روحية وليست سلطة زمنيَّة. لكن كونها سلطة روحيَّة لا يمنع أنَّها خاضعة للسلطة السياسيَّة. وترى الفكرة الثانية أنَّه لا يمكن لمجتمع أن يعرف الأمن، ولا لدولة أن تنشأ وتدوم ما لم تكن طاعة المواطنين موجهة إلى سلطة السلطة المدنيَّة الحاكمة، وحدها دون غيرها. فالسيادة المدنيَّة، دائمة، ومطلقة، وواحدة موحدة لا تتجزأ.

بفعل طبيعة الصراع هذه لم يترك هوبز الساحة فارغة للإكليروس وللكنسيين يصوغون الدّين كما يتصوّرونه ويقدّمونه للعامَّة، فيُجَيِّشونها في معاركهم. لقد خاض هوبز معهم حرباً بـ «استراتيجيَّة» تقوم على إفراغ الدّين من كلّ العناصر التي تشوّش على السلم المدني؛ إفراغ «دولة الكنيسة» من كلّ صبغة سياسيَّة، ومن كلّ طبيعة «كاثوليكيَّة»[10].

في هذا العمل، أزعم أنَّ هوبز ما كان له أن يتوصَّل إلى ما توصَّل إليه من نتائج في تناول الدّين، إلا لأنَّ طريقة تناوله للدّين تندرج ضمن «مركب نظري» يتكون من ثلاثة أضلاع. يندرج نقد هوبز للدّين ضمن «الفلسفة السياسيَّة» مبحثاً، و«نظريَّة الدولة» إطاراً نظرياً، والسيادة مفهوماً مركزياً. ويجدر بنا هنا أن ننبه إلى أنَّنا لن نشير بشكل مباشر إلى هذه الأضلاع المُؤَطِّرة، بل سنعتمد على حصافة القارئ ليستشفها من بين السطور، فالمجال لا يسمح بوضع الإصبع عليها كلّما تمَّ توظيفها.

وأنبّه أيضاً إلى أنَّ نقد هوبز للدّين قد مسَّ ثلاثة مستويات: المستوى اللاهوتي (ما الدين؟ ما الإيمان؟ ما الله؟ النبوَّة، المسيح...)، والمستوى الكتابي (ما هي حجيَّة الكتاب المقدَّس؟ التأويل؟)، والمستوى المؤسساتي (ما طبيعة ملكوت الله؟ ما هي الكنيسة؟). ومن بين هذه المستويات الثلاثة سنركّز في هذا العمل على النقد المؤسَّساتي، وبشكل أدقّ على نقد مفهوم الملكوت (أولاً). وسننتقل بعد ذلك إلى إبراز «استراتيجيَّة» هوبز في تحييد وإفراغ مفهوم الملكوت من كلّ «الألغام» التي يَحْبلُ بها ويستغلها الكنسيُّون (ثانياً).

أولاً: في مفهوم الملكوت

شكَّل مفهوم الملكوت إحدى النقاط التي اختلف حولها هوبز مع الإكليروس.

تمثل الكنسيُّون الملكوت على صيغتين؛ فتحدَّثوا من جهة عن ملكوت روحي وأخروي هو مملكة المجد التي سينال فيها المؤمنون السعادة الأبديَّة، وتحدَّثوا من جهة أخرى عن ملكوت سياسي ودنيوي، وهو مملكة المسيح التي أقامها في هذا العالم قبل رفعه.

تحدَّث هوبز أيضاً عن مَلَكوتَيْن: ملكوت روحي، وملكوت سياسي. لكنَّ تصوُّره هذا يختلف عن تصوُّر الكنسيين. ينقسم كلُّ ملكوت عند هوبز إلى قسمين؛ فالملكوت الروحي يشمل ملكوت المجد في الأعالي. إنَّه ملكوت روحي أخروي؛ لأنَّه يمثل عالم المجد الذي سينعم فيه المؤمنون بالحياة، وزمانه هو يوم القيامة. كما يشمل الملكوت الروحي مملكة المسيح؛ فمملكة المسيح هي مملكة تقوم على العهد الذي أعطاه الله ليسوع المسيح بإقامة ملكه. لكنَّ زمن المملكة هو يوم البعث، وهذا ما أكَّده المسيح لمَّا قال: إنَّ مملكته ليست من هذا العالم. فضلاً عن هذا، لم يُقِم المسيح مملكة في الدنيا، طول المدة التي كان فيها حيَّاً، أو خلال الأيام الثلاثة التي قام فيها من بين الموتى بعد صلبه. وعليه، ما يطلق عليه ملكوت المسيح في هذه الدنيا هو ملكوت روحي دنيوي؛ هو روحي لأنَّه لا يتمتع بالطبيعة السياسيَّة، ولأنَّ المسيح قاد الناس قيادة روحيَّة ولم يقدهم قيادة سياسيَّة مادام أنَّ ملكه ليس من هذا العالم كما قال، وهو أيضاً دنيوي لأنَّ المسيح قام بين الناس في الدنيا وقادهم قيادة روحيَّة.

هذا عن الملكوت الروحي عند هوبز. أمَّا الملكوت السياسي، فينقسم أيضاً إلى قسمين: ملكوت بمقتضى الطبيعة، وملكوت بمقتضى العهد أو بمقتضى النبوَّة. لم ينشأ عن هذا النوع الأوَّل من ملكوت الله «مملكة مدنيَّة»[11]. لهذا لا يُقال عن ملكوت الله بمقتضى الطبيعة، إنَّه مملكة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل يُقال على سبيل الاستعارة، وذلك لأنَّه «ملك» يسري على الكائنات كافةً من بشر وحجر وشجر وحيوان دون تمييز؛ بل دون وجود خطاب صريح؛ إذ كيف يكون هناك خطاب ومن بين «المتلقين» من لم يبلغ الحُلُمَ، من لا يملك العقل، ومن ينفي وجود الله، ومن ينفي العناية الإلهيَّة، ومن لا ينطق، ومن لا يستجيب لنداء الله لأنَّه جماد لا يتحرَّك[12]؟ لكي يكون هناك ملك يجب أن يكون هناك خطاب صريح يتوجَّه إلى الرعايا، يحدّد الثواب عند الطاعة والعقاب عند المعصية. وهذا ما لا يتوافر في ملكوت الله بالطبيعة. أمَّا النوع الثاني؛ أي ملكوت الله بمقتضى النبوَّة، فيقال عنه مملكة بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقد نشأ عن هذا الملكوت مُلْك مدني، وهو على نوعين: ملكوت بمقتضى النبوَّة مدنيٌّ ودنيوي، وهو الملك الذي أنشأه الله من خلال العهد لكلٍّ من آدم ونوح وإبراهيم وموسى. وملكوت بالنبوَّة مدني، لكنَّه أخروي وقيامي، وهو الملك بالنبوَّة الذي عهد به الله ليسوع المسيح، لكن على أساس أنَّ قيام هذا الملك لن يكون قبل يوم القيامة.

رأينا أعلاه أنَّ الملكوت عند هوبز، إضافة إلى أنَّه يأخذ صفة روحيَّة، يأخذ صفة سياسيَّة. يقول هوبز:

«يخضع البشر للقدرة الإلهيَّة سواء برضاهم أم رغماً عنهم، ورغم إنكارهم وجود الله أو عنايته فإنَّهم لا يتخلصون بذلك من العبوديَّة لله؛ بل يخسرون فقط طمأنينتهم. ومع ذلك، حينما نطلق على قدرة الله هذه، التي لا تسري فقط على الجنس البشري، وإنَّما تسري على كلّ الكائنات الحيَّة؛ بل حتى على الكائنات الجامدة، اسم مملكة، فهذا لا يكون إلا على سبيل الاستعارة. إنَّنا لا نعتبر مَلِكاً بالمعنى الخاص للكلمة، إلا من كان يحكم رعاياه من خلال كلامه فَيَعدُ المطيعين بالجزاء، ويَتَوَعَّدُ العصاة بالعقاب. ونتيجة لذلك، الأجسام الجامدة والحيوانات ليست رعايا ضمن ملكوت الله (لأنَّه لا أحد منها، سواء الأولى أو الثانية، يفهم أوامر مثل أوامر الله)، ولا يمثل الملحدون أو منكرو العناية الإلهيَّة أيضاً رعايا في ملكوت الله (لأنَّهم لا يعترفون بأن يكون هناك كلام قد صدر عن الله، كما لا يرجون ثوابه ولا يخشون تهديده). رعايا الله إذاً هم أولئك الذين يؤمنون بأنَّ هناك إلهاً يحكم العالم، وأنَّه بعث إلى الناس تعاليمه وأوامره، ووضع لهم جزاءات وعقوبات. ما دون هؤلاء يُعدّون أعداء لله. من أجل أن يقوم حكم من خلال كلمات وأقوال، يجب أن تكون هناك كلمات وأقوال يمكن فهمها بشكل بدهي، وإلَّا فلن تكون هذه الأقوال الغامضة قوانين. إنَّ من طبيعة القانون أنَّه يصدر بما يكفي من الوضوح، حتَّى لا يتذرَّع الخطاة بعدم العلم به»[13].

يتحدَّث هوبز في هذا النص عن الملكوت الإلهي بالمعنى السياسي للكلمة. ويميز هوبز في هذا الملكوت بين ملكوت الله بمقتضى الطبيعة، وملكوت الله بمقتضى النبوَّة. ويستند هذا التمييز على ثلاثة اختلافات؛ يتعلق الأول منها بطبيعة الرعيَّة التي يجري عليها كلُّ ملكوت من الملكوتين سلطته، ويتعلق الثاني بالأساس الذي يُسَوِّغُ بموجبه كلّ ملكوت مُلْكَهُ، في حين يتعلّق الثالث بطبيعة القانون الذي من خلاله يُنْفِذُ كلّ ملكوت من الملكوتين سلطته، ويخاطب رعاياه.

1. ملكوت الله بالطبيعة:

يَبْسِطُ الملكوت الإلهيُّ الطبيعيُّ سلطته على الكائنات كافة(أ)، ويجعل من القدرة الكليَّة أساسَ شرعيَّة سلطته(ب)، ويخاطب رعاياه من خلال القانون الطبيعي العقلي(ج).

أ. الرعية:

يتوجَّه ملكوت الله بمقتضى الطبيعة إلى كلّ الكائنات؛ فالله يحكم كلَّ الناس بموجب قدرته الكليَّة، سواء منهم من آمن بأنَّه موجود وراعٍ للعالم، أم من آمن بوجوده دون عنايته بالعالم، أو من أنكر وجوده أصلاً فأنكر بالنتيجة رعايته للعالم.

إذا كان المؤمن الذي رضي بالله ربَّاً، وأقرَّ به راعياً، يخضع لملكوت الله بالطبيعة حبَّاً وطواعية، فإنَّ الملحد المنكر لوجود الله، الذي آمن بوجوده دون الإيمان بعنايته ورعايته للعالم، لا يفلتان من قبضة ملكوت الله بالطبيعة، وهذا بسبب أنَّ ملكوت الله بالطبيعة يستند على القدرة الكليَّة؛ بل إنَّه من شمول ملكوت الله بالطبيعة أنَّه يسري، ليس على البشر فحسب؛ بل يسري أيضاً على الكائنات كافة، حيَّة كانت مثل النبات والحيوان، أو جامدة مثل الحجر، وذلك بموجب قدرته الكليَّة. لكن مع ذلك يجب التنبيه إلى أنَّ ملك الله بالطبيعة، إن كان يسري على الخلق كافة، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ رعاياه هم الخلق كافة؛ بل فقط أولئك الذين آمنوا بوجوده، وآمنوا بأنَّه يرعى العالم. أمَّا من ينكرون إمَّا وجوده وإما عنايته أو هما معاً، فهم أعداؤه.

ب. أساس التسويغ:

تعود مشروعيَّة ملكوت الله بالطبيعة إلى أنَّ الله يتمتع بقدرة كليَّة لا يمكن للبشر مقاومتها، وليس إلى أنَّه خلق الخلق فصار لزاماً عليهم، بموجب الاعتراف بالجميل، أن يطيعوه ويخضعوا لِمُلْكِه. إنَّ الله ليس تاجرَ طاعة، يقدّم خدمة وينتظر خدمة مقابلة. فحينما نتمثل الله على أنَّه ذلكم المَلِك الذي قدَّم جميلاً للكائنات عامَّة، وللناس خاصَّة، وينتظر الطاعة مقابلاً لجميله، فإنَّنا نصوّره كائناً محدود القدرة، لا يمكنه أن يفرض على رعاياه أن يطيعوه ما لم يكن قد اشترى منهم هذه الطاعة. إنَّ الله يحكم الكائنات لأنَّه قوي وكفى. إنَّه يحكمهم، لا لأنَّه تنعَّم عليهم بالخلق؛ بل يحكمهم لأنَّه كليّ القدرة. فحينما يمارس ملكه بمقتضى الطبيعة لا يكون في حاجة لأيّ مسوّغ أو معيار، لاهوتي أو عقلي أو أخلاقي، يبرّر به ملكه هذا. إنَّ الملك الإلهي بالطبيعة هو ملك يجد معناه في ذاته. ولأنَّ ملكوت الله بالطبيعة لا يتأسَّس على أيّ معيار إلا معيار القدرة الإلهيَّة الكليَّة، فإنَّ الله يصبح في حِلٍّ من كلّ التزام، يعذّب من شاء متى شاء، ويحسن لمن شاء متى شاء؛ يعذّب المحسن ويجازي المسيء؛ بل يمكنه -إن شاء- أن يعذّب الخلق كلهم، ولو لم يذنبوا أو يرتكبوا الخطيئة. أمَّا لو تأسَّس ملكه على عدله، مثلاً، فيسكون مُلْزَماً بالامتثال لمقتضيات العدل، ولن نرى حينها الكفار وهم يعيشون مُنَعَّمِين في الدنيا، والنبي أيوب تلسع بدنَه سياط البلاء؛ هنا سيصير الله غير حرٍّ في ملكوته.

يقول هوبز: «لقد بيَّنت أعلاه كيف ينشأ الحكم الأسمى عن طريق اتفاق وميثاق. ولكي أبيّن كيف يمكن للحق نفسه أن ينشأ عن طريق الطبيعة، يكفي أن أبيّن كيف أنَّه لا يمكن أبداً وضع حدٍّ له. يملك الناس في الواقع الحقَّ علىّ كلّ الأشياء، ويملك كلُّ واحد منهم تبعاً لذلك الحقَّ في السيادة على الآخرين. لكن، نظراً لصعوبة التمتع بهذا الحق عن طريق القوَّة، تبيَّن لهم أنَّه من أجل سلامتهم وأمنهم عليهم التخلي عنه، كما توصلوا إلى ضرورة عقد اتفاق مشترك يضعون من خلاله بيد مجموعة من الناس سلطة ذات سيادة يدبرون من خلالها شؤونهم ويدافعون عنهم. لكن، خلافاً لهذا، لو كان هناك إنسان له من القدرة ما يمنع أيّ واحد من التفكير في مقاومته، فلن يكون هناك أيُّ سبب معقول يجعله يمنع نفسه من الاعتماد على هذه القدرة بالشكل الذي يحلو له، لممارسة الحكم من جهة، والدفاع عن نفسه وعن الآخرين من جهة أخرى. يعود بشكل طبيعي إذاً، إلى أولئك الذين لهم قدرة لا تقهر، وبفعل السطوة ذاتها التي تتميز بها قدرتهم، حقّ ممارسة السلطة على كلّ الناس. نتيجة لذلك، بفضل هذه القدرة وبشكل طبيعي، يكون من حقّ الله كلي القدرة أن يحكم البشر ويبتليهم كما يشاء، ليس بموجب أنَّه الخالق والمحسن؛ بل بموجب أنَّه كلي القدرة. وعلى الرغم من أنَّ إنزال العقاب لا يحقُّ إلا بارتكاب الخطأ، فإنَّ حق الله في ابتلاء البشر ليس مُقَيَّداً دائماً باقترافهم الأخطاء؛ بل ينبع من قدرته الكليَّة»[14].

يتضمَّن هذا النص استدلالاً على قدر كبير من الأهميَّة، وهذا بالنسبة إلى فهم النموذج النظري الذي يعتمده هوبز في قراءته للدّين وللسياسة؛ كيف ذلك؟

يشير هوبز في هذا النص إلى نوعين من الحكم الأسمى: الحكم الأسمى الذي ينشأ بمقتضى الميثاق، والحكم الأسمى الذي ينشأ بمقتضى الطبيعة. ويسعى صاحبنا إلى الإجابة عن سؤال واحد: كيف ينشأ الحكم الأسمى بمقتضى الطبيعة؟ ولكي يجيب هوبز عن الأمر، عرض بداية وضعيَّة البشر داخل الطبيعة، ثمّ استخرج نتيجةً تُمَثِّل جواباً عن السؤال. لقد بيَّن هوبز أنَّ البشر يتميزون في حالة الطبيعة بنوع خاص من المساواة، وهو المساواة في التناهي والضعف: رغم أنَّ لكلّ واحد من الناس خلال حالة الطبيعة حقاً طبيعياً على كلّ شيء، وحقاً طبيعياً في حكم جميع من تبقى من البشر، فلا أحد منهم يقدر أن يحكم كلَّ الآخرين. فكلُّ واحد من الناس، مهما كانت قوته، مُعرَّض للضرر والقتل من طرف أيّ فرد آخر من الناس. فالناس سواسية في القدرة على إيذاء بعضهم بعضاً، وسواسية، في المقابل، في التعرّض للأذى من طرف الآخرين، لا فرق في ذلك بين قويّ البنية وبين ضَعِيفِها. إذاً، ولأنَّه لا وجود لإنسان يملك قدرة كليَّة تحميه بشكل مطلق من شرور الآخرين، وتسمح له بحكمهم وقهرهم دون مقاومة منهم، فلا يمكن أن يقوم بين البشر حكم أسمى بمقتضى الطبيعة. لا يقوم بين البشر حكم أسمى، إلا بقيام من يملك القدرة الكليَّة. ولأنَّه لا أحد من البشر يملك مثل هذه القدرة فقد تخلَّى الناس عن الحق في المقاومة والقدرة على المقاومة لأحدهم أو لبعضٍ منهم، فظهر بهذا الشكل حكم أسمى يبسط سلطته عليهم جميعاً ويحميهم كافة. إنَّ هذا التخلي ليؤكد أنَّه لا طريق هناك لكي يقوم بين البشر حكم أسمى، إلا طريق التعاقد.

إذا كان الحكم الأسمى ينشأ بين البشر عن تعاقد وميثاق، فكيف ينشأ هذا الحكم الأسمى بمقتضى الطبيعة؟ نشير بداية إلى أنَّ الحكم الأسمى بمقتضى الطبيعة لا وجود له بين البشر، بل يوجد فقط لدى الله كلّي القدرة. لكن إذا كان الأمر هكذا، فما الشرط الذي يجعل من الممكن أن ينبثقَ حكم أسمى لدى الله دون عهد ودون ميثاق؟

للإجابة عن هذا السؤال، لم ينطلق هوبز من «اللاهوت»؛ بل استفاد من «الأنثروبولوجيا». لم ينطلق، وهو يتحدث عن ملكوت الله بالطبيعة من مقتضيات لاهوتيَّة؛ لم يجعل من الحديث عن طبيعة الله أساس الجواب. لقد انطلق للإجابة عن هذا السؤال من التفكير في الطبيعة البشريَّة، من التفكير في طبيعة الإنسان داخل حالة الطبيعة. انتهى به تأمّله في الإنسان إلى إقرار مبدأ سيشكّل عماد حديثه عن ملكوت الله بالطبيعة؛ بل سيشكّل لاحقاً عماد كلّ حديث عن السياسة والحياة المدنيَّة. هذا المبدأ هو مبدأ «تناهي الطبيعة البشريَّة»، أو مبدأ الضعف البشري الأصلي. ولأنَّ كلَّ الناس يتميَّزون بالضعف، فإنَّه ينعدم بينهم كبير أو قوي. فالكلُّ ضعيف وفي الضعف متساوون؛ فالمساواة (بين الضعفاء) هي ما يميّز الإنسان داخل حالة الطبيعة. تمسُّ هذه المساواة مجال الحقوق الطبيعيَّة، وتمسُّ مجال القدرة البشريَّة. فالناس متساوون في الحق في الحياة، مثلما هم متساوون في الحق في استعمال أيَّة وسيلة تحقق الحق في الحياة، وهم أخيراً متساوون في القدرة على إيذاء بعضهم بعضاً. تبعاً لهذه المساواة في الغاية (الحياة) والوسيلة (تحقيق البقاء) والقدرة (الإيذاء)، فإنَّه في حالة الطبيعة يمكن لأضعف الناس أن يؤذي أو يقتل أقواهم، من خلال المباغتة أو الخديعة أو الاستقواء بالغير. بهذا الشكل، يصير كلُّ واحد من الناس خلال حالة الطبيعة مهدَّداً بالموت عن طريق القتل، قوياً كان أو ضعيفاً. هكذا لا تشكّل حالة الطبيعة، بما فيها من مساواة، ضماناً لتحقيق الحقّ الأوَّل وهو الحقُّ في البقاء. أمام هذا الضعف، وأمام وضعيَّة التناهي الأنثروبولوجي هذه، ليس للإنسان من حلٍّ إلا التعاقد من أجل إقامة قوَّة جبَّارة قادرة على حمايتهم من بعضهم بعضاً: إنَّها «الإله الفاني» أو الدولة ذات السيادة الواحدة والمطلقة والدائمة، التي يجسّدها الحاكم الأسمى والمتسيّد. هكذا يتوقف نشوء الحكم الأسمى بين البشر إذاً على قيام نموذج تعاقدي، بدايته المساواة بين الضعفاء، ونهايته التفاوت بين الأفراد المتعاقدين فيما بينهم وبين الحاكم المتسيد.

إنَّ هذا النموذج النظري، أو هذه الآليَّة التي تقوم على إقرار «التفاوت السياسي» مكان «مساواة الضعفاء»، هو الذي سيستلهمه هوبز للحديث عن ملكوت الله بالطبيعة. فلكي يكون هناك مُلْك بالطبيعة يشمل كلَّ الكائنات، يجب أن يكون هناك، من جهة، حاكمٌ يمتلك من القوَّة ما يردع به الرعايا، وما يحميهم به من كل خطر، وأن يكون هناك، من جهة أخرى، أفراد متناهو القدرة، وإلا كنَّا أمام مساواة في القدرة تمنع قيام حكم أسمى يتمتع بالسيادة. إذا توافر لفرد من الأفراد قدر كبير من القوَّة، فإنَّه لن يسعى لكي يحكم الآخرين من خلال القانون المدني. لماذا سيفعل ذلك والقدرة الكليَّة تعفيه من كلّ قانون؛ بل تحرّره من كلّ التزام؟ إنَّ الحكم والقهر بين الناس يعود إلى من يملك قدرة كليَّة لا تقاوم. على هذا المنوال، يبني هوبز الملك الإلهي بمقتضى الطبيعة. فلأنَّ الله صاحب القدرة الكليَّة، فلا شيء يحدُّ من ملكه. ومن له مُلْك لا يحدُّه شيء، فملكه ملك أسمى، ملك يسري على رعاياه بموجب قدرته الكليَّة.

إذا كان ملك الله بهذا الشكل، فالله سيوزّع ثوابه وعقابه بين الكائنات بناءً على معيار واحد ووحيد هو القدرة الكليَّة. وبمقتضى هذا الملكوت المستند على القدرة الكليَّة قد يجازي الله المسيء، ويعاقب المحسن. وكما أنَّ القويَّ من الناس -إن وجد- قد يلغي ويزيح كلَّ قانون وكلَّ قيمة خلال تعامله مع نظرائه، فالله أيضاً يمكنه -إن شاء- استبعاد أيّ معيار في تعامله مع الكائنات بمقتضى الملك الطبيعي، إلا معيار القدرة الكليَّة.

هكذا نكون قد بيَّنا أنَّ هوبز قد نحت مفهوم الملك الإلهي بمقتضى الطبيعة، وقد استلهم مبدأ التناهي البشري.

وإذا كان ملك الله بالطبيعة يقوم على مفهوم القدرة الكليَّة، فكيف تمثّل هوبز هذا المفهوم الذي له تاريخ في التقليد اللاهوتي المسيحي؟ لم يبنِ هوبز هذا المفهوم بالإحالة على مبدأ لاهوتي يرتبط بالذات الإلهَّية؛ بل بناه بالإحالة على مبدأ أنثروبولوجي يرتبط بالذات الإنسانيَّة، هو مبدأ تناهي الطبيعة الإنسانيَّة. تستبطن القدرة الكليَّة الإلهيَّة الحديث -ولو ضمنيَّاً- عن الإنسان محدود القدرة. لم يستند مفهوم «كلّي القدرة» على صفة إلهيَّة خالصة؛ بل تشكَّل من خلال تفاعل مع الذات الإنسانيَّة. لقد استند التحديد على صفة لا تنبني إلا إذا التأم طرفان هما الله والإنسان. فلكي يكون الله كلّي القدرة، يجب أن يكون كلّي القدرة بالنسبة إلى كائن لا قدرة له. إنَّ صفة كلّي القدرة تتطلب وجوباً وجود كائن ضعيف ومحدود القدرة ومتناهي القوَّة. إنَّه كلّي القدرة بالنسبة إلى كائن لا قدرة له.

تأملنا في النص أعلاه، كيف تمثّل هوبز قيام الحكم الأسمى بمقتضى الطبيعة، وكيف استند الملك الإلهي بالطبيعة على مفهوم القدرة الكليَّة.

استلهم هوبز الطبيعة الإنسانيَّة ليحدّد الطبيعة الإلهيَّة. استلهم الناسوت ليبني اللاهوت. قاس الغائب (اللاهوت) على الشاهد (الناسوت). لكنَّ هذا القياس كان قياساً بالخُلْفِ؛ أي لم يكن قياسَ تماثل؛ بل كان قياس تباين. فالشاهد هنا؛ أي الإنسان، ليس نموذجاً يجب على الله أن يعكس صورته انعكاس نسخ. ليس مطلوباً من اللاهوت أن يعكس الناسوت ويستنسخه، بل المطلوب من اللاهوت أن يعاكسه وينشئ ما لم يستطع الإنسان متناهي القدرة أن ينشئه. إنَّ قياس الغائب/اللاهوت على الشاهد/الناسوت ليس قياس تماثل، بل قياس تباين؛ فالاستدلال بالضعف البشري كان من أجل بناء ضدّه؛ أي القدرة الإلهيَّة الكليَّة. يقول هوبز: إذا كان هناك إنسان كلّي القدرة، فإنَّه لن يقيم بين البشر ملكاً أسمى بمقتضى العهد والميثاق؛ بل سيقيم فيهم ملكه بمقتضى القوَّة. وبما أنَّ كائناً بهذه القوَّة الكليَّة لا وجود له بين البشر، فإنَّه لن يكون إلا كائناً فوق البشر؛ إنَّه الله. وبهذا، فبموجب قدرته الكليَّة يمكن لله أن يؤسّس الحكم الأسمى دون الحاجة إلى عهد أو تعاقد أو ميثاق.

بعدما عرضنا جواب هوبز عن السؤال الذي طرحه بخصوص الشرط الذي يسمح بقيام حكم أسمى (عند الله) دون الحاجة إلى عهد أو ميثاق، بعد هذا التوضيح، نشير إلى أنَّ مبدأ تناهي الطبيعة البشريَّة يمثّل الحلقة «الأنثروبولوجية» ضمن النموذج النظري، الذي سمح لهوبز باستحضار الدّين داخل فلسفته السياسيَّة، دون ضرائب نظريَّة؛ بل بمكاسب تساير الطلب النظري والانتظارات الفكريَّة لعصره.

ج. التعبير:

يعتمد الملكوت الإلهي الطبيعي على القانون العقلي والطبيعي لتبليغ تعاليمه للبشر. لمعرفة طبيعة هذا النمط من القوانين، يجب الوقوف أولاً عند تصوُّر هوبز للقوانين الإلهيَّة. كيف تتجلَّى هذه القوانين؟ وكيف يتمُّ تلقيها؟ ينبهنا هوبز إلى أنَّ البشر يصدرون قوانينهم من خلال كلمات أو عبارات، لكنَّهم لا يعبّرون أبداً عن إرادتهم بوسيلة أخرى. لكنَّ قوانين الله يتمُّ التعبير عنها من خلال وسائل ثلاث: من خلال التعاليم الضمنيَّة والمضمرة للعقل السليم، ومن خلال الوحي المباشر الذي يأخذ شكل صوت يسمعه الشخص المُلهَم أو الموحى له، أو رؤيا تتراءى له، أو إلهام يبثّه الله في نفسه، ومن خلال صوت إنسان يحضُّ الله الناس على الإيمان به بناء على ما أجرى على يديه من معجزات؛ ويُسمَّى هذا الإنسان الذي يستعمله الله لنقل إرادته إلى البشر النَّبي. تشكّل هذه الوسائل الثلاث لتبليغ قوانين الله الأنماط الثلاثة للخطاب الإلهي: وهي الخطاب العقلي الطبيعي، والخطاب الحسي الشعوري، والخطاب النبويّ. ويقابل هذه الخطابات الثلاثة ثلاث وسائل ندَّعي أنَّنا نفهم من خلالها كلام الله: وهي العقل السليم، والأحاسيس، والإيمان (الليفيتان، 380. أيضاً: المواطن، 293). هذه أشكال الصدور أو التجلي والتلقي، فما هي قيمة كلّ خطاب من هذه الخطابات الثلاثة؟ أي، هل يسمح كلُّ خطاب من هذه الخطابات بنشأة قانون يمكن البناء عليه لإقامة «حكم مدني» في ظلّ ملكوت الله؟

يرى هوبز أنَّ الخطاب الوجداني لا يسمح بإنشاء القانون، باعتبار أنَّ القانون هو خطاب يتميز بالظهور والإعلان من جهة، وبالكونيَّة أو العموميَّة من جهة أخرى. فالله يوجّه خطابه الوجداني، أو يلهم متلقيّاً خاصَّاً وهو الفرد. وعليه كلُّ خطاب موجَّه إلى فرد دون غيره من الأفراد لا يكون عامَّاً. فما خوطب به هذا الفرد لا يكون مطابقاً للإلهام الذي تلقاه الفرد الآخر. وبهذا، لا يوجد هناك ما يحسم الخلاف بين الأفراد حول مضمون وصدق الإلهام أو الوحي الذي تلقاه هذا الفرد أو ذاك. وبما أنَّه لا أحد يمكنه أن يقبل بما يدَّعيه فرد من وحي، فلا يمكن إذاً أن ينشأ عن الخطاب الوجداني الإلهامي قانون ولا حكم مدني في ظلّ الملكوت الإلهي (الليفيتان، 380. أيضاً: المواطن، 293).

خلافاً للخطاب الوجداني يتوجَّه الخطاب الطبيعي والعقلي إلى المؤمنين كافة من بني البشر.

يتميز الخطاب الطبيعي العقلي بأنَّه خطاب مضمر، وليس خطاباً صريحاً. لكنَّه يحمل مع ذلك إشارات يتوقف أمر فهمها على العقل السليم. ويلجأ العقل السليم، أمام إشارات مضمرة، إلى التأويل. ويهدف التأويل إلى استنباط التعاليم والقوانين التي توجّه السلوك وفق ما يأمر به الله، فيكون الامتثال لها دليل طاعة وخضوع. إنَّ القوانين التي تمَّ استنباطها من خلال تأويل الإشارات الضمنيَّة، التي يحملها خطاب الله الطبيعي والعقلي، هي قوانين عقليَّة طبيعيَّة عامَّة، لم يضعها واضع، ولم يشرّعها مشرّع. إنَّها قوانين يكون المتلقي لها وحيداً يواجه المعنى، سلاحُه التأويل، مع ما يتضمنه التأويل نفسه من مخاطر وإغراءات تهدّد المتلقي بالانحراف عن الدلالة، مثلما تهدّده بالانحراف بها. بهذا يمكن القول، إنَّ الخطاب الإلهي الطبيعي والعقلي لا يسمح بنشوء حكم مدني في ظلّ ملكوت الله.

يقوم القانون النبويُّ من جهته على «الإيمان». فكلما آمنت جماعة من الناس برجل جاء يخبرهم بأنَّ الله كلفه بحمل رسالته إليهم، ومدَّه بآيات تؤكّد صدقه، وهي معجزات أجراها على يديه، كان هناك قانون نبويّ؛ أي إنَّ القانون النبويّ يتطلَّب إيمان المخاطبين بخطاب النَّبي. والإيمان هو ثقة يضعها المُخاطَبُ في المُخاطِبِ. فالإيمان هنا يوازي الثقة التي تقوم عليها العقود والعهود والمواثيق. فكلّما كانت هناك ثقة، كان هناك اطمئنان، وكلما كان هناك اطمئنان كان هناك عقد، وكلما كان هناك عقد كان هناك «حكم مدني» في ظلّ ملكوت الله. وكلما كان هناك حكم مدني إلهي، كان هناك التزام وامتثال من المؤمنين بالقوانين الإلهيَّة النبويَّة. لهذا إنَّ قيمة القانون النبويّ قيمة «سياسيَّة» تنشئ الحكم المدني في ظلّ الملكوت الإلهي. إنَّ الحكم المدني المقصود هنا هو ملك الله بمقتضى العهد أو النبوَّة أو ملكوت الله النَّبوي. فأيّ نوع من الرعايا هم رعايا هذا الملكوت؟ ما أساس تسويغه؟ ما هي قوانينه وشكل تعبيره عن أوامره؟

2. ملكوت الله بالنبوَّة:

يقول هوبز: «منذ بداية الخلق، لم يحكم الله جميع الناس بشكل طبيعيّ استناداً على قدرته الكليَّة؛ بل اتخذ بعضهم أيضاً رعايا، فأمرهم من خلال كلامه مثلما يكلم إنسان إنساناً. إنَّه بهذا الشكل حكم الله آدم وأمره بعدم الأكل من شجرة التمييز بين الخير والشر. حينما عصى آدم هذا الأمر، فأكل من الشجرة كي يكتسب الطبيعة الإلهيَّة فيفصل بين الخير والشر فصلاً لا يصدر عن أوامر خالقه؛ بل ينبع من شعوره الخاص، فقد كان عقابه هو حرمانه من حياة الخلد التي خلقه الله عليها في الأصل. وبعد ذلك عاقب الله بالطوفان كلَّ نسله بسبب رذائلهم باستثناء ثمانية منهم. فقد تمثلت مملكة الله حينها في ثمانية نفر.

وقد حلا لله بعدها أن يخاطب إبراهيم ويبرم معه ميثاقاً (التكوين، 17/7-8) بهذه الكلمات: سأنشئ عهدي بيني وبينَك ونسلَك من بعدك جيلاً إثر جيل، من خلال عهد متواصل، لأكون لك إلهاً ولنسلِك من بعدك. وسأهبك وذريتَك الأرضَ التي أنت فيها غريب، وكلَّ أرض كنعان كي تملكها بشكل دائم.

يتعهَّد إبراهيمُ في هذا الميثاق، عن نفسه وعن ذريته، بالإيمان بأنَّ «السيد» الذي كلمه هو الله، ويتعهَّد أيضاً بطاعته، على أن يتعهَّد الله من جهته لإبراهيم بمنحه أرض كنعان ليملكها بشكل دائم. وكذكرى لهذا الميثاق (الآية 11) فرض الله الختان. إنَّ هذا هو ما سُمّي العهد القديم والوصيَّة القديمة(...).

(...) وقد تجدَّد هذا العهد على يد موسى في سفح جبل سيناء (الخروج 19، 5)، حيث أمر الله موسى بأن يخاطب قومه بالكلمات الآتية: إذا ما أصغيتم حقيقة إلى قولي، وحفظتم عهدي [ميثاقي]، تصيرون بالنسبة إليَّ شعباً خاصَّاً؛ إذِ الأرض كلّها مِلْكِي. كما ستكونون بالنسبة إليَّ مملكة من الكهنة وأمَّة مقدَّسة»[15].

هذا ملكوت إلهي يقوم على الموافقة التي يبديها المتلقي. وهذا ما يسمّيه هوبز الملكوت الإلهي بمقتضى العهد. إنَّه الملكوت الإلهي النَّبوي الذي بدأ منذ العهد لآدم، ثمَّ انتقل إلى نوح، فإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ثمَّ أخيراً يسوع المسيح. لهذا الملكوت أيضاً رعيَّة (أ)، وله أساس يُسَوِّغُهُ (ب)، وله قوانين يعبّر من خلالها عن أوامره (ج).

أ. الرعية:

يسري ملكوت الله بالنبوَّة على عددٍ خاصٍّ من البشر، قد يكون فرداً (آدم)، أو بضعة أفراد (نوح وأهله)، أو نسل نبي (إبراهيم)، أو شعباً بعينه (موسى)، أو الناسَ كافة (المسيح). لا يتوجَّه ملك الله بالنبوَّة إلى الكائنات كافة، كما كان الأمر مع ملكوت الله بمقتضى الطبيعة؛ فرعايا الله بموجب ملكه بالنبوَّة يختارهم الله من بين سائر البشر، شعباً بعينه أو أمَّة مخصوصةً.

ب. أساس التسويغ:

يتوجَّه الله، حينما ينشئ ملكه بمقتضى النبوَّة، إلى فئة خاصَّة، وحينما يتوجَّه إلى فئة خاصَّة هو لا يطلب منها ما يطلب من غيرها. إنَّه يقدم لها مطالب، بل تعاليم وأوامر مُحَدَّدة. ومن طبيعة الأوامر المحدَّدة أن تكون معلومة، وواضحةَ الدلالة لا لبس فيها. ويتمُّ هذا «البيان» عن طريق الإعلان الصريح لا أن يُتْرَكَ أمرُ معرفته للحسّ السليم أو للنظر العقلي الثاقب الذي يكشف آيات الطبيعة ونواميس الكون. ويحمل الإعلان هذه الأوامر ضمن عهد أو ميثاق يوضح المأمور به والمنهي عنه من الأفعال والمعتقدات، ويرتِّب على ذلك الجزاء من خلال مسطرة للعقاب والثواب.

إنَّ أساس الملك بالنبوَّة إذاً هو العهد. يسوِّغ الله ملكه بمقتضى النبوَّة بالعهد والميثاق. وبهذا يتميّز الملك بالنبوَّة عن الملك بالطبيعة. ففي ملكوت الله بالطبيعة، ليست هناك أيَّة حاجة إلى عهد أو ميثاق؛ لماذا سيحتاج «كليُّ القدرة» إلى العهد والميثاق ليقيم ملكه على كائنات يسري حكمه عليها بموجب قدرته الكليّة؟ إنَّه المهيمن والجبَّار، فكيف له أن ينشئ عهداً أو ميثاقاً مع الكائنات، وفيها الجماد والحيوان؟ كيف له أن يعقِد عهداً مع ملحد لا يقرُّ بوجوده، أو مع ضالٍّ لا يقرُّ بربوبيته؟ كيف له أن يعقد عهداً مع مؤمن به، يمكنه بوصفه إلهاً كليّ القدرة أن يعاقبه سواء كان هذا المؤمن حسن الفِعال أم سيِّئَها؟

يظهر هذا العهد لمَّا أنشأ الله ملكه بالنبوَّة، على سبيل المثال، على آدم وإبراهيم وموسى والمسيح.

لقد توجَّه الله، وهو ينشئ ملكه بالنبوَّة، إلى آدم بأمر محدَّد: الامتناع عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ومقابل امتثال آدم لهذا الأمر، منحه الله حياة الخلد، من خلال السماح له بالأكل من شجرة الحياة. يتميز الملكوت بالنبوَّة بكون أوامره من طبيعة خاصَّة؛ فالأمر والجزاء في العهد لآدم لا يوجدان في الملكوت الإلهي بمقتضى الطبيعة. وتأتي خصوصيَّة الأمر والجزاء من آليَّة العهد. فالملك بالعهد يكون فيه تدقيق وتحديد، لا يكونان في الملك بالطبيعة.

حينما ننتقل إلى ملك الله بالنبوَّة على إبراهيم، نجد الأساس نفسه والتسويغ نفسه: العهد الصريح.

أنشأ الله ملكه بالنبوّة على إبراهيم، من خلال عهد تضمَّن مطلباً وقدَّم جزاءً. كان المطلب هو أن يرى إبراهيمُ أنَّ «الله» هو ربه، وأن يبلغ ذلك لنسله، فيأمرهم بعبادة «الله» ربّ إبراهيم وربّهم. أمَّا الجزاء فقد كان منح أرض كنعان له ولنسله إلى الأبد. وما يؤكد أنَّ ملكوت الله على إبراهيم هو ملكوت بالنبوَّة أنَّ الله اشترط علامة تكون ذكرى لهذا العهد: شعيرة الخِتان. نعم، إنَّ الختان خاصّ بالملكوت بالنبوَّة وحده؛ بل بملكوت نبويّ بعينه، ولا يشمل بالمرَّة الملكوت بالطبيعة.

إذا كنا قد رأينا أنَّ ملكوت الله بالطبيعة يسري على كلّ الكائنات، عاقلة كانت أو غير عاقلة، حيَّة أو جامدة، فإنَّه لا يمكن أن يكون الختان بنداً من بنود هذا الملكوت؛ إذ لا يُعقَل لعلامة خاصَّة بالبشر فقط؛ بل بفئة من البشر، أن تكون علامة لمُلْك يسري على كلّ البشر والشجر والحجر وكلّ المخلوقات. فإن كان هناك من علامة يجب اللجوء إليها في ملكوت الله بالطبيعة، يجب أن تكون علامة طبيعيَّة ترتبط بالمخلوقات كافة بشكل طبيعي. وعليه، الختان بندٌ من بنود الملكوت بالنبوَّة، وبالتحديد ملكوت الله بالنبوَّة على إبراهيم.

إنَّ الختان ليس فعلاً تفرضه الطبيعة، بل هو فعل اقتضاه قرار تشريعي للمشرع الأسمى. إنَّ الختان ليس علامة طبيعيَّة، بل هو علامة وضعيَّة. الختان مجرَّد وسم يدلُّ على أنَّ المختونين رعايا الله في مملكته. وكأيّ فعل تشريعي، يخضع الختان، بوصفه علامة على العهد، للتغيّر. فالختان علامة العهد لإبراهيم، والتعميد علامة العهد للمسيح.

خلاصة القول إنَّ الملكوت بالنبوَّة هو ملكوت يتمُّ تسويغه بالعهد وبعلامات العهد. وفي حالة العهد لإبراهيم، العلامة كما رأينا هي الختان.

إذا انتقلنا إلى موسى، فسنجد أنَّ أساس تسويغ الملكوت بالنبوَّة هو نفسه في ملكوت الله على آدم، وعلى إبراهيم: العهد. وقد أبرم الله العهدَ مع قوم موسى، من خلال موسى. ويقضي العهد أن يمتثل قوم موسى لكلام الله، ويحفظون عهده. ومقابل هذه الطاعة، سينالون حظوة عظيمة، إذ سيجعل الله منهم شعبه المختار من بين أمم الأرض، بل إنَّ العهد يحدِّدُ أيضاً نمط ملك الله فيهم: سيكونون مملكة من الكهنة، وأمَّة مقدَّسة.

يغطي الملكوت بالنبوَّة عهد يسوع المسيح أيضاً. إنَّه عهد يتضمَّن التزامين: واحد من الناس، وآخر من الله:

«لقد التزم الناس فعلاً من جهتهم، بموجب العهد الجديد أي العهد المسيحي، بخدمة إله إبراهيم بحسب تعاليم يسوع، وعاهدهم الله من جهته بأن يضع عنهم خطاياهم ويتقبلهم في ملكوت السماء» (المواطن، 341). كما حدَّد الله في هذا العهد بندين مطلوبين بموجب تعاليم المسيح هما:

«طاعة الله أو بتعبير آخر خدمته، والإيمان بالمسيح؛ أي الإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح الذي وعد الله به المؤمنين» (المواطن، 342)

ولكي يبيّن هوبز بشكل أوضح بنود العهد الجديد يستشهد في هذا النص بمقطع من الكتاب المقدَّس ويعلق عليه قائلاً:

«... إنَّ أقسام العهد الجديد تظهر بشكل أكثر وضوحاً وأكثر قطعيَّة في مقطع يسأل فيه أحد الرؤساء منقذنا سؤالاً كما لو أنَّ ملكوت الله قد عُرِض للبيع في مزاد: «أيُّها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديَّة؟» (لوقا، 18/18). فوراً بيَّن له المسيح قسماً من الثمن الواجب أداؤه، وهو القيام بما تدعو له الوصايا، أي الطاعة، ثمَّ بعدما أجابه هذا الأخير بأنَّه يقوم بكلّ الواجبات، بيَّن له بعد ذلك القسم الآخر: «يُعْوِزك أيضاً شيء: بعْ كلَّ ما تملك ووزِّع على الفقراء، فيكون لك كنز في الأعالي، وتعالَ اتبعني»، (لوقا، 18/22)، وهذا هو الإيمان»[16].

ج. التعبير:

ينشأ الملكوت بالنبوَّة من خلال عهد يقيمه الله بينه وبين أمَّة بعينها، أو بينه وبين شعب مختار. وإذا كان أساس الملك بالنبوَّة هو العهد، فإنَّ نمط التعبير الذي يعتمده لتبليغ أوامره هو نمط وضعي، يتمثل في قوانين إلهيَّة نبويَّة. لماذا هذا اللجوء إلى قوانين وضعيَّة بدل الاكتفاء، كما هو الأمر في الملكوت الإلهي بالطبيعة، بقوانين عقليَّة طبيعيَّة ضمنيَّة؟ إنَّ الملكوت الإلهي بالنبوَّة، بحكم أنَّه يتوجَّه إلى شعب بعينه، يحدّد الأوامر التي يوجّهها لهذا الشعب آمراً إيَّاه بالالتزام بها. ولكي تكون الأوامر مطاعة يجب أن تكون مفهومة، ولكي تكون مفهومة يجب أن تكون معلومة، ولكي تكون معلومة يجب أن تكون صريحة وواضحة، ولكي تكون صريحة وواضحة يجب أن تكون موضوع خطاب منطوق أو مكتوب.

إذاً، يقوم ملكوت الله بالنبوَّة على العهد؛ لكنَّ العهد غير كافٍ وحده، بل لا بدَّ له من قول أو خطاب يجعله معلوماً. لكنَّ الخطاب غير كافٍ هو أيضاً في ذاته؛ بل لا بدَّ له من أن يكون خطاب أمر، لا خطاب رجاء، أو خطاب نصح، أو خطاب أمل. حينما يتجلى العهد في خطاب آمر، فإنَّه يعتمد بالضرورة القانون الإلهي النبويّ الوضعي: إنَّ قانون الملكوت بالنبوَّة هو قانون من تشريع المشرّع الأسمى (الله)، يضعه بين يدي النَّبي ليبلغه لأمَّة الاختيار والعهد.

خلاصة القول أنَّ الملكوت بالنبوَّة يتَّخذ القانون النَّبوي الوضعي أسلوباً للتعبير عن أوامره.

ثانياً: في أهداف هوبز من نقد الملكوت

أسَّس هوبز فلسفته السياسيَّة انطلاقاً من التأمُّل في الحرب الأهليَّة والفتن الدينيَّة التي عرفتها إنجلترا خلال القرن السابع عشر الميلادي (1640-1660م). وتعود هذه الحرب، بحسب هوبز، إلى أسباب مركَّبة بعضها فوق بعض. لقد اندلعت الحرب لمَّا حار الناس بخصوص أيَّة سلطة يجب طاعتها، السلطة المدنيَّة أم السلطة الدينيَّة؟ أيّ قوانين يجب الامتثال لها، القوانين المدنيَّة أم القوانين الإلهيَّة؟ وتعود حيرة الناس إلى اعتقاد سائد لديهم يظن أنَّه غالباً ما تتعارض القوانين المدنيَّة والقوانين الدينيَّة فيما بينها. ويعود هذا الاعتقاد إلى جهل الناس بالقوانين الإلهيَّة. وسبب جهلهم هذا أنَّه لم يعد هناك من يوضح للناس طبيعة وحقيقة القوانين الإلهيَّة، بعدما صمتت السماء، وانغلق بابها، وانقضى عهد النبوَّة.

مع صمت السماء بقي للناس أثر واحد هو الكتاب المقدَّس. لكن مع انعدام المفسّر قام كلُّ فرد وكلُّ جماعة إلى الكتاب تفسّره تفسيراً، فتعدَّدت التأويلات وتضاربت بتعدُّد المتأولين، فتفرَّق الناس شَذَرَ مَذَرَ، واشتعلت الفتنة واندلعت الحرب الأهليَّة.

هكذا تأمَّل هوبز الغُمَّةَ التي ضربت بلاده خلال القرن السابع عشر الميلادي. وقد رأى هوبز أنَّ الحل الذي سيضع حداً للحرب الأهليَّة هو إقرار نظام سياسي يجمع فيه الحاكم السلطة الدينيَّة والسلطة السياسيَّة تحت سلطته الواحدة والموحَّدة والمطلقة. لكن من أجل إقرار هذا النظام السياسي، يجب أولاً حلّ سوء الفهم الذي استولى على العامَّة، وهو أنَّ القوانين المدنيَّة تتعارض مع القوانين الإلهيَّة؛ أي أنَّه قبل إصلاح المؤسَّسة يجب إصلاح الفكرة. وإصلاح الفكرة يكون بالبدء بنقد الدّين. ونقد الدّين عند هوبز يمسُّ ثلاثة جوانب هي: الجانب اللاهوتي (مفهوم الدّين، مفهوم الإيمان، النبوة، الخلاص...)، والجانب الكتابي (في حجيَّة الكتاب المقدَّس وصحته، التأويل...)، والجانب المؤسساتي (مفهوم الملكوت الإلهي، مفهوم الكنيسة...).

واضح أنَّ هذا المقال، وهو يتناول نقد هوبز للدّين، يركّز بشكل مدقّق على الجانب المؤسساتي، وخاصَّة على مفهوم الملكوت الإلهي. لهذا، إنَّ كشف «الحيل النظريَّة» التي استعملها هوبز في نقده للدّين، بقصد دمجه ضمن نظريَّة الدولة، واحتوائه ضمن مفهوم السيادة دون «خسائر نظريَّة»، سيركّز فقط على مفهوم الملكوت. ولولا ضيق المجال لأبرزنا كيف مارس هوبز هذه الآليَّة النقديَّة الاحتوائيَّة على مفهوم الكنيسة، وعلى مفاهيم تندرج ضمن المجال الكتابي والمجال اللاهوتي.

يوجّه هوبز تفكيره لدحض فكرة تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة. حاول فيلسوفنا أن يبيّن لأبناء عصره وبلده أنَّه ليس هناك أيُّ تعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة. بين أنَّ الخطاب الإلهي الشعوري أو الوجداني، الذي يوجّهه إلى أفراد يصرحون بأنَّ الله قد خاطبهم، لا ينشأ عنه أيّ قانون يمكن البناء عليه لإقامة حكم مدني، وبين أيضاً أنَّ الخطاب الإلهي الطبيعي والعقلي الذي يحمله الملكوت الإلهي بالطبيعة لا يتضمن قوانين يمكن أن ينشأ عنها حكم مدني، وبين، أخيراً، أنَّ ملكوت الله بالنبوَّة، وهو الملكوت الذي يقوم على العهد والميثاق، وحده ينشأ عنه حكم مدني. لهذا إنَّ مسألة تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة لا تطرح أصلاً بالنسبة إلى الخطاب الإلهي الشعوري؛ لأنَّه لا يتضمن أصلاً أيَّ قوانين.

إنَّ مسألة التعارض مسألة يمكن إثارتها حينما يتعلق الأمر بملكوت الله بالطبيعة؛ لأنَّه ملكوت يتضمَّن نوعاً من القوانين. لكن هل القوانين العقليَّة الطبيعيَّة في الملكوت الإلهي الطبيعي هي قوانين بالمعنى المدني للكلمة؟ ألا يمنع انعدام الطابع المدني عن القانون الطبيعي كلَّ حديث عن التعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة الطبيعيَّة؟(1). يتميز ملكوت الله بالنبوَّة بأنَّه حكم مدني. إنَّه يتضمَّن قوانين بالمعنى المدني للكلمة. وهذا ما يجعل إثارة السؤال حول إمكانيَّة تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة مسألة ممكنة في الملكوت بالنبوَّة(2).

1. ملكوت الله بالطبيعة:

نشير بدايةً إلى أنَّ استراتيجيَّة هوبز حيال ملكوت الله بالطبيعة اعتمدت على «آليَّة الاستثمار»؛ أي إنَّه -وإن أقرَّ بأنَّ ملكوت الله بالطبيعة ليس ملكاً بالمعنى المدني للكلمة- لم ينتهِ من تناوله إلا بعد أن التقط منه فكرة استثمرها ليؤكد أنَّه لا تعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة بما فيها القوانين الإلهيَّة الطبيعيَّة؛ بل إنَّ القوانين الإلهيَّة الطبيعيَّة هي التي تؤكد احترام القوانين المدنيَّة. فالقوانين الإلهيَّة هي القوانين الطبيعيَّة، ومن أهمّ القوانين الإلهيَّة الوفاء بالعهود. ونعلم أنَّ الوفاء بالعهود هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة المدنيَّة؛ أي الوفاء بالعقد الاجتماعي مع ما يقتضيه ذلك من طاعة للقوانين المدنيَّة التي يصدرها الحاكم المدني الأسمى.

رأينا سابقاً أنَّ ملكوت الله بالطبيعة ليس ملكاً بالمعنى الخاص للكلمة؛ بل هو ملك على سبيل الاستعارة. فلكي يكون هناك ملك؛ أي حكم مدني، يجب أن تكون هناك مميزات لا تتوافر في ملكوت الله بالطبيعة.

أوَّل شروط الملك أو الحكم المدني أن يكون هناك عهد وميثاق، وهذا ما لا يوجد في ملكوت الله بالطبيعة؛ فالله في هذا الملكوت يحكم بموجب قدرته الكليَّة التي يفرضها فرضاً. من شروط الحكم المدني أن يكون هناك تراضٍ بين الطرفين، وهذا ما لا يوجد في الملكوت الإلهي الطبيعي، فالبشر «يخضعون بشكل ضروري وفي كلّ حين للقدرة الإلهيَّة، رضوا بذلك أم لم يرضوا به. حينما ينكر الناس وجود الله وعنايته، فهم يتخلون حينها عن طمأنينتهم فقط، لكن لا يتخلصون من ربقة عبوديتهم»[17].

ومن شروط الحكم المدني أن يتضمَّن بنوداً محدَّدة، وأن يصدر قوانينَ تحمل أوامره وتكون صريحة وواضحة، وهذا ما لا يوجد في ملكوت الله بالطبيعة، حيث هناك تعاليم فقط، وهناك «قوانين» طبيعيَّة لا تستنبط إلا بوساطة العقل السليم. وبما أنَّ العقل السليم هو ملكة عامَّة لدى البشر فهو موجَّه إلى الناس كافة، كلٌّ يرى نفسه معنياً به وأنَّه موجَّه إليه. وبهذا، ملكوت الله بالطبيعة يسري على الناس كافة، وهذه ليست خاصيَّة الحكم المدني الذي يقوم على العهد الخاص بجماعة بعينها أو بأمَّة مخصوصة. إذا كان الأمر هكذا فلا وجود لقوانين إلهيَّة مدنيَّة بموجب الملكوت الإلهي الطبيعي؛ بل هناك فقط قوانين طبيعيَّة. وعليه، إذا كان المواطنون يطرحون مشكلة تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة، فإن القوانين الإلهيَّة، التي يرفضون تعارض القوانين المدنيَّة معها، هي قوانين ملكوت الله بالنبوَّة، وليست قوانين ملكوت الله بالطبيعة. لهذا لا مشكلة هنا تخصُّ تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة الطبيعيَّة. لكن ما هي القوانين الإلهيَّة؟

يقول هوبز: «ليست القوانين الإلهيَّة إذاً شيئاً آخر غير قوانين الطبيعة، حيث القانون الأساسي فيها ينصُّ على أنَّه لا يجوز أن نُخِلَّ بإيماننا. إنَّه يأمرنا إذاً بطاعة حكامنا المدنيين، الذين نصَّبناهم حكاماً علينا بموجب ميثاق متبادل بيننا. وبالنتيجة، هذا القانون يأمر بطاعة كلّ تعاليم الكتاب المقدَّس الذي لا يصير (كما أكَّدت ذلك في الفصل السابق) قانوناً إلا حينما يجعله الحاكم المدني قانوناً. وغير هذا، هو ليس إلا نصيحة يمكن لأيّ كان ألا يطيعها على مسؤوليته الخاصَّة، دون أن يكون في ذلك ظلم أو جرم ضدَّ العدالة»[18].

نلاحظ أولاً أنَّ القوانين الإلهيَّة بمقتضى الطبيعة هي القوانين الطبيعيَّة. وأهمُّ ما تنصُّ عليه القوانين الإلهيَّة هو الالتزام بالإيمان وعدم الإخلال به. ويمثل الالتزام بالإيمان من زاوية القوانين الطبيعيَّة الوفاء بالعهود. على الإنسان، إذاً، أن يحترم العهود التي أبرمها مع الغير، ومن أهمّها العهد الذي أبرمه مع غيره من الأفراد لإقامة حياة مدنيَّة. إنَّنا هنا أمام استثمار سياسي لقوانين إلهيَّة بمقتضى الملك الإلهي الطبيعي. هكذا تسمح استراتيجيَّة الاستثمار لهوبز بأن يُسَوِّغ طاعة الحكام تسويغاً دينيَّاً. ويفيد هذا التسويغ أنَّه لا تعارض هناك بين القوانين المدنيَّة التي يصدرها الحاكم المدني، وبين القوانين الإلهيَّة التي تأخذ في ملكوت الله بالطبيعة شكل قوانين طبيعيَّة؛ بل إنَّ هذه القوانين الإلهيَّة، وبتوسيط القوانين الطبيعيَّة، هي نفسها التي تلحُّ على ألَّا يكون هناك إخلال بواجب الطاعة للحاكم المدني ولقوانينه المدنيَّة.

إذا كان التعارض بين القانون المدني والقانون الإلهي الطبيعي قد تمَّ تجنبه، فكيف الحال حينما يتعلق الأمر بالقانون الإلهي الكتابي؟ كيف هو الأمر مع ملكوت الله بالنبوَّة؟

2. ملكوت الله بالنبوَّة، بين الإنهاء والإرجاء:

ما سنعمل على إبرازه هنا أنَّ هوبز اعتمد استراتيجيَّة مزدوجة في التعامل مع العهد القديم والعهد الجديد. إنَّها استراتيجيَّة الإنهاء فالإلغاء مع العهد الجديد، واستراتيجيَّة الإرجاء فالإلغاء مع العهد الجديد.

على الرغم من أنَّ هوبز أقرَّ بالطابع المدني لملكوت الله بالنبوَّة؛ أي على الرغم من أنَّه أثار على نفسه إمكانيَّة أن يُدافع البعض عن سموّ القوانين الإلهيَّة للعهد القديم، بسبب أنَّها أوامر إلهيَّة صريحة، على القوانين المدنيَّة، فإنَّه أفشل هذه الإمكانيَّة لمَّا ذَكَّرَ بأنَّ الملكوت الإلهي النَّبوي في العهد القديم قد تمَّ فسخه من طرف بني إسرائيل. وهكذا استفاد هوبز من واقعة الإنهاء لمَّا طلب بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يجعل لهم ملكاً كما للأمم الأخرى، فتوقف بذلك ملكوت الله بالنبوَّة الذي بدأ لمَّا أبرم الله العهد مع إبراهيم، وجدَّده مع موسى.

بالنسبة إلى ملكوت الله بالنبوَّة على عهد المسيح، وعلى الرغم من أنَّ هوبز أجاز ما جاء في الكتاب المقدَّس من تأكيد أنَّ المسيح جاء ليقيم ملكوت الله بالنبوَّة، استند على الكتاب المقدَّس نفسه ليؤكد أنَّ ملكوت المسيح ليس من هذا العالم؛ بل إنَّه لن يَحُلَّ إلا في اليوم الآخر. هكذا، وعن طريق إرجاء ملكوت المسيح إلى يوم القيامة، تخلص هوبز من المنظومة القانونيَّة الدينيَّة المسيحيَّة وما قد تثيره من منافسة للمنظومة القانونيَّة المدنيَّة؛ بل أكثر من هذا، واصل هوبز هجومه في اتجاه نزع أيّ طابع سياسي عن «ملك المسيح»، فأكَّد أنَّ هذا الملك الذي سيحلّ يوم القيامة لن يوجد في قوانين، ومن ثَمَّ أيّ «مُلِكٍ» لا قوانين فيه لا يمكن أن يكون ملكاً بالمعنى السياسي للكلمة. لنفصل القول في هاتين الاستراتيجيتين؛ استراتيجيَّة الإنهاء في أفق الإلغاء، واستراتيجيَّة الإرجاء في أفق الإلغاء.

يرى هوبز أنَّ ملكوت الله بالنبوَّة مُلْك مدني، وذلك لحضور العهدِ فيه. وحضورُ العهدِ يقتضي توافر عنصر الرضا. والرضا يكون بعد تداول حول بنود العهد. ولا يكون التداول إلا لأنَّ هناك «تواصلاً» لغوياً يجعل العهد صريحاً ومفهوماً. ومن نتيجة الرضا بالعهد وببنوده أن يَتِمَّ إقرارُ قوانين مُحَدَّدَة تمنح العهد وجوداً فعليَّاً. في ملكوت الله بالنبوَّة إذاً توجد القوانين. وبوجود القوانين الإلهيَّة يصبح التخوُّف من احتمال التعارض بينها وبين القوانين المدينة تخوّفاً مشروعاً. فهل هناك فعلاً تعارض بين القانونين؟ ينقسم ملكوت الله بالنبوَّة إلى عهدين: عهد قديم، وعهد جديد. امتدَّ العهد القديم من إبراهيم وانتهى حينما طالب شعبُ إسرائيل نبيَّهم صَمُوئيل بأن يجعل عليهم مَلِكاً من الناس مثل الأمم الأخرى. أمَّا العهد الجديد فهو عهد يسوع المسيح. يتناول هوبز مسألة التعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة، من خلال تناوله العهد القديم، والعهد الجديد.

أولا. العهد القديم:

أ. مميزات الملكوت بالنبوَّة، العهد القديم:

لم يحكم الله الناس بموجب الملكوت الطبيعي فحسب، بل حكمهم أيضاً بموجب الملكوت النَّبوي، وهذا لمَّا عقد العهد لبعض البشر. والملك بالعهد أو الملكوت بمقتضى النبوَّة هو ملك يقوم على ميثاق يتضمَّن بنوداً محدَّدة وقوانين صريحة. وقد كانت البداية مع آدم، ومن بعد آدم نوح، ثمَّ إبراهيم فإسحاق فيعقوب فموسى، ومن بعد هؤلاء جميعاً كان العهد للمسيح.

إنَّ ما يهمُّ هوبز من سرد تاريخ الخلاص، في نسخته القديمة ونسخته الجديدة، هو نفي أيّ تعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة. ومن أجل نفي هذا التعارض في العهد القديم تقدَّم هوبز بفكرتين؛ ترى الفكرة الأولى أنَّ السلطة الدينيَّة والسلطة السياسيَّة في العهد القديم كانتا بيد واحدة هي يد الحاكم الأسمى. وترى الفكرة الثانية أنَّ ملكوت الله بالنبوَّة وفق العهد القديم قد انتهى وتوقف، ولم يعد يطرح بذلك أيَّة مشكلة.

عقد الله الملك على إبراهيم بموجب ميثاق يلتزم فيه إبراهيم بالإيمان، هو وذريته ونسله من بعده، بالله رَبّاً وبطاعته، مقابل أن يمنحه وذريته من بعده أرض كنعان إلى الأبد، وأن يكون عربون وضمانة الوفاء بهذا العهد هو سرّ الختان.

«وقد راق لله بعد ذلك أن يخاطب إبراهيم ويبرم معه ميثاقاً (سفر التكوين 17، 7- 8)، من خلال هذه العبارات: سأنشئ عهدي بيني وبينَك، ونسلَك من بعدك جيلاً إثر جيل، من خلال عهد متواصل كي أكون إلهاً بالنسبة لك ولنسلك من بعدك، وسأهبك، وذريتَك من بعدك، الأرضَ التي أنت فيها غريب، وكلَّ أرض كنعان كي تملكها بشكل دائم. يتعهدُ إبراهيمُ في هذا الميثاق، عن نفسه وعن ذريته، بالإيمان بالله الذي خاطبه وبطاعته. ويتعهد الله من جهته بمنح إبراهيم أرض كنعان ليملكها بشكل أبدي. وتذكاراً لهذا العهد وعربون وفاء وضمانة سَنَّ الله سِرَّ الختان (الآية 11). إنَّ هذا هو ما نسمّيه بالميثاق القديم، والعهد القديم.(...)»[19].

في بداية الفصل الأربعين من كتاب الليفيتان، سيعود هوبز للحديث عن العهد إلى إبراهيم، وسيستنتج منه ثلاثة أمور، يؤكد هوبز من خلالها أنَّ الحاكم/ النبي في العهد القديم كان يجمع السلطة الدينيَّة والسلطة السياسيَّة في يد واحدة.

الأمر الأول هو أنَّ الله في هذا العهد توجَّه بالخطاب إلى إبراهيم وحده وتعاقد معه وحده، ولم يتوجَّه أو يتعاقد مع أيٍّ من قومه، أو من أهل بيته. والسبب أنَّ إبراهيم قبل العهد مع الله كان سيداً على قومه، وفق عهد بينه وبينهم. وعليه، إرادة إبراهيم تتضمَّن إرادة قومه وإرادة أهل بيته، والعهد مع إبراهيم يقتضي أن يلتزم قومه وأهل بيته بما التزم به مع الله ما دام أنَّه سيد عليهم، تجب طاعته[20].

الأمر الثاني أنَّه كان حقّاً لإبراهيم أن يعاقب عقاباً شرعياً أي شخص تحجَّجَ بإلهام حسيٍّ أو رؤيا خاصة أو وحي إلهي خاصٍّ لإضفاء شرعية على عقيدة من العقائد التي منعها منعاً باتَّاً، مثلما يحقُّ له الأمر نفسه في حقّ أيّ جماعة من الناس اتبعت هذا الشخص المفتري في فريته. وبالنتيجة، يحقُّ للحاكم الأسمى في أيامنا هذه، بحسب هوبز، أن يعاقب هو أيضاً كلَّ من عارض القوانين الشرعيَّة استناداً على إلهام ذاتِيٍّ أو رؤية خاصَّة به، وهذا لأنَّ الحاكم الأسمى في الدولة يحتل المكان نفسه الذي كان يحتله إبراهيم في أهل بيته (الليفيتان، 496).

الأمر الثالث هو كما أنَّ إبراهيم كان وحده الذي يستطيع أن يميز بين كلام الله وبين ما ليس بكلام لله، فكذلك وحده الحاكم الأسمى داخل الدول المسيحيَّة يمكنه أن يميز بين كلام الله وما ليس بكلام الله. وعليه، إنَّ من يتولى في الدولة المكان الأسمى نفسه، الذي كان يحتله إبراهيم داخل أهل بيته، وحده يحقُّ له تأويل كلام الله (الليفيتان، 496-497).

نستنتج من هذه النقاط الثلاث، التي بدت لهوبز من تأمله في العهد إلى إبراهيم، أنَّ الحاكم في ملكوت الله بالنبَّوة خلال العهد القديم كان يجمع في يديه السلطة السياسيَّة والسلطة الدينيَّة، وهذا ليس بموجب أنَّه نبي، بل بموجب أنَّه سيد على قومه، وهذا ما سيتكرَّر مع موسى أيضاً. فهو يقرُّ ما هي القوانين التي يجب أن تسود، وهو يقرُّ ما هي دلالات كلام الله.

ب. انقضاء الملكوت بالنبوَّة في العهد القديم:

تجدَّد العهد لإبراهيم مع إسحاق، ومن بعد إسحاق يعقوب، ثمَّ توقف إلى أن تحرَّر بنو إسرائيل من الأسر المصري، فتجدَّد العهد على جبل سيناء مع موسى. لن نقف هنا عند خصائص العهد إلى موسى؛ إذ هي الخصائص نفسها التي كانت للعهد على إبراهيم. وقد توسَّع هوبز في الحديث عن هذه الخصائص التي يستنتج منها أن َّملكوت الله بالنبوَّة في العهد القديم كان ملكوتاً يجمع فيه الحاكم الأسمى، وهو موسى، بين يديه السلطتين الدينيَّة والسياسيَّة (الليفيتان، 497-501). بعد موسى انتقل الحكم الأسمى للكاهن الأكبر ألِعازار، ومعه الجمع بين السلطتين. وبعد عصر الكهنة حَلَّ عصر القضاة، الذي بدأ مع وفاة يشوع على عهد شاوول. وعلى الرغم من أنَّ القضاة كانوا يتمتعون بمكانة لدى العامَّة، بقي الجمع بين السلطتين بين يدي الكهنة. وبعد عصر القضاة جاء عصر الملوك، حيث صارت السلطتان بيد الملوك بدل الكهنة.

مع حلول عصر الملوك بدأ عصر التمرُّد على ملكوت الله بالنبوَّة وبالعهد. يوضح هوبز هذا الأمر بالاستناد على مقطع كتابي مقدَّس من العهد القديم، مذكور في الآيات الخامسة والسادسة والسابعة، من الإصحاح الثامن من سورة صَمُوئيل الأول (الليفيتان، 503)، يطلب فيه بنو إسرائيل من نبي لهم اسمه صَمُوئيل أن يجعل لهم ملكاً كما للأمم الأخرى ملوكاً. يتبين لنا، من خلال هذا التسلسل التاريخي، أنَّ الملكوت الإلهي بمقتضى النبوَّة في العهد القديم قد عرف نهايته لما تخلى بنو إسرائيل من جهة واحدة عن العهد الذي كان يربطهم بالله، من خلال ممثليهم ورؤسائهم. يقدّم هوبز هنا حجَّة ترسخ الفكرة التي يدافع عنها وهي أنَّ ملكوت الله بالنبوَّة في العهد القديم قد انقضى ولم يعد ممكناً العمل به. فها هم بنو إسرائيل ألغوا عهدهم مع الله. قد يعترض كنسي ما، أو كاهن عبري، فيقول بما أنَّ قوانين العهد القديم مازالت محفوظة، فإنَّه يمكن البناء عليها لمواصلة العمل بالقوانين الإلهيَّة النبويَّة القديمة بدل العمل بالقوانين المدنيَّة. هنا سيكون ردّ هوبز، كما ذكر أعلاه، أنَّه قبل أن يلغى العهد القديم كانت السلطتان الدينيَّة والسياسيَّة بيد الحكام الأسمى، والحاكم الأسمى كان حاكماً أسمى بموجب اختيار الناس له؛ أي بموجب إيمانهم به وبما يقول، وليس بموجب تلقيه رسالة من السماء. لكنَّ هناك ردَّاً أقوى، وهو من طبيعة تاريخيَّة، يقول هوبز بشأنه:

«خلال الأسر [البابلي] لم يكن بالمرَّة لليهود حكومة. وبعد عودتهم [إلى أورشليم]، ورغم أنَّهم جدَّدوا العهد مع الله، فإنَّهم لم يقدّموا أيَّ وعد لعزرا [الكاهن الكاتب والعارف بشريعة موسى، سليل هارون الكاهن الرأس، انظر سورة عزرا، الإصحاح السابع.] أو لغيره بالطاعة. وبعد ذلك صار اليهود رعايا للإغريق (الذين أدَّى خلط أعرافهم وعلم الشياطين لديهم بعقيدة القباليين (cabalistes) إلى إفساد دين اليهود)، فلم يعد ممكناً بسبب ما أصبحوا يعيشون عليه من غموض فيما له علاقة بأمور الدّولة وأمور الدّين، أن نستخرج لديهم موقفاً يحدّد أيّهما أسمى من الآخر، السلطة الدينيَّة أم السلطة السياسيَّة»[21]؟

هكذا حكم هوبز بأنَّ العهد القديم قد انتهى، ولم يعد له وجود، وسينتهي بشكل أوضح بمجيء المسيح. وبهذا، إذا كان الملكوت بالنبوَّة خلال العهد القديم ملكاً مدنيَّاً يحمل قوانين يبدو للكنسيين أنَّها قوانين دينيَّة (وهو ما نفاه هوبز حينما بيَّن أنَّها لم تعد قوانين إلا بإرادة الحاكم الأسمى) فإنَّ التخوُّف من تعارض القوانين المدنيَّة مع القوانين الإلهيَّة القديمة لم يعد له معنى؛ لأنَّ العهد القديم انتهى ولم يعد معمولاً به، سواء بفعل اليهود أنفسهم، أم بفعل الله الذي جدَّد العهد مع يسوع المسيح.

لكن ألا يطرح تجديد العهد النَّبوي مع المسيح مشكلة التعارض بين ما هو مدني وما هو إلهي؟ سوف نرى الأمر عن قرب؟

ثانيا. العهد الجديد:

خصَّص هوبز القسم الرابع من كتاب (الليفيتان) للحديث عن مملكة الظلام. في أوَّل فصول هذا القسم، وهو الفصل الرابع والأربعين، تطرَّق هوبز إلى أنماط التحريف التي ألحقها التأويل الكنسي للكتاب المقدَّس بعدد من المفاهيم اللاهوتيَّة والأفكار المسيحيَّة. ومن بين المفاهيم التي لحقها التحريف، بحسب هوبز، مفهوم الملكوت. فقد رأى الكنسيون أنَّ ملكوت الله هو الكنيسة القائمة حالياً، وما يوجد في العالم من المسيحيين، الأحياء منهم أو الذين ماتوا منهم وسيبعثون في اليوم الآخر. رَدَّ هوبز على هذا التحريف بالقول إنَّ ملكوت الله لا ينطبق على كنيسة روما، ولا على المسيحيين الحاليين، وإنَّما ينطبق على العهد القديم مع اليهود الذي انتهى بشكل لم يعد هناك من ملك إلهي على البشر، اللهمَّ إلا ما كان من ملكه بمقتضى الطبيعة والقدرة. لكنَّ هذا الملكوت، كما بشَّر الله بذلك من خلال أنبيائه، سيتجدَّد مع يسوع المسيح، إلا أنَّه لن يكون إلا في اليوم الآخر، وهو اليوم الذي لم يخبر الله البشر بزمانه.

جاء العهد الجديد بأمرين اثنين هما الفداء وملكوت الله؛ فالفداء هو أن يُضحّي يسوع بنفسه على الصليب ليضع الخطايا عن كلّ من آمن به مسيحاً. أمَّا الملكوت، فهو ملكوت الله الجديد الذي سيتجدَّد مع المسيح.

لِنَتَذَكَّرْ هَدَفَنا: إنَّه إبراز كيف أكَّد هوبز أنَّ مشكلة التعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة لا وجود لها في العهد الجديد، بعدما أكَّد أنَّها لم تعد تطرح في العهد القديم بحكم أنَّه توقف وانتهى.

احتاج هوبز لتأكيد رأيه هذا (وهو رأي يدخل في إطار النقد المؤسَّساتي للدّين) إلى القيام بأنواع من النقد الديني، من بينها النقد اللاهوتي. اخترنا من بين المفاهيم اللاهوتيَّة التي انتقدها وأَوَّلَهَا هوبز مفهوم وظيفة المسيح(أ)، ومفهوم الفداء في ارتباط مع مفهوم التوبة(ب). نلاحظ هنا كيف أنَّ النقد المؤسَّساتي للدّين (الملكوت والكنيسة) يوظّف النقد اللاهوتي (وظائف المسيح، الفداء والتوبة).

أ. وظيفة المسيح:

بخصوص وظائف المسيح كتب هوبز ما يأتي:

«إنَّنا نرى في الكتاب المقدَّس أنَّ وظيفة المسيح تنقسم إلى ثلاثة وظائف: أولاً وظيفة الفادي والمنقذ؛ ثانياً وظيفة الراعي والمشير والمعلم، أو بتعبير آخر وظيفة النَّبي المبعوث من الله لهداية الناس الذين اختارهم الله للخلاص؛ ثالثاً وظيفة المَلِكِ، ملك أبديّ، لكن تحت سلطة أبيه [الذي في الأعالي]، كما كان موسى والكهنة الكبار كلّ في زمانه. ويقابل هذه الوظائف الثلاث ثلاثة أزمان: فالنسبة إلى افتدائنا، قام المسيح بذلك خلال مجيئه الأوَّل، لمَّا ضحَّى بنفسه على الصليب في سبيل خطايانا؛ وبالنسبة إلى هدايتنا فقد قام بنفسه بذلك [لمَّا كان على الأرض]، ثم قام به من خلال أعوانه وسيستمر في القيام به إلى يوم عودته؛ وأخيراً، بعد عودته سيبدأ ملكه المجيد على مُنْتَجَبِيه، ملكاً دائماً إلى الأبد»[22].

ثلاثُ وظائف وثلاثةُ أزمنة:

وظيفة الإرشاد الرعوي، حيث سيبشّر المسيح بملكوت الله الجديد بصفته نبياً ومعلماً، وهذا إبَّان مجيئه الأوَّل إلى صلبه. وبعد الصلب ستتواصل مهمَّة التبشير على يد الرسل والأحبار. ثمَّ وظيفة الفداء، حيث سيضحّي المسيح بنفسه بصفته مُخَلِّصاً ومنقذاً يضع عمَّن آمن به مسيحاً الخطايا، وهذا إبَّان يوم الصلب. وأخيراً وظيفة الحُكَمِ، حيث سيقضي المسيح بين الناس بصفته مَلِكاً تحت سلطة أبيه الذي في السماء، وهذا إبَّان المجيء الثاني للمسيح.

ما يهمُّنا من هذه الوظائف الثلاث الوظيفة التحكيميَّة التي يصير يسوع بموجبها ملكاً على الذين آمنوا به مسيحاً. إنَّ وظيفة المُلْك لن تكون في زمان هذا وفي عالمهم. لقد أكَّد هوبز، مستغلاً آيات عديدة في الكتاب المقدَّس، وخاصَّة ما جاء في إنجيل يوحنا، على أنَّ ملك المسيح لن يكون إلا في اليوم الآخر. وأشار هوبز إلى أنَّ توقيت اليوم الآخر قد أبقاه الله سرَّاً عنده في علم الغيب. وبهذا ينسف هوبز أطروحة الكنسيين الذين يرَون أنَّ ملكوت المسيح ملك دنيوي أورثه المسيح لبطرس الرسول قبل صلبه، وأورثه بطرس للكنيسة عامَّة ولبابا روما خاصَّة.

لكنَّ أقوى «حيلة نظريَّة» استند عليها هوبز لتنفيذ استراتيجيَّة الإرجاء هذه، فضلاً عن التأويل الذي أعطاه لوظائف المسيح، هي التأويل الذي قدَّمه لمفهوم الفداء ومفهوم التوبة.

ب. الفداء، أو في آليَّة إرجاء الملكوت المسيحي:

يتوقف الخلاص عند هوبز، كما رأينا سابقاً، على الطاعة والإيمان، طاعة الله والإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح. فانطلاقاً من مقاطع كثيرة في الكتاب المقدَّس، يقول هوبز:

«في الواقع وبموجب العهد الجديد؛ أي الميثاق المسيحي، التزم الناس من جهتهم بخدمة إله إبراهيم بالطريقة التي علَّمهم يسوع إيَّاها، والتزم الله من جهته بأن يتوب عليهم ويضع عنهم الخطايا ويدخلهم إلى ملكوت السماء (...). وتحتوي خدمة الله وفق تعاليم المسيح أمرين اثنين هما طاعة الله (بتعبير آخر خدمة الله) والإيمان بيسوع؛ أي الإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح الذي بشَّر به الله.(...) يظهر بشكل أكثر بداهة أنَّ بنود العهد المسيحي هي ما ذكرناه، أي أن يضع الله عن الناس خطاياهم وينعم عليهم بحياة الخلد، وأن يتوب الناس ويؤمنون بيسوع المسيح. أوَّل هذه المقاطع هذه الكلمات التي تلخّص العهد بأكمله: «قد كَمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل [بالبشارة]»[23].

ينال الناس الخلاص بأمرين هما الطاعة والإيمان؛ طاعة الله والإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح.

والطاعة هي طاعة الله، ومن طاعة الله طاعة قوانينه. ومن قوانينه القوانين الطبيعيَّة. ومن مقتضيات القوانين الطبيعيَّة الوفاء بالعهود. ومن مظاهر الوفاء بالعهود الوفاء بالعهد الذي يربط الناس بحكامهم المدنيين. إنَّ الطاعة هنا ليست شيئاً آخر غير التوبة، إذ «غالباً ما تحلُّ كلمة التوبة في الكتب المقدَّسة محلَّ كلمة الطاعة...» (المواطن، 342). فالتوبة تعني أنَّ المرء الذي يعلن التوبة يعلن في الآن نفسه أن يعرض عن الخطيئة. وما هذا إن لم يكن الطاعة؟ فضلاً عن هذا، إنَّ الله لا يشترط فيما يتعلق بالطاعة حصولها؛ بل يكتفي بالنيَّة في التوبة ويقبلها من التوَّابين الطائعين المطيعين، وبذل الجهد لتحقيقها. فالذي يظهر إرادة خالصة لتنفيذ أوامر الله، أو يظهر توبة حقيقيَّة من الذنوب، أو يحب الله بقلب خالص ويحب رفيقه كما يحب نفسه، هذا لديه من الطاعة ما هو ضروري ليتقبله الله في الملكوت (الليفيتان، 606-607).

إذا كانت التوبة والطاعة شيئاً واحداً، فإنَّ التوبة ليست مسألة ذاتيَّة يقوم بها الخطَّاء فتسقط عنه الخطايا؛ بل التوبة فعل مزدوج يحتاج إلى توبة الخطَّاء من جهة وفداء المسيح من جهة أخرى. وهذا ما يشير إليه هوبز حينما تحدَّث عن بنود العهد الجديد الموجبة للخلاص، مستشهداً بآية من إنجيل لوقا تؤكد أنَّه كان ينبغي على المسيح «... أن... يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يُكْرَزَ باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدأً من أورشليم» (المواطن، 342).

يتوقف الخلاص إذاً على التوبة والإيمان. والتوبة كما رأينا هي الطاعة، أمَّا الإيمان فهو الإيمان بأنَّ يسوع هو المسيح. وفي مقابل هذا الإيمان يقوم يسوع بافتداء الذين آمنوا به مسيحاً؛ فينالون الخلاص. لنتأمل كيف تتحقق ثمرة الفداء. يقول هوبز:

«إذاً، مادام أنَّ الذي يفتدي لا سلطة له على الشيء المفتدى قبل أداء الفدية، وأنَّ ثمن الفدية هو موت المفتدي، فإنَّه واضح أنَّ مخلصنا، بما هو إنسان، لم يكن ملك أولئك الذين يفتديهم قبل أن يكون قد ذاق الموت، بصيغة أخرى أي خلال الزمن الذي كان يقيم ببدنه في الأرض. [لكن بما أنَّ الذي يفتدي ليس له أي حق على المفتدى قبل أداء الثمن، فإنَّ مخلصنا لم يكن ملكاً قبل وفاته. النص اللاتيني]. أفهم من هذا أنَّ المسيح لم يكن ملكاً في الحين حينما كان يبرم الميثاق مع المُخْلِصين خلال التعميد. رغم ذلك، فمن خلال تجديد عهدهم مع الله من خلال التعميد، فكما يطيعون ملكهم، يلتزمون بطاعته (تحت سلطة أبيه الذي في السماء) متى راق له تحمُّل مسؤوليَّة الملك. في هذا الاتجاه يقول مخلصنا بشكل واضح في إنجيل يوحنا 28/36: مملكتي ليست من هذا العالم»[24].

يظهر لنا هوبز هنا، وهو يحلل طبيعة الفداء، أنَّه ينظر إليه نظرة اقتصاديَّة تبادليَّة يحضر فيها الطابع التجاري بشكل واضح. فكما أنَّ لكل سلعة ثمناً، وأنَّ امتلاكها يقتضي دفع ثمنها؛ فالسلعة هنا هي افتداء المؤمنين والثمن هو الفداء. فلكي يمتلك المسيح هذه السلعة، لكي يستطيع إنقاذ المؤمنين وافتدائهم ووضع الخطايا عنهم، يجب أولاً أن يدفع الفدية، وهي هنا الموت.

لكي يقوم ملكوت المسيح يجب أن يؤمن الناس بأنَّ يسوع هو المسيح. وإذا ما آمن الناس بأنَّ يسوع هو المسيح وجب عليه أن يضع عنهم خطاياهم، ليصبحوا مقبولين في ملكوت المسيح. ولا يمكن للمسيح أن يضع عنهم خطاياهم ما لم يفدهم بموته. إذاً لا ملكوت هناك قبل بعث المسيح من الموتة الأولى التي كانت يوم الصلب. بهذه الطريقة أرجأ هوبز ملكوت المسيح وأبعده خارج زمان الناس وعالمهم، وتخلص من مشكلة التعارض بين القوانين المدنيَّة والقوانين الإلهيَّة.

ونظراً للفائدة الكبرى التي تؤديها ثنائيَّة التوبة والإيمان في استراتيجيَّة هوبز لإرجاء ملكوت المسيح، أكَّد هوبز أنَّ «رسالة» العهد الجديد هي التوبة، والتوبة لا تنفصل عن الفداء. «إنَّ التوبة والإيمان، اللذين هما جوهر الميثاق الجديد، مطلوبان دائماً» (المواطن، 343). واضح أنَّ غاية هوبز من وراء اختصار روح العهد الجديد في التوبة والإيمان هي نفي الطابع الدنيوي عن ملكوت المسيح، وحرمان الكنسيين من أيَّة فرصة لتسويغ مطالبتهم بتولي الحكم بمسوّغ وراثتهم ملك المسيح.

وفي خطوة أكثر إيلاماً للتصوُّر الكنسي، لم يكتفِ هوبز بنفي الطابع الدنيوي عن ملكوت المسيح؛ بل زاد ونفى عنه كلّ طابع سياسي ومدني لما حكم بأنَّه ملكوت لا وجود فيه للعنصر الجوهري في كلّ حكم مدني وهو القوانين. يقول هوبز: «لن يكون في ملكوت الله بعد هذه الحياة قانون، وهذا لأنَّ القوانين من جهة لا توجد حيثما تنعدم الخطيئة، ولأنَّ الله من جهة أخرى يضع القوانين كي تقود خطواتنا إلى السماء، لا أن تقودنا في السماء»[25].

إذا كان ملكوت المسيح ليس من هذا العالم؛ بل هو عالم الآخرة، حيث سيتمتع المؤمنون بحياة الخلد، ويكونون رعايا ملكوت المسيح تحت سلطة أبيه، فإنَّ ما سيميز هذا الملكوت هو خلوه من الخطيئة. وبسبب ذلك لن يسقط بشر مجدداً في الخطيئة. وفي غياب الخطيئة لن تكون هناك حاجة إلى القوانين التي وضعت أصلاً في الدنيا، بحسب الكنسيين أنفسهم، لضبط البشر ومنعهم من الاستمرار في الخطيئة وعدم الإقبال على التوبة. إنَّ القوانين وُضعت في الأصل لحمل الكافة على الطاعة. وكانت الطاعة من أجل قيادة البشر إلى السماء. وبحلول ملكوت الآخرة، وبإقامة التوابين المفتدين في ملكوت السماء لم تعد هناك حاجة إلى قوانين تقودهم في السماء، فالقوانين وضعت لقيادة البشر إلى السماء، لا لقيادة خطواتهم في السماء.

خلاصات:

نشير، في آخر هذا العمل، إلى أنَّ نقد هوبز للدّين في شقه المؤسساتي، وهو الشقُّ الذي اخترنا منه هنا مفهوم الملكوت فقط، له هدف، وغرض، وإطار نظري، واستراتيجيَّة في النقد وفي التأسيس، ونتائج.

هدف هوبز من نقد الدّين عامَّة هو الإسهام بشكل عام في تأسيس ما يسمّيه العلم المدني، أو الفلسفة السياسيَّة. أمَّا الغرض من وراء هذا التأسيس النظري، فهو كشف الغمَّة التي أَلَمَّتْ بإنجلترا إبَّان الثورة الإنجليزيَّة، أو ما يسمّيه هوبز الحرب الأهليَّة لسنوات (1640-1660م)، وكشف كلّ غمَّة محتملة تقوم مقام الحرب الأهليَّة. وقد حدَّد هوبز لنفسه، وهو يؤسّس العلم المدني وينتقد الدّين، إطاراً نظرياً هو نظريَّة الدولة ومفهوم السيادة، وهذا ما لم نتطرَّق إليه؛ لأنَّه لا يدخل ضمن عملنا هنا. أمَّا الاستراتيجيَّة، التي عمل هوبز من خلالها، وهو ينتقد الدّين، ويؤسّس العلم المدني، ويضع أسس الحياة المدنيَّة أو الدولة، فهي، من جهة، استراتيجيَّة مزدوجة تقوم على احتواء الدّين، ومن جهة أخرى «تلغيمه» بتصوُّرات نظريَّة تفرغه من كلّ نزعة شموليَّة بالمعنى المسيحي الكنسي للكلمة؛ أي كلّ نزعة عالميَّة و«كاثوليكيَّة». أمَّا نتائج هذا النقد، فهي تأكيد أنَّ ملكوت الله ليس له مكان في عالم الناس هذا؛ لأنَّه من جهة انقضى وانتهى في نسخته العبرانيَّة القديمة، ومؤجَّل ومرجأ من جهة أخرى إلى اليوم الآخر في نسخته الجديدة مع العهد المسيحي. إذا كان الأمر هكذا، فليس أمام الناس إلا ملكوت واحد هو الملك المدني البشري، الذي له مهمَّة مركزيَّة وهي تحقيق الخلاص في الدنيا وليس الخلاص في الآخرة، وتخليص الناس من الموت الطبيعي وليس من موت الرُّوح أو «الموتة الثانية»، وهذا ما سيحققه «الإله الفاني»؛ أي الدولة، وليس الإله الخالد؛ لأنَّ هذا الإله قد خرج من دنيا الناس وصمتت السماء فلا تسمع منها همساً، ولا تنال منها أنساً.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________

[1] - يتفكرون العدد11

[2] - صدر كتاب الليفيتان أوَّل مرَّة باللغة الإنجليزية، وذلك سنة 1651 للميلاد، ثم صدر لاحقاً باللغة اللاتينيَّة سنة 1668م. هناك ترجمات إلى الفرنسيَّة عن النسخة الإنجليزيَّة والنسخة اللاتينيَّة. وقد تمَّت ترجمة الكتاب إلى الفرنسيَّة سواء من النسخة الإنجليزيَّة أم النسخة اللاتينيَّة.

اعتمدتُ، في هذا العمل، على الترجمة الفرنسيَّة التي قام بها فرانسوا تريكو، والتي ظهرت أوَّل مرَّة عام 1971 في منشورات سيراي، قبل أن تُنشر من جديد عام 1991 في منشورات دالوز في طبعة فيها مقارنة بين النص الإنجليزي والنص اللاتيني.

اعتمدتُ على هذه الترجمة الأخيرة مع الاستئناس بترجمة قام بها الباحث نفسه للنسخة اللاتينيَّة، نُشرت في فران ودالوز عام 2004. والترجمتان هما كالآتي:

▪ Hobbes, Thomas, Léviathan, traduit de l’anglais, annoté et comparé avec le texte latin par François Tricaud, éd. Dalloz, Paris, 1999.

▪ Hobbes, Thomas, Léviathan, traduit du latin et annoté par François Tricaud 2004 (Parties I,II,III) et Martin Pécharman (Partie IV), éd. Paris, Vrin, et Dalloz.

[3] - ظهرت الطبعة الأولى لكتاب المواطن عام 1642م في باريس باللغة اللاتينيَّة، دون الإشارة إلى اسم صاحبه. وظهرت بعد ذلك طبعتان منقحتان تحملان كثيراً من الإضافات باسم صاحبهما سنة 1647م في مدينة أمستردام الهولنديَّة، قبل أن تظهر نسخة إنجليزيَّة عام 1651م.

اعتمدتُ، في هذا العمل، على الترجمة الفرنسيَّة للنص اللاتيني التي قام بها فيليب كرينيون، وهي كما يأتي:

▪ Hobbes, Thomas, Du citoyen, présentation, trd. et notes Philippe Crignon, éd. Paris, GF Flammarion, 2010

[4] - انظر:

▪ Hobbes, Thomas, De la liberté et de la nécessité, suivi de Réponse à la capture de Léviathan (controverse avec Bramhall I), intr., trad., notes, glossaire et index par Frank Lessay, éd. Paris, Vrin, 1993.

▪ Hobbes, Thomas, les questions concernant la liberté, la nécessité et le hasard (controverse avec Bramhall II), intr., notes, glossaire et index par Luc Foisneau , traduction par Luc Foisneau et Florence Perronin, éd. Paris, Vrin, 1999

[5] - انظر:

▪ Hobbes, Thomas, Textes sur l’hérésie et sur l’histoire, introd., trad., notes, glossaire et index par Frank Lessay, éd. Paris, Vrin, 1993

[6] - جون برامهال (1594-1663م) (Bramhall, John) أسقف ولاهوتي أنجليكاني. كان من أنصار الملكيَّة في إنجلترا، كما كان من كبار ممثلي المذهب الديني الأرميني (Arminianisme)، الذي أسسه اللاهوتي الهولندي أرمينيوس (1560-1609) (Jacques Arminius). وقد شكّلت آراء هذا المذهب الديني حول حرية الإنسان في تلقي النعمة الإلهيَّة نقطة ميلاد تيار ليبرالي داخل الكنيسة الكالفينيَّة الهولنديَّة. وقد خاض برامهال نقاشاً كبيراً مع هوبز حول الحريَّة.

[7] - هوبز، توماس، الليفيتان، الفصل 31، ص 378

[8] - المصدر نفسه، الفصل 38، ص 472

[9] - تقدّم كلتا النظريتين جواباً على إشكاليَّة تاريخيَّة عاشها الغرب المسيحي، وهي طبيعة العلاقة بين الإمبراطوريَّة والكنيسة. لقد كان الصراع حول التراتبيَّة التي يجب أن تكون بين المؤسستين. أي مؤسسة تحتوي الأخرى؟ لمن الأولويَّة في تدبير شؤون الناس، أَللإمبراطوريَّة والإمبراطور أم للكنيسة والبابا؟ رأت نظريَّة القيصريَّة البابويَّة، التي صاغها، بحسب بعض المؤرخين، أوزيب السيزاري (262-340م) (usèbe de Césarée) أنَّ الأولويَّة للإمبراطور. فالإمبراطور هو الحاكم السياسي والأسقف الأكبر. أمَّا نظريَّة التيوقراطيَّة البابويَّة، التي انقسمت إلى تيوقراطيَّة بابويَّة معتدلة مع البابا جيلاز الأول (Gélase I) الذي كان بابا بين سنة 492 وسنة 496م.، وتيوقراطيَّة بابويَّة متشدّدة وشموليَّة مع البابا غريغوار السابع (Grégoire VII)، الذي تولّى البابويَّة بين 1073 و1085، فقد رأت أنَّ السلطة السياسيَّة والدينيّة تعود إلى الكنيسة والبابا.

انظر: عبد الكريم، كريبي، في تدبير الجسم السياسي بين المقاربتين الإمبراطوريَّة والرعوية، مجلة كتابات فلسفيَّة، مجلة محكمة تصدر مرّتين في السنة، جامعة محمَّد الخامس، منشورات كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، الرباط. العدد الأول، 2014، ص39-62

[10] - تفيد لفظة «كاثوليكي» ما هو عالمي. فالكنيسة تَعدّ نفسها كاثوليكيَّة مسيحيّي كلّ العالم.

[11] - الحكم أو الملك المدني حسب هوبز هو كل حكم يقوم على التعاقد. فصفة المدنيَّة هنا لا تحيل على ما هو دهري مخالف للمتعالي، بل تفيد هذه الصفة كلّ ما ينشأ انطلاقاً من ميثاق أو تعاقد يقتضي القبول من الطرفين، ولا يهمُّ هنا إن كان «الحاكم» أو المَلِكُ هو الله. فالملكوت الإلهي المدني هو ملكوت قام على الاتفاق ويمكن أن يفسخ باتفاق.

[12] - الليفيتان، م. س، الفصل 31، ص 379. أيضاً: المواطن، م. س، الفصل 15، الفقرة 2، ص. ص 292-293

[13] - الليفيتان، الفصل 31، ص ص 379-380

[14] - المصدر نفسه، ص 381

[15] - الليفيتان، الفصل 35، ص ص 434-435

[16] - المواطن، الفصل 17، ص342-343

[17] - الليفيتان، الفصل 31، ص379

[18] - المصدر نفسه، الفصل 43، ص ص607-608

[19] - الليفيتان، الفصل 35، ص ص 434-435

[20]- المصدر نفسه، الفصل 40، صص 495-496

[21]- المصدر نفسه، الفصل 40، ص 506

[22] - المصدر نفسه، الفصل 41، ص 508

[23] - المواطن، الفصل 17، الفقرة 7، ص ص 341-342

انظر أيضاً: الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، إنجيل مَرْقس، 1/15، ص 45

[24] - الليفيتان، الفصل 41، ص 510

[25] - المواطن، الفصل 17، الفقرة 8، ص 343