الديمقراطية

فئة :  ترجمات

الديمقراطية

الديمقراطية[1]

لماذا نعتبر السلطة السياسية ضرورية للحكم الرشيد، على الأقل في المجتمعات الحديثة الكبيرة الحجم؟

لعل أبرز من ربط بين صلاح الحكم وقوة السلطة السياسية، هو توماس هوبز، المفكر الإنجليزي الذي دافع بقوة عن ضرورة إنشاء سلطة مركزية ذات سيادة مطلقة، موحدة ومنسجمة، تملك صلاحيات كاملة ولا تخضع للمحاسبة أو المساءلة من جانب أي هيئة بشرية؛ كان هوبز مؤمناً بأن الملك مسؤول أمام الله[2].

رأى هوبز أيضاً أنه ليس من اللازم أن تتمثل هيئة السلطة تلك، في شخص واحد، مثل الملك، لكنه عدَّه خياراً راجحاً، بالنظر إلى أهمية الحزم في مركز القرار. إرادة الملك ستكون واحدة متواصلة، بينما لو كانت هيئة السيادة مجلساً، فسوف يكون القرار السيادي ضحية للانقسامات الداخلية.

نعلم طبعاً أن كثيرين عارضوا رؤية هوبز هذه، منذ لحظة نشرها، وكانت حجتهم أن استبدال الفوضى واللاأمن الذي يسم الحالة الطبيعية، بنظام يتحكم فيه شخص واحد، بصلاحيات مطلقة، قادر على التضحية بمن شاء من رعاياه، حسب هواه، هذا ببساطة لا يجعل الحال أحسن من مجتمع الحالة الطبيعية (مجتمع ما قبل الدولة)، بل يأخذها من سيء إلى أسوأ.

كان جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي، واحداً من أبرز الذين انتقدوا رؤية هوبز الخاصة بالسلطات المطلقة للملك. ففي كتابه الشهير «رسالتان في الحكومة» شبه تفضيل السلطة المطلقة على الحالة الطبيعية، بالاستسلام للأسود من أجل تفادي الذئاب والثعالب، يقول في هذه التمثيل الذي لا ينسى «معنى ذلك أن البشر من البلاهة، حيث يعملون على تفادي الأذى الذي قد تلحقه بهم الذئاب أو الثعالب، ويختارون راضين أن تفترسهم الأسود، معتبرين أن في ذلك سلامتهم»[3].

لم يجادل توماس هوبز ضد هذا النقد، بسوى القول إن الملك الحكيم لن يضحي بقوته؛ فهو يعلم أن قوته وسلطته تعتمد تماماً على مقدار ما يتمتع به رعاياه من رفاهية.

واقع الأمر أن فرضية هوبز لا تطابق الواقع. تكشف السجلات التاريخية أن قلة من الملوك فقط، كانوا حكماء، على النحو الذي أراده هوبز. السلطة السياسية ليست عبئاً بسيطاً على حياة الناس. لكن ما يبرر احتمال ثقلها، هو قابليتها لتوفير التمهيدات الضرورية لتمكين الناس من العيش في أمان ورفاهية. نحن نريد أن نتأكد إلى أقصى الحدود، أن هذا ما سنحصل عليه فعلاً في ظل السلطة السياسية. من هنا فليس من الحكمة، منح جميع مصادر القوة في الدولة إلى شخص واحد، مزود بصلاحيات مطلقة. هذا الخيار ينطوي على مخاطرة غير مأمونة العواقب.

أحد البدائل الممكنة، هو وضع السلطة في أيدي أولئك الأشخاص الذين نثق في امتلاكهم للحكمة والفضيلة، ونعرف حرصهم الشديد على مصالح المواطنين. هذه هي الحجة الرئيسة التي تبرر وضع الحكم في يد النخبة الأرستقراطية، وهي تعني على وجه التحديد «وضع الحكم بين يدي أفضل الأشخاص». ونذكر أن معظم الفلاسفة السياسيين كانوا يميلون إلى هذا الاتجاه، حتى منتصف القرن التاسع عشر على الأقل.

لكن هذا الخيار مثل سابقه، لا يخلو من مشكلات؛ من ذلك مثلا: كيف نقرر على نحو دقيق، مقدار الجودة التي ينبغي أن يتمتع بها المرشح لاحتلال هذا المنصب، ثم تحديد الطريقة المناسبة للبحث عن الأشخاص الذين يملكون تلك الصفات، والمقارنة بينهم واختيار الأفضل والأمثل فيهم. هذه بالتأكيد مهمة عسيرة: حين يتحدث الأرستقراطيون عن الشخص المؤهل لاحتلال المنصب الأعلى، فإنهم يقصدون شخصاً من أعضاء النخبة؛ أي العائلات النبيلة أو الواسعة الأملاك أو الرفيعة التعليم، وهي صفات تتسع أو تضيق، بحسب مقتضيات الزمان والمكان.

ربما يستطيع أحد ما أن يبرهن على أن الأفراد المنتمين إلى طبقات النخبة هذه، يملكون مهارات في الإدارة السياسية، وهي مهارات يفتقر إليها بقية المواطنين. مع ذلك، فلا زال أمامنا مشكل الحياد الذي يصعب ضمانه. هذه الطبقات وأعضاؤها يملكون مصالح خاصة بهم، مغايرة أو منفصلة عن مصالح الغالبية الكبرى من المواطنين، فكيف سيكون موقفهم حين تتزاحم هذه مع تلك، وما الذي يحملنا على الاعتقاد بأنهم سيغضون الطرف عن مصالحهم الخاصة، ويركزون جهدهم في خدمة المصالح العامة؟.

بالنظر للإشكالات السابقة جميعها، فإن اتباع الطريق الديمقراطي في إنشاء السلطة السياسية، بدا أكثر واقعية، وهذا هو السبب وراء حصوله على زخم متزايد.

حدود دور الشعب

ينطلق الطريق الديمقراطي من فرضيتين أساسيتين:

الفرضية الأولى: أننا جميعاً نولد متساوين، وليس بيننا من يولد متفوقاً على الآخرين أو متمايزاً عنهم. من هنا فإنه ليس لأحد سلطة على أحد، إلا بمبرر ودليل. هذا يعني أن كل فرد يتمتع بنفس الحقوق السياسية التي يتمتع بها الآخر، ما لم يثبت أن التمايز وعدم المساواة سيكون أكثر نفعاً للجميع.

الفرضية الثانية: أن مصالح الناس ستكون محمية على نحو أحسن، إذا كانوا هم -بشكل جمعي- الوعاء والمالك النهائي للسلطة السياسية. ومن هنا، فإن الشعب يفوض أي قدر من السلطة إلى من شاء، ويكون هذا مسؤولاً أمام الذي عينه ومنحه السلطة.

ثمة سؤال محوري هنا يتعلق بمساحة الدور الذي يلعبه الشعب في الحكم. هل يجب أن يشارك الشعب بشكل مباشر في التشريع، على النحو الذي اقترحه جان جاك روسو في كتابه الشهير «العقد الاجتماعي» وإذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف ستنظم المشاركة الشعبية، أم يكتفى -كما هو الرائج الآن- بالديمقراطية التمثيلية، حيث ينتخب الشعب من ينوب عنه في تعيين قادة الحكومة ومساءلتهم (عبر البرلمان مثلاً).

الواضح أن هذه الطريقة لا تجعل الشعب حاكماً فعلياً، ولا شريكاً فعّالاً في السلطة، وهذا خلاف الفكرة الجوهرية للمبدأ الديمقراطي. إن فلسفة الديمقراطية هي تمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه. لكن لو نظرنا إلى الواقع في ميدان الممارسة، فإن الأنظمة السياسية التي نسميها ديمقراطيات، لا تمنح المواطنين غير دور محدود جدّاً: يصوت المواطنون في انتخابات دورية، ويتم استشارتهم في بعض الأحيان من خلال الاستفتاء، حين يتعين اتخاذ قرار بشأن المسائل الدستورية الرئيسة، كما يسمح لهم بتشكيل مجموعات للضغط على الحكومة أو على ممثليهم، كي يتبنوا القضايا التي تثير قلقهم. هذه هي حدود دخالتهم الفعلية في الحكم.

أما مراكز القوة الحقيقية، التي تقرر إلى حد بعيد مستقبل المجتمع، فهي في يد مجموعة قليلة من السياسيين، من بينهم مثلاً أعضاء مجلس الوزراء، موظفو الخدمة المدنية، وإلى حد ما أعضاء البرلمان.

هذا يثير بالطبع سؤالاً مشروعاً، خلاصته: إذا كانت الديمقراطية هي الطريقة الأفضل لاتخاذ القرار السياسي، فلماذا لا نجعل القرار في يد الناس فعلاً؛ أي أن يسمح للمواطنين بمعالجة المشكلات، واتخاذ ما يرونه من إجراءات بشكل مباشر، ومن دون تحويلها إلى ممثليهم أو موظفيهم.

يبدو هذا القول محقّاً، على المستوى النظري، لكنه في مستوى التطبيق مستحيل أو شبه مستحيل، خاصة في البلدان الواسعة. لا يمكن في واقع الأمر أن يجتمع ملايين المواطنين العاديين، كي يشتركوا في اتخاذ آلاف القرارات التي يتعين على الحكومات اتخاذها اليوم. ولو حاولوا ذلك، فإن عمل الحكومة سيكون بطيئاً أو حتى مشلولاً. لكن الأمر لا يقتصر على هذا، إذ إن عامة الناس سيكونون مشغولين في أمر الحكومة، على نحو لا يترك لهم أي وقت للقيام بأمور حياتهم الأخرى، بما فيها الأشياء التي يعتبرونها أكثر أهمية من السياسة.

هذه الحجة معقولة، لكن ثمة من يعتقد أنها ليست كافية، إذ ليس من الصعب أن نتصور مشاركة المواطنين، في اتخاذ القرارات المنظمة للسياسة العامة للبلاد، دون الدخول في تفاصيل التطبيق، التي يمكن أن تترك للوزراء والموظفين التنفيذيين وغيرهم.

بل ربما يكون هذا الخيار أكثر سهولة في هذه الأيام، بفضل ثورة الاتصالات التي جعلتنا قادرين على سؤال المواطنين، عن رأيهم في العديد من القضايا العامة. نستطيع الآن أن نسأل عشرات الآلاف منهم، عن رأيهم في الحرب والسلام، وعن الضرائب والإنفاق العام، وصولاً إلى رعاية الحيوانات والقضايا البيئية. فلماذا نقتصر في استشارة المواطنين على المناسبات النادرة التي يجري فيها استفتاء عام؟

الجواب عن هذا السؤال بسيط وواضح: ثمة اعتقاد شائع فحواه أن عامة الناس، لا يملكون المؤهلات الكافية لفهم خلفيات القرار السياسي والعوامل المؤثرة فيه، وهي عوامل كثيرة جدّاً وبعضها يحتاج إلى تخصصات علمية دقيقة. ومن هنا، فإنهم سيكونون سعداء بتفويض عمليات صنع القرار، إلى الأشخاص الذين يعتبرونهم أكثر تأهيلاً وقدرة على التعامل مع موضوعاتها.

وقد عبر عن هذه الرؤية بكلمات صريحة وحاسمة، عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف شومبيتر (1883-1950) الذي صرح في كتابه «الرأسمالية، الاشتراكية والديمقراطية capitalism, socialism and democracy» بأن مهمة المواطن هي اختيار فريق من القادة لتمثيله في الحكومة، وليس التصدي المباشر للقضايا واتخاذ القرار[4].

الحجة التي يستند إليها شومبيتر هي سعة الفارق، بين موضوعات القرار في الأمور الحياتية اليومية ونظيرتها السياسية. القضايا السياسية معقدة، وتدخل عامة الناس فيها لن يجعلها أو يجعل حياتهم أفضل حالاً، بل على العكس تماماً. إن القدرة على معرفة نتائج القرار تعزز الشعور بالمسؤولية عند الذي يتخذه. في المبادلات الاقتصادية على سبيل المثال، يكتشف الناس نتيجة قرارهم بشكل مباشر. لو اشتريت منتجاً معيباً، فسوف تكتشف فوراً أن قرار الشراء كان خاطئاً. أما في حال القرار السياسي، فلا توجد آلية مماثلة للتعرف على نتيجة القرار. ومن هنا، فقد يتخذ الناس قرارات خاطئة دون أن يدركوا نتائجها في الوقت المناسب؛ أي إن قراراتهم لن تكون متصلة بالواقع، ولن يشعروا بالمسؤولية عن تبعاتها.

من هنا يؤكد شومبيتر على الحاجة إلى عمل سياسي احترافي؛ فمن دونه سوف يرتكب المواطن العادي أخطاءً فادحة. وفقا لتصويره، فإن المواطن العادي سوف ينحدر إلى مستوى أدنى من الأداء الذهني، فور دخوله في حقل السياسة. سوف يحلل ويجادل في قضاياها، ثم يكتشف عاجلاً أن تلك المجادلات -قياساً إلى ما يعرفه في مجال اختصاصه- طفولية وغير ناضجة[5].

هذه عبارة ثقيلة اللحن جدّاً!

إذا قبلنا بفحواها، فإن أفضل ما نأمله هو ما يسمى أحياناً «الأرستقراطية الانتخابية»، حيث يتلخص مفهوم المشاركة الشعبية في السياسة في حدود اختيار السياسيين وعزلهم. وفقا لهذا المفهوم، سوف ينحصر دور المواطن في التعرف على الأشخاص الذين يراهم مؤهلين لاتخاذ القرارات نيابة عنه، والتصويت لهم في الانتخابات، ثم التصويت لغيرهم في الدورات التالية، إذا ثبت أنهم دون التوقعات.

ربما يرى بعضنا هذا التقرير صادقاً أو واقعياً، إلا أنه -على أي حال- بعيد كل البعد عن المثال الديمقراطي الأبرز؛ أي كون الشعب مالكاً للسلطة، وأنه يفوضها إلى الحكام ولا يتخلى عنها.

إذن ما الذي يمكن أن نقوله ردّاً على شكوك شومبيتر؟

دعونا ننظر عن كثب إلى معنى المشاركة في القرار السياسي.

معنى المشاركة الشعبية

من حيث المبدأ، فإن صناعة القرار السياسي عبارة عن «حكم = judgement» يحدد ما ينبغي فعله في حالة وجود خيارات عديدة مفتوحة، واختلاف ذوي الشأن في تعيين الخيار الأفضل.

ما هي العناصر التي يتألف من مجموعها ذلك النوع من الأحكام؟

أولاً: لدينا المعلومات والبيانات، التي تخبرنا عما سيحصل حين نتفق على واحد من الخيارات المطروحة أمامنا. من قبيل: لو قررنا زيادة ضريبة ما، فكيف ستؤثر في الاقتصاد.

ثانياً: لدينا معلومات عن موقف الأشخاص الذين نتوقع أن يتأثروا بنتائج القرار. لنفترض أنه يتم النظر في زيادة الضرائب من أجل تمويل منشآت رياضية جديدة، على سبيل المثال، فكم هو عدد الأشخاص الذين يريدون بالفعل هذه المرافق، وهل يشعرون أنها حاجة ماسة جدّاً أم مجرد إضافة كمالية، وهل يرون الزيادة في الضرائب مبررة في مقابلها، أم يرونها غير ضرورية؟

ثالثاً: هناك أسئلة تتعلق بالخلفية الأخلاقية للقرار: هل من العدل أن نزيد الضرائب على جميع الناس، من أجل تمويل المنشآت الرياضية، أم نحملها على عاتق الأشخاص الذين يتوقع أن يستخدموا تلك المنشآت دون غيرهم؟

في معظم الحالات تدخل العناصر الثلاثة جميعها في تكوين الحكم، مع أن حصة كلّ عنصر في هذا المزيج، قد تختلف من قضية إلى أخرى، ومن ظرف اجتماعي إلى آخر. بعض القضايا ذات مضمون تقني في المقام الأول. لهذا، فإن الجانب الأكثر أهمية، هو تحديد الأسئلة الواقعية التي على المحك. فإذا توصلنا إلى اتفاق عليها، فإن الحكم سيكون واضحاً إلى حدّ ما. كمثال على هذا، قد نكون بصدد الترخيص لدواء جديد. في هذه الحالة، سيكون السؤال الأهم هو: هل تم اختبار الدواء بشكل صحيح وثبت أنه آمن؟ فإذا اتفقنا على سلامة البيانات الخاصة بالاختبار، فإن إعطاء الضوء الأخضر سيكون أمراً روتينياً. في حالات أخرى، تتقدم الأسئلة الأخلاقية على سواها. خذ مثلاً النقاش حول إلغاء عقوبة الإعدام، أو الإبقاء عليها في جرائم معينة. البيانات الواقعية ستكون ذات صلة أساسية بالموضوع، وهي تتناول مدى فاعلية العقوبة في تقليل جرائم القتل وما في مستواها، ومدى احتمالية إدانة الأبرياء. لكن القضية الأساسية، بالنسبة إلى معظم الناس، هي ما إذا كان من السائغ أخلاقياً لأشخاص مثلنا، أن يقرروا إنهاء حياة إنسان آخر كإجراء عقابي.

إن أصعب الأحكام هي تلك التي تدور حول قضايا متعددة الأبعاد، ويكون موضوعها توليفاً من جميع العناصر الثلاثة السابقة الذكر. دعنا نأخذ مثالاً عن الجدل الدائر حالياً في بريطانيا (2003) حول صيد الثعالب[6]، وما إذا كان ينبغي منعه أو السماح به. الأسئلة الواقعية المتصلة بالموضوع تتضمن: ما مدى مساهمة صيد الثعالب في السيطرة على تكاثرها؟ ماذا سيكون تأثير الحظر التام على الاقتصاد الريفي؟ وهناك أيضاً الأسئلة المتعلقة بمواقف الناس وتفضيلاتهم، مثل: هل يشعر هواة صيد الثعالب بقلق شديد إزاء الحديث عن حظره، هل لديهم اهتمام شديد باستمرار هذه الهواية؟ وما هو موقف سكان الريف الآخرين (الذين لا ترتبط معيشتهم بصيد الثعالب) هل يرغبون في استمرار هذه الرياضة أم إنهم سئموا من الخيول وكلاب الصيد، التي تدمر حقولهم وأسوارهم. وأخيراً هناك أسئلة الجانب الأخلاقي، من قبيل: هل تشمل الحرية الشخصية الحق في اصطياد الثعالب؟ أو هل للثعالب والحيوانات الأخرى حقوق، وبينها خصوصاً الحق في عدم القتل؟

نعلم أن غالبية الناس يرغبون في أخذ هذه الأسئلة جميعاً بعين الاعتبار، حين يجرى العمل على إصدار قرارات سياسية. ولهذا السبب، فإن التوصل إلى حكم عقلاني في مثل هذه القضية، لن يكون مهمة يسيرة على الإطلاق.

قضية صيد الثعالب التي شغلت الرأي العام البريطاني فترة من الزمن، تكشف أن عامة الناس يتبنون رؤى متشددة نوعا ما، تجاه مشكلات من هذا النوع. لكنها -من زاوية ثانية- تظهر أن ملاحظات شومبيتر المهينة، عن قدرة عامة المواطنين على إصدار حكم عقلاني في القضايا السياسية، تظهرها مبررة تماماً.

حسناً.. دعنا الآن نتأمل فيما إذا كان أعضاء النخبة الذين سيختارهم الناس كممثلين لهم، أقدر على أداء تلك المهمة. سوف نستعرض بقدر من التفصيل مؤدى كل من العناصر الثلاثة التي قلت آنفاً، أن توفرها ضروري لصناعة القرار السياسي:

توفر المعرفة والمعلومات عن موضوع القرار:

لقد أشرت في السطور السابقة إلى أن دخالة العناصر الثلاثة، تجعل من صنع القرار السياسي في المجتمعات المعاصرة، مهمة في غاية التعقيد؛ ذلك أن العديد من الأحكام تتطلب معلومات واقعية، لا يستطيع توفيرها غير الذين يملكون خبرات فعلية في موضوع النقاش. مبررات هذا القول واضحة، إذا كانت دراسة الموضوع تتطلب معرفة علمية وافية. لكن يبدو أن المعرفة الكافية بموضوع النقاش ضرورة في معظم القضايا الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية، حيث تكمن المشكلة في تحديد الانعكاسات المحتملة لتطبيق القوانين أو السياسات المراد تبنيها، على حياة الناس واقتصاد البلاد في العموم. ومن ذلك مثلاً الجدل الذي تصاعد في أكثر من بلد أوروبي، حول السماح بإنتاج وبيع القنب الهندي (الحشيش المخدر): هل سيؤدي إلى زيادة عدد الذين ينزلقون إلى استعمال الهيروين والمخدرات القوية الأخرى، أم سيؤدي إلى اكتفاء الناس به فيقطع الطريق على الهيرويين والمخدرات القوية؟[7].

الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل، والسياسيون المنتخبون وموظفو الخدمة المدنية بشكل عام، لا يملكون خبرات علمية أو عملية تفوق ما يملكه عامة الناس. فهم مثلنا، ربما يملكون معرفة في بعض جوانب الحياة، لكنهم لا يستطيعون ادعاء المعرفة في كل جانب. ومن هنا، فإن على السياسيين الرجوع إلى آراء ذوي الخبرة، كلاً في موضوع اختصاصه. وحيثما اختلفت آراء هؤلاء، تعيّن عليهم ترجيح رأي الشخص الذي يرونه أكثر خبرة من غيره.

لكن نستطيع القول بصورة عامة، إنه لا يوجد سبب للاعتقاد أن الطبقة الأرستقراطية المنتخبة، سوف تتوصل إلى أحكام، لا يستطيع إدراكها عامة الناس.

معرفة ميول الجمهور:

العنصر التالي هو اكتشاف ما الذي يريده الجمهور، ومدى قوة هذه الإرادة. ثمة ميزة جوهرية في الديمقراطية، وهي أن اتخاذ القرار في إطارها، تتضمن -بشكل أساسي- توفير الفرصة لكل شخص، لعرض رأيه بكل صراحة، والسعي للتأثير في صناع القرار، وبالتالي فإن آراء وتفضيلات الأشخاص من مختلف الطبقات الاجتماعية، والخلفيات العرقية والدينية المختلفة، وما إلى ذلك، سوف يتم سماعها جميعاً. هذا الأمر صحيح على المستوى النظري على الأقل. لكن لو نظرنا إلى الواقع، فسوف نرى أن الطبقة السياسية التي تحكمنا اليوم (في بريطانيا)، هي في الغالب من البيض والذكور والطبقة الوسطى. نفترض بطبيعة الحال أن أعضاء البرلمان والمشرعين الآخرين، سوف ينصتون إلى آراء ناخبيهم. لكن لا ينبغي لهذا الافتراض أن يحجب عنا حقيقة أخرى، وهي أن أولئك الأعضاء والزعماء، يتمتعون -في واقع الأمر- بقدر عالٍ جدّاً من الاستقلالية عن الناخبين. إنهم يتعرضون لضغوط قوية للتصويت في اتجاهات محددة، تتناسب مع المصالح التي تقررها الأحزاب التي ينتمون إليها، وليس الشعب الذي انتخبهم.

هذا ما يحصل عادة في الدوائر السياسية، وهو بالتأكيد يثير سؤالاً جدّياً: إذا كنا نقول إنّ خيارات الجمهور ورغباتهم، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار عند صناعة القرار السياسي، وأنه يجب خصوصا الاهتمام برأي تلك الشريحة من المجتمع، التي يتوقع أن تكون أكثر تأثرا بانعكاسات القرار، أفلا ينبغي أن نستمع إلى رأي الشعب ككل، بدلاً من أقلية صغيرة في هذا الحزب أو تلك الدائرة؟

أحتمل أن بعض القراء سيذهب فوراً إلى الإجابة بنعم..

لكن دعنا نتريث قليلاً قبل القفز إلى هذا الاستنتاج. ثمة تعقيد يستدعي التأمل في الجوانب المختلفة للموضوع. لنفترض أن لدينا قضية نعرف أن غالبية الشعب يميلون إلى سياسة معينة بشأنها، لكن ثمة أقلية تميل إلى سياسة أخرى مختلفة، وتهتم بها اهتماماً شديداً، يتجاوز ربما اهتمام الأغلبية بما اختارته.

نحن نلاحظ حالات من هذا النوع في العديد من القضايا التي شغلت الرأي العام. وقد يكون الجدل حول صيد الثعالب مثالاً جيّداً. فمعظم الناس لديهم موقف سلبي إلى حد ما تجاه صيد الثعالب، وهذا يشمل حتى الناس الذين لا يتبنون موقفاً أخلاقياً متشدداً يدعم حقوق الحيوانات. غالبية الناس يرون في صيد الثعالب رياضة قديمة وحشية ومقيتة، تمارسها أقلية غنية مغرورة، تستمتع بقتل حيوانات بريئة. ولو أتيحت الفرصة لعامة الناس، فمن المؤكد أن الغالبية ستصوت لحظرها. إن محبي صيد الثعالب أقلية صغيرة، لكنهم في الغالب لديهم شوق شديد لممارسة هذه الرياضة التي يرونها جزءاً من تقاليد عريقة. من ناحية أخرى، فإن موسم صيد الثعالب يشكل حدثاً اجتماعياً مهمّاً في العديد من المجتمعات الريفية، وتعتمد العديد من العائلات عليه كمصدر للعيش، وهؤلاء سوف يقاومون بالتأكيد أي محاولة لحظره؛ لأنهم سيخسرون مصدر رزقهم المعتاد.

هذا المثال يظهر أن صناعة القرار يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، ليس فقط التفضيلات العامة والرغبات، أو عدد الذين يميلون إلى خيار ما، بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً مدى قوة تلك التفضيلات، رأي المجتمعات الريفية التي تعتمد معيشتها على صيد الثعالب كمثال، والتي قد تكون أثقل -من حيث القيمة الأخلاقية- من انزعاج شخص ما حين يرى حيواناً يتعرض للقتل.

نستطيع التعبير عن الفكرة السابقة بطريقة أخرى: لا يبدو من الصواب تغليب أحد الرأيين، لمجرد أنه يتمتع بدعم عدد أكبر من الناس. ليس لأن التناسب العددي غير معتبر، بل لأننا قدرنا أن معظم الذين صوتوا إلى جانب هذا الرأي، كانوا يعبرون عن انطباعات وميول عاطفية، بخلاف الذين صوتوا للرأي المعاكس، فرغم أنهم أقلية من حيث العدد، لكنهم دافعوا عن مصلحة حياتية ومعيشية، يصعب التعويض عنها إذا فقدت، بعبارة أخرى فإن لديهم «قضية قوية» وليست مجرد انفعال أو عاطفة.

هذا يقودنا إلى سؤال آخر: لماذا نحن مقتنعون بأن ممثلي الشعب المنتخبين، سوف يتوصلون إلى حكم أفضل من ذلك الذي يحتمل أن يتوصل إليه عامة الناس في قضايا مثل هذه؟

أحد الأسباب هو أنه من المرجح أن يتعرض الممثلون للضغط من جانب أفراد الأقلية، الذين يدافعون عن قضية ساخنة. قد يقتنع الممثلون بموقف هؤلاء حين يرون قوة المشاعر التي ينطوي عليها موقفهم، أو ربما يتخذون الموقف الذي سوف يؤمن لهم عدم خسارة الأصوات في الانتخابات المقبلة.

علاوة على ذلك، يمكن للأقليات أن تنسق مواقفها، وتتوافق فيما بينها على الوقوف صفّاً واحداً، كي يدعم كل منها مطالب البقية. وهكذا يتعاضدون لتقليص الفارق العددي، بل ربما يمكنهم أن يتحالفوا لتشكيل أغلبية، عند جمع العديد من القضايا معاً.

يطلق على هذه الصورة للديمقراطية التمثيلية أحياناً، اسم التعددية، وهي تستند إلى افتراض أن الناس سوف يتحركون لتشكيل مجموعات تتبنى الدفاع عن مصالحهم، وعن الخيارات التي يشعرون بحماسة شديدة إزاءها، وأن صانعي القرار، سيتأثرون بهذا النشاط، الأمر الذي ينعكس على مضمون القرار الذي تجري صناعته في دوائر النخبة الحاكمة.

لا بد من الإشارة أيضاً، إلى أن مجموعات الأقلية، قد لا تقتصر في نشاطها على ممارسة الضغط السياسي على رجال الدولة وممثلي الشعب، بل قد تقوم أيضاً بتنظيم مظاهرات، وربما تنخرط في أشكال أخرى من الاحتجاج، تنطوي أحياناً على خرق للقانون.

هناك بالتأكيد بعض الحقيقة في هذا التصوير، الذي قلنا إنه مثال على «التعددية». لكن علماء السياسة يميلون إلى الشك في صدقية تعبير الفكرة عن حاجات الناس ومصالحهم الواقعية، على النحو الذي جرى عرضه؛ بيان ذلك: أن الضغط الذي تمارسه جماعات المصالح، لا يعتمد في تأثيره على عدد الأشخاص المهتمين بقضية ما، أو قوة قضيتهم ومدى حماستهم لها، كما في مثال صيد الثعالب الذي ذكرناه آنفاً. إنه يعتمد أيضاً على جودة التنظيم والموارد التي تتمتع بها المجموعة. وهذا يعطي أفضلية للمصالح التي تتولاها منظمات قوية، ونذكر على الخصوص المصالح التجارية، التي نعلم أنها قادرة على توظيف دعاة مؤثرين، لممارسة الضغط على السياسيين من أجل دعم مصالحهم، بل ربما عملوا على تجنيد ممثلين منتخبين، كي يعملوا لصالحهم داخل جهاز الدولة.

زبدة القول إن النظام التمثيلي يكفل توفير الفرصة للأقليات والمجموعات الصغيرة، كي تدافع عن مصالحها. لكن لا بد من الإشارة إلى أنه ليس كل الأقليات سواء، من حيث القدرة على إسماع حججها والتأثير في رجال الدولة.

قارن هذا بما يمكن أن يحدث لو كنا إزاء استفتاء شعبي، حيث يصوت الجمهور بأسره على قضايا معينة. دعنا نفترض أن هناك أغلبية تدعم خيارات، وأقلية تعارضها وتدعم خيارات مختلفة. في مثل هذه الحالة لا توجد نقطة مركزية يتوجه إليها ضغط ناشطي الأقليات ومجموعات المصالح، أو حتى لوبيات المنظمات التجارية. فطالما كان التصويت عامّاً، فإنه يتعين على أي مجموعة تناضل من أجل قضية بعينها، أن تسعى لإنشاء تواصل مباشر بين أعضائها وبين أكبر عدد ممكن من الجمهور يستطيعون الوصول إليه.

من المتوقع بطبيعة الحال أن تستخدم كل مجموعة ما تملكه من موارد، في تنظيم حملات إعلامية لإقناع الجمهور بالتصويت لصالح خياراتها. وهذا يعني أن الذين يملكون موارد أكثر، سيكونون أقدر على تنظيم حملات دعائية، لكن هذا له حدود أيضاً. ثمة دول تضع قيوداً على ميزانيات الحملات السياسية، سواء تعلق الأمر بانتخاب ممثلين في البرلمان أو الاستفتاء على قضايا وطنية. ومن هنا، فإن تأثير المنظمات التجارية ومجموعات المصالح، سيكون أقل من نظيره في ظل نظام تمثيلي. لهذا السبب نستطيع القول بشكل عام، إنه سيكون من الأفضل لمجموعات الأقليات أن تعتمد على الإقناع، بدرجة أكبر من اعتمادها على استثارة العاطفة والتأثير الشخصي على السياسيين.

الإقناع يعني بشكل محدد مخاطبة الجمهور العام؛ أي الناخبين المنتمين إلى الأغلبية، بغرض إقناعهم -ومن ثم إقناع مرشحيهم- بالاستماع إلى همومهم وشكاواهم، على نحو يثمر عن تغيير في خياراتهم وتفضيلاتهم، حينما يصوتون لصالح هذه القضية أو لصالح نقيضها أو قريباً منه.

سوف أتحدث لاحقاً عن الأهمية المحورية للنقاش، ودوره في صناعة القرار في الإطار الديمقراطي، لكني سأتحدث أولاً عن العنصر الثالث (الأخلاقي) ودوره في صناعة الحكم السياسي political judgement.

العنصر الأخلاقي

ثمة قضايا تشكل المبادئ الأخلاقية محور الجدل فيها. من أبرزها في السنوات الأخيرة مثلاً، الدعوة لإباحة الإجهاض وتقنين المثلية الجنسية، وما إلى ذلك. لكن خارج هذا الإطار، فإن الجانب الأخلاقي له مكان في كل قرار سياسي، دون استثناء تقريباً. من أبرز الجوانب الأخلاقية في القرار السياسي، مقدار المنافع والأضرار التي تترتب عليه، هل تقع بالتساوي على الجميع أم لا. وبعبارة أخرى فهل سيوفر القرار معاملة منصفة لكافة الأفراد أو كافة المجموعات، أم إنه ربما ينتهك بعض حقوقهم. وهل لدى أعضاء الطبقة السياسية -الذين سيتخذون القرار- معرفة أعمق من عامة المواطنين بالمبادئ الأخلاقية ذات الصلة بموضوع القرار؟

من الصعب القول إنّ لديهم معرفة أعمق مما لدى غيرهم. يقال غالباً إنه لا يوجد خبراء أخلاقيون. إن الإدارة السياسية تحتاج إلى خبراء في الإدارة والسياسة، وليس بالضرورة إلى خبراء في الأخلاق (إن كان في العالم من يحمل هذا الوصف). على أيّ حال ثمة احتمال قويّ جدّاً، بوجود اتفاق بين الجمهور والنخبة، على المبادئ الكبرى التي ينبغي أن تحكم الحياة السياسية في مجتمع ديمقراطي.

ولهذا، فلا داعي للاعتقاد بأنه لو طلب من عامة المواطنين، المشاركة المباشرة في اتخاذ القرار، فإنهم سيميلون إلى خيارات أسوأ من تلك التي يختارها أعضاء النخبة؛ أي الأشخاص الذين يختارهم الجمهور حالياً كي يمثلونه في السلطة.

مفهوم الخبرة السياسية

لكن... هل يمكن حقا التمييز بين العناصر الثلاثة للحكم السياسي، واعتبار كل منها سمة قائمة بذاتها، مستقلة عن الأخرى، أم إن الخبرة السياسية تعني على وجه التحديد القدرة على الجمع بين العناصر الثلاثة؛ أي المعلومات الواقعية ذات الصلة، ومعرفة اهتمامات المواطنين وتفضيلاتهم، والمبدأ الأخلاقي، وبالتالي التوصل إلى أفضل حل ممكن للمعضلة السياسية المطروحة على طاولة الحكومة؟

هناك بالتأكيد شيء يستدعي التأمل في هذا التحدي. إن اتخاذ القرارات السياسية مهمة عسيرة، قد تتطلب الاطلاع التفصيلي على بعض المعلومات المعقدة، كما تستدعي القدرة على الموازنة بين حجتين أخلاقيتين، لكل منهما وزن واعتبار لا يمكن التقليل من شأنه. لكن الأخذ بإحداهما يستدعي ترك الأخرى أو تهميشها. ولهذا قيل إنّ اتخاذ القرار في أمور كهذه يتطلب مراساً طويلاً وخبرة، لا تتيسر إلا لمن عمل باستمرار في هذا الحقل.

بطبيعة الحال، فإن السياسيين لم يحوزوا هذه الخبرة والمراس؛ لأنهم ولدوا بخصائص مختلفة عن سائر الناس. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن المواطن العادي، غير قادر على أداء الأدوار التي توكل إليه، إذا حصل على الوقت الكافي والمعلومات الضرورية، للتفكير في الموضوعات المحالة إليه. ولدينا عدد من الأدلة التي تؤكد هذا القول. من ذلك مثلا هيئات المحلفين citizens'juries، وهي لجان صغيرة يتم اختيار أعضائها عشوائياً من بين الجمهور، غرضها مناقشة قضايا عامة مثل السياسة الصحية واستراتيجية النقل، وتقديم توصيات للحكومة، تعبر عن موقف الرأي العام.

حين يشرع المحلفون في نقاشاتهم، فإنهم يظهرون مستوى عالياً من الجدية، يستدعون شهوداً من ذوي الخبرة لتقديم معلومات عن المسائل موضوع النقاش، ويستمعون إلى دعاة يمثلون وجهات نظر مختلفة، ثم يخوضون نقاشات جدية فيما بينهم، قبل التوصل إلى حكم. لا بد من القول إنّ اهتمامهم بجدية النقاش ومعقولية ما توصلوا إليه من استنتاجات، كانت مدهشة لمن راقب عملهم.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف نفسر المستوى المنخفض للمعرفة السياسية والاهتمام بالشأن العام، الذي نراه ظاهراً على معظم المواطنين في المجتمعات الديمقراطية؟ حين يشارك هؤلاء المواطنين في مقابلات صحفية أو استطلاعات رأي، نراهم عاجزين عن استذكار أسماء القادة السياسيين الذين يحكمونهم، كما أنهم لا يعرفون على نحو دقيق القضايا التي تختلف حولها الأحزاب السياسية الرئيسة، وما إلى ذلك. إن التبرير الشائع لهذا الجهل هو أن الديمقراطية، بالكيفية التي تمارس في هذه الأيام، لا تعطي الناس سوى حافز ضعيف، لاكتساب المعرفة أو المهارات السياسية. فكل ما هو مطلوب من عامة المواطنين، هو التصويت لهذا الحزب أو ذاك في الانتخابات العامة، مرة كل أربع سنوات أو خمس. وفي هذه الحالة، فإنهم عادة يطلعون -ولو بشكل اجمالي- على برامج الأحزاب ووعودها، ويصوتون لمرشحي الحزب الذي يميلون إليه بشكل عام. هذه المهمة ليست عسيرة ولا تتطلب الكثير من المعرفة.

الواقع أنه ليس معتاداً أن ينشغل عامة الناس بفهم التفاصيل الدقيقة للسياسة، فهي لا تتصل بحياتهم اليومية ولا بقضايا مهنهم أو تخصصاتهم. ولهذا لا يلامون لو لم يتعرفوا على تلك التفاصيل. على أن طرح هذه الحجة يضعنا أمام معضلة البيضة والدجاجة. قد يكون ضرباً من المغامرة، أن تطلب من عامة الناس، النظر في السياسات العامة واتخاذ قرارات في قضاياها الرئيسة، على رغم علمك بأنهم يفتقرون إلى المعلومات والبيانات، والمهارات الضرورية للتوصل إلى أحكام معقولة. لكن في مقابل هذا، نحن لا نتوقع أن يظهروا كبير اهتمام بتلك المعلومات والبيانات أو باكتساب المهارات، ما لم يحصلوا على دور فعلي في القضايا السياسية التي تحتاج إلى قرار. إن إشراكهم في قضايا السياسية يمثل التحدي الفعلي والحافز الضروري الذي سيشجعهم على اكتساب المعرفة والمران اللازم.

القول بهذه المعضلة يثير هو الآخر سؤالاً مشروعاً: هل ينبغي أن نشعر بالقلق، إزاء حقيقة أن نظامنا الديمقراطي سيبقى ناقصاً، طالما بقي الدور السياسي لعامة المواطنين مقتصراً -في الغالب- على التصويت في الانتخابات، إضافة إلى بعض النشاطات المطلبية، بين حين وآخر، حين تكون القضايا أو المصالح التي يهتمون لها بقوة، على المحك (مثل النقاشات التي تدور أحيانا حول مقترح لتخطيط طريق جديدة، أو تطوير مشروعات سكنية في الحي المجاور لمساكنهم).

أرى إنه ينبغي لنا أن نشعر بالقلق. نحن نستعمل كلمة غبي idiot لوصف الشخص الضعيف التفكير، لكننا نعلم أن الكلمة الإنجليزية ترجع إلى تعبير يوناني قديم هو idiotes، وهو وصف للأشخاص الذين ارتضوا أن يعيشوا لأنفسهم، وأن يعتزلوا الشأن العام للمدينة. لو طبقنا هذا التعريف القديم على واقعنا، فسوف نقول إن جميعنا سيحمل هذا الوصف idiots بقدر ما يتخلّى عن ممارسة ذكائه السياسي. وطبقاً لرأي جان جاك روسو، فإن تسليم السلطة بالكامل لممثلين منتخبين، كان بدعة حديثة خبيثة:

إن شعب إنجلترا يخدع نفسه إذ يتوهم أنه شعب حر. حقيقة الأمر أنهم أحرار فقط خلال اليوم الذي ينتخبون فيه أعضاء البرلمان. فور أن ينتخب المواطن ممثله في البرلمان، فإنه يعود ثانية إلى قيوده، ولن يكون لرأيه أي تأثير. ومن هنا، فإن زهدهم في ممارسة حريتهم واكتفاءهم بهذا القدر الوجيز منها، يكشف أنهم يستحقون أن يفقدوا حريتهم[8].

ربما نعتقد أن روسو قد انزلق عن جادة الصواب، فبالغ في حكمه. مع ذلك، فإنه لجدير بنا أن نشعر بالقلق، من حقيقة أن غالبية المواطنين في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، لا يظهرون اكتراثاً حتى في المراقبة النشطة لأعمال الزعماء الذين انتخبوهم. نحن في حاجة إلى تطوير نماذج للمشاركة الشعبية في صناعة القرار، على المستوى المحلي، أو من خلال اختيار أفراد من الجمهور بشكل عشوائي، لتأليف هيئات المحلفين الأهلية، التي تنظر في القرارات الخاصة بالخدمات الحكومية، وغيرها من الهيئات المماثلة، التي يمكن أن تساعد في توفير الفرصة للمواطنين، كي ينخرطوا في تجربة فعلية للمواطنة النشطة.

الخبرة المكتسبة عن هذا الطريق، تسهم في تحسين كفاءة المواطنين بشكل عام، كما تغرس في عقولهم وقلوبهم بذور الاهتمام المستمر بالسياسة والشأن العام. سوف نكتشف من خلال تلك التجارب، أن الديمقراطية ليست صراعاً حدياً: تحوز كل شيء أو تخسر كل شيء. إنها صراع لين، لكنه متواصل، غرضه النهائي هو منح الشعب ككل، الصوت الأخير والكلمة الفاصلة فيما يتعلق بشؤون بلده وطريقة إدارتها[9].

حقوق الأقلية

أما وقد بلغنا هذه النقطة، فقد حان الوقت للعودة من جديد إلى نقاشنا المتعلق بمسألة الأغلبية والأقلية، التي تركناها معلقة ولم نختم القول فيها. فعلى رغم أننا نختصر مفهوم الديمقراطية في عبارة «حكم الشعب للشعب» إلا أننا في واقع الأمر نعتمد نظاماً فحواه تفويض اتخاذ القرار للأكثرية. في مرحلة اتخاذ القرار، لا نتوقع أن يتفق الجميع على كل شيء، لهذا نذهب إلى التصويت الذي يحسم الأمر باعتماد أكثرية الأصوات. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الفائز في الانتخابات، ليس -على الدوام- الحزب الذي يحصل على أكثرية الأصوات، بل الحزب الذي يستطيع ضمان التوافق بين عدد من الفائزين، يفوق الأحزاب الأخرى. على أي حال، تعدُّ هذه أغلبية، لأنها أكثر عدداً من أي جهة منافسة. لكن ماذا نقول عن أولئك الذين ينتهي بهم الأمر في الجانب الخاسر (الأقلية)؟

في الوهلة الأولى، لا يبدو أن لديهم (الأقلية) مبرّراً كافياً للشكوى: لقد حصلوا على الفرصة ذاتها، وحسبت أصوات الجميع، الأقلية والأكثرية، بنفس الطريقة. فإذا منحوا وزناً سياسياً يتجاوز ما حصلوا عليه في الانتخابات، فسيكون هذا خرقاً لمبدأ المساواة السياسية، التي تشكل ركناً من أركان النظام الديمقراطي. لكن المسألة لا تنتهي هنا. ثمة حالتان يمكن للأقلية أن تشعر فيهما بأن حكم الأغلبية ربما ينتهك مبدأ المساواة السياسية:

الحالة الأولى، وقد تطرقنا إليها آنفا، حين أشرنا إلى أن هؤلاء الذين يصوتون مع الأغلبية، هم الأقل تضرّراً من القرار الذي يجري التصويت عليه، في مثال صيد الثعالب، الأكثرية تؤيد منعه، لكن لا أحد منهم يتضرر من القرار، كحال الذين يمارسون هذه الرياضة أو يعتمدون عليها في معيشتهم.

لقد تم حساب الأصوات بصورة سليمة، وقد منح كل صاحب رأي فرصة كي يعبر عنها. لكن هل جرى حساب «الاهتمامات» بالطريقة نفسها؟

على الرغم من أنه تم حساب الأصوات بالتساوي، إلا أن حساب التفضيلات أو الاهتمامات لم يجر على المنوال نفسه.

الحالة الثانية: تتضح حين تجد إحدى المجموعات نفسها على الطرف الخاسر، في كل تصويت. ويحدث هذا بشكل متكرر. تخيل ناديا لرياضة التنس، يضم عدداً كبيراً من هواة تنس الطاولة، وعددا أقل من هواة التنس الأرضي. وفي كل مرة يجري التصويت على تخصيص أموال لتطوير المرافق الخاصة بهذا النوع أو ذاك من الرياضة، ينتهي التصويت بخسارة الفريق الذي يهوى التنس الأرضي.

قد نعتقد أن اعتماد التصويت المتكافئ لا يشكل أساساً سليماً للمعاملة المتساوية لجميع الأعضاء. إنه بمثابة مساواة في الإجراءات والوسائل، تنتهي حتما، وبشكل دائم إلى لا مساواة في النتائج. وبالتالي فإنه أقل ديمقراطية من ذلك الترتيب الذي يمنح فرصة لفريق الأقلية، للحصول على مرادهم بين حين وآخر.

هذا المثال يكشف أن مشكلة الأقلية توجد في واقع الأمر على شكلين متمايزين: يمكن أن نسمي الشكل الأول مشكلة الأقلية الشديدة intense minority ونسمي الثاني مشكلة الأقلية المستمرة persistent minority.

كيف يمكن لنظام ديمقراطي أن يعالج هذه المشكلات؟

ثمة -في العموم- مقاربتان يمكن اتخاذهما سبيلاً في معالجة المسألة. تقترح المقاربة الأولى تحديد سلطات الحكومة، أو أي جهة تملك القرار (الأغلبية) في الدستور، على نحو يحول دون انتهاكها لحقوق الأقلية. يمكن على سبيل المثال تضمين الدستور قائمة من الحقوق التي يتوجب أن يتمتع بها كل مواطن. بهذه الطريقة، فإن أي سياسة أو مشروع قانون، ينتهك واحداً من تلك الحقوق، سوف يتم إسقاطه بواسطة المؤسسات أو السبل التي يحددها الدستور. في العادة يتم إرجاع القوانين وقواعد العمل التي يدعى أنها تخرق الدستور، إلى هيئة تحكيم رفيعة (المحكمة الدستورية مثلا) وهي مخولة بصلاحية تفسير النصوص الدستورية، والحكم في النزاعات المتعلقة بدستورية القوانين.

يمكن لهذه الطريقة أن توفر قدراً من الاطمئنان للأقلية، بأن حقوقها ستبقى مصونة، حتى لو أخفقت في التصويت. إن أي سياسة أو قانون تتبناه الأكثرية، ويحتمل أن يؤدي إلى انتهاك لحقوق الأقلية، بل حتى انتهاك حقوق المواطنين الأفراد، سوف يكون بالإمكان المطالبة بتعطيله، أو حتى نقضه، أمام محكمة تتمتع بصلاحية تفسير الدستور، والفصل في النزاعات الخاصة بالحقوق الدستورية.

هذه الترتيبات التي تبدو لبعض الناس معقولة، لم تسلم أيضاً من النقد، على أساس أنها غير ديمقراطية؛ لأنها تمنح لجنة صغيرة من قضاة المحكمة الدستورية -على سبيل المثال- الحق في عرقلة الإرادة الصريحة لغالبية المواطنين. لكن مثل هذا الاعتراض لا يصعب الرد عليه. فقد جرى إقرار الدستور بطريقة ديمقراطية، وصوت عليه غالبية الشعب. نعلم -إضافة إلى هذا- بأن معظم الدساتير تنص واقعياً على إمكانية تعديل لبعض بنودها، لكنها تشترط لإقرار هذه التعديلات، تصويت ما يزيد على الغالبية البسيطة، ربما ثلثي الناخبين أو قريباً من هذا. وهذا بالطبع يثير سؤالاً مشروعاً: لماذا يصوت الناس لدستور يقيد صلاحياتهم أو مدى تأثيرهم، لو أرادوا في يوم ما، اتخاذ قرار بالأغلبية البسيطة؟

لو أردت التبرع بالجواب، فربما أقول إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يريدون حماية بعض حقوقهم. لا يمكن لجميع الناس الاطمئنان إلى أنهم سيكونون دائماً ضمن الأكثرية؛ إذ ربما يجدون أنفسهم في يوم من الأيام جزءاً من أقلية لا تحظى بالرضا بين عامة الجمهور. خذ الحرية الدينية كمثال: أي شخص لديه معتقدات دينية، يهمه التأكد من قدرته على التعبير عن قناعاته وممارسة عباداته وأموره الدينية في أمان، حتى لو كانت الأغلبية في مجتمعة، تعارض بشدة الدين أو المذهب الذي يتبناه. نعرف طبعاً أنه ليس من السهل التنبؤ بالأديان أو الشعائر الدينية التي قد تثير غضب الأغلبية في المستقبل، ولا تدري إن كنت أنا أو أنت سنتبنى هذه الممارسة الدينية أو تلك. ولهذا السبب، فإن تضمين الدستور بنداً صريحاً يؤكد على حق الأفراد وحريتهم في الإيمان والعبادة والتعبير عنها، هو الوسيلة الوحيدة لترسيخ الاطمئنان عند كافة سكان البلاد.

هناك بالطبع وسائل أخرى لحماية حقوق الأقليات، من بينها مثلا إنشاء دوائر منفصلة، على أساس جغرافي أو إثني، لاتخاذ القرار في القضايا المتصلة بالموضوعات التي يكثر فيها تباين الآراء بين الأقليات والأكثرية. ويطبق هذا الإجراء مثلاً في الأنظمة الفيدرالية، حيث تمنح الأقاليم أو المقاطعات سلطة التشريع في القضايا التي تتعلق خصوصا بسكانها، مع الاحتفاظ بشريحة أخرى من القرارات للحكومة المركزية.

ليس من الضروري أن يقتصر تطبيق فكرة الدوائر المنفصلة على النطاق الإقليمي. دعونا نعود مرة أخرى إلى مثال «نادي التنس» الذي شهد مشكلة الأقلية المستمرة persistent minority التي حكم عليها بالخسارة الدائمة في أي تصويت. إن الحل المناسب لهذه المشكلة هو إنشاء دائرتين منفصلتين؛ إحداهما لرعاية المنشآت الخاصة برياضة تنس الطاولة والأخرى للتنس الأرضي، ومنح كل منهما جزءا من الميزانية السنوية للنادي. في هذه الحالة، سيكون لهواة كل من النوعين أكثرية في اللجنة الخاصة باللعبة، وسيمكنهم اتخاذ القرار دون منازعة. بعبارة أخرى، فإن هذه الطريقة وفرت الحماية لحقوق الأقلية، من خلال جعلها أكثرية في نطاق الأعمال التي تهمها دون غيرها.

ليس هذا حلّاً نهائياً لمشكلة التنازع بين الأقلية والأكثرية، بل سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن جميع مشاكل الأقليات، سوف تحل بهذه الوسيلة أو تلك من الوسائل الدستورية. قضية «صيد الثعالب» تكشف هذا بوضوح. أولئك الذين يريدون الاستمرار في صيد الثعالب، لا يستطيعون الاتكال على الحقوق الدستورية، في مطالبتهم بالإبقاء على هذه الرياضة. السبب الواضح هو أنه ليس من المرجح، أن يتضمن أي دستور حقّاً غير محدود في اصطياد الحيوانات.

سوف أدرس في الفصل التالي بشيء من التفصيل، الكيفية التي أقترحها لإنشاء نطاق من الحريات الشخصية، لا يحق للحكومات انتهاكه. لكن لا بد من القول أيضاً، إن الحق في صيد الحيوانات سوف لا يكون بين تلك الحقوق، لأسباب منطقية. صيد الحيوانات يمثل موضوعاً مشروعاً لقرار الأكثرية؛ لأن حقوق الحيوان من جهة، وحماية الحيوانات المعرضة للانقراض من جهة ثانية، هي قضايا تهم كافة الناس، وهي تتجاوز موضوع الرياضة.

من ناحية أخرى، وعلى رغم أن مؤيدي صيد الثعالب يتبنون موقفا ساخناً إزاء هذه القضية، إلا أنه من الصعب الاتفاق على أنهم وحدهم أصحاب الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بها، ولا سيما بالسماح أو المنع؛ ذلك أننا لسنا بصدد مصلحة أحادية لهؤلاء المؤيدين. ثمة مصالح عديدة ومتضاربة على المحك هنا، الأمر الذي لا يسمح بتبني نموذج للعلاج هنا، مماثل لما طبق في حالة «نادي التنس».

إن المؤسسات والهيئات الدستورية، أدوات مهمة لضمان العيش المشترك للأقليات والأكثرية، وحماية الأضعف من تسلط الأقوى. إلا أن النظام الديمقراطي الذي يستهدف، في المقام الأول، معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة، يجب أن يذهب إلى مدى أبعد من ذلك. يتوجب إيجاد الوسائل التي تجعل حقوق الأقلية ومصالحها، موضع رعاية واحترام من جانب الأكثرية، قبل التوصل إلى قرار، حتى في الحالات التي لا تكون الحقوق الأساسية على المحك. إن النقاش العام هو السبيل إلى هذا التفاهم والرعاية المتبادلة، حيث يصغي كل طرف للآخر ويستوعب احتجاجاته، ثم يسعى للتوصل إلى حل يرضي كافة الأطراف، بقدر الإمكان.

بتعبير آخر، فإنه لا ينبغي أن يستعجل أعضاء الأغلبية، في التصويت على الحل الذي يفضلونه، قبل أن يعرض لمناقشة مستوعبة. يتوجب عليهم قبل البدء بالنقاش، الاستماع مليّاً إلى الحجج التي يقدمها كافة الأطراف، ولعلهم يعثرون -كما يحصل في بعض الأحيان- على مبدأ عام يتفق عليه كافة الأطراف، ويمهد الطريق للتقدم نحو اتخاذ القرار انطلاقا من رؤى متقاربة.

لكن لماذا ينبغي لأعضاء الأكثرية أن يتصرفوا على هذا النحو، مع أنهم قادرون -لو أرادوا- على التصويت الفوري طبقا لموقفهم الخاص؟

الجواب: لأن مصلحة الجميع تكمن في التوصل إلى حلول توافقية، تلبي حدّا متوسطاً من توقعات كل منهم، إن لم تكن كلها. حين يجري النقاش، فقد يكتشف الأشخاص في هذا الجانب أن من الأفضل الأخذ بسياسة أكثر ليناً. دعنا نأخذ مثلاً بالأشخاص الذين كانوا يرغبون في حظر صيد الثعالب تماماً، لكنهم بعد سماع حجج الطرف الثاني، وجدوا أن من الأفضل السماح بمواصلة الصيد، شريطة وضع قواعد جديدة لتنظيمه، حيث يحافظ على المنافع الرئيسة التي يزعمها أنصار الصيد، لكنه يقلل -في الوقت نفسه- من الانعكاسات السلبية التي كانت تثير قلقهم.

التراضي هو جوهر الديمقراطية

لكن ما الذي يدفعك للتراجع عن مطالبك، إذا كانت الأدلة والأرقام تدعم موقفك؟

هناك سببان: الأول هو ببساطة هو الاحترام اللازم لمواطنيك. قد تختلف معهم بعمق حول قضية معينة مطروحة على الطاولة. لكنك تعلم أيضاً، أن أصواتهم يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مثل صوتك. هذا من أبرز أركان الديمقراطية. ومن هنا يتوجب أن تصغي إليهم قبل أن تصل إلى مرحلة اتخاذ القرار. تحاول الديمقراطية أيضاً إقامة حكم لين، قائم على رضا الجمهور والتراضي على السياسات والمشاركة الكاملة حيثما أمكن. ولذا يلزم أن تسعى للتوصل إلى قرارات وحلول للمشكلات، تأخذ بعين الاعتبار مطالب الجميع ومصالح الجميع (هناك بطبيعة الحال قضايا لا يمكن التوصل فيها إلى تفاهمات أو حلول وسط، لكن هذه قليلة جداً في الواقع. حتى في قضية إباحة الإجهاض التي أثارت جدلا شديداً وانقساماً حادّاً، كان ثمة حلول تقع بين المنع التام والإباحة التامة).

أما السبب الثاني، فهو منفعتك الخاصة. مصالحك اليوم مع الأكثرية، لكن ربما تقع في المستقبل مع الأقلية. حينها سترغب في أن يأخذ هؤلاء الذين على الجانب الآخر مخاوفك بعين الاعتبار. بعبارة أخرى، فإن مصلحتك (ومصلحة الآخرين بالطبع) تكمن في ترسيخ ثقافة ديمقراطية تؤكد على المساواة، وتعارض التعامل القاسي من جانب الأقوياء مع الضعفاء، وتدعو للإنصاف من جانب الجميع مع الجميع عند اتخاذ القرارات.

يوضح النقاش السابق، أن الديمقراطية عمل يتطلب الكثير من الجهد؛ فهي أولا تستدعي أن يهتم عامة الناس بالقضايا المطروحة في المجال العام، مع أنها في الغالب معقدة وبعيدة نوعاً ما عن همومهم الحياتية اليومية. تتطلب الديمقراطية أيضاً أن يتحلّى أفراد الجمهور بقدر من السيطرة على المشاعر الشخصية، عندما يكونون بصدد اتخاذ قرارات تتعلق بأحد هذه الموضوعات؛ وذلك لتحاشي قهر الأقليات والأطراف الضعيفة في المجتمع، حتى لو كانت لديهم القوة لفعل هذا.

قد لا يكون سهلاً علينا مقاومة النداءات الظاهرة والخفية، التي تدعونا لترك أمر السياسة وقراراتها، للأشخاص الذين انتخبناهم كي يمثلوننا في إدارة الدولة. لكن -أياً كان الأمر- فمن الواجب علينا مقاومة هذا النداء. يجب أن نتمسك بفكرة أن السلطة السياسية ملك للشعب، ويجب أن تبقى في يد المجتمع ككل. فإن لم نفعل هذا فقد ينتهي بنا الأمر إلى المصير الذي حذرنا منه جون لوك: أن نتحول إلى وليمة للأسود؛ أي النخبة التي منحناها السلطة والقوة كي تحكمنا[10].

لقد أثارت النقاشات السابقة حول الديمقراطية ثلاث قضايا أخرى، سوف تكون موضوعا للنقاش في الفصول التالية:

القضية الأولى: حدود تدخل الدولة، وما إذا كان ثمة مجال شخصي مصون من تدخل الدولة، حتى لو كانت ديمقراطية.

القضية الثانية: هل يتوجب منح بعض الأقليات حقوقا خاصة، زيادة على الحقوق الدستورية التي يتمتع بها عادة كافة المواطنين، كنوع من الحماية التي تضمن حصولهم دائماً على معاملة عادلة؟

القضية الثالثة: الظروف الاجتماعية/ السياسية التي تجعل النظام الديمقراطي ممكناً وفاعلاً. وعلى وجه التحديد الظروف التي تسود فيها الثقة المتبادلة بين المواطنين، حيث يحترمون جميعاً روح الدستور الديمقراطي، كما يظهرون استعداداً لمناقشة القضايا العامة والبت فيها، في جوّ من الاحترام المتبادل لبعضهم البعض.

[1] - مقتطف من كتاب، الفلسفة السياسية، ديفيد ميلر، ترجمة توفيق السيف، دار مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.

[2] - توماس هوبز: الليفياثان، مصدر سابق، قسم 2، فصل 30، ص 330

[3] - جون لوك: رسالتان في الحكم المدني، مصدر سابق (الكتاب 2، الفصل 7 فقرة 93) ص 192 (المترجم)

[4] - جوزيف ا. شومبيتر: الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة (بيروت 2011) ص 483 (المترجم)

[5] - شومبيتر: المصدر السابق، ص 502

[6] - لبعض التفاصيل حول هذا الجدل، انظر: hunting act 2004', wikipedia, (26-mar-2021) https: //en.wikipedia.org/w/index.php?title=hunting_act_2004&oldid=1014249193 (المترجم)

[7] - للاطلاع على جانب من هذه النقاشات، انظر «المخدرات في أوروبا - الوقاية خير من العقاب!»، موقع التلفزيون الألماني dw (06-dec-2012) https: //p.dw.com/p/16wg8 (المترجم) H

[8] - جان جاك روسو: العقد الاجتماعي، الباب 3، ف 13

[9] - لمناقشة موسعة حول الديمقراطية بشكل عام، انظر: ross harrison, democracy (routledge, 1993) أيضاً: albert weale, democracy (macmillan, 1999). وحول المقاربة التعددية pluralist، انظر robert dahl, democracy and its critics (yale university. press, 1989). لمرافعة دفاعية عن مبدأ المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، انظر benjamin barber, strong democracy (university of california press, 1984) أيضاً john burnheim, is democracy possible? (polity press, 1985). حول الأدلة على كفاءة المواطنين العاديين للمشاركة في صناعة القرار السياسي، انظر anna coote and jo lenaghan, citizens' juries (ippr, 1997) أيضاً: james fishkin, the voice of the people (yale university press, 1995).

[10] - جون لوك: رسالتان في الحكم المدني، مصدر سابق (الكتاب 2، الفصل 7 فقرة 93) ص 192