حول الخير والشر: تنسيب النزعة النسبية


فئة :  مقالات

حول الخير والشر:  تنسيب النزعة النسبية

حول الخير والشر:

تنسيب النزعة النسبية([1])

 

إن الأخلاق ليست واحدة، دون أن يعني ذلك اتصافها بالمرونة إلى ما لانهاية، وهو ما ينبع من تبعيتها، قبل كل شيء، لرغباتنا، ذاك ما يوضِّحٌه أندري كونت سبونفيل، مقترحا هنا طريقة لاستعمال هذا المفهوم.

كيف نفكر في الخير والشر؟ بإمكاننا فعل ذلك، تبعا لِسِتِّ أطروحاتٍ تتعارض فيما بينها مثنى مثنى، مكونة بذلك ثلاثة أزواج نقيضيَّة؛ الزوج الأول منها مرتبط بأصل الخير والشر، وبالتالي بوضعهما الأنطولوجي[2]؛ بمعنى هل هما متعاليان[3] أم محايثان[4]. أما الزوج الثاني، فيرتبط بوضعهما المعياري؛ بمعنى هل هما مطلقان أم نسبيان؟ أما الزوج الثالث من بين هذه الأزواج، فهو المتعلق بماصدقهما؛ أي هل هما كونيَّان أم خاصّان؟

شكلان للنزعة الإطلاقية

تبقى هذه الأزواج الثلاثة مرتبطة فيما بينها، لكنها ليست كذلك على نفس المنوال أبدا؛ فكل واحد منا يفهم بأنه إذا ما اقتنعنا بالأصل المتعالي للخير والشر (الخير "فيما وراء الماهية" لأفلاطون وإله التوحيديين) سنكون مدفوعين إلى الحكم عليهما بالإطلاقية؛ بمعنى أنهما لا يتوقفان علينا، بل نحن من نكون تابعين لهما، ونفس الأمر يسري على الحكم عليهما بالكونية؛ فإذا لم يكن هناك إلا خير واحد، وإله واحد أحد، فسيكون هو ذاته بالنسبة إلى الجميع، بمن فيهم من هم على جهل به.

خطر النزعة الإطلاقية الدينية متمثل في اللاتسامح والنزعة الدوغمائية والتعصب، بل وحتى الإرهاب أو النزعة التوسعية والإمبريالية

وعلى العكس من ذلك، نجد أولئك الذين يدافعون عن الأصل المحايث للخير والشر؛ أي باعتبارهما معا منتوجا للطبيعة والتاريخ، يحاولون الحكم عليهما في نفس الوقت بالنسبية والخصوصية؛ بمعنى أن كل ثقافة، وبالتالي كل جماعة أو حتى كل فرد، يمكن أن يكون لكل منهم تصوره الخاص لهما(الخير والشر) بشكل مشروع. ومن جهتي، أقترح تسمية الموقف الأول بـ"النزعة الإطلاقية الدينية". أما الموقف الثاني، فأختار تسميته بـ"النزعة النسبية التامة". ما من شك في أن هذين الموقفين هما الموقفان الأكثر بساطة، والأكثر تماسكا بكل يسر وسهولة، لكنهما لا يكونان كذلك دون أن يفضيا إلى أخطار مخيفة.

فمن جانب، نجد أن خطر النزعة الإطلاقية الدينية متمثل في اللاتسامح والنزعة الدوغمائية والتعصب، بل وحتى الإرهاب أو النزعة التوسعية والإمبريالية. ويكفي شاهدا على ذلك، أن تتذكروا الغزاة[5] conquistadors المسيحيين جدا، والذين سبق لمونتاني أن ندد في القرن 16 الميلادي بالجرائم التي ارتكبوها. وأن تنظروا إلى الإسلاموية اليوم؛ لأن الخير إذا كان متعاليا، فمن اللازم أن يفرض نفسه بكامل الإطلاقية على الجميع، بما في ذلك ركوب طريق العنف. والأمر يكون بالغ السوء بالنسبة إلى الجاحدين الكفار، أو من يظهر أنهم كذلك: "اقتلوا الجميع، فالله خبير بأوليائه" ذلك هو منطوق الإرهابي.

ومن جانب النزعة النسبية، يكون الخطر كامنا في التساهل laxisme واللامبالاة (باسم "الحق في الاختلاف"!)، وحتى النزعة العدمية[6]، فإذا كانت الطبيعة والتاريخ هما من يتولى تفسير كل شيء، فإنهما لا يحكمان على شيء. وإذا كان لكل ثقافة ولكل جماعة ولكل فرد أخلاقه الخاصة، فما الذي ستفيده مؤاخذة المجرم أو النازي أو المتعصب؟ وإذا كان لكل شيء قيمة، فما من قيمة لأي شيء. لِكٌلٍّ قيمه ولِكُلِّ أخلاقه: فلنترك الجميع يعيشون ويتقاتلون فيما بينهم. إنه إجمالا منطق الترك والتخلي.

كونية العقل

إن هذين الخطريْن كلاهما يبقى قاتلاً، مما يبرر بحثنا عن موقف آخر، يكون أقل اتصافا بالنزعة التبسيطية، ويكون رابطا بين أطروحاتنا الست على نحو مختلف. هكذا يمكننا على سبيل المثال، أن نفكر في أن أخلاقا محايثة ليست بالضرورة أخلاقا نسبية (الطبيعة والتاريخ في مُكْنَتِهما إنشاء قيمٍ تفرض نفسها بإطلاقيه)، أو أن أخلاقاً نسبية يمكن أن تكون أخلاقا كونية (إذا كانت مرتبطة بالإنسانية برمتها وصالحة لها بأكملها) ومطلقة، حيث لا تنم عن التأمل أو الإيمان، بل عن الثقافة وعن الفعل. وكونية لا تكون متعالية بتاتا، بل محايثة؛ أي كونية العقل أو الإنسانية. ذاك هو منطق ما نسميه "حقوق الإنسان". فأن تكون حقوق الإنسان حصيلة ونِتاجاً للتاريخ، فذاك ما لا يمكن الاعتراض عليه، بيد أن ذلك لا يحول دون كونيَّتِها من جهة الحق، ولا دون أن تصير أكثر كونية في الواقع، إن نحن ناضلنا بفعالية أكبر للدفاع عنها وفرضها.

الأخلاق ليست علما؛ وكل ادعاء أو زعم لفرضها باسم الحقيقي سرعان ما يصطدم بتعددية الأحكام والتقويمات التي غالبا ما تتشح بالصراع

لكن هل هي مطلقة بنفس القدر؟ أكيد أن الإجابة ستكون، من وجهة نظر ميتافزيقية[7]، بالسلب، لأنها ليست منقوشة في الذات الإلهية، التي يبقى وجودها مثار شك، ولا هي محفورة في الطبيعة، التي تسخر منها. لكن الإجابة ستكون إيجابا، على مستوى الممارسة [وما هو عملي]، إن تمسكنا بشكل مطلق بالعمل لأجل الحرص على ضمان احترامها. إنها نزعة نسبية ليست بالتامة أبدا، لكنها هي ذاتها قد أضفي عليها الطابع النسبي، أو تم تلطيفها عن طريق كونية العقل، الذي يبقى هو ذاته لدى جميع الناس، وكونية الإنسانية بوصفها المشترك بيننا، وكونية التاريخ التي تنحو صوب أفق التقريب بيننا، بحكم واقع العولمة، وهو ما يرجع إلى التفكير في الأخلاق، باعتبارها تظل مطلقة ونسبية في نفس الوقت، لأنها ليست صالحة إلا بالنسبة للإنسانية، وفي لحظة بعينها من تاريخها، وهي مطلقة نسبيا، لأننا نمتلك شعورا بكونها صالحة، من جهة الحق، للجميع، ونعاين ميلها بالنتيجة إلى الشيوع والانتشار في جميع الحضارات، على الرغم من مقاومة أصحاب النزعة الأصولية. إنها روح عصر الأنوار[8] - المضادة للتعصب وللنزعة العدمية- وروح حقبتنا، إن هي عرفت كيف تقاوم "حرب الآلهة"، كما يقول ماكس فيبر[9]، و"صراع الحضارات" كما نقول اليوم مع صامويل هانتغتون[10].

إن هذه النزعة النسبية وقد تم تلطيفها، وهي المفضلة عندي، لا تلغي كل خطر، حيث يمكن أن نقمع الآخر باسم العقل، بدرجة لا تقل عن القمع الذي يُقْترف باسم الله، وأن نخلط حضارته الخاصة بالحضارة، بذاك المعنى الذي نتحدث فيه عنها بصيغة المفرد، بوصفها نقيضا للهمجية أو البربرية. انظروا إلى النزعة الاستعمارية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث قام شكلان للتوتاليتارية؛ أحدهما هو النزعة الماركسية، المرتكزة على علم مزعوم بالتاريخ، والآخر هو النازية المستندة إلى انحراف ذي نزعة ظلامية[11] للبيولوجيا. إن الأخلاق ليست علما؛ وكل ادعاء أو زعم لفرضها باسم الحقيقي سرعان ما يصطدم بتعددية الأحكام والتقويمات التي غالبا ما تتشح بالصراع. فهل الرأسمالية مقبولة أخلاقيا؟ وماذا عن المثلية الجنسية؟ وعن الإجهاض؟ وعن القتل الرحيم؟ وهل يمكن القبول بالاستخدامات المرتبطة بالجينات في مجال الهندسة الوراثية؟ وهل يمكن الموافقة على مصارعة الثيران؟ الملايين من الناس الجريئين يتعارضون فيما بينهم بخصوص هذه الأسئلة، وما من وجود لأساس فلسفي يؤمِّنُ ويضمن اتفاقهم.

قبول المناقشة

إن الخيار الذي بقي لنا إذن هو القبول بالمناقشة، بل وحتى التصادم إن لزم الأمر، على أن يتم ذلك بأقل ما يمكن من كراهية وبجرعات زائدة من الحس السليم. لكن باسم أية قيم سنُقدِم على ذلك؟ باسم تلك القيم التي جعلها التاريخ تنبثق ببطء، ليس في الغرب فحسب؛ أي باسم الحب بدلا من الكراهية، باسم الرحمة بدلا من القسوة، باسم الاحترام بدلا من الاحتقار والازدراء، باسم العدالة عوض العنف، والتسامح بدل التعصب. وتبعا لأيّ معايير أو مقاييس؟ تبعا للإضفاء الممكن للكونية على المبادئ التي توجهنا (إنه معيار العقلانية، عقلانية كانط)، وتبعا لصالح الإنسانية والسعادة لأكبر عدد من الناس (وذاك هو معيار النفعية)، وفي الأخير تبعا لـ"القاعدة الذهبية"، المعبَّر عنها بصيغ مختلفة، في معظم الحضارات: "لا تفعل للغير، ما تكره أنت نفسك أن يٌفْعلَ لك". معايير لا تتقاطع فيما بينها أبدا، ولا واحد منها يكون كافيا بمفرده، لكنها تبقى أكثر تنويرا في اجتماعها، مقارنة باحترام نابع من تقليد من التقاليد دون أن يكون مُفَكَّرًا فيه، أو صادر عن نزعة قرارية مستحيلة وعبثية.

ما من أحد ابتكر قِيمَهُ الخاصة، بل الجميع تلقاها. لكن لا أحد له الحق في الخضوع الأعمى لتلك القيم التي تلقاها عن آبائه أو معلميه، دون أن يسائلها أو يواجهها بقيم أخرى. إن الفكر النقدي وحس الحوار، باعتبارهما فضيلتين فكريتين هما أكثر قيمة من الخضوع.

هل بإمكان هذه النزعة النسبية المُلَطَّفة حل كل المشاكل؟ طبعا لا. لكن لا شيء بمقدوره الاضطلاع على ذلك؛ وسيكون من غير الأخلاقي زعم العكس. إن الخير والشر ينِمَّان عن الرغبة، كما يشير برتراند راسل[12]. بعد سبينوزا، وليس عن المعرفة. فلو لم تكن فينا رغبة في السلام والعدالة وفي العقل، وفي الحرية، ما كانت لتكون هناك أخلاق ممكنة. لكن لو كانت رغباتنا كافية وكانت على أتم ما يكون الاتفاق في كل شيء ولدى جميع الناس، ما كانت لتكون هناك من ضرورة لأية سياسة.

[1] André comte-Sponville; Bien et mal: relativiser le relativisme, le Point Références; décembre 2016 - Janvier 2017 

[2] الأنطولوجيا: قسم من الميتافزيقا، ينطبق على الوجود بما هو موجود، في استقلال عن محدداته الخاصة. واللفظ يحيل إلى الفلسفة الأولى لأرسطو، لكنه شهد ظهوره في القرن السابع عشر الميلادي في "معجم الفلسفة""lexicon philosophicum" لـ GOCLENIUS (1613 - 1615) ونفس الشيء بالنسبة إلى مصطلح السيكولوجيا، الذي يعود الفضل في انتشاره وشيوعه إلى الأنطولوجيا (1729) لفيلسوف المثالي الألماني كريستيان وولف.

[3] المتعالي: ما يتجاوز العالم المحسوس، بالتعارض مع المحايث، وما يرتفع ويسمو فوق الآخرين (الفكر، الله، إلخ).

[4] محايث: اصطلاح فلسفي يشير إلى ما له مبدؤه في ذاته، بالتعارض مع المتعالي الذي يشير إلى مبدأ خارجي وأعلى.

[5] Conquistadors (الغزاة): مغامرون إسبان أبحروا بحثا عن القارة الأمريكية في القرن السادس عشر الميلادي، من بينهم نجد Hernan Cortés وفرانسيسكو بيزارو Francisco Pizarro الذين استعمروا على التوالي إمبراطورية الأزطيك (منطقة المكسيك حاليا)، وإمبراطورية الأنكا (البيرو وجبال الأنديز).

[6] وجهة نظر فلسفية تبعا لها يكون العالم مجرد من كل قيمة.

[7] مبحث اكتسب اسمه من العنوان الذي أعطاه في القرن الأول الميلادي لكتب أرسطو الأربعة عشر، ناشر متأخر هو أندرونيكوس الروديسي ANDRONICOS de RHodes، ففي نشرته، جاءت هذه الكتب بعد كتاب "الطبيعة أو الفيزيقا" لذلك حملت هذا الاسم (méta ta phusika). أما بالنسبة إلى الدارسين المحدثين (هايدغر، أوبانك....)، فإن الميتافيزيقا تصف تارة الموجودات من جهة ما هو مشترك بينها، وطورا من جهة ارتباطها بكائن أعلى وأسمى: الله. وعند نهاية القرون الوسطى، انقسمت الميتافيزيقا إلى ميتافيزيقا خاصة (الثيولوجيا، السيكولوجيا، الكوسمولوجيا) وميتافيزيقا عامة (الأنطولوجيا).

[8] حركة فلسفية وثقافية هيمنت على القرن الثامن عشر في أوروبا، وعلى الخصوص في فرنسا. تقوم على "العقل المتنور" للكائن الإنساني، وما ميزها هو تمجيدها لفكرة التقدم والحرية في مواجهة أشكال القمع الديني والأخلاقي والسياسي.

[9] عالم اجتماع ألماني (1854 - 1920)، يتم الاستشهاد به على الخصوص انطلاقا من كتابه" الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، الذي نشر في صورة مقالتين سنة 1904 و1905، وفيه يقوم بتحليل آثار الإصلاح البروتستانتي على النشاط الاقتصادي والرأسمالي. وهذا الكتاب من خلال نموذج تحليله لما هو اجتماعي، المتميز بتركيزه على الأفراد وبواعثهم، صار من بين الكتب الكلاسيكية لعلم الاجتماع، وبعد سنة 1905 سيتابع ماكس فيبر تحليله لديانات أخرى (الكونفوسيوسية، الهندوسية....)

[10] Huntington,Samuel (1927 - 2008) عالم سياسة أمريكي. أستاذ بجامعة هارفارد ومستشار للرئيس جيمي كارتر (الولاية الرئاسية التي امتدت من 1977 إلى 1981)، ما تميز به هو أنه قام سنة 1993 بالبناء النظري لنظام عالمي جديد يهيمن عليه صدام الحضارات، وبالنسبة إليه الحروب الآتية أو المستقبلية تعود إلى تعارضات صدامية بين الثقافات أو الأديان، والتطرف الإسلامي يبقى بمثابة التهديد الأكبر للعالم الغربي.

[11] نزعة مضادة لمذهب الأنوار القائم على العقل.

[12] RUSSELL, BERTRAND (1872 - 1970) فيسلوف بريطاني حاز جائزة نوبل للآداب سنة 1950، كرس حياته للتأمل حول المنطق والرياضيات وفلسفة المعرفة، والتي يعمل على وضع إبستمولوجيا كاسم لها سنة 1901 (وهو المصطلح الذي ستتم بشكل سريع مطابقته مع فلسفة العلوم).