عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية


فئة :  مقالات

عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية

عبء التاريخ: الخلاف بين علي ومعاوية

-يتبع-

كثير من الناس في العالم الإسلامي يعيشون حياتهم وهم مثقلون بعبء التاريخ وهمومه. وأكبر عبء عمَّر طويلاً في التاريخ الإسلامي يرتبط بوقائع وأحداث الفتنة الكبرى في زمن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. إذ افترق المسلمون حينها بين أنصار علي وأنصار معاوية. هذا الحدث لا يزال يلقي بظلاله على العالم الإسلامي، بالنظر إلى مختلف الطوائف والمذاهب، على رأسها الشيعة والسنة. ولا يزال البعض في القرن الواحد والعشرين يبني مواقفهم وتصوراتهم عن المخالفين لهم بناءً على سؤال مفاده: "ما قولك في معاوية؟ وما قولك في علي؟"، وهما شخصيتان تفصلنا عنهما حوالي 1400 سنة. هنا نعدل السؤال إلى صيغة: من هو معاوية بن أبي سفيان؟ كونه شخصية أثارت جدلاً كبيراً في التاريخ الإسلامي. أما علي بن أبي طالب فهو معروف لدى الجميع، ولا جدال بشأنه.

الجواب عن هذا السؤال يكون على وجهين:

الوجه الأول: أيديولوجي، عبر العمل على تشويه صورة معاوية أو تلميع صورته.

الوجه الثاني: علمي وموضوعي وواقعي، وذلك بفهم شخصية عثمان من خلال الواقع الذي عاش فيه، وهو الأمر الذي نسعى للاقتراب منه.

معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، وُلِد عام (15 ق. هـ / 608م)، وتوفي عام (60 هـ / 680م). كان صحابياً، ينتمي إلى عائلة بارزة في العرب. والده، أبو سفيان، كان زعيم قبيلة قريش في مكة. ينحدر معاوية من سلالة بني أمية من قبيلة قريش، جنباً إلى جنب مع سلالة بني هاشم من نفس القبيلة. ومن المعروف أن كل من بني هاشم وبني أمية كان بينهما صراع مرير قبل الإسلام، وتنافس على الزعامة. وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من نسب سلالة بني هاشم، بينما كان أبو سفيان من سلالة بني أمية.

وقد قاد أبو سفيان معارضة شديدة لدعوة الرسول عليه السلام، وله دور كبير في تأليب العرب ضدها منذ بداية الدعوة في عام 610م حتى فتح مكة في عام 630م. نذكر هنا أهم ما صدر عن أبو سفيان من قرارات سياسية، إذ صرخ في قومه وفي الناس جميعاً يوم الفتح، وهو ينقل إليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".

إذن، كان معاوية ابن أكبر زعيم في قبيلة قريش في مكة، قبل الإسلام وبعده حتى فتح مكة، وأثرت الزعامة في حياته وجعلت له دوراً كبيراً في التاريخ الإسلامي. ففي زمن الخليفة الأول أبو بكر الصديق، تولى معاوية قيادة الجيش تحت إمرة أخيه يزيد بن أبي سفيان، فكان على مقدمته أثناء فتح مدن صيدا وعَرقة وجبيل وبيروت. ثم، بعدما بويع عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين بعد أبي بكر، عيَّنه والياً على الأردن ثم على دمشق. وهذا يعني أن هناك إرثاً معنويّاً ورمزياً يرتبط بالزعامة والقيادة قد ورثه معاوية من أبيه أبو سفيان وعشيرته بني أمية. ولهذا، فالتاريخ سجل لنا أنه أسس دولة بني أمية وحوَّل الخلافة الراشدة إلى ملك، فحضوره منذ البداية كشخصية جدلية في التاريخ الإسلامي بدأ مع تفجير خلافه مع علي بن أبي طالب.

كان معاوية من الذين طالبوا بالثأر لمقتل عثمان بن عفّان (35 هـ / 656م)، وهو ما دفعه إلى قيادة المعارضين في دمشق، مركز ولايته منذ أيام عمر بن الخطاب. لم يقبل بالتنازل عن ولاية الشام، مما أدى إلى فتنة بين المسلمين، وانقسموا بين أنصار معاوية وأنصار علي، واندلعت مواجهات بين الطرفين أبرزها معركة صفين بين علي ومعاوية.

وهي معركة وقعت في أرض يُقال لها صفّين (منطقة قرب الرقة السورية حالياً) في عام 37 هـ / 657م، حيث ربح معاوية المعركة باللجوء إلى التحكيم، وذلك برفع المصاحف على الرماح، وهي مسألة ساهمت في تفكك صفوف جيش علي، حيث قسم بعضهم بين من قبلوا بذلك ومن اعترضوا عليه. ومن هنا ظهرت بذرة فرقة الشيعة الذين شيعوا علي، وفرقة الخوارج الذين خرجوا عليه.

بعد معركة صفين، وبعد تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية في عام 661م، سُمّي ذلك العام بعام الجماعة، حيث اتفق المسلمون على خليفة لهم بعد خلاف طويل. وكان هذا بداية تأسيس الدولة الأموية.

يرجع الجدل القائم حول شخصية معاوية بين السنة والشيعة قديما، إلى تلك اللحظة التاريخية التي اختلف فيها معاوية مع علي بن أبي طالب كما تعود للمعارك التي عرفتها مرحلة ما سمي بـ"الفتنة الكبرى" معركة "الجمل"، وقد شاركت فيها أمّنا عائشة ضد علي بن أبي طالب، وبعدها معركة "صفين"، فطبيعة الجدل الذي خلقته شخصية معاوية يعكس لحظة انشطار في التاريخ الإسلامي، وقد بقي ذلك الانشطار كخميرة بين حاضرة في التاريخ الإسلامي، بين أنصار علي وأنصار معاوية ولم يتوقف عنده، بل امتد الانشطار إلى زمن ابنه يزيد الذي ورَّثه الحكم من بعده؛ ففي زمن اليزيد بن معاوية وقعت معركة كربلاء سنة 61هـ/680م، وكانت بين الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي أصبح المسلمون يطلقون عليه لقب «سيد الشهداء» ومعه أهل بيته وأصحابه، وجيش تابع ليزيد بن معاوية، وتعدّ معركة كربلاء من أكثر المعارك جدلًا في التاريخ الإسلامي؛ إذ خلفت آثارا سياسية ونفسية وعقائدية بقيت موضع جدل على طول التاريخ الإسلامي.

موقع معاوية في التاريخ لا يختلف عن الموقع الذي يأخذه كل من له دور الريادة في تأسيس نظام من نظم الحكم والدولة باتخاذ مبادرات في القيادة والريادة، مثلا في التاريخ المغربي عندنا إدريس الأول ويوسف بن تاشفين والمهدي بن تومرت والمولى إسماعيل، فمعاوية هو واحد من الذين مروا في التاريخ وبصموه ببصمتهم، له ما له وعليه ما عليه.

هل كان ملكا أو خليفة؟ لا يهم إن قلنا إنه خليفة أو قلنا إنه ملك في آخر المطاف، فهو حاكم باسم الخلافة أو باسم الملك، هذه مجرد ألقاب أحدثها الناس لتدبير دنياهم ولتنظيم أمورهم السياسية والاجتماعية والمؤسساتية، وما ينبغي أن ننبه إليه هنا هو أن الإسلام لم يضع نمطاً معينا للسلطة السياسية، القيمة التي أكد القرآن على حضورها هي قيمة الشورى، لا يهم إن تحققت مع الخلافة أو الملك أو نظام آخر قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)﴾ (الشورى) قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾ (آل عمران) وألفت النظر بأن مفردة "ملك" في القرآن الكريم، اقترنت بالنبي داود وسليمان وغيرهم، المهم هو العمل على بسط نوع من العدالة الاجتماعية المرتبطة بالمكان والزمان.

بالنظر إلى الذين كانوا في الخلافة قبل معاوية، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فهم بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم بالنظر لمختلف القرارات السياسية التي قاموا بها، وقد وفقوا في الكثير منها، لكن هذا لا يعني أنهم ملائكة، مثلا أبوبكر عندما خرج لقتال الذين امتنعوا عن دفع الزكاة؛ أي ما سمي بحروب الردة، فينبغي أن نفهم اليوم بأن هذه مسألة سياسية، فأبو بكر قاد القبائل التي تريد أن تخرج عن سلطان الدولة حينها [بتعبيرنا المعاصر] وقد نجح في تثبيت قانون الدولة، فحروب الردة هي حروب سياسية من أجل الحفاظ على ما كان يدفعه الناس للدولة على عهد الرسول صل الله عليه وسلم (أي الزكاة) فهناك فرق بين ما قام به أبو بكر في لحظة زمانه، وبين طبيعة استرجاع ذلك الحدث عبر طول التاريخ الإسلامي، فطبيعة الاسترجاع أحيانا تكون بشكل تحضر فيه خلفيات ثقافية يحضر معها نوع من تصور ومخيال سلبي أو إيجابي عن طبيعة ذلك الحدث، بهدف القياس عليه في فهم حادثة جديدة، ومشكلة أن يتحول التاريخ وأحداثه خاصة تاريخ الخلافة الراشدة إلى مصدر للقياس عليه، مشكلة كبيرة جدًّا، تولدت على إثرها مشاكل كثيرة جدًّا... فهناك من يقيس ما يجري في الحاضر على سيرة سيدنا علي دون غيره، وهناك من يقيس ما يجري في الحاضر على تاريخ الخلفاء الراشدين... ونحن نتحدث هنا على طبيعة تفكير العقل الجمعي؛ أي عامة الناس وليس خاصتهم على طول التاريخ الإسلامي. فخلاصة الأمر ينبغي أن نتعامل مع كل هؤلاء بعقلية تحليلية نقدية، بمعزل عن مختلف الإسقاطات والقراءات المغلقة والطائفية لمرحلة الخلافة الراشدة، بالابتعاد عن التحيز لطرف معاوية أو لطرف علي... لقد ولّى زمانهم وانتهى الأمر، كنت مع علي أو كنت مع معاوية، فذلك لا يفيدك في شيء في العمل الصالح في الدنيا والآخرة، على الإطلاق لن يسألنا الله عن علي أو معاوية، وعلى الإطلاق لن يفيدنا معاوية أو علي في شيء في خضم زحمة العلوم والمعرفة الحديثة...

الإسلام إذن؛ أكبر من أسطوانة علي ومعاوية وكل من معهم. إنه أكبر من الصحابة وأكبر من التاريخ الذين عاشوه... الإسلام حالة من الوعي والعقل والعلم والنظر والتذكر والفكر والتفكر...إنه حالة سبق نحو العمل الصالح قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ (العصر) إنه من الحمق اليوم ومن السذاجة أن يربط البعض من الناس العمل الصالح بسؤال مفاده ما قولك في علي ومعاوية؟ مع العلم أن عليًّا ومعاوية كل منهما حسابه عند ربه، الرسول عليه السلام جاء على لسانه في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)﴾ (الأحقاف) قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾ (الأعراف).