لقاء حواري مع د. حمادي أنوار حول مؤلفه الجديد: "الدين بين العقل واللاعقل في فلسفة برغسون"

فئة :  حوارات

لقاء حواري مع د. حمادي أنوار حول مؤلفه الجديد: "الدين بين العقل واللاعقل في فلسفة برغسون"

لقاء حواري مع د. حمادي أنوار حول مؤلفه الجديد:

"الدين بين العقل واللاعقل في فلسفة برغسون"

"علاقتي ببرغسون لم تبدأ مباشرة معه، بل تعرّفت عليه من خلال وليام جيمس"

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير جميعًا،

نحيّيكم من مدينة الرباط، وتحديدًا من المعرض الدولي للنشر والكتاب. نواصل اليوم سلسلة لقاءات "مؤمنون بلا حدود"، ويسرّنا أن نستضيف الدكتور حمادي أنوار، لنهنّئه بصدور كتابه الجديد "الدين بين العقل واللاعقل في فلسفة برغسون". أهلًا وسهلًا بك دكتور، وألف مبروك على صدور هذا العمل، الذي سيكون محور جلستنا لهذا اليوم.

الدكتور حمادي:

الله يبارك فيك دكتور حسام، وأنا سعيدٌ جدًّا باستضافتكم. شكرًا جزيلًا.

د. حسام الدين درويش:

سنبدأ مباشرة، أو لعلّه من الأفضل، قبل الخوض في الأسئلة التفصيلية المرتبطة بمضمون الكتاب، أن أطرح عليك سؤالًا حول خلفية تأليفه: كيف وُلدت فكرة هذا البحث الفلسفي؟ ومن أين كانت انطلاقتها؟ ولمَ اخترت هذا العنوان تحديدًا؟ ثم كيف تطوّرت هذه الفكرة منذ بدايات اشتغالك عليها، إلى أن صدرت أخيرًا ضمن منشورات مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"؟ تفضّل، حدّثنا عن مسار هذه التجربة.

د. حمادي أنوار:

في الحقيقة، تعود فكرة هذا الكتاب تقريبًا إلى سنة 2012؛ أي خلال سنوات دراستي لنيل الإجازة في الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالرباط. آنذاك بدأت أولى خطواتي في الاشتغال على هنري برغسون، وكان ذلك من خلال بحث الإجازة، وهو أوّل لقاء جمعني بفلسفة برغسون. في البداية، كان الموضوع الذي تناولته هو "مفهوم الذاكرة في فلسفة برغسون"، وكان بإشراف الدكتور محمد هاشمي. غير أنه، وبعد مضيّ حوالي ثلاثة أو أربعة أشهر من البحث، حصل تغيير إداري على مستوى الإشراف على البحوث، حيث طُلب منّا تغيير المشرفين تبعًا لتخصصاتهم. ووجدت نفسي مضطرًّا إلى تغيير الأستاذ المشرف، بحكم أن موضوع الذاكرة لا يندرج ضمن اختصاصاته أو ضمن المجالات الموكول إليه الإشراف عليها، في حين كان ''التصوف'' من المواضيع المسندة إليه تدريسًا وإشرافًا. فأشار عليّ – نظرًا لأن التغيير صار إلزاميًّا – بأن أحتفظ ببرغسون كمجال للفكر والبحث، على أن أغيّر موضوع الدراسة، فانتقلت بذلك من "مفهوم الذاكرة" إلى "التصوف عند برغسون". ومن هنا بدأ مسار جديد في هذا المشروع الفكري. وجدير بالذكر أن علاقتي ببرغسون لم تبدأ مباشرة معه، بل تعرّفت عليه من خلال فيلسوف معاصر آخر هو وليام جيمس الذي كانت له معه حوارات عديدة، وكتَبَ كلٌّ منهما عن الآخر. أذكر أنّني درست مادة في سلك الإجازة حول "البراغماتية"، وتناولنا فيها فلسفة وليام جيمس، وحين بدأت أقرأ له، كتبت أول مقال في تجربتي الفلسفية تقريبًا، وكان بعنوان "الدين كتجربة والاعتقاد كإرادة عند وليام جيمس"، ونُشر على موقع "مؤمنون بلا حدود". انطلاقًا من وليام جيمس، تعرّفت أكثر على برغسون، وبدأ المشروع يتبلور. خلال اشتغالي على موضوع التصوف عنده، اكتشفت أن ما يجذبني في فلسفته هو أنه فيلسوف الحياة، بل أكثر من ذلك، فيلسوف روحاني، ولكن بروحانية غير متطرفة، متوازنة، منفتحة، وهذا ما أثار اهتمامي ودفعني إلى مواصلة البحث في فلسفته.

وجدت أن الروحانية عند برغسون، حين تُتلقّى في السياق العربي، تُفهم غالبًا وكأنها روحانية دينية أو لاهوتية، حتى إن برغسون يُقدَّم أحيانًا كما لو كان رجل دين أو إمامًا، أكثر من كونه فيلسوفًا. وهذا راجع، في رأيي، إلى الطريقة التي تُعرّب بها مفاهيمه، والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويه تصوره الفلسفي. وكما أشار ميرلوبونتي، أصبحنا إزاء "برغسونية بلا برغسون"؛ أي إن الفيلسوف غاب داخل هذا القالب العربي الذي حُشر فيه. وكأن اللغة العربية، بطريقة تلقيها له، لم تستطع أن تعبّر عن برغسون كما هو، وإن عبّرت عنه، فإنها تُخرجه بصورة فيلسوف ديني، أقرب ما يكون إلى الإمام الغزالي مثلًا، لا إلى فيلسوف حداثي.

د. حسام الدين درويش:

لقد تحدّثتَ عن سوء فهم واسع النطاق في تلقّي برغسون، سواء في السياق العربي أو حتى الغربي، بل وحتى لدى بعض شُرّاحه أنفسهم. ومع ذلك، حين تقدّمه، لا تدّعي أنك تطرح "برغسون كما هو"، لأنّ مسألة فهم المؤلّف كما فهم نفسه تُعدّ إشكالية في حدّ ذاتها. وأنت تعلم بوجود فرقٌ جوهريّ بين فهم النص وفهم الشخص لنصه؛ فالأول تأويلي، والثاني نفسي: كيف فكّر؟ كيف شعر؟ ماذا أراد؟ هذه كلها أمور تتعلق بعالمه الداخلي، الذي قد لا يكون قابلًا للنفاذ أو التحديد. من هذا المنطلق، أنت توجّه نقدًا لعدد من الشُرّاح، في كلٍّ من التلقي العربي والغربي. لكن، في نهاية المطاف، أليس هذا النوع من الفهم ذاته – أعني محاولة إدراك "ما قصده برغسون" – أمرًا قد لا يكون ممكنًا، بل وربما لا ينبغي ألا يكون هدفًا في حدّ ذاته؟ كيف ترى هذه المسألة؟

د. أنوار حمادي:

يمكن النظر إلى هذا الموضوع من زاويتين: من منظور برغسون وفلسفته. لدى برغسون فكرة تقول إن أيّ فيلسوف، بغض النظر عن توجهاته، يطرح فكرة واحدة لأول مرة، ويعمل على التعبير عنها في معظم ما يكتب. أول مشكلة يواجهها هي مشكلة اللغة، هل سينجح في التعبير عن تلك الفكرة؟ وبالتالي، تصبح كلّ كتاباته محاولات مستمرة ومتواصلة لقول تلك الفكرة التي كانت حاضرة في ذهنه من البداية.

ما كتب عن برغسون، سواء في العالم العربي أو الغربي، لا يعبّر عن جوهر فكره بشكل دقيق. فالأمر في النهاية يتعلق بالتأويل، وهذه التأويلات، في كثير من الأحيان، بعيدة عن جوهر الفكرة البرغسونية. وهذا لا يعني أنني أزعم وصولي إلى تلك الفكرة، لكن على الأقل حاولت. وقد كانت هذه المحاولة تهدف إلى تحرير الفلسفة البرغسونية، التي أراها فلسفة حيوية أنطولوجية، من البُعد الروحاني الذي يتم تضييقه وحصره فيما هو ديني.

إذا نظرنا إلى الفلاسفة الذين تأثروا ببرغسون، مثل دولوز، ميرلوبونتي، وحتى سارتر وجانكيليفيتش، نجد أنهم كانوا في الغالب معادين للدّين، وكانوا ينظرون إلى برغسون بنظرة تختلف عن تلك التي تلقيناها نحن. عندما نقول إن برغسون فيلسوف روحاني، فإننا في التلقي العربي نستخدم كلمة "روحاني" بطريقة غير محايدة، حيث يرتبط هذا المفهوم في الغالب بالدين.

د. حسام الدين درويش:

سيكون من المفيد أن نعود إلى مسألة مفهوم العقل واللا عقل. بالنسبة إلي، يمكن القول إن الفلسفة، عندما تُعلي من شأن التصوف، تبدو وكأنها تُخالف مبادئها؛ بمعنى آخر، إذا كانت الفلسفة قائمة على العقل والمنطق والعقلانية، فإن قولها بأن للعقل حدودًا لا يكون هنا بالمعنى الكانطي – أي حدود العقل كما حددها كانط – بل بمعنى الإقرار بوجود ما هو فوق العقل، أو ما يتجاوزه، بل ما هو "أفضل" منه. وبهذا المعنى، يبدو أن الفلسفة، في مثل هذا التوجه، تخون ذاتها.

سنعود لاحقًا إلى هذه الإشكالية، لكن دعني أبدأ بمسألة "الحدس الفلسفي". لقد تلقيتُ هذه الفكرة أول مرّة من فيلسوف سوري، على الأقل كما أعرفه، هو محمد بديع الكَسَم، الذي كان يتبنى منظورًا مشابهًا. وما لفت انتباهي في كتابك هو قولك إن برغسون كان يسعى إلى، أو كان مصرًّا من ناحية ما، على، ألّا تكتمل فلسفته؛ أي أن تظل منفتحة على تجدّد دائم. وقبل قليل، كنّا نتحدّث عن مسألة المسؤولية: إلى أيّ حد يمكن لهذا التجدّد أن يكون حقيقيًّا؟ هل هو جديد بالفعل، أم مجرد إعادة إنتاج لما سبق؟

أنت تشير إلى أن الكتابات الأولى لا تتضمن اللاحقة، بينما الكتابات اللاحقة تتضمّن الأولى. وإذا كان الأمر كذلك، قد يبدو في ذلك تعارضًا مع الفكرة القائلة إن الفلسفة هي حدس أوّلي، وما يأتي بعده ليس إلا شرحًا أو تفصيلًا لذلك الحدس. فإذا كان هذا الحدس حاضرًا بالفعل في الكتاب الأول، فكيف نفهم التطور اللاحق؟

هناك سلسلة من الأبحاث تبدأ من "بحث في المعطيات المباشرة للوعي"، ثم تتواصل في التطور الخلّاق، وصولًا إلى الفكر المتحرّك، الذي اعتبرته يمثل ذروة الفكرة البرغسونية، ومنبعًا لمفاهيم الدين والأخلاق. انطلاقًا من هذا المسار، كيف يمكن فهم العلاقة بين المؤلفات؟ هل الكتاب الأول يتضمّن بالفعل الحدس الفلسفي الذي سيتم شرحه لاحقًا؟ أم إن هناك تطورًا حقيقيًّا وجديدًا لا تختزنه الكتابات الأولى؟

د. حمادي أنوار:

قلتُ إن هذا الفاصل بين بدايات فلسفة برغسون ونهاياتها لا يعني وجود قطيعة، بل المقصود أن فلسفة برغسون، بوصفها فلسفة ترفض النهايات، لا تُبنى على نظام خطي يُفضي إلى خاتمة مغلقة. وهذا لا ينفي وجود خيط ناظم يربط بين المنطلق والنهاية، بل على العكس، ما أردتُ الإشارة إليه هو أن هناك فكرة جوهرية تؤسس لفلسفة برغسون وتربط بين جميع كتبه، وهي فكرة الديمومة.

فكلّ فلسفة، لدى أيّ فيلسوف، تنطوي على جانبين: جانب المذهب، وجانب المنهج. إذا تحدثنا عن الفلاسفة الكلاسيكيين بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن مذهب الفيلسوف هو التصور الميتافيزيقي الذي يطرحه؛ إذ لا يوجد فيلسوف كلاسيكي- بحسب العديد من الدارسين- لا يحمل تصوّراً ميتافيزيقيًّا معيّنًا. أما عند برغسون، فإن مذهبه هو الديمومة، بينما منهجه هو الحدس.

الحدس، رغم أن برغسون قدّمه كحلٍّ، إلا أنه يطرح إشكالًا فلسفيًّا. ففي كتابه عن برغسون، عبّر جيل دولوز بدقة عن هذا الإشكال قائلاً: «كيف يمكن للحدس، الذي يحيل على معرفة مباشرة، أن يُشَكِّلَ منهجًا، في الوقت الذي يستدعي المنهج، أساسًا، شكلًا أو أشكالًا متعددة من الوساطة؟».

الخيط الناظم بين جميع كتب برغسون، كما قلتُ، هو فكرة الديمومة. وهذه الفكرة حضرت منذ الكتاب الأول، "بحث في معطيات الوعي المباشرة "، الذي يتميز بتمييز أساسي بين الزمن بوصفه كمًّا مادّيًا. وقد وصف جون فال هذا الكتاب، قائلاً إنه كتاب "ضد كانط" أو "كتاب لا كانطي"؛ بمعنى أنه ضد التصور العقلاني المادي التكميمي والحساب. في هذا الكتاب، ميّز برغسون بين تصورنا المادي والكمّي للزمان، وقدم فيه البديل، وهو تصور آخر سماه بالديمومة أو الزمن المعيش. وهنا تتأسس الثنائية التي ستطبع مجمل فلسفته: نقد العلم (وخاصة في شقّه الكمّي)، ثم نقد العقل ذاته. في كتابه الآخر، "المادة والذاكرة"، يسير برغسون في الاتجاه نفسه، مميّزًا بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة الخالصة، وهي ذاكرة "روحية" لا مادية، لا تقوم على الاسترجاع الآلي أو الحفظ الحرفي، ثم الذاكرة الروحية وهي الذاكرة الخلاّقة/ المبدعة، والتي لا تعني أن نحفظ شيئًا ونسترجعه كما هو، بل دائمًا هناك دفقٌ وانسيابية. في الكتاب الآخر "التطور الخلاق"، بدأ برغسون في تعميق التمييز بين الحيوي بالدرجة الأولى والمادي في أفق بلوغ الروحاني اللامادي.

د. حسام الدين درويش:

المطلوب هنا ليس شرحًا تفصيليًا لكلّ كتاب، بل السؤال هو: هل يمكن اعتبار هذا السؤال في حدّ ذاته سؤالًا فلسفيًا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم أو كلا، فالأرجح أنه لا وجود لـ"نعم" مطلقة ولا "كلا" مطلقة. هل ترى أنه، إذا طبقنا الرؤية البرغسونية على برغسون نفسه، يمكن القول بحدوث حدس فلسفي منذ كتابه الأول بحث في المعطيات المباشرة؟ أو بصيغة أخرى: هل ثمّة جدة فلسفية ظهرت في مؤلفاته اللاحقة لم تكن متضمَّنة أو مستبقة في هذا الكتاب الأول؟

د. حمادي أنوار:

إذا أردتُ الإجابة مباشرة، فإنني أقول: نعم، لقد كان هناك حدسٌ فلسفيٌّ فعلي. وهذا الحدس هو الذي سيُختتم به مشروعه الفلسفي في كتابه الأخير منبع الأخلاق والدين، من خلال ثنائية الانفتاح والانغلاق. جميع الثنائيات التي أشار إليها في كتبه، تتأّسس في جوهرها على هذه الثنائية: المنفتح والمنغلق. وقد استلهم المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي هذه الفكرة، وكتب كتابًا يحمل هذا العنوان. إذن، المنفتح والمنغلق يمثلان عند برغسون تصوّرًا فلسفيًّا انطلق من ضرورة تجاوز كلّ ما هو منغلق، متزمّت، جامد، كمّي، ومكاني، ودعا بدلًا من ذلك إلى ضرورة الانفتاح على الحيوي، والخلّاق، بل والروحي، على أساس أن الروحي ليس دينيًّا بالضرورة، وإنما هو اللامادي.

د. حسام الدين درويش:

بالتأكيد، لا يمكن اختزال الروحي في الديني، وهذا مبدأ أساسي. لكن إذا عدنا إلى مسألة "الحدس"، تجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم في اللغة العربية يبدو مظلومًا، حتى على مستوى الصياغة اللغوية. فمثلًا، كلمة "حدوس" لا تُعدّ جمعًا مقبولًا لغويًّا، على الرغم من أنها مطلوبة من الناحية المفهومية، ما يجعل خيانة اللغة أمرًا ضروريًا لتوسيع الدلالة.

وإذا تأملنا مفهوم الحدس من جديد، يمكن طرح السؤال التالي: هل الفلسفة حدس؟ أي: هل تنطلق الفلسفة من رؤية أوليّة مباشرة، لا من تفكير متدرج؟ وعلى الرغم من أن هذه الفرضية ممكنة، فإنني – دون أن أختزل – أميل إلى الرؤية الكلاسيكية للفلسفة: أنها ليست رؤية مباشرة، بل تفكُر (réflexion)؛ أي إنها ليست مجرد تفكير عادي، بل تفكير في الفكر، تأمّل في ذواتنا، وتفكير في هذا التأمل. من هنا، لا تبدو الفلسفة فعلًا مباشرًا، بل سيرورة تتوسّطها عمليات معقدة. لا نفكر في الأشياء فقط، بل نفكر في كيفية تفكيرنا فيها، وكيفية تفكير الآخر في تفكيرنا فيها ... وهكذا تظهر شبكة كثيفة من التوسطات.،

الحدس، كما يبدو في الفلسفة البرغسونية، يتجاوز هذه الشبكة؛ فهو يُقدَّم كمعرفة مباشرة، كما لو أن الفيلسوف يولد فلاسفة بالفطرة، بالموهبة، لا من خلال التجربة، ولا من خلال التفاعل والقراءة والتراكم. من هنا، سأحاول أن أُبيّن محدودية هذا التصور القائل إن الفلسفة مجرد حدس، أو لنقل إمكان نقده

ليس الهدف نفيُ الحدس، بل مساءلته، وطرح الحجج التي تُسنده أو تُضعفه: إلى أيّ حد يمكن اعتبار الفلسفة معرفة مباشرة، معرفة تشبه المهارة الفطرية أكثر مما تشبه عملية التفكير، أو التأمل، أو التوسّط؟ فإذا أخذنا، مثلًا، التعريف الهرمينوطيقي للمعرفة الذاتية، نجد أن معرفة الإنسان لنفسه لا تكون مباشرة، بل تمرّ عبر معرفة كيف رؤية الآخر، ثم كيف يرى الآخر معرفتنا لذواتنا. أما الحدس، كما يُطرَح أحيانًا، فيُقدّم رؤية مغايرة تمامًا للفلسفة. أين تكمن معقولية هذا الطرح؟ وهل يمكن الدفاع عنه فلسفيًا؟

د. حمادي أنوار:

نعم، قد أتفق معك في هذا النقد، ولكن فقط إذا اعتبرنا أن الحدسَ تجربةٌ تقطع نهائيًّا مع العقل. نحن نعلم، من الناحية الفلسفية، أن الحدس عند ديكارت ليس هو الحدس عند كانط، وليس هو الحدس عند برغسون. برغسون يؤكد مسألة أساسية تتعلق بالحدس، ويقول - ما معناه - إن الحدس لا يقطع مع العقل. أن تكون فيلسوفًا حدسيًّا لا يعني أن تتخلّى عن العقل، أو عن مبادئه وقيوده. ولكنني سأطرح سؤالًا: هل جميع الأفكار التي تتناولها الفلسفة هي أفكار يمكن للعقل أن يفكر فيها؟

هناك الكثير من التجارب، خصوصًا في ميدان الميتافيزيقا، بوصفها الجزء الأعمق في الفلسفة، نُفكّر فيها بالعقل، بينما العقل في الحقيقة لا سلطة له عليها، بل كثيرًا ما يكون عاجزًا عن قول أيّ شيء حاسم بشأنها. ما الذي يحدث؟ الذي يحدث أننا، بدلًا من التوجه مباشرة نحو الموضوع الذي نرغب في التفكير فيه، نلتفّ حوله. فعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نفكر في السعادة، فلن نجد أنفسنا نفكر في السعادة ذاتها، بل في مواضيع قريبة منها، تلامسها، تلتقي معها، ولكنها ليست هي السعادة.

د. حسام الدين درويش:

هل تستطيع الفلسفة، أو هل يستطيع العقل، أن يتناول كلّ الأشياء؟ قد تكون الإجابة واحدة (كلا)، لكن هذه الإجابة الواحدة تؤدّي إلى اتجاهين مختلفين؛ فالإجابة ب (كلا) تكاد تكون موضع اتفاق: العقل، أو الفلسفة، لا يستطيعان أن يتناولا كل ما يُزعَم وجوده من أشياء. لكن لننظر في الاتجاه الكانطي، كانط يجيب ﺑ (كلا)، انطلاقًا من فكرة وجود حدود للعقل. ووفقًا لنقائض العقل المحض الأربعة، على الأقل، يؤكد أن هناك أمورًا لا يمكن للعقل أن يُصدر فيها حكمًا حاسمًا، كخلود النفس، ووجود الله، وقدم العالم ونهايته، وطبيعة العالم البسيطة او المعقدة. لكن ما الذي فعله كانط؟ التزم بحدود العقل، لم يقل إن هناك ملكة أخرى، أو طريقة معرفيّة أخرى يمكن من خلالها بلوغ هذه الحقائق، بل دعا إلى احترام حدود المعرفة العقلية؛ بمعنى آخر، هو يرى أن من يحاول إثبات أو نفي وجود الله، فهو يتجاوز حدود المعرفة العقلية. هذا هو الاتجاه الكانطي، وأنا - شخصيًّا -أميل إليه بعض الشيء. لكن من ناحية أخرى، وهنا أظنّ أن برغسون يمثل موقفًا مغايرًا، فهو أيضًا يقول: "هناك شيء آخر"، هناك إمكانية أخرى للمعرفة، والمشكلة هنا أنه أفضل؛ يعني هناك طريقة موثوقة لمعرفة ما لا يمكن بالعقل معرفته.

د. حمادي أنوار:

ما الذي فعله برغسون عندما بلغ النقطة نفسها التي توقّف عندها كانط؟ يمكن القول إن كانط، حين بلغ حدود العقل، توقّف. لم يُقدّم أفقًا حقيقيًّا لتجاوز هذا المأزق. أما برغسون، فعندما واجه الحدود نفسها، لجأ إلى تجارب أخرى، خارج الإطار الفلسفي التقليدي، باحثًا عن إمكانيات معرفية بديلة. وجد، مثلًا، في تجارب الشعراء والأدباء، وخصوصًا المتصوفة، أفقًا جديدًا. لاحظ أن هؤلاء -على عكس الفلاسفة - يبدون قادرين على تقديم إجابات عن إشكالات وقضايا استعصت على العقل الفلسفي. ويعبّر عن ذلك في صيغة مقارنة جميلة؛ إذ يقول: "الفلاسفة فكروا في قضايا وإشكالات ولم يجدوا لها حلاً، بينما المتصوفة وجدوا حلولًا لقضايا لم يفكروا فيها". وحين نتمعّن في ما يقدّمه الفنّانون أو الشعراء، نلمس عبر حدوسهم - بين قوسين - بعض الإجابات عن الأسئلة العميقة التي عجز الفلاسفة عن حسمها. وتتجلى هذه المفارقة أيضًا في تجربة هايدغر؛ فبالرغم من وفائه للعقل ومساره الفلسفي التأويلي، فإنه في النهاية لجأ إلى الشعراء.

د. حسام الدين درويش:

ربما كانت العلاقة مع الشعراء قوية منذ البداية، لكنني أودّ هنا التركيز على مسألة الفلسفة والتصوف. قيمة الفلسفة، أو على الأقل ما يُفترض أن تكون عليه، هي أنها ذات طابع كوني. والمقصود بالكونية هنا هو أنها، حين تتحدث باسم العقل، تخاطب ما هو مشترك بين البشر، بصرف النظر عن انتماءاتهم الثقافية أو الجغرافية. فإذا كنتُ سوريًا، وهذا مغربي، وذاك ألماني أو أمريكي، فإن العقل – كما قال ديكارت – هو "أعدل الأشياء قسمة بين الناس"؛ أي إن هناك عناصر مشتركة يمكن أن نتفاهم ونتحاور بواسطتها. أما التصوف، فتكمن إشكاليته – من هذا المنظور – في أنه أقرب إلى التجربة الفردية. فإن لم تعش التجربة، لا يمكنك أن تنقلها إلى الآخرين بلغة مشتركة. ومن ثم، فهو يفتقر إلى البُعد الكوني. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن أخلاق المتصوفة تكشف عن تقاربٍ ملحوظ بين أتباع الديانات المختلفة، سواء كانوا مسيحيين، أو مسلمين، أو يهودًا، أو غيرهم. ففي بعده الأخلاقي، يبدو أن التصوف يلتقي مع تجارب دينية متنوعة، بما يخلق أرضية مشتركة عابرة للأديان. لكن إذا عدنا إلى مسألة الحلّ المعرفي، نلاحظ أن الحلّ الذي يقترحه المتصوف هو حلّ فردي أو فرداني؛ أي إن الحقيقة تُبلغ عبر تجربة شخصية لا يمكن نقلها أو إعادة إنتاجها. فأنت، إن خضت التجربة، قد تصل إلى الحقيقة، لكنني لا أستطيع أن أبلغها من خلالك؛ لأنها لا تُنقل بالعقل ولا تُدوّن بلغة عامة. في المقابل، المعرفة العقلية يمكن نقلها ومشاركتها، مما يجعلها أكثر قابلية لأن تكون كونية. وهكذا، فإن ما يُفضّله برغسون – من حدس وتجربة باطنية – يظلّ، من هذا المنظور، أقلّ كونية من الفلسفة العقلانية.

د. حمادي أنوار:

في مسألة التصوف، ينبغي أن نتساءل: هل ما يقصده برغسون بالتصوف هو ذاته ما يقصده المتصوفة أنفسهم؟ فبرغسون، في كتابه الأخير، أشار إلى أن التصوف يمكن أن يُعتمد عليه كمنهج مساعد لحلّ بعض القضايا والإشكالات الفلسفية. لكن ينبغي الانتباه إلى أن برغسون لم يستعمل مصطلح Soufisme (الصوفية) كما هو معروف في التراث الإسلامي، بل استخدم ألفاظًا أخرى في كتاباته الفرنسية مثل:

Mysticisme، وMystique، وMysticisme (بصيغ متعددة)، وMystère، وMystérieux - وكلها تدور دلاليًّا حول مفهوم واحد هو السرّ.

د. حسام الدين درويش:

اللاعقلانية هنا تعني أنّ العقل لا يستطيع النفاذ إلى السرّ، ولا يمكنه الولوج إليه.

د. حمادي أنوار:

تمامًا. إذن، في هذا السياق، تصبح تجربة الفنان تجربة سرّية، إذا استخدمنا مصطلح "السرّية" بدلًا من "الصوفية" أو "الميتافيزيقية. فإن تجربته - كالموسيقي مثلًا - ليست بالضرورة تجربة دينية، بل هي تجربة لا مادية، محاولةٌ لاستغوار تلك الأسرار التي يعجز العقل عن الوصول إليها. إنها تجربة ذاتية لا يمكن نقلها، ولكنها - وهذا مهمٌّ - ليست الخيار الأول، بل هي مآلٌ نهائي، لا يصل إليه المتصوّف أو الفنان إلا بعد أن يُجَرّب سائر الوسائل: الحس لم يُجدِ نفعًا، والعقل لم يُفلح، فتأتي هذه التجربة كآخر ملاذ في مواجهة الإشكالات الوجودية الكبرى. وهنا، لا يمكن للإنسان إلا أن يُبدع - ولو وهمًا - ما يساعده على تجاوز تلك الإشكالات. وفي هذا الإطار، لا يكون الدين في كتاب "منبعا الأخلاق والدين" مجرّد ثنائية معتادة (الدين والعقل) كما نراها في النقاشات اللاهوتية أو حتى في فلسفة الدين، حيث غالبًا ما ينحصر الحديث في مسألة: هل الدين عقلاني؟ هل الله موجود أو غير موجود؟ بل إن الإشكال عند برغسون هو أعمق من ذلك: كيف لعقل محدود أن يكون هو نفسه منشئًا للدين؟

وفي هذا السياق، يورد برغسون قولًا لافتًا جاء فيه ما معناه: "يا للعجب، ما أغرب ما فعله الناس حين اعتبروا الإنسان كائنًا عاقلًا!" فكل التجارب الوجودية التي نحياها، وما يفيض عنها من خيالٍ، وانفعالٍ، وتوق إلى المطلق، تشير إلى أن هذا "العاقل" ليس عقلانيًّا. وهذا هو الإشكال؛ لأن العقل هو الذي أبدع لنا الدين. فبعد أن خيّبَ هذا العقلُ آمال الناس فيه ظهرت ملكتهم التخريفية والتخييلية فنأَتْ بهم عن جمود العقل وتصلبه وحدوده؛ وأبدعت لهم الدينَ بوصفه تجربةً بوعود جديدة وآمال مفتوحة.

د. حسام الدين درويش:

أنا أوافق على أن هناك نقدًا شديدًا يمكن أن يُوجّه إلى العقل، سواء كما يُصوّر، أو كما يُوظف، أو كما يُستخدم. لكن رغم ذلك، وعند قراءتي للكتاب، كان قلبي يميل إلى الدفاع عن العقل، بل شعرت بتعاطف شديد معه. لكن إذا عدنا إلى مسألة التوظيف. ثمة قول منسوب لسقراط، مفاده أنه يفضل أن يكون سقراط العاقل على أن يكون خنزيرًا مترفًا، أو سقراط البائس؛ بمعنى أن الفيلسوف سقراط كان يفضل العقل مع البؤس، والوعي مع البؤس، على السعادة مع الجهل. فسقراط كان يفضل العقل حتى وإن صاحبه البؤس على السعادة التي تأتي مع الجهل. لكن إذا انتقلنا إلى مسألة التوظيف، فإنني سأذهب إلى مسألة توظيف برغسون نفسه وفلسفة اللاعقل، إلى أيّ حد ترى أننا في العالم العربي، سواء في المغرب أو في المشرق، بحاجة إلى تأسيس نظري أو دعم لفلسفة اللاعقل؟

قد تقول لي: "إلى أيّ حدّ هي صحيحة؟" هل نحن بحاجة إلى عقل أكثر، أم إلى عقل أقل؟ هل ترى أنه يجب علينا الوصول إلى الحدود المثلى للعقل قبل أن ننتقل إلى ما وراءه؟ كما هو الحال في النقد الذي وُجّه للعقل، سواء في الحداثة أو ما بعد الحداثة. إذا كانت المسألة تتعلق بالتوظيف - بغض النظر عن حقيقتها - ألا ترى أنه يمكن إساءة توظيف هذه الفكرة؟ بمعنى أنه يمكن تأسيس أو دعم توجهات لا عقلانية قد تراها أنت بنفسك سيئة أو سلبية أو ضارة. وبالتالي، بغض النظر عن الموضوعية أو الحقيقة التي تحملها هذه المعرفة، قد يكون التوظيف هو الأكثر إشكالية ويحتاج إلى حذر.

د. حمادي أنوار:

في نظري، يمكننا التفكير في التأسيس للاعقل، هذا إن افترضنا أننا لسنا مجتمعات غارقة في اللاعقل أصلًا. لكن الواقع يشير إلى أننا غارقون فعلًا في اللاعقل، غير أن الخطوة الأولى التي ينبغي علينا القيام بها هي تحديد طبيعة هذا "اللاعقل" الذي نحن غارقون فيه؛ وذلك بمقارنته بأنماط أخرى من اللاعقل. وهنا، لا بد أن أكون دقيقًا تمامًا في العبارة؛ لأننا أمام رؤية فلسفية تتطلب تمييزات دقيقة.

اللاعقل، كما يطرحه الكتاب، يتخذ مستويين. بالفرنسية يُعبّر عنه بـ l’irrationnel وl’irrationalisme.

الـ l’irrationnel ينقسم بدوره إلى مستويين:

ما دون العقل (infra-rationnel)، وهذا هو المستوى الذي يبدو أننا غارقون فيه. ويشمل التخريف، والتخييل، والشعوذة، والسحر، وسائر الممارسات التي تقع دون مستوى العقل.

ما فوق العقل (supra-rationnel)، وهو المستوى الآخر من اللاعقل؛ أي اللاعقل الذي يتجاوز العقل، لا الذي ينحدر دونه.

لكن هذا اللاعقل المتجاوز للعقل يشترط شرطًا أساسيًّا: لا يمكن إطلاقًا التأسيس للاعقل دون المرور بالعقل. هذا النوع من اللاعقل له قاعدة، له أساس، وينبغي أن أضع قدمي أوّلًا على أرضية صلبة هي العقل، لكي أقفز منها نحو اللاعقل. أما من لا يمتلك هذا الأساس العقلاني، فعلى ماذا سيضع قدمه؟ لن يجد مرتكزًا يستند إليه لكي يقفز هذه القفزة. نحن في عالمنا غارقون في اللاعقل، لكننا غارقون في ما دونه.

د. حسام الدين درويش:

لقد سبقنا المراحل، فلماذا لا نمر أوّلًا عبر العقل ثم ننتقل إلى ما بعد العقل؟ نحن نبدأ مما بعد العقل، وكأننا انتهينا من المسألة.

د. حمادي أنوار:

نجد هذا فعلاً في بعض التجارب في العالم العربي الإسلامي، تاريخيًّا، خصوصًا في تجارب التصوف الموسومة بالاعقلانية؛ لأن "اللاعقل" فيها سُمِّي بمسميات عديدة: سُمِّي خيالًا، وإلهامًا، وإبداعًا، وأن كلّ متصوّف أو فيلسوف، في هذا التراث، قد تحدّث عن مراتب عديدة للعقول.

إذن، هناك مسميات متعددة تشير إلى حضور اللاعقل، ويمكن القول إن العالم العربي الإسلامي قد عرف اللاعقل منذ قرون. فعندما نأخذ، مثلًا، تقسيم الجابري العقل إلى: العقل البياني، والعقل البرهاني، والعقل العرفاني، نلاحظ أنه قلّل من شأن العرفان، وقلّل من شأن البيان، وأعلى فقط من شأن البرهان.

د. حسام الدين درويش:

جاء طه عبد الرحمن وقلب المعادلة؛ فقد انتصر للتصوف؛ أي إنه في النهاية منح الأولوية للعقل العرفاني، وإن أطلق عليه اسما مختلفة، لكنه في الجوهر ذاته. انتصر للتصوف، وانتهى إلى أن التصوف هو الحلّ. صحيح أن هذا ليس موضوعنا الآن، لكن ما حدث هو قلبٌ في ترتيب الأولويات. فإذا كان الجابري قد جعل العقل البرهاني في المرتبة العليا، فإن طه عبد الرحمن قلب هذه المعادلة، وأعطى الأولوية للعقل العرفاني.

إذا عدنا إلى عنوان الكتاب "الدين بين العقل واللاعقل"، وهي صيغة صارت شائعة التداول، لكن عمليًّا كان الحديث دائمًا عن الدين بوصفه يقع بين ثنائيات: العقل والإيمان، الإرادي واللاإرادي، المعقول وغير المعقول. من جهة، هناك محاولات لعقلنة الدين؛ بمعنى تقديم الإيمان بالله لا كمسألة إيمانية شخصية فقط، بل كقضية لها أدلة وبراهين؛ أي لكل شيء في الدين سند عقلي. ومن جهة أخرى، هناك طرح مغاير، يرى أن الإيمان لا يقوم على البرهان، بل على العكس: "أنا أؤمن لأنه ليس لديّ برهان". وهنا يصبح الإيمان شكلًا من أشكال الثقة التي تتجاوز العقل الأداتي أو الحسابي؛ فالثقة ليست مجرد عملية عقلية حسابية.

ماذا أضاف برغسون في هذا السياق؟ نعرف أن العلاقة بين الدين والعقل ليست جديدة؛ فحتى في القرون الوسطى المسيحية، وُجد شعار مثل: "اعقل كي تؤمن، وآمن كي تعقل". هنا العنوان "الدين بين العقل واللاعقل" علام يدلّ من منظور برغسون؟

د. حمادي أنوار:

بالنسبة إلى برغسون، فالدين دين، والعقل عقل. وهذه مسألة أساسية لا ينبغي أن نغفلها. في فلسفة برغسون، ثمة نزعة براغماتية، تُشبه إلى حدّ كبير ما نجده عند ويليام جيمس؛ فهو فيلسوف يميل إلى الطابع العملي، ولم يكن من اهتمامه معالجة إشكالية عقلانية الدين أو معقوليته، بل على العكس، كما قلتُ في البداية، برغسون حاول أن يقف عند منبع الدين، عند الكيفية التي نشأت بها التجربة الدينية. يحسم برغسون الموقف: المسألة ليست عقلية، ولا عقلانية إطلاقًا. والدليل على ذلك هو أن الإنسان لم يتوصل إلى تجربته الدينية من خلال العقل بالمعنى الكلاسيكي؛ أي العقل الحسابي، الدقيق، المنطقي المنظّم، بل إن الأمر جرى بالعكس: لم يُفضِ العقل إلى الدين بوصفه نتيجة طبيعية، بل إن لحظة ما قد دفعت العقل ذاته إلى الانسحاب والتراجع، بعدما أدرك محدوديته، بل ووقوفه عائقًا أمام انبثاق الحياة واستمراريتها. في تلك اللحظة، يتحول العقل - الذي كنّا نظنّه حلاًّ - إلى مشكلة. فلا نستطيع أن نحيا الحياة الكاملة ونحن أسرى عقلانية متشددة. في هذه النقطة، يتخلّى الإنسان عن عقلانيته، ولكنه يتخلّى عنها من داخل العقل ذاته، عبر فكرة جوهرية في فلسفة الدين عند برغسون، وهي: فكرة الموت. العقل، بحسب برغسون، يفضي بنا إلى يقين أساسي هو: حتمية الموت. وهذا اليقين، بما يحمله من خوف وجودي، يُربك العقل، ويُفقده توازنه، ويجعل مبادئه تتفكك. وهنا يبدأ الإنسان في التفكير بطريقة مختلفة، بمنطق لا يُشبه منطقه المعتاد. وتبدأ ملكة جديدة في الظهور، يطلق عليها برغسون اسمًا مميّزًا La fonction fabulatrice "الوظيفة التخريفية" أو "الملكة التخييليّة"؛ هذه الملكة ـ التي هي أقرب إلى الغريزة ـ تُولد من عمق الطبيعة البشرية.

فبرغسون، خصوصًا في كتابه "التطور الخلاق"، يؤكد أن العقل لا ينفصل عن الغريزة، ويقول بوضوح إنه لا وجود لعقل خالص؛ إذ دائمًا ما يحيط به شيء من الغريزة، كما تحيط بالغريزة أهداب من العقل أيضاً. تلك الأهداب الغريزية التي تحيط بالعقل، هي التي تظهر في لحظة مواجهة الحياة، في شكل إرادة البقاء، ما سماه شوبنهاور بـ "إرادة الحياة". هنا يصل الإنسان إلى فكرة لا مفرّ منها، ويعبّر عنها برغسون في كتابه الأخير "منبع الأخلاق والدين"؛ إذ يقول: "قبل أن نفكر، قبل أن نتفلسف، ينبغي أولاً أن نعيش".

تصبح إرادة الحياة أقوى من إرادة المعرفة، وأشدّ من إرادة التعقل. في هذا الموضع، تسطو الغريزة على العقل، وتفرض، إن صحّ التعبير، منطقها الخاص، فيتراجع العقل أمام قوة فكرة الموت، وأمام استحالة مواصلة الحياة في ظلّ تعقل مفرط. وهنا تبدأ تلك الملكات التخريفية في الظهور، وتظهر معها إمكانيات لا عقلانية، وأوهام، ورؤى بديلة للحياة. ومع النسيان، أو التناسي، يستطيع الإنسان أن يستأنف الحياة بعد أن تنحّى العقل جانبًا. بهذا المعنى، يصبح الدين، عند برغسون، ردَّ فعلٍ دفاعي، ردّ فعل الإنسان ضد ماذا؟ ضد عقلانيته نفسها، ضد مبالغة العقل في ادّعاء الفهم والسيطرة.

الدين، إذن، يُمثل ردّ فعل طبيعي للإنسان، حين يخيب أمله في قدرة العقل على إدراك الحياة، وحين يُدرك أن العقل، بدل أن يكون مُعينًا، صار عائقًا. لقد خيّب العقلُ أمل الإنسان مرتين:

أولًا، في وهمه بقدرة العقل على تفسير كل شيء.

وثانيًا، في عجزه عن تمكين الحياة من الاستمرار بحرارة معناها.

فإذا أردتَ أن أحيا، فلا يمكن لي أن أعيش حياةً مكتملة وأنا عاقل. حتى من حيث اللغة، نجد في العربية دلالة عميقة لكلمة "عقل". وبرغسون يقولها صراحةً في "التطور الخلاق": ما يميّز العقل هو عجزه الطبيعي عن فهم الحياة، وفي مرحلة أخرى، يصبح عائقًا أمامها.

د. حسام الدين درويش:

إذا ربطنا هذه المسألة - أي مسألة الدين - بالإرادة الحرّة، فإن السؤال يصبح: إلى أيّ حد يمكن أن نفهم هذه الرؤية الأنطولوجية (أي رؤية تتعلق بطبيعة الوجود وماهيته) على أنها تُقصي الإرادة الإنسانية؟ أي إن الأمور تسير وفقًا لطبيعتها، وبالتالي لا إرادة للإنسان في هذه المسائل. لستُ أنا من يختار أو يوجّه إرادته نحو هذا أو ذاك. والأمر الغريب أيضًا أن هذه الفكرة - أن الإيمان فعل لا إرادي - ليست شائعة في ثقافتنا؛ أي إن الإيمان يحصل فينا، ويحدث لنا دون أن نختاره. والدليل على بساطته هو أن الإنسان المؤمن لا يستطيع أن يتوقف عن الإيمان، ولو لحظة، كما أن غير المؤمن لا يستطيع أن يؤمن، ولو للحظة. فالمسألة لا تبدو إرادية. أنا أرى أن هذا الفعل (الإيمان أو عدمه) ليس إراديًّا. وهذا ما ناقشه المؤلف في بحثه حول الإرادة الحرة، خصوصًا في كتابه الأول. ومن هنا يمكن أن نطرح السؤال: إلى أيّ حد تترك هذه الرؤية الأنطولوجية - أو البنيوية، أو رؤية أن طبيعة الأشياء هكذا - مجالًا للإرادة الحرة؟ سواء في الدين أو في غيره؟ هل يستطيع الإنسان فعلًا أن يختار الدين أو اللادين؟ أن يختار الإيمان أو عدم الإيمان؟ أن يختار العقلانية أو اللامعقول؟ أم إن الأمور تسير بطبيعتها في اتجاه واحد؟ وفقًا لطريقة سبينوزا في النظر: نحن مثل الصخرة التي تُدفَع بقوة خارجية، وتظنّ أنها تتحرك بإرادتها.

د. حمادي أنوار:

يرى برغسون، في علاقة الدين بالإرادة، أن الدين ليس مسألة إرادية؛ أي ليس مسألة نابعة من حرية الاختيار. فالتجربة الدينية ليست فعلًا نقوم به، رغم أن الإنسان قد يمتلك إرادة لأداء مجموعة من الطقوس أو الشعائر الدينية، وهنا بالفعل توجد إرادة. لكن الإرادة في التدين أو في الإيمان ككل، فهذه لا تُعد إرادة؛ لأن التجربة الدينية ـ في جوهرها ـ هي تجربة انفعال، وليست تجربة فعل. الانفعال المؤسس لهذه التجربة، بحسب برغسون، هو الخوف. فالمؤمن، كما يقول أحد الفلاسفة الأنثروبولوجيين الفرنسيين ("ليفي بريل ("Lévy-Bruhl، لا يؤمن لأنه اختار الإيمان، بل لأنه يخاف؛ أي إن المحرك الأساسي للتجربة الدينية هو الخوف والقلق والعجز.

وبرغسون أسّس لهذه الفكرة بوضوح، وقد تناولها في أحد كتبه الأولى، الذي ضمّ مقتطفات للفيلسوف الروماني "لوكريتيوس"(Lucretius)، والذي يرى هو الآخر أن تجربة الدين تنبع من الخوف.

إذا كنت خائفًا، فلا يمكنك أن تقوم بفعل حرّ يتمثل في "اختيار" الدين؛ لأن السؤال الجوهري هنا هو: ما الذي سيدفع الإنسان إلى الدين؟ إذا كان الإنسان، في تجربته الوجودية والأنطولوجية، قادرًا على أن يكتفي بذاته، فلماذا سيتعلق بالمفارِق؟ لماذا لم يكتفِ بالمحايث؟

ما يدفع الإنسان نحو الدين، إذن، ليس اكتماله ولا قوة وجوده، بل العكس تمامًا. فالإنسان، في لحظات البؤس، والتيه الوجودي، والنقص، والخوف المقترن بالعجز، يلوذ بهذه التجربة، وهو في حالة خوف. وهنا يكون منفعلًا، لا فاعلًا. وفي ظلّ هذا الانفعال، تغيب الإرادة، ويغيب العقل، بل حتى الوعي يغيب أيضاً.

وهكذا يرتبط الدين، في تصوّر برغسون، بمستوى "ما دون العقل". وهذا المستوى يتميز بغياب الإرادة، وغياب العقل، وغياب الوعي، وبقاء الدين كتجربة شعورية.

د. حسام الدين درويش:

قبل أن أوجّه بعض الأسئلة الأخيرة حول علاقة الدين بالأخلاق، أودّ أن أشير إلى بعض الجوانب الإيجابية أو التلطيفية في الانتقادات التي قدّمتها الفلسفة الحَدسية أو الفلسفة الحدسية الناقدة للكمّية. ففي الواقع، قدّمت هذه الفلسفة حلولًا واضحة لمفارقات فلسفية شهيرة، كما تعلم. فعلى سبيل المثال، إذا قمنا بتقسيم المكان إلى وحدات زمنية لا متناهية، يصبح من الصعب تصور كيفية الانتقال من نقطة إلى أخرى؛ إذ يبدو أن الزمن يصبح غير قابل للعبور. وقد قدّمت الفلسفة الحدسية حلًّا بسيطًا يتمثل في القول إن الزمن ليس كمية قابلة للتقسيم الكمي، بل هو غير كمّي بطبيعته. وهذا يعيد تشكيل فهمنا للزمان والمكان، ويحررنا من بعض القيود المنطقية القديمة.

وسؤالي هنا: ما هي، في رأيك، التوظيفات الإيجابية التي يمكن أن نستفيدها من هذه الفلسفة، سواء في المجال الفلسفي البحت - مثل الحد من سيطرة العقل الذاتي أو العقل الحسابي - أو في المجالات الاجتماعية، أو الدينية، أو الأخلاقية؟

د. حمادي أنوار:

يمكننا توظيف هذه المسألة في إطار الثنائية التي تحدثنا عنها في البداية: ثنائية المنغلق والمنفتح. ففي هذا السياق، يتحدث برغسون عن المجتمع المنغلق في مقابل المجتمع المنفتح. المجتمع المنغلق يتجلى انغلاقه في مستويات متعددة. أولًا، هناك انغلاق النفس؛ أي انغلاق الفرد على ذاته. وهنا نتحدث عن "الفردانية"، لكن ليس بالمعنى الذي نجده في الفلسفات الحداثية، حيث يُحتفى بالفرد، بل عن الفردانية التي لا تؤمن بالآخر، الفردانية التي تنغلق على الذات، وتلغي إمكانية الانفتاح على الغير، ثم هناك انغلاق على مستوى الأخلاق؛ أي أخلاق منغلقة ترفض الاختلاف وتُقصي الآخر. وكذلك انغلاق على مستوى الدين، وهو ما قد يؤدي إلى مظاهر مثل التطرف والتعصب. والتطرف والتعصب، في جوهرهما، يعنيان أن الإنسان يميل إلى طرف معين، ينغلق عليه، ويظلّ حبيسًا له.

د. حسام الدين درويش:

وأنا أرى أن التطرّف هو اعتبار طرفٍ ما على أنه "الطرف"؛ أي الطرف الوحيد، الأوحد، الذي لا شريك له.

د. حمادي أنوار:

على مستوى المجتمع، فإن المجتمع المنغلق، حسب برغسون، هو ذلك المجتمع الذي يعيش أفراده في حالة دائمة من التأهّب والاستعداد لأيّ حرب محتملة؛ ذلك لأن الآخر، بالنسبة إليهم، هو عدوٌّ مفترض، هو عدوٌّ إلى أن يثبت العكس، أو بالأحرى، عدوٌّ ننتظر هجومه في كل لحظة. هذه عقلية منغلقة، ويجد هذا النوع من العقل امتدادًا في ما أشرنا إليه سابقًا: العقل التكميمي. فحتى هذا "العقل التكميمي" هو عقل حسابيٌّ، ضيّق، يُقوّم الأشياء بالأرقام والكميات، وهو، في جوهره، عقل غير مُبدع. وأخطر ما في هذا النوع من العقل هو افتقاده للقدرة على الإبداع؛ لأن جميع التجارب الإبداعية الكبرى في التاريخ لم تكن ناتجة عن العقل الحسابي، بل عن حالات من الوجد والحدس واللا-عقلانية. الفن التشكيلي، الموسيقى، وسائر أشكال التعبير الجمالي، كلها تنبع من تجربة خارج حدود العقل الأداتي أو العقل التكميمي. حتى الفلسفة نفسها، في تصوّر برغسون، ليست فعلاً عقلانيًّا صرفًا، بل هي تجربة تتجاوز هذا النوع من العقل، وخاصة العقل القضوي؛ أي العقل الذي يسعى إلى الحدّ والتعريف والتصنيف والتضييق. الفلسفة، من هذا المنظور، تقع خارج هذه الحدود الصارمة، ومن ثم نسقط في مجموعة من الإشكالات يسميها برغسون بالإشكالات الزائفة، وهي إشكالات تنعكس فلسفيُّا حتى على المجتمع؛ فالإشكالات الزائفة هي أسئلة تُصاغ على نحو سيئ، ونقضي سنوات طويلة في بحثها والتفكير فيها قصد الإجابة عنها.

ويذهب برغسون إلى أبعد من ذلك حين يقول إن الفلسفة إبداع للمفاهيم، ولكن قبل ذلك هي إبداع للإشكالات؛ فصياغة السؤال الجيّد والدقيق تُعدّ نصف الجواب. وهذا المبدأ لا يقتصر على المجال الفلسفي فقط، بل يمتد إلى المجتمع. فإذا تأملنا واقع المجتمعات العربية اليوم، نلاحظ أن الكثير من مظاهر العنف، والانقسام، والصراع، ناتجة عن إشكالات زائفة: أسئلة سيئة الصياغة، أو أُدخلت إلى الوعي الجمعي بقصد التضليل، فأصبح الناس يتقاتلون حول مسائل لا أساس لها من الدقة. وهنا، يصبح المختص وغير المختص سواءً في الجدل، كما لاحظ الغزالي في رسالته "إلجام العوام عن علم الكلام"، حيث أشار إلى ظاهرة تفشي الكلام في قضايا لا تخص العامة، وهو ما أدّى إلى اضطراب فكري واجتماعي واسع.

وهنا نصل إلى الفكرة الجوهرية التي دعا إليها برغسون، والتي أظن أنها تجيب عن سؤالك إجمالًا: علينا أن نفكّر في ما هو كمّي بمنطق كمّي، وأن نفكر في ما هو كيفي بمنطق كيفي. فلا يمكننا أن نأخذ العقل، بطبيعته الكمية الحسابية والمادية، ونُحاول أن نُفكّر به في قضايا روحية.

د. حسام الدين درويش:

المسألة، في السؤال الأخير، هي مسألة توظيف برغسون ونشر أفكاره. ولكن، دعني أبدأ بالحديث عن مسألة التوظيف، وهي مسألة مثيرة للانتباه، خاصة وأن عنوان الكتاب يربط بين الأخلاق والدين. فالربط التقليدي بين الأخلاق والدين شائع وسائد في الثقافة الشعبية، حيث يُعتقد أنه لا أخلاق بلا دين. وهناك تصور شائع مفاده أنه إذا كان الشخص بلا دين، فلا أخلاق له، ولا يُتصور كيف يمكن أن تكون هناك أخلاق بدون دين.

لكن هناك نقدًا حاليًا لهذا التصور؛ إذ أحيانًا يظهر الدين بلا أخلاق؛ بمعنى أنه يتحول إلى شعائر وعقائد وممارسات بلا أساس أخلاقي. فلتأخذ مثلاً داعش، حيث يمكن القول إن هذا دين بلا أخلاق. هؤلاء الناس يؤمنون ويمارسون شعائر دينية، ولكن من دون أن تكون لديهم أخلاق حقيقية. قد يُقال إن هذا مجرد نظرية مؤامرة أو تدخلات استخباراتية، ولكن ما يهم هنا هو أن هناك أشخاصًا يؤمنون ولكن بلا أخلاق، من منظورٍ عامٍّ. إذن، ما معنى الربط بين الأخلاق والدين؟ لماذا اختار برغسون الربط بينهما في عنوان كتابه؟ لماذا لم يكن الكتاب عن الأخلاق فقط أو عن الدين فقط؟

د. حمادي أنوار:

هنا سأشير إلى السياق الذي سبق تأليف الكتاب؛ إذ إن برغسون، قبل أن يكتب كتابه الأخير حول الأخلاق والدين، قضى مدة طويلة جدًّا مقارنة بكتاباته السابقة، فقد استغرق الأمر قرابة خمس وعشرين سنة قبل أن ينجز هذا العمل.

د. حسام الدين درويش:

وفيما يتعلّق بالكتاب، فقد كان من المتعارف عليه – سابقًا على الأقلّ - أن الفيلسوف لا يُعدّ فيلسوفًا مكتملًا ما لم يُتمّ مذهبه أو رؤيته الفلسفية بحديث في الأخلاق والدين؛ بمعنى من المعاني، لا يمكن للفلسفة أن تكون فلسفة حقًّا ما لم تتضمّن تصورًا أو تنظيرًا لماهية الأخلاق. وبهذا المعنى، يكون برغسون قد استكمل رؤيته الفلسفية بهذا الكتاب.

د. حمادي أنوار:

قبل صدور هذا الكتاب، كان هناك نقاش واسع حول ما سيكتبه برغسون في عمله الأخير. معظم الآراء والتصورات الرائجة آنذاك رجّحت أن يكون كتابه الأخير في مجال الجماليات والفن، فقد كانت هذه هي التوقّعات السائدة. غير أن برغسون فاجأ الجميع بكتابه "منبعا الأخلاق والدين"، وهو ما أعاد تأكيد الفكرة القائلة إن الفيلسوف، في نهاية مشروعه، لا بد أن يقدّم تصورًا عامًّا حول القيم، وليس بالضرورة حول الأخلاق أو الدين تحديدًا، بل حول العلاقة بين القيم وما هو ميتافيزيقي؛ أي ما يتجاوز الواقع المباشر.

بدأ برغسون مشروعه الفلسفي من خلال نقد العلم والطبيعة والحياة، وقد وجّه نقدًا عميقًا لكل الاتجاهات المادية والكمّية. ومنذ أعماله الأولى، كانت هناك ملامح روحانية واضحة في فلسفته، وخصوصًا في نقده لتلك المفاهيم الاختزالية. لذا، كان من الطبيعي أن يختتم مشروعه بكتاب يتّسم بطابع روحي وقيمي، يبتعد عن المعطى القائم (الكائن) ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون.

وعلى الرغم من أن كتاب برغسون الأخير تناول الأخلاق والدين، فإن منهجه الفلسفي في هذا الكتاب يمكن تطبيقه أيضًا على قضايا أخرى، كالجمال والفن. فالمقاربة واحدة، والاختلاف يكمن في الموضوع فقط. وفي هذا الكتاب، يبيّن برغسون أن ثمة منبعين لكل من الأخلاق والدين. ولا يمكن هنا إغفال موقف برغسون من كانط؛ إذ يمكن القول إنه من أبرز خصومه الفلسفيين. فبرغسون يرفض أن تُؤسّس الأخلاق على العقل المجرد، كما يفعل كانط؛ فالأخلاق الكانطية ليست دينية (رغم أن نيتشه وفلاسفة آخرين يؤكدون عكس ذلك ويؤاخذون على كانط العمق المسيحي في فلسفته الأخلاقية)، بل عقلية محضة. ومن ثم، فإن برغسون يتجاوز هذا التصور، ويُؤسس الأخلاق، على منبعين اثنين هما نفسهما أساس الدين بنوعيه.

للأخلاق، بحسب برغسون، منبعان؛ الأول اجتماعي، يقوم على الضغط والإلزام والواجب، وهو منبع يُنتج أخلاقًا ضيقة ومنغلقة وجامدة، حيث يأخذ الفرد أخلاقه من المجتمع الذي ينتمي إليه، دون الاعتراف بأخلاق أخرى. أما الثاني، ففردي وحرّ، مصدره ما يسميهم برغسون "أبطال الإنسانية": الحكماء، العباقرة، الأنبياء، والمبدعون. هؤلاء ليسوا دعاة أو مؤسسين لحركات جماعية بالضرورة، بل تصدر عنهم كاريزما روحية وأخلاقية، تجعل الناس ينجذبون إليهم. وجودهم ذاته يشكل نداءً غير منطوق، وكأنهم يدعونك، لا بالكلام، بل بأخلاقهم وعمقهم.هذه هي فكرة القدوة، التي يرى برغسون أنها غائبة اليوم. ففي عالمنا المعاصر، نشهد موت الأبطال، ليس فقط في السياسة، بل في الفن، الدين، والرياضة. لو عدنا إلى ما قبل قرن من الزمان، لوجدنا شخصيات قد نختلف معها أيديولوجيًّا، لكنها كانت تملك عمقًا أخلاقيًّا وقيميًّا حقيقيًّا يجعلها جديرة بالاحترام والاقتداء. أما اليوم، فنجد أنفسنا في زمن خاوٍ من القدوة، وهو ما يثير السؤال: بمن يمكن للطفل أن يقتدي اليوم؟ من هو الفنان، أو المفكر، أو الزعيم، الذي يمكن أن يكون مثالًا يُحتذى به؟ ولعل نيتشه عبّر عن هذا حين كتب "أفول الأصنام"، وإذا اعتبرنا أن "الأصنام" هم هؤلاء الأبطال الرمزيون، فإننا اليوم نعيش حقًّا أفول الأبطال.

د. حسام الدين درويش:

أليس في هذا نوع من النخبويّة؟ وأحاول ألّا أقع في الشعبويّة. أليس من الواضح هنا أن الأخلاق المنفتحة، أو نحو ذلك، تُنسب إلى فئة من النخب، أو إلى فئة مصطفاة بعوامل معيّنة؟ ألا يعني ذلك أننا نحصر الأخلاق في تلك الفئة، مع أن البسطاء من الناس قد تكون لهم أخلاق، بل ربما تكون أكثر انفتاحًا؟ صحيح أنهم لا يُعدّون "نخبة"، لكن ألا يُفهم من ذلك أننا، في النهاية، نحصر الأخلاق الإيجابية أو المنفتحة في قلّة قليلة من البشر، في حين تُصبح أخلاق البقية موضع نقد، أو حتى تُعدّ لا أخلاقية؟

د. حمادي أنوار:

لا، هذه ليست أخلاقًا نخبويّة. لماذا؟ ببساطة، لأن هذه الأخلاق قد نجدها عند الإنسان البسيط. ففي الفلسفة التي نحن بصددها الآن، كلّما عاد الإنسان إلى الطبيعة أكثر؛ تصرّف بعفوية وأريحية أكبر؛ ذلك أن العقل، في هذا التصور، يُعدّ نقيضًا للطبيعة، ويعارضها. وهذه النزعة اللاعقلانية تتضمّن ضمنًا عودة إلى الطبيعة. ومن ثم، فإن الأخلاق المقصودة هنا يمكن أن نجدها لدى إنسان طبيعي لا يزال يتصرّف على سجيّته وبساطته، ولم يدخل في حسابات ماديّة معقّدة. هذا الإنسان سيكون - حتمًا - أقرب إلى هذه الأخلاق.

وعندما نأخذ من بين هؤلاء "الأبطال" أو "الحكماء"، فإننا لا نعني بالحكيم ذلك الشخص المتضلع في المعرفة أو العالِم بالمفهوم اليوناني، بل نقصد الحكيم بالمعنى الأقرب إلى المعنى السبينوزي: أي الإنسان البصير، الحر، القادر على أن يفكّر، وأن يفكّر في تفكيره، وأن يتأمل ذاته. إنه الإنسان الواعي، القادر على التحكّم في نفسه وفي انفعالاته. وحتى إن لم تكن لديه معرفة فلسفية أو علمية عميقة، يمكن أن تكون لديه أخلاق بسيطة، ولكنها حقيقية. وهذا ما نلمسه في الواقع، إذ نجد العديد من الأشخاص البسطاء، بل وحتى - بين قوسين - بعض الأميّين، يتمتّعون بهذه الأخلاق. إنها أخلاق بسيطة، ينظر فيها الإنسان إلى الآخر لا من موقع أيديولوجي أو نسق فكري مغلق، كما قد يفعل بعض المثقفين، بل من موقع إنساني فطري. ولهذا يتصرّف بعفويّة وطيبة، ويكون أكثر إنسانية، ببساطة.

د. حسام الدين درويش:

سأختم بسؤال، رغم أنني لم أبدأ بأيٍّ من الأسئلة التي كنت قد حضرتها، بل تصرّفت بطريقة برغسونية؛ أي إن الأسئلة كانت حدسية أكثر منها معدّة أو متوسطة مسبقًا. لكن السؤال - ولنقل إن له مقدّمة من شقّين - هو:

أولًا، الكتاب، وشهادتي فيه قد تكون مجروحة، يُقدّم معرفة رصينة، يمكن أن نتفق أو نختلف معها، لكنها تبقى معرفة رصينة وبحثية، وليست تأملية فحسب. هي تأملية، نعم، ولكنها بحثية أيضًا؛ فيها قراءات كثيرة، مناقشات، ومحاججات، وبهذا المعنى هي معرفة رصينة، وتراكمية، وتأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات والآراء الأخرى. إلى جانب ذلك، وفي محاولة التوظيف، توجد مسحة تبشيرية؛ بمعنى: أن لدى برغسون أفكارًا إيجابية عظيمة، وأنه قدّم فلسفة عظيمة. وهذه النزعة التبشيرية، إلى حدٍّ ما، مفهومة ومعقولة، وهي طبيعية، وخصوصًا في رسائل الدكتوراه. وأنا واثق أنها ستخف لاحقًا. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى وضع حدٍّ لها. والحد هنا بمعنى اتخاذ مسافة من الشخص الآخر، وهذه المسافة نسمّيها "نقدًا".

لذا، سأختم بسؤال: كيف يمكنك أن تخرج من عباءة برغسون، بمعنى ما؟ أين الحدود؟ أين الفواصل؟ أين المسافة النقدية التي يمكن أن تظهر في النهاية؟ فأنت، دكتور حمادي، شخص مختلف، ومهما كنت قد تبنيت آراء برغسونية، فلديك فرادتك. وأنا واثق، بل أبشّر هنا، بأن مستقبلك سيحمل الكثير من الفرادة التي ستنتجها، لكن، مبدئيًّا: أين تكمن هذه الفرادة؟ أين هي المسافة؟ أين الرؤية النقدية المختلفة، ولو قليلاً؟ بأيّ طريقة، وبأيّ معنى يمكن أن تتّخذ هذه المسافة؟

د. أنوار حمادي:

فيما يخص مسألة "المسافة"، نعم، لقد اتخذتُ بالفعل مسافة من برغسون، والدليل على ذلك أن هناك ما يشبه القطيعة المنهجية بيني وبينه. هذه القطيعة بدأت تقريبًا منذ سنة 2021، منذ أن ناقشت أطروحة الدكتوراه؛ فلم أعد أقرأ لبرغسون، ولم أعد أكتب عنه. وتوجهتُ إلى فلاسفة آخرين، وأولهم - حبيبك - كانط، وكذلك سبينوزا وشوبنهاور. وكانت هذه خطوة متعمّدة.

وهناك جانب آخر من هذه القطيعة، استقيتُه من فيلسوف بدأ برغسونيًّا ثم ارتدّ عنه، وهو إميل سيوران. سيوران كتب بحث تخرّجه حول برغسون، وعندما جاء إلى فرنسا سجّل بحثًا في الدكتوراه حول "الوجد" بين برغسون وأفلوطين. لكنه، حين انغمس في حياة باريس وأضوائها، تخلّى عن هذا المشروع.

قال في إحدى مذكراته إنه في تلك اللحظة اكتشف أن برغسون فيلسوف متفائل أكثر من اللازم، فيلسوف لطيف، وفلسفته مشبعة بالفرح والنشوة والانتشاء، لكن الواقع - حسب تعبيره - يكذّب هذا التفاؤل. ولهذا السبب، تخلّى عن تلك الفلسفة، التي يمكن أن نضعها - بين قوسين - ضمن ما يُسمى "الفلسفة الرخوة"، واتجه إلى فلسفات أكثر تراجيدية، متأثرًا بفلاسفة مثل نيتشه وشوبنهاور؛ لأنه وجد أن الواقع أقرب إليهما من برغسون. هذا تقريبًا هو التوجه الذي سلكتهُ أنا أيضًا.

والكتاب الآخر الذي سيصدر لي مع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" حول "الوجود والمعنى"، يندرج ضمن هذا التوجه. وقد أشار الأستاذ عزيز لزرق - وهو حاضر معنا- إلى ملاحظة مهمة تعبّر عن هذا التحوّل؛ إذ قال لي اليوم، إن بعض ما أكتبه أو أقوله يبدو كما لو أنني "ريبي"، أو أنني أقترب في بعض الأحيان من النزعة التشاؤمية. وهذا فعلاً صحيح، وهذا التوجه هو توجه مناهض لبرغسون، وهو توجه مقصود. والكتاب الذي ذكرتُه أي ''الوجود والمعنى'' - والذي سيصدر قريبًا - لن تجد فيه تلك اللمسة المتفائلة، ولا ذاك البعد التبشيري الذي نجده عند برغسون.

د. حسام الدين درويش:

طيّب، في النهاية، فقط لكي لا نأخذ وقتًا أكثر من اللازم، وإن شاء الله تكون لنا لقاءات أخرى. الكتاب - ما شاء الله - غنيّ كمًّا ونوعًا، فشكرًا جزيلًا لك، وسنترك الآن المجال لتوقيع النسخ للقارئات والقرّاء.

د. أنوار حمادي:

شكرًا جزيلًا لك، وشكرًا لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، وسنبقى على تواصل إن شاء الله.