مأساة وانتصار
فئة : ترجمات
مأساة وانتصار[1]
فرانسيس إدوارد بترز
ترجمة: علي بن رجب تونس
إنّ مقولة سكوت فيتزجيرالد SCOTT FITZGERALD بأنّه لا توجد مشاهد مسرحيّة ثانية في الحياة الأمريكيّة، ربّما تكون أكثر إمتاعاً من أن تكون حقيقيّة، وبالتّأكيد لم يكن هذا حقيقيًّا بالنّسبة إلى حياة الرّجليْن المقدّسيْن في الشّرق الأوسط قيد الدّرس هنا. لقد قام كلّ من عيسى ومحمّد بدخول مفاجئ إلى المشهد المألوف لبلدهما، وكان لكلّ منهما مسيرة غير موفّقة تماماً كواعظ. وقد واجه كلّ منهما معارضة خطيرة، بل مميتة، هدّدت حياتهما وحياة أتباعهما. اتّضح المشهد ودخل كلّ بطل رواية الفصل الثّاني والأخير من حياته الدّرامية.
عيسى في أورشليم
هناك طابع رعوي في الإصحاحات الجليليّة من الأناجيل؛ فيها الحقول بزرعها ونموّها وحصادها والسّهول والتّلال والبحر كلّها معروضة، وكذلك النّاس الذين يعملون هناك. نرى الصيّادين والمزارعين وجامعي الضّرائب والجنود الرّومان والبغايا، سواء لحماً ودماً أو كشخصيّات في أمثال عيسى مستمدّة من الحياة الجليليّة. عندما يتمّ نقل المشهد إلى أورشليم، يستمرّ التّركيز دائماً على عيسى، لكنّه الآن يتركّز بكثافة على الأحداث لدرجة أنّه ليس لدينا سوى فكرة بسيطة عن الحياة العادية لهذه المدينة في قلب العالم اليهودي. نجد أنفسنا الآن في خضم دراما يتمّ تصوير شخصياتها الرّئيسة، مثل بيلاطس (Pilate) وقيافا (Caiaphas) بشكل واضح، بينما يتمّ تصوير شخصيات أخرى مُنَمْنَمَة ببراعة تامّة: بطرس، ويهوذا، وخادم كاهن الهيكل، واللّصوص الذين أُعدموا مع عيسى، وسمعان القوريني، السّائح سيّئ الحظّ الذي اضطرّ إلى حمل صليب عيسى في شوارع أورشليم، لكنّ الخلفية الكبرى لأورشليم قليلة الحضور: نحن في مكان مغلق.
إنجيل من جزأيْن
تنقسم السّير الذّاتية لعيسى إلى قسميْن رئيسيْن (مع مجموعة متنوّعة من العبارات المنقوشة والاستنتاجات)؛ الأوّل هو ما يُسمّى هنا «عيسى في الجليل»، والذي يتبعه القسم المتميّز تماماً هو «عيسى في أورشليم». ففي هذا القسم الأخير تمّ استبدال المشهد العامّ والغموض الزّمني لنشاط عيسى التبشيري العلني، واللّذيْن يستخدمان في المقام الأوّل لتوفير سياق لأقوال Q غير المدمجة أساسًا والموادّ التعليمية المماثلة، بالحالة المفتعلة والملحّة لما هو معروف في المأثور المسيحي بــ «الآلام وموت عيسى».
إذا كانت وثيقة Q وما يُفترض أنّه مجموعة متشابهة من الأقوال/التعاليم التي تكمن وراء أقوال عيسى في مرقس هي الشّكل «الجليلي» الأصلي لتقليد عيسى، فما الذي أنتج أناجيلنا الحالية برواياتها المثقلة بـ «العاطفة»؟ هل كانت نفس هذه الأحداث، اعتقال عيسى، ومثوله أمام السلطات اليهودية في أورشليم، ومحاكمته أمام المدّعي العام الرّوماني وإعدامه علناً كمجرم، هي التي خلقت الحاجة إلى شكل من أشكال التّفسير؟ لقد قدّم النموذج الأولي لمرقس مثل هذا التّفسير من خلال إضافة سرد مفصّل إلى الأقوال القديمة عن الأيّام الأخيرة لعيسى، ثم صياغتها في نوع من سرد السيرة الذّاتية الذي أصبح يسمّى «البشارة» (1).
وبالتّالي، فإنّ «عيسى في أورشليم» ليس تقسيمًا اعتباطيًّا في رواية سيرة عيسى. إنّ الأناجيل الأربعة جميعها تندرج في هذا السيناريو المكوّن من مشهديْن: الأوّل، عيسى في الجليل (مع «مقدّمة عن الميلاد» في متّى ولوقا «مقدّمة عن السّماء» في يوحنّا) والثّاني، عيسى في أورشليم (مع ملاحق عن قيامة عيسى من بين الأموات). المشهد الثّاني له بداية واضحة بوصول عيسى وفريقه الصّغير إلى أورشليم. تلي ذلك أقواله المُنذِرة بشكل متزايد والأحداث المذهلة أيضاً، والتي سبقت احتفال عيسى بعيد الفصح. هنا تلتقي الأناجيل الأربعة لوصف اعتقال يسوع خارج المدينة، وجلسة استماعه في وقت متأخّر من اللّيل أمام رئيس الكهنة، ومحاكمته في صباح اليوم التّالي أمام بيلاطس، وإعدامه النّهائي بالصّلب خارج ما كان آنذاك الجدار الغربي للمدينة، كلّ ذلك يشكّل الجزء الأكبر من جميع روايات الإنجيل.
رواية مشتركة
من حيث التّسلسل الزّمني، فإنّ أقدم ما وصلنا حول الأسبوع الأخير من حياة عيسى هو في سطريْن من أولى رسائل بولس إلى الكورنثيّين (15: 3-4). ذُكر فيهما ببساطة أنّ «المأثور» الذي تلقّاه بولس ونقله -بالتّأكيد ليس للمرّة الأولى- إلى المؤمنين في كورنثوس هو أنّ «المسيح مات من أجل خطايانا، وفقاً للأسفار المقدّسة، ودُفن...». إنّ الأحداث البسيطة غير المفصّلة -«مات» و«دفن»- مغلّفة هنا بوضوح شديد بالحجّة التي أصبحت مألوفة الآن «وفقاً للأسفار المقدّسة» وهي مشحونة بدلالة لاهوتية عميقة «من أجل خطايانا». وهكذا دخل تقديم عيسى نفسه لله ذبيحة لغفران الخطايا في المؤلّفات المسيحيّة لتفسيرات هذا الحدث الاستثنائي، وحتّى قبل كتابة أناجيلنا، إن كان التّسلسل الزّمني دقيقًا.
من جانبها، فإنّ الرّوايات الإنجيليّة المتأخّرة نسبيًّا حول موت عيسى تدرك جيّداً الحجّة المتعلّقة بأقوال عيسى المبنية على اكتمال الكتابات المقدّسة، وتوفّر وصفاً بيْبليًّا مستمرًّا عن أحداث أيّام عيسى الأخيرة. لكنّ هذه الروايات اهتمّت أيضًا بما حدث بالضّبط عندما جاء عيسى إلى أورشليم للمرّة الأولى، ومن الواضح أنّ بولس لم يكن كذلك، مع أنّه ينبغي أن يكون قد سمع ذلك مرارًا وتكرارًا. تتحدّث الأناجيل الأربعة عن هذه الأحداث، وهي كثيرة ومتنوعة، ولكن ما هو جدير بالملاحظة بشكل رئيس حول رواياتها هو أنّه انطلاقًا من هذه النّقطة وما بعدها (مرقس 14: 43-52؛ يوحنّا 18: 2-11)، فإنّ لمرقس ويوحنّا الرّسم البياني نفسه للأحداث نفسها وبالتّرتيب نفسه، على الرّغم من أنّ يوحنّا والإزائيّين يتّبعون طريقتهم الخاصّة في رواية الأحداث التي أدّت إلى اعتقال عيسى. هذا التّوافق العجيب بين الاثنيْن -دعونا نتذكّر أنّ وثيقة Q ليس بها سرد لآلام عيسى- يشير على الأقلّ إلى أنّه في وقت مبكّر كان هناك، إن لم يكن مصدرًا أدبيًّا مشتركًا، سرد لاعتقال عيسى، ومحاكمته، وإعدامه، ثمّ اكتمل السّرد لاحقًا بمختلف التفاصيل التي أصبحت واضحة من خلال مقارنة مرقس 11-15 مع ما يماثله في متّى 21-27.
دخول مُظفّر
يأتي عيسى إلى أورشليم للاحتفال بعيد الفصح تحت سماء أظلمتها تنبّؤاته الخاصّة. قال للاثنيْ عشر: «نحن الآن ذاهبون إلى أورشليم»، ثم متذرّعاً بلقبه المسيّاني، «يُسلَّم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهنة والكتبة، سيحكمون عليه بالموت ويسلّمونه إلى غير اليهود. سوف يسخرون منه، ويبصقون عليه، ويجلدونه، ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيّام سيظهر من جديد» (مرقس 10: 33-34). هذا التنبّؤ مفصّل ودقيق، دقيق للغاية لدرجة أنّه نال استحسانًا كبيرًا من المنتقدين الذين يعتبرونه خارجاً من واقع الأحداث؛ أي ما عُرِف من حقائق بعد وقوع تلك الأحداث. حدث استوفى به المؤلّفون، وليس عيسى النّصّ المقدّس.
لكن على الرّغم من التّنبّؤات القاتمة جدًّا، يبدأ الأسبوع بانتصار واضح. في نفس يوم وصوله، دخل عيسى المدينة المقدّسة فيما يبدو أنّه موكب تمّ تنظيمه بعناية من قرية بيت «فاجي»، حيث يقيم مع الاثنيْ عشر. وعند الاقتراب من أورشليم، استُقبل عيسى استقبال الملوك -المركوب الذي تمّت مصادرته، والملابس المفروشة على الأرض أمامه، وسعف النّخيل لتظلّله من أشعّة الشّمس، ومباركته كـ «ابن داود»- كلّ هذه المظاهر الاحتفالية هي تحقيق لنبوءة، كما حرص متّى، مرّة أخرى، على إخبار القارئ بذلك (21: 4) «حدث هذا كلّه لاستيفاء ما قاله النّبيّ». يجب أن يكون الجميع في المدينة على دراية بهذه المظاهر الاحتفالية العامّة. يقول متّى (21: 10-11) «كلّ المدينة متأثّرة». «هذا هو، النّبيّ، يسوع من النّاصرة في الجليل». ومن المؤكّد أنّ الرّومان كانوا قد لاحظوا ذلك، وهم الذين دائماً في حالة تأهّب في أورشليم خلال عيد الفصح، وكانوا لا يستخفّون بمثل هذه التّظاهرات العامّة.
حادثة الهيكل
يُدرِج مرقس تفصيلاً مألوفًا في سرده بصيغة مختلفة: يقضي عيسى اليوم التّالي في مشاهدة معالم المدينة في أورشليم: «دخل الهيكل ونظر حوله» (11:11). لا بدّ أنّه لم يعجبه ما رآه، في اليوم التّالي عاد وطرد غاضبًا جميع مَن في حرم الهيكل -قام بجلدهم بسوط مصنوع يدويًّا، وفقًا ليوحنّا (2: 15)- قام بطرد باعة الحيوانات الحلال (كوشير) التي تُقدّم ذبائح في الهيكل، وقلب طاولات الصيارفة الذين يحوّلون العملة الرومانية إلى شيكل الهيكل المستخدم لدفع ضريبة العشر الدّينية (مرقس 11: 15-17). هذه المرّة يسوع نفسه هو الذي يقتبس من الأنبياء، إشعياء وإرميا: «لقد حوّلتم بيت صلاته إلى وكر لصوص» (مرقس 11: 17).
أوّل ما يظهر من نصّ الإنجيل هو استياء عيسى من الأنشطة التّجارية داخل الهيكل. لكن اعتراضه ذاك لا يمكن إلّا أن يكون تجميلاً للحادثة؛ لم يكن هناك شيء غير قانوني أو غير أخلاقي بشكل واضح في هذه الأنشطة، ثمّ ينتقل مرقس على الفور إلى شيء أعمق وأكثر قتامة؛ «سمع رؤساء الكهنة والكتبة بهذا، فسعوا إلى طريقة تعجّل بموته» (11: 18). إنّه لأمر محيّرٌ إلى حدّ ما. فمن الواضح أنّ الحادث كان أصغر من أن يثير أيّ ردّ فعل فوري من الحرس، سواء كان الرّومان، الذين لم يتردّدوا في التّدخّل في الهيكل، أو سلطات الهيكل: لقد اكتفى عيسى بالابتعاد ثمّ عاد إلى الهيكل في اليوم التّالي، حيث سأله رؤساء الكهنة والكتبة: «بأيّ سلطان تفعل هذا؟» (11: 28).
مؤامرة كهنوتيّة
تتّفق جميع الأناجيل على أنّ عيسى قد قُتل فعليّاً من قبل الرّومان، بسبب مكائد رؤساء كهنة الهيكل. لماذا؟ لقد كانت مؤسّسة كهانة هيكل أورشليم، التي تعرّضت سلامتها للخطر في عهد المكّابيين وتحت قيادة هيرودس، موضوع استفزاز للعديد من اليهود في زمن عيسى، ولكن يبدو أنّ عيسى نفسه لم تكن لديه مشكلة مع المؤسّسة ولا مع الأفراد الذين تشملهم. وإنّما قصر ازدراءه وجداله على الفريسيّين، مؤيّدي الالتزام الشّديد بالتوراة، والذي اعتبره عيسى شديداً للغاية. وهكذا، يلفت مرقس انتباهنا إلى حادثة الهيكل على أنّها سبب محتمل للمؤامرة الكهنوتية، وقد قرأ بعض النّقّاد المعاصرين فعل عيسى القائم على العنف -ويفترضون أنّ الكهنة قد قرأوه أيضاً على هذا النّحو- كبادرة رمزية مشحونة للغاية أشار من خلالها إلى نهاية النظام الرّوحي القديم وبدء النظام الرّوحي الجديد. يخلُص النّقاش إلى أنّه هكذا فهم رئيس الكهنة تصرّف يسوع وغايته، وكان ردّ فعله وفقًا لذلك.
يضع يوحنّا حادثة الهيكل في وقت مبكّر من مسيرة عيسى (2: 13-22) وبذلك يفصلها تمامًا عن المؤامرة الكهنوتيّة، لكن بالنسبة إلى يوحنّا كانت هناك بالفعل مثل هذه مؤامرة ويبدو أنّه كانت لديه معلومات مميّزة حول اندلاعها، تختلف عن الإزائيّين وقد تكون مثل نيقوديموس، وهو عضو في السّنهدريم الحاكم وأحد أتباع عيسى السّرّيّين (يوحنّا 3: 1-2). قام عيسى بعمل مشهور والمتمثّل في إحياء «لازاروس» من بين الأموات في إحدى ضواحي أورشليم (يوحنّا 11: 1- 44). انتشر الخبر في أورشليم واجتمع «السنْهدريم» الذين شعروا بالخطر:
«قالوا «ماذا نصنع؟» فإنّ هذا الرّجل يقوم بمعجزات كثيرة. إذا تركناه وشأنه هكذا، فإنّ الجماهير كلّها ستؤمن به، ثمّ يأتي الرّومان ويجتاحون هيكلنا وأمّتنا». فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا وكان رئيساً للكهنة في تلك السّنة: «إنكم لا تعرفون شيئاً على الإطلاق؛ ألا تعلمون أنّه من مصلحتكم أن يموت رجل واحد من أجل الشّعب ولا تهلك الأمّة بأكملها».... فابتداء من ذلك اليوم تآمروا على موته. (يوحنّا 11: 47-53).
في رواية يوحنّا، ما كان يخشاه الكهنة هو أنّ مظاهرة شعبية أخرى من النّوع الذي أثارها يسوع بالفعل ستؤدّي إلى ردّ فعل رومانيّ ضدّ المشروع اليهودي بأكمله في فلسطين -يقدّم جوزيفوس أدلّة وفيرة على أنّ ذلك الخوف كان له أسس سليمة. لقد قرّروا أنّه يجب التّضحية بيسوع ليس فقط لإبعاد هذا التّهديد بالذّات، ولكن لإثبات أنّ السّلطات اليهودية كانت قادرة على حماية مصالحها ومصالح الرّومان.
تحدّيات
ولاستئناف موضوع الإزائيّين، فإنّ سرد مرقس لا يسير في خطّ مستقيم. ولأنّ الرّواية تحدّد بوضوح أورشليم مسرحاً للأحداث، فإنّ عيسى يواجه تحدّيات من قِبل ثلاث مجموعات مختلفة؛ التّحدّي الأوّل يأتي من الفرّيسيّين، الذين وضعوا عيسى فيما يوصف بأنّه سؤال خادع حول شرعية دفع الضّرائب للرّومان، والذي يتجنّبه عيسى بشكل رائع ويردّ عليه ردّه المشهور: «أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله» (مرقس 12: 15-17)، ثمّ يواجه الصدّوقيّين، حزب الكهنة، لكنّهم لم يسألوه عن الكهنوت ولا عن حادثة الهيكل التي سبقت ذلك مباشرة. فهم بالأحرى مهتمّون بالقيامة الجسديّة، التي أنكروها من حيث المبدأ؛ لأنّها لا أساس لها في الكتب المقدّسة. ردّ عليهم يسوع باستخفاف: «أنتم لا تفهمون شيئاً عن الكتب المقدّسة أو عن قوّة الله» (12: 19-27). أخيراً، يواجه أحد الكتبة وهو عضو من أعضاء الطّبقة النّاشئة في إسرائيل من القضاة الكنسيّين، يتقدّم ويسأل: أيّ من وصايا الله هي الأعظم؟ يعطيه عيسى الإجابة مباشرة، مأخوذة من سفر التّثنية (6: 4-5). يشكر الرّجل عيسى، وعيسى بدوره يكافئه، ربّما مكافأة مثيرة للسّخرية: «أنت لست بعيدًا عن ملكوت الله» (مرقس 12: 28-34).
الأيّام الأخيرة
في هذه المرحلة، تُدرج جميع الأناجيل الإزائيّة في رواياتها صيغة عيسى الرؤيويّة، أو الكشف عن الأيّام الأخيرة (مرقس 13 وما يليه)، وهي نصوص، كما ذُكِر آنفًا، رأى فيها الكثيرون إشارات واضحة بما فيه الكفاية إلى تدمير أورشليم في 70 م، ثم يبدأ السّرد في مرقس 14 (= متّى 26-27؛ لوقا 22-23; يوحنّا 12- 19) برواية نهاية يسوع نفسه. تمّ تحديد الزّمن بدقّة: «قبل يومين من عيد الفصح والفطير»، يبدأ الكهنة في وضع خطّة للتّخلّص من عيسى، واتّفقوا على ألّا يكون ذلك خلال الأيّام المقدّسة، «وإلّا ستكون هناك أعمال شغب بين النّاس (مرقس 14: 1-2). وفي هذه الأثناء، كان عيسى في منزل صديق في «بيت عنيا». وهما المكان والزّمان اللّذان قرّر فيهما يهوذا، أحد الاثنيْ عشر، خيانة عيسى. وقد قيل لنا إنّ الدّافع كان المال (مرقس 14: 10-11).
العشاء الأخير
في اليوم التّالي، اليوم الذي يسبق عيد الفصح، والذي كان يوم خميس - وبحسب التقويم اليهودي، يبدأ عيد الفصح عند غروب شمس في ذلك الخميس- حَدَث ما بدأ المسيحيّون يسمّونه العشاء الأخير أو، عندما بدأ يمثّل في الليتورجيا المسيحيّة، «القربان المقدّس» (مرقس 14: 12-26). لقد كان وجبة مسائية رسمية تقام داخل أسوار أورشليم، كما هو منصوص عليه في القانون اليهودي، وتشبه في بعض النّواحي عيد الفصح التّقليدي، ولكنّها غير ذلك في حالات أخرى: إذ لا يتمّ تناول الوجبة وقوفاً أو على عَجَل، ولا يوجد أثر لخروف عيد الفصح. في متّى ولوقا ويُوحنّا، يغسل عيسى أرجل أتباعه، ولكن لا وجود لهذا في مرقس. أثناء الوجبة، أُنْبِئ عيسى بخيانته من قِبل أحد الحاضرين الاثنيْ عشر، وفي يوحنّا (13: 30) يغادر يهوذا بعد ذلك بوقت قصير.
في مرحلة ما يأخذ عيسى الخبز ويباركه -الكلمة اليونانية «البركة» هي القربان المقدّس (أوخارستيا)- ويوزّعه على الرّسل بكلمات مميّزة جدّاً، مميّزة في كلّ سياق يهوديّ معروف لدينا، «هذا هو جسدي» (مرقس 14: 22 وما يليه؛ كورنثوس 1، 11: 24). يفعل الشّيء نفسه مع كأس من الخمر: «هذا هو دمي»، وينتهي بالقول: «دم العهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين» (مرقس 14: 24 وما يليه؛ كورنثوس 1، 11: 25)، وتضيف رواية بولس إلى كلّ من الخبز والخمر، «افعلوا هذا لذكري»، سواء قالها عيسى أو استنتج ذلك المسيحيّون الأوائل، فإنّ إعادة تشريع طقوس الخبز والخمر أصبح في الواقع، وفقاً لشهادة بولس نفسه، عملاً مركزيّاً للعبادة بين المسيحيّين بعد عقديْن من وفاة عيسى.
القبض على عيسى في الضيعة
غادر يسوع والاثنا عشر، الآن أصبحوا أحد عشر، القاعة المستأجرة وخرجوا من أورشليم ليلاً، وخروجهم في ذلك الزّمان والمكان عمل غير عادي. يذهبون إلى ضيعة زيتون خاصّة على منحدر قريب من جبل الزيتون شرق المدينة. لا نعلم لماذا، باستثناء أنّ عيسى قرّر أن يصلّي (مرقس 14: 26-32). إنّها صلاة الحزن واليأس (مرقس 14: 33-36). يظهر يهوذا مع حرس الهيكل ويتعرّف على عيسى. وقع شجار هناك، مناوشة بسيطة بالسيف -ولسبب ما يصرّ لوقا على وجود سيْفيْن بين جماعة عيسى (لوقا 22: 35-38)- ويتمّ القبض على يسوع. يهرب أتباعه (مرقس 14: 43-50)، ومن بينهم -مذكور في مرقس فقط- شابّ غريب «لا يرتدي شيئاً سوى قطعة قماش» (14: 51-52).
محاكمة السنْهَدريم لعيسى
وفقاً لجميع الرّوايات، يتمّ إحضار عيسى مباشرة إلى المدينة، هذه المرّة إلى منزل رئيس الكهنة قيافا، حيث تجري محاكمته (مرقس 14: 53- 72)، على الرّغم من أنّها تبدو خالية من أيّ إجراء شكلي: تحدث في اللّيل، في اليوم الأوّل من عيد الفصح، وفي منزل خاصّ (2). ويتبعه بطرس عن بعد في الظّلام، وعندما يتمّ التعرّف عليه بلهجته الجليليّة، ينكر أيّ ارتباط له بعيسى، ليس مرّة واحدة بل ثلاث مرّات، كما تنبّأ بذلك عيسى سابقاً (مرقس 14: 30). ويتمّ استدعاء الشّهود؛ لقد كذبوا، حسب الأناجيل، عندما شهدوا بأنّ عيسى قد هدّد بتدمير الهيكل. المُدّعَى عليه صامت لا يجيب، ثم يسأله رئيس الكهنة مباشرة: «أأنت المسيح ابن الله؟». يجيب يسوع: «نعم». «أنا هو. وستبصرون ابن الإنسان جالساً على يد الله اليمنى قادماً في سحب السّماء» (مرقس 14: 61- 62). «تجديف!»، يصرخ رئيس الكهنة (3).
محاكمته أمام بيلاطس
كان لا بدّ أن يقضي عيسى ليلته رهن الاحتجاز في بيت رئيس الكهنة، وفي جزء كبير منها كان الخدم يسيئون معاملته (مرقس 14: 66). وحده يوحنّا (27: 3-10) يخبرنا بنهاية يهوذا: لقد شنق نفسه ندمًا (4). في وقت مبكّر من صباح اليوم التّالي، وهو يوم الجمعة والأوّل من عيد الفصح، كانت السلطات اليهوديّة قد أوثقت رباط عيسى قبل يوم من تسليمه إلى الحاكم الرّوماني ليهودا، بيلاطس البنطي، الذي استمع إلى الدّعوى في مقرّه الرّسمي، وقد يكون في قصر هيرودس السّابق بالقرب من البوّابة الغربية. بيلاطس لا يهتمّ بالمسيح. «أأنت ملك اليهود؟» يسأل (مرقس 15: 2). رفض عيسى الإجابة. يحاول بيلاطس، الذي صوّرته الأناجيل على أنّه حاكم وقاضٍ متردّد ومرتبك جدّاً -كان مؤلّفو الأناجيل حريصين على عدم استعداء الرّومان- اتّباع طريقة أخرى. يقترح على الجمهور خارج بيت الصّلاة عفو عيد الفصح: إمّا إطلاق سراح عيسى أو السّجين الإرهابي السياسي باراباس. لكن «رؤساء الكهنة يحرّضون الجمع المحتشد» (مرقس 15: 11) ويطالبون بإطلاق سراح باراباس وإعدام يسوع.
تمّ تجريد عيسى من ثيابه، وطُرح رداء أرجوانيّ حول كتفيه، ووُضع إكليل من الأشواك على رأسه، سخر منه الجنود الرّومان وتعاملوا معه بعنف شديد. يظهر عيسى مرّة أخرى للجماهير المحتشدة، التي تعالى صراخها وازداد عنفها. قال بيلاطس: «لا أجد سبباً للحكم عليه»، ثمّ غسل يديه في لفتة رسمية لتبرئة ذمّته. إنّ متّى هو الوحيد الذي ذكر كلمة الدّم المروّعة التي تردّد صداها المميت عبر القرون. «أنا بريء من دم هذا الرّجل» يقول بيلاطس. «هذا شأنكم الآن». فتردّ الجماهير كلّها: «دمه علينا وعلى أولادنا» (متّى 27: 24-26).
صَلْبه
من عادة الرّومان جلد المجرمين لإضعافهم جسديًّا قبل صلبهم. هكذا كان الأمر مع عيسى، الذي نُقل بعد ذلك خارج السّور الغربي للمدينة إلى مكان يُذكر تحديدًا باسم الجلجثة، «موضع الجمجمة» (متّى 27: 33)، وهو مسمَّر على صليب مُرفق بلائحة اتّهامه، «ملك اليهود». صُلب معه اثنان من «اللّصوص» الكلمة المشفّرة المعاصرة التي تحدّد الإرهابيّين السّياسيّين- وفي ذلك إهانة وإذلال لعيسى والسّخرية منه. «إن كنت مسيا إسرائيل، فانزل عن الصّليب حتى نرى ونؤمن» (مرقس 15: 32).
يُصلب عيسى في التّاسعة صباحًا (مرقس 15: 25) ويعلّق على الصّليب حتى السّاعة الثّالثة بعد الظّهر، وعندما أسلم الرّوح: «صرخ يسوع ومات» (مرقس 15: 37). كانت هناك دلائل ومعجزات. يقال إنّ الظّلام غطّى الأرض منذ الظّهر، وفي لحظة موت عيسى، يقال إنّ الحجاب الذي يحمي قدس الأقداس في الهيكل قد انشقّ إلى قسمين. وسُمع قائد المئة الرّوماني الذي وقف حارسًا عند أسفل الصّليب يقول: «حقًّا كان هذا الرّجل ابن الله» (مر 15: 39). كانت هناك أيضًا نساء ينتظرن ليشهدن النّهاية، وهنّ «مريم المجدلية ومريم والدة يعقوب الأصغر ويوسى وسالومة (5)، وهنّ اللّائي كنّ يتبعنه ويخدمنه منذ كان في الجليل» (مرقس 15: 40-41).
دفنه
كان يوم السّبت اليهوديّ قد بدأ عند غروب شمس يوم الجمعة من عيد الفصح، ولهذا السّبب كان هناك بعض التسرّع في إزالة الجسد من الصّليب ودفنه. وقد قام يوسف الرّامي بالتّرتيبات، «وهو مشير محترم في السّنهدريم، وكان هو نفسه ينتظر بشغف ملكوت الله» (مرقس 15: 43). يضيف يوحنّا (19: 39) أنّ نيقوديموس، التّلميذ الآخر لعيسى في السّنهدريم، كان أيضاً متورّطاً. طُلب من بيلاطس تسليم الجسد، وهو ما فعله بيلاطس، بعد أن تأكّد عن طريق الحرس الرّوماني الموجودين في الموقع أنّ عيسى قد مات بالفعل. يلفّ يوسف الجسد بقطعة قماش من الكتّان، ويضعه في قبر منحوت حديثاً في صخرة في حديقة قريبة (مرقس 15: 46؛ يوحنّا 19: 40-42).
وهكذا انتهت مسيرة يسوع النّاصري، الواعظ الجليلي صاحب الكاريزما الذي اعتقد بعضهم أنّه المسيح اليهودي. مات، مثل العديد من المتعطّشين إلى النّفوذ أو السّلطة في ذلك اليوم، كمجرم مُدانٍ على أيدي الرّومان الذين كان لهم كلّ النفوذ والسلطة. نحن لسنا مندهشين جدّاً من ذلك، ولكن خلافاً لمعظم أولئك الآخرين، لم يُقبض على عيسى في عمل تمرّد أو عصيان مفتوح، ولكن، على ما يبدو، كان استباقًا لما قد يفعله. وبالمثل، وهذا أمر محيّر بشكل أكبر، لم يكن يسوع مصدر قلق للرّومان، ولكن للسّلطات اليهودية، حيث لا تزال تعني، في يهودا في القرن الأوّل، كما كانت لقرون عديدة من قبل، كهنوت الهيكل. هل هدّد عيسى اليهودية أم إنّه هدّد الكهنة والهيكل، الذي لم يكن فقط المركز الرّوحي لهوية بني إسرائيل، بل أيضاً للمؤسّسة الاقتصادية المهيمنة في إسرائيل؟ يبدو أنّ الأناجيل غير مهتمّة. إنّها مسرحيّة لاهوتيّة رومانسيّة والأشرار فيها يمثّلون قوى دينيّة، وليس قوى اقتصادية أو حتى سياسية.
[1] - ترجمة مقتطفة من كتاب عيسى ومحمد توازي المسارات، توازي السِّيَر، فرانسيس إدوارد بترز، ترجمة علي بن رجب، صدر عن دار مؤمنون بلاحدود.






