مؤسسة مؤمنون بلا حدود مشروع معرفي رائد

فئة :  مقالات

مؤسسة مؤمنون بلا حدود مشروع معرفي رائد

مؤسسة مؤمنون بلا حدود مشروع معرفي رائد

ثمة معطيات عديدة تدفعنا إلى القول إنّ التواصل الإنساني، بمختلف صوره ومستوياته، يعدّ من الضرورات القصوى في حياة الإنسان فردًا وجماعة. فهو مجال للحرية والتفاعل المتبادل، ورسالة حوار وتعارف، وأرضية للتسامح والتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة.

لذلك، فإنّ تطلّعنا جميعًا ينبغي أن يتجه نحو إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف التعبيرات والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصلي شامل. وفي تقديرنا، إنّ التواصل المستديم هو الكفيل بتحرير الوعي الوطني والثقافي من كلّ التشوهات والأوهام التي تغذّي حالات القطيعة والإقصاء.

ولا تواصل فعّالًا وديناميًا من دون ترسيخ قيم الحوار والنقد والتسامح. ففي ظل ثقافة الحوار، تذوب الفروقات وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات متعددة للرقي والانطلاق. وفي رحاب النقد البنّاء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتُثْرى منابع التجديد والتطوير في الأمة والوطن. ومن هنا، فإنّ الإصغاء الواعي والعميق لمختلف الآراء والأفكار والإبداعات يجعل من وعي الاختلاف وعيًا جماليًا، أشبه بتنوّع أغصان الشجرة.

وتكمن مهمة المنابر الإعلامية في هذا السياق في احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي. كما أنّ الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة هي أن تفتح عقولها وتوفّر الاستعداد النفسي لتقبّل خطاب النقد والإبداع. وهذا القبول لا يعني بحال من الأحوال الانخراط في مضاربات أيديولوجية أو فكرية، بل يعني تهيئة الظروف الذاتية والموضوعية لترجمة المفاهيم الجديدة إلى وقائع راسخة وحقائق حيّة.

ولا نعدو الصواب حين نقول إنّ هذه العملية تحتاج إلى تكريس قيم الحوار والتسامح في الفضاء الاجتماعي. فحين يتوفر الحوار والمثاقفة، يتوفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وإطلاق طاقاته الإبداعية، وهي جميعها عناصر حيوية لصناعة قوة الوطن. ويخطئ من يتصور أنّ الإقصاء والنفي والنبذ قادرة على خلق مواطنة صالحة أو ولاء حقيقي للوطن.

وتؤكد التجارب التاريخية أنّ الحوار والشفافية وسيادة القانون هي الضامن الأعمق لتعميق حس المواطنة. فالولايات المتحدة، مثلًا، استوعبت جماعات قدمت من بيئات جغرافية وعقدية وفكرية متباينة، غير أنّ الحرية بمؤسساتها وآلياتها، وسيادة القانون والدستور، هي التي صهرت هذا التنوّع في إطار أمة واحدة وشعب متميّز.

وحده الحوار يعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، ويعيد صياغة العلاقة بينهما، فينتج وعيًا وطنيًا صادقًا يحفّز على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب تطوير نظام للشراكة والحوار على مختلف المستويات، حتى يتمكّن الجميع، كلّ من موقعه، من خدمة وطنه وتعزيز مكانته.

لكن القواسم المشتركة المجردة لا تكفي وحدها لصنع الوحدة، فهي تحتاج دائمًا إلى تنمية مستمرة، وحقائق ومصالح متداخلة، حتى تؤدي دورها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق. لذلك، فالمطلوب هو الانفتاح على مساحات التنوع، والتواصل مع المختلفين من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص التقدّم، وتحرّرنا من العجز والاستكانة، وتدفعنا إلى اقتحام آفاق أوسع في علاقتنا بالحرية والنقد والوطن.

وعلى هدي هذه العلاقة الجديدة، ذات المضامين الحضارية والإنسانية، نخلق فضاءً نقديًا يتيح لنا ممارسة تنوّعنا وتعدديتنا وتجسيد حضورنا الفاعل. والنقد، في جوهره، لا يعني التفلت من القيم أو التقاليد، بل يعني استخدام الإرادة الواعية في التعامل مع الواقع وتحولاته بما ينسجم مع المثل العليا والضمير الجمعي. فالنقد المنضبط بضوابط الحكمة والمصلحة العليا هو من أهم وسائل التطور والتقدم.

ولذلك، ينبغي ألّا نخاف من النقد أو ننبذه، بل من الضروري التعامل معه بفعالية عبر ما يلي:

1- إنّ توظيف النقد في عمليات التقدّم الاجتماعي يتطلب ثقافة جديدة تتغلغل في النسيج الاجتماعي، قوامها قيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير. فلا نقد فعّالًا بلا ثقافة تسمح للجميع بممارسة حقهم في التعبير، وتنبذ الإقصاء والعنف. وبمقدار انفتاحنا على الحوار الثقافي والمعرفي، تتجلّى فعالية النقد في الفضاء الاجتماعي.

2- لا يتطور النقد ويؤتي ثماره الإيجابية إلا في مجتمع يستوعب ضرورات النقد ويوفر متطلبات استيعابه؛ من حيوية اجتماعية، ومؤسسات قادرة على تداول الرأي، وممارسات للمراجعة والتقويم.

3- إنّ المشكلات لا تنشأ من مجرد الاختلاف أو تضارب المصالح، بل من العجز عن إقامة نظام مشترك، أو من تخريب هذا النظام بعد قيامه. وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كشريك مختلف، مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه، واعتباره حافزًا على التكامل لا ذريعة للانقسام.

إنّ حوار النخب من الأطر الجوهرية لاستيعاب النقد والمراجعة والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج، وهو خطوة أساسية لتأسيس نظام مشترك وصيغة عملية للتنسيق والتعاون.

وجماع القول: لا يمكن حجب النقد والتفكير الحر، وأي محاولة لذلك لا تفضي إلا إلى مزيد من التدهور وتبديد الطاقات والدخول في معارك هامشية. أمّا المطلوب فهو الإنصات الواعي للنقد والتفكير الحر، واستيعاب القضايا الأساسية المطروحة، لإحداث نقلة نوعية في مسيرة مجتمعنا ووطننا نحو مزيد من الحيوية والفعالية.

أسوق هذا الكلام للإشادة الفكرية والمعرفية بتجربة مؤسسة مؤمنون بلا حدود، التي استطاعت خلال سنوات قليلة أن تتبوأ موقعًا متقدّمًا في عالم النشر والمعرفة. فقد نجحت من خلال مطبوعاتها المتعددة في مناقشة أبرز القضايا الفكرية والمعرفية التي تحتاج إلى طرح جريء، وأطلقت سبل الحوار الفكري بعيدًا عن التشنج الأيديولوجي والتعصب المعرفي، ملتزمة بالشروط العلمية في نشر النصوص وإدارة الحوار مع الكتّاب.

إنّ تجربة مؤمنون بلا حدود تعدّ من التجارب الرائدة التي تجاوزت الحدود الجغرافية والمذهبية، ونشرت لكثير من الكتّاب والمؤلفين من مناطق متنوعة، واعتنت بالأطروحات الفكرية التي تحرّك المياه الراكدة في المجتمعات العربية والإسلامية. ولا يسعنا هنا إلا الإشادة بالقائمين على هذه المؤسسة، والتطلع إلى استمرارها في خدمة الوعي والمعرفة وصناعة آفاق فكرية جديدة.

فالاختلاف الفكري لا يعني التشرذم والتشتت، كما أنّ الوحدة لا تعني إلغاء التنوّع. فالنزعات القسرية إلى الوحدة لم تثمر سوى المزيد من الانقسام، كما أنّ ترذيل الاختلاف لم يؤدِّ إلا إلى توترات وصراعات. فالاختلاف ليس انقطاعًا عن الوحدة، والوحدة ليست توقفًا عن التمايز والتنوع.

من هنا ندرك أهمية المشاريع الفكرية التي تثري الحياة الاجتماعية والإنسانية. فاختلافاتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية ينبغي أن تكون وسيلة لتعميق قيم العدالة والوحدة، لا ذريعة للقطيعة. وفشل تجربة أو تجارب عدة لا يعني فشل الفكرة نفسها، بل يحفّزنا على المحاولة مجددًا، حتى نصل إلى النتائج والأفق المنشود. وعلى هذا النهج ننظر إلى تجربة مؤمنون بلا حدود ونتطلّع إلى استمرارها في هذا المسار المعرفي والفكري، حتى تترك بصمات خالدة في فضاء الأمة العربية والإسلامية.