مفارقات الهويَّة عند تايلور


فئة :  مقالات

مفارقات الهويَّة عند تايلور

مفارقات الهويَّة عند تايلور([1])


تتأصَّل كلمة الهويَّة بالضرورة في زوج مفاهيمي اخترق تاريخ الفكر الغربي عبر تمفصلاته الأساسيَّة؛ أقصد ثنائيَّة الواحد والمتعدّد التي مثلت بؤرة أسئلة مدوّخة ما فتئت تنتج المفارقات تلو الأخرى؛ فمن جهة يحتاج الواحد لتحقق واحديته تكراراً هو في جانب منه تعدُّد، وهذا الأخير لا يصحُّ أن يُدعى كذلك إلّا بقدر ما يوجد خيط رابط في تكراره، أي صورة من صور الواحديَّة. في الحالتين معاً، إنَّ عبارة الهويَّة تحمل دائماً في جنباتها هذا التوتر بين ما يظهر باعتباره وجوداً ملموساً قابلاً لأن يُعدَّ واحداً، وبين ما سبق هذه العينيَّة من سلاسل وروابط هي ما سمح باستبانة هذه الهويَّة في ملامحها المتميزة. بالتالي، إنَّ كلَّ هويَّة إنَّما تتولّد من رحم الذاكرة، هذه الأخيرة حين تكون جماعيَّة، فهي تعبّر عن الثقافة التي تمثل مفارقة المفارقات، لأنَّها المتعدّد الكمّي الذي يولد الواحد الكيفي، والهويَّة الملموسة التي تشهد للهويَّة المجرَّدة.

ما نود أن نقدّمه في هذا المقال هو مدى قدرة الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور (Charles Taylor) على تجاوز هذه المفارقات من خلال اشتغاله على العمق الجماعاتي للهويَّة الفرديَّة الذي يمثل موقفاً من هويَّة الذاتيَّة المعرفيَّة الديكارتيَّة التي تولّدت عنها حداثة قطائعيَّة وتبسيطيَّة اختزاليَّة تحتاج حسب تايلور إلى مراجعة عميقة.

1ـ نحو استعادة الهويَّة المقطوعة

إنَّ الكائن البشري حسب تايلور ليس مجرَّد موضوع ملقى به ضمن موضوعات أخرى؛ فهو لا يتلقّى تعريفه وهويَّته عبر أفعال إشارة واردة من أطراف أخرى مثلما هو حال الظواهر الطبيعيَّة، وإنَّما يتحدَّد على خلافها بكيفيَّة ذاتيَّة، لذلك يصحُّ القول إنَّه حيوان يؤوّل ذاته (self interpreting) أي إنَّه ينظر ويقوّم تصوُّراته ومواقفه وميولاته واختياراته من خلال تصوُّر للخير ينجم بالضرورة عن وضعيَّة انتمائيَّة تتشكَّل داخل سياق تواصلي محدَّد. هذا المنطلق هو ما يجعل تايلور يرى أنَّ كلَّ نظريَّة تحاول اختلاق هويَّة مقطوعة عن جذرها الثقافي، وذلك بجعل مشاريعها الإصلاحيَّة تضع تصوُّرات للعدالة سابقة عن تصوُّرات الخير، على شاكلة دينتلوجيَّة رولز، إنَّها لا تحصل على هويَّة محايدة كما تدَّعي، بل على فراغ من الصعب الاحتيال عليه، رغم كلّ الألاعيب النظريَّة، لا لشيء، إلّا لأنَّ ما يبدو تلقائيَّاً وطبيعيَّاً في الوجود الإنساني، هو مطبوع بشكل مسبق بدلالات ثقافيَّة. الأمر الذي يجعل الوجود الإنساني حاملاً لمعنى ومعقوليَّة تسمح له بأن يتواصل داخل جماعته، وأن يسوّغ أيضاً مشاعره وسلوكاته للأغيار الخارجيين عن الجماعة، لأنَّ ما هو ثقافي ليس نسبيَّاً بشكل مطلق.

إنَّ ردود الفعل حيال الأشخاص الآخرين تعلقاً بشرفهم وقيمتهم تنجم في الغالب عن سلوك شبه غريزي إزاء آلام الناس من خلال الرُّعب والشفقة، لكن لو أنَّ الأمر كان كذلك بشكل خالص ونهائي، فإنَّ الكائن البشري سيكون قادراً فقط على أن يظهر تقزّزاً هو أقرب لحركة طبيعيَّة ليس بمقدورها رغم حدوثها أن تسوّغ نفسها. لكن ما يطالعنا في الواقع هو توفّر هذا الكائن في نفسه على ما يؤهّله لكي يسوّغ ردَّة الفعل هذه بمدى استحقاق وجدارة الكائن موضوع التعاطف أو التقزّز من عدمه. ولا يحيل هذا التسويغ إلى هويَّة طبيعيَّة غرائزيَّة متجانسة، بل هناك أنماط وألوان متعدّدة من الصيغ والأسانيد، وهذا ما يجعل كلَّ حدس أخلاقي من منظور تايلور، يتكشَّف داخل أنطلوجيَّة أخلاقيَّة خاصَّة، تعبّر عن تصوُّر مستقلٍّ للعالم. فلا مجال للدينتلوجيا في الوجود الأخلاقي للإنسان.

تسمح هذه الأنطولوجيَّة للإنسان بأن يخرج من ضحالة وتهلهل الأحكام الذوقيَّة، لأنَّ ردَّ فعل من هذا القبيل يكون عليه أن ينتهي مباشرة عند حدوثه؛ فهو اشمئزاز أو استمراء وكفى. بينما يظلُّ الموضوع بمنأى عن هويَّة الذائقة، بل على العكس إنَّ هذه الأخيرة هي التابعة والمرتهنة بتأثير الموضوع. على خلاف الرؤية الأخلاقيَّة التي تخرج عن هذه الهويَّة الطبيعيَّة المسيَّجة بالطابع التجانسي للغرائز، لكي تخلق موقفاً من الموضوع يجعل هذا الأخير نفسه تحت طائلة معيار مستقل سواء عن المعطى الموضوعي أو عن الذوق الشخصي، ما يفتح الأفق أمام إمكانيَّة تقييم قوي (strong evaluation) يتجاوز الأشياء الموضوعيَّة نحو قيمتها، حسب معيار الخطأ والصواب، واللّائق وغير اللّائق.

تسمح هذه المعياريَّة التي تتولد عن أنطولوجيَّة أخلاقيَّة محدَّدة باستباق ردود الفعل تجاه الموضوعات، والتمييز بينها حسب تراتبيَّة قائمة على تصوُّر معيَّن للخير، وهذا ما يجعل الهويَّة الأخلاقيَّة سنداً لفعل المطالبة المسوَّغ، وهذا ما يجعل الحدوس الأخلاقيَّة تؤسّس لهويَّة متعالقة مع كائنات إنسانيَّة أخرى، وتحول دون أن تلتصق بالأشياء وتنمحي من أمامها، فهذه الحدوس الأخلاقيَّة تتوجَّه نحو بناء تصوُّرات للخير تهمُّ الإنسانيَّة جمعاء، لنقل إنَّها تتطلّع لذلك على أقلّ تقدير، بحيث يكون بإمكانها أن تميّز بين الأفاضل والأراذل على العموم، وهو ما يتضمَّن أيضاً تصوُّراً ذاتيَّاً يتعلّق بكرامة الشخص.

يفيد ما سبق أنَّ هويَّة الكائن البشري، حسب تايلور، غير منغلقة على ذاتها على شاكلة اختلاجات عمياء وجوَّانيَّة، إنَّها مشدودة إلى ما يتجاوزها دون أن يلغيها مع ذلك. فالجماعة توجد منذ البداية داخل الفرد كاستعداد، كما أنَّ الفرد نفسه يوجد داخل الجماعة الثقافيَّة كحضور ملموس، وهذا يفيد أنَّ القوام الأخلاقي لهذه الهويَّة يسمها بطابع ثقافي وحضاري في الوقت نفسه، لأنَّه يسمح بوجود نظام من المثل الكبرى، أو الغايات التي ليست مجرَّد انعكاس للرَّغبات الشخصيَّة، بل هي صدى لتصوُّر متكامل للخير.

هويَّة الكائن البشري، حسب تايلور، غير منغلقة على ذاتها على شاكلة اختلاجات عمياء وجوَّانيَّة، إنَّها مشدودة إلى ما يتجاوزها دون أن يلغيها مع ذلك

ويمثل هذا نقداً، سواء للمقاربات الطبيعيَّة للهويَّة، لكونها تغفل هذه المكونات، أو للمقاربات الليبراليَّة نظراً لاكتفائها بهويَّة بدون لحمة ثقافيَّة، والحال أنَّ أيَّ تغييب لهذا البُعد يلغي من المبتدأ إمكانيَّة إقامة أيَّة إتيقا قادرة على فهم وتصنيف الأفعال الإنسانيَّة.

2ـ الهويَّة طريقاً وإطاراً

تَمْثل الهويَّة الإنسانيَّة بالضرورة في إطار يجسِّد الأرضيَّة التي تنبني داخلها حدوسنا الأخلاقيَّة، وهذا الانتماء هو نفسه ما يعطي لمفهوم الشخص دلالته؛ لأنَّ هذا الأخير يصبح مستغلقاً على الفهم إذا وضعناه في إطار غريب عنه "الخروج عن هذه الحدود [الأفق الذي يحدّده الإطار] يكافئ القول بالخروج عمَّا نتعرَّف عليه في تمامه، وفي هذا إيذاء للشخص الإنساني"[2]. إنَّ هويَّة الشخص تتحدَّد في إطار علائقي مع الآخرين، فهي ليست هويَّة مطابق بقدر ما هي مساوقة لوجود آخر يشاركنا إطارنا الثقافي سواء كقرابة، أو على شاكلة دور اجتماعي، أو انتماء خاص.

لهذا فإنَّ سؤال "من أكون"؟ هو بالضرورة مضاعف بسؤال "من أنت"؟ أي إنَّنا لا نتعرَّف على هويَّتنا إلّا ونحن نجيب عن أسئلة الآخر داخل إحداثيَّات فضاء عام ومشترك. ويتجاوز جواب من هذا القبيل أن يكون كشفاً للذات أو إعلاناً لها، لكي يصبح قدرة على معرفة موقعنا داخل الإطار الذي يسيّجنا مع الآخرين، ويتركنا في معيَّتهم. وأيَّة هويَّة لا تستشعر ضرورة استحضار الجماعة، وتعتقد في إمكانيَّة بناء هويَّة على أساس مونولوج مغلق نحو أشكال المحادثات في إطار ما يدعوه تايلور "بشبكات المحادثة"، فإنَّها تعبّر بذلك عن إحالتها لوجود مضمحل وكينونة مريضة، "الشخص المفتقد للإطار سيكون خارج فضاء محادثاتنا، فهو ليس له موقف في الفضاء الذي نحيا به، ونحن نعتبر ذلك، يقول تايلور، بمثابة مرض نفسي"[3].

لا يمكن للهويَّة أن تتحدَّد جهاتها الأربع، ومن ثمَّة رؤاها، إلّا داخل فضاء مؤّطر بأنطلوجيا أخلاقيَّة، فلا طريق إلّا داخل الإطار "الحديث عن التوجُّه يفترض فضاء مقابلاً يجد المرء طريقه عبره"[4]، وبالتالي فإنَّ الطريق ليست مجرَّد تجربة ذاتيَّة، إنَّها لا توجد في الافتراضات النظريَّة المجرَّدة على الشاكلة الرولزيَّة، وليست هي أيضاً ذلك الحساب النفعي البالغ الذاتيَّة والمتمفصل حسب مبدأ اللّذة والألم بكلّ ما يحمل هذان الأساسان من خصوصيَّة ذوقيَّة، وإنَّما هي فضاء مستقل عني كهويَّة مفردة، وغير متعلّق بمدى نجاحي أو فشلي. إنَّه فضاء يلمُّ الذات ويحفّها ويمنحها معالمها التوجيهيَّة. لهذا فإنَّه يسمح لهذه الذات بأن تجد ما يمكنها أن تتحصَّله كسند موضوعي لتأويلها الشخصي، فهي لا تفهم هويَّتها في فراغ وجود نظري مفصول عن الزمن، وهذا ما يجنّبها أن تكون مجرَّد حلم يفتقد للواقعيَّة وللقابليَّة للتداول الحواري حولها.

3ـ الهويَّة بين التموقع والتأويل

القول إنَّ الهويَّة هي إيجاد طريق داخل الإطار والقدرة على صياغته داخل شبكات محادثة، لا يفيد أنَّها هويَّة جغرافيَّة ملتصقة "بموقع" محدَّد داخل هذا الإطار؛ لهذا سيكون من الخطأ الاعتقاد أنَّ تشارلز تايلور يدافع عن انتماءات سعيدة وسطحيَّة للجماعة، بحيث يغنينا ذلك عن مساءلة الذّات وعن الاعتراض على الجماعة التي أمتح منها هويَّتي. فليس من الصحيح القول إنَّ "الذّات" التايلوريَّة تنصهر داخل "النحن" الثقافي، وتنمحي بحيث لا تبقى إلّا الهويَّة الثقافيَّة بطابعها اللَّاشخصي.

من الخطأ الاعتقاد أنَّ تشارلز تايلور يدافع عن انتماءات سعيدة وسطحيَّة للجماعة، بحيث يغنينا ذلك عن مساءلة الذّات وعن الاعتراض على الجماعة التي أمتح منها هويَّتي

ما يقصده في الواقع صاحب كتاب "منابع الذات" يختلف تماماً عن كلّ المنازع الشوفينيَّة التي تقدّم الهويَّة الذاتيَّة قرباناً لوجود الجماعة، لأنَّ كلَّ ذات إنَّما تعمل على تأويل هوَّيتها على ضوء إطار ثقافي. الحال أنَّ هذا التأويل يرتبط بما يحسُّه هذا الفرد في وضعيَّات معيَّنة، غير أنَّ هذا الإحساس لا يصبح صورة للهويَّة الثقافيَّة إلّا حين يكون الفرد قادراً على ربطه بكلمة عامَّة؛ فالإحساس بأنَّني خائف لا يمكن أن يفصل عن معنى عام تحمله كلمة "الخوف" بالنسبة إليَّ، وطبعاً هي كلمة توجد في شبكة كاملة من المفردات والعبارات التي تفصل هذا المعنى وتدقّقه.

يفيد ما سبق أنَّ إحساس الفرد لا يأخذ صورة جاهزة انطلاقاً من معجم لغوي يقابل بين كلمة وبين معنى، وإنَّما يتشكَّل هذا الإحساس في إطار شبكة سيميائيَّة من الكلمات المتقاربة هي في الواقع ما يسمح بوجود هذا الإحساس. فمثلاً، إنَّني لا أشعر بالعار في وضعيَّة معيَّنة إذا كنت أفتقد لهذه الشبكة السيميائيَّة التي تصنّف هذه الوضعيَّة في خانة ما هو مخجل، كما أنَّ استعمالنا لهذه الشبكة يختلف من فرد إلى آخر رغم توحُّد المنطلقات، ما هو عار أو مخيف لا يكون كذلك بالدرجة نفسها بالنسبة إلى الجميع. فذلك يختلف حسب ما يتوافر من مفردات لدى الشخص، ومدى تعقّد هذه المفردات وقدرتها على التفصيل.

إنَّ هذا البُعد السيميائي للأحاسيس هو ما يجعل كلَّ ذات تأخذ صورتها على شكل مختلف حسب تأويلاتها الذاتيَّة للأحاسيس، بحسب ما يتوافر لديها من مفردات ومن ثمَّة من دلالات، إنَّنا حسب هذا التصوُّر لا نستطيع الخروج من أفق لغتنا، وذلك على النحو الذي عبَّر عنه فيتغنشتين الذي مثل مرجعاً مهمَّاً بالنسبة إلى فلسفة تايلور، كما أنَّ درجات رقيّ وجودنا ستصبح مرتبطة بهذه العدَّة التأويليَّة للذات، "لهذا علينا أن نعتبر أنَّ الإنسان حيوان ذاتي التأويل؛ لأنَّ بنية المعاني لا توجد مستقلة عن التأويل الذي يجريه علينا"[5].

يجنّب هذا البُعد السيميائي للهويَّة من أن تكون نقطة ثابتة ونهائية، لكي تبدو على شكل حركة مستمرَّة من التأويل الذاتي الذي يعيد ترسيم وصياغة تأويلات مرجعيَّة حسب وضعيَّة الشخص وقيمته المعرفيَّة. فقد نشعر بالعار من الأوضاع نفسها، لكنَّ هذا لا يجعلنا نقع في تجانسيَّة بدون ملامح؛ لأنَّ كلَّ شخص يطبع تجربته بتلوينات تأويليَّة تسمح له بالتميز أو الاستقلاليَّة رغم انتمائه الثقافي للجماعة، فهذه الأخيرة ليست مكاناً حسب تايلور بقدر ما هي مجال تواصلي سيميائي لا يتوقف عن الحراك والتفاعل. وهذا ما يجعل المقاربة العلمويَّة لهويَّة الشخص غير ذات جدوى، لأنَّها تحاول أن تقاربه خارج هذا التأويل الذاتي الذي يؤسّس لنفسه، وهذا ما يجعلها تخطئ حقيقته.

إنَّنا لا نملك ذواتاً حسب تايلور إلّا بقدر "ما نتحرَّك داخل فضاء معيَّن من الأسئلة، وبقدر ما نبحث ونجد من التوجُّهات نحو الخير"[6]، فليست الأجساد أو الأعضاء الداخليَّة هي ما يشكّل هويَّة الذات، حيث يمكن لهذه الأعضاء الداخليَّة أن تبقى بعيدة عن وعينا بها، فهي تشتغل خارج لغتنا، غير أنَّ هذا الجسم يصبح جزءاً من هويَّتنا حينما نجري عليه تأويلاً ثقافيَّاً، ونصوغه في عباراتنا الثقافيَّة التي لا تكون بالضرورة علميَّة.

هذا الطابع اللّغوي للتأويل الذاتي يتضمَّن وجود وشيجة ضروريَّة لهويَّة الذات مع الجماعة، على أساس أنَّ أيَّة لغة هي وليدة جماعة. لهذا فإنَّ استعمالها يبقينا بالضرورة في حدودها. إنَّ تفكيري وتأويلي لذاتي يمرُّ عبر الآخرين؛ انتمائي العائلي ومشاعري تجاه هذا الشخص أو ذاك، إنَّها هويَّة متكلَمة وقائلة وليست مونادا صامتة.

إنَّ تعبيرنا عن أنفسنا يتمُّ أوَّل الأمر بتقليد كلام الآخرين عن أنفسهم، لأنَّنا نتعلّم عند الصغر كلماتنا من الجماعة، ولذلك فنحن نأخذ معانيها جاهزة. لكن مع التقدُّم في العمر يصبح لاستعمالنا لهذه اللّغة بعض الخصوصيَّة الشّخصيَّة، فنحن نعيد تعريف الكلمات، ونجري عليها تأويلاً جديداً. غير أنَّ هذا لا يجعلنا منقطعين عن التعامل مع هويَّتنا من حيث هي بؤرة محادثة لا تتوقف مع الآخرين، سواء كانوا واقعيين أو افتراضيين. فالحالة الحقيقيَّة للهويَّة الإنسانيَّة ليست هي الثقافة مأخوذة باعتبارها مكاناً أو تراثاً مغلقاً، وإنَّما هي شبكات محادثة (webs of interlocution).

الهويَّة السَّرديَّة

إذا كان الشّخص الإنساني يتحدَّد بمدى قدرته على السير والتوجُّه داخل إطار محدَّد، وإن كان ذلك لا ينفكُّ عن البُعد اللّغوي الذي يسمح لنا بفهم هذا الإطار، وبتأويل أنفسنا حسب اجتهادات خاصَّة داخله، فهذا يفيد أنَّ كلَّ هويَّة إنسانيَّة مرتهنة بمدى قدرتها على تقديم ذاتها في إطار سرد منسجم، حيث تتمكَّن من أن تهتدي سواء في علاقتنا بالماضي أو بالمستقبل، لأنَّ هويَّة الإنسان حسب تايلور لا تتحقّق فقط بمدى القدرة على الإجابة عن سؤال من أنا؟ لكن أيضاً بالتوفق في أن نحكي ونقدّم سرداً يظهر كيف أصبحت ما "أنا" عليه، وإلى "أين" أنا متَّجه. فبدون هذه التمفصلات الثلاثة، فإنَّ حكاية الهويَّة تصبح غير ذات معنى؛ لأنَّ هذا الأخير يتحدَّد ضرورة بتواجد أقطاب ثلاثة: الفرد، والجماعة، وتصوُّر مشترك للخير.

خاتمة

حاول تايلور أن يجد مخارج نظريَّة مهمَّة لمفارقات الهويَّة المتعلقة على وجه الخصوص بذلك التقابل الحاد بين الفرد وبين الجماعة، وبين الحريَّة وبين الاستلاب، وذلك بتقديمه لتصوُّر يسمح لنا بأن نتبيَّن الجماعة داخل الفرد نفسه، والاحتياط لجعل الجماعة لا تطمس وجود الفرد. كما أنَّ الحريَّة، حسب تصوُّره للهويَّة، لا تتحقّق من خلال انتماء حر وسطحي متحلل من أيّ التزام مسبق، بل هي حريَّة منتمية لا تدور في دوَّامة فراغ النرجسيَّة، بل تتجذَّر في تربة تسمح بنموّها على أشكال عديدة من الملامح، رغم وجود هويَّة مشتركة ناعمة غير متصلّبة، مفتوحة وغير منغلقة.

[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12

[2]. Taylor, Charles, sources of self, Cambridge university press1990, p, 27.

[3]. ibid. 77.

[4]. ibid. 29.

[5]ـ تشارلز تايلور، منابع الذات: تكوّن الهويَّة الحديثة، ترجمة: حيدر إسماعيل الحاج، المنظمة العربيَّة للترجمة، ص 126.

[6]. ibid. 34.