التسول الإلكتروني ومآلاته
فئة : مقالات
التسول الإلكتروني ومآلاته
ملخص
لطالما نهج التسول داخل المسرح الاجتماعي طرائق عديدة تسعى لإنجاحه، لكن هذا الأخير أصبح اليوم غارقا في تقليدانيته متجاوزا من طرف التسول الإلكتروني، وأصبح متمردا منتزعا للمقدس رداء قداسته وابتكر منطقا جديدا لا يخضع للشروط الأخلاقية ولا الثقافية ولا حتى الدينية. أغمض التسول أعين البراءة ليفتح مكانها عين البراغماتية الساحقة، وفتح المجال لإثارة المرغوب في اللاوعي والمرفوض في الوعي عن طريق مجموعة من الطرائق التي تجاوزت الحدود التي سيّجها الخطاب الديني، وخلق التسول الإلكتروني ثورة رقمية بعدما داعب المسكوت عنه وسبر أغوار الهو المدفون في داخل كل فرد مستهلِك لهذه المواقع الإلكترونية، وبدأ بتخريب الثقافة الأصلية لهذا المجتمع المسلم ليُغرقه في قعر وحل الاغتراب مسلوب الهوية فاقدًا أناه وسط ثقافة هجينة عاجزة عن تحديد كنهها. ولذلك، سنضع التسول الإلكتروني تحت مجهر التحليل في هذا المقال بواسطة منهج كيفي تحليلي لنكشف الطرائق التي يتم اعتمادها في هذا النوع من التسول، وكيف أحدث معه تغييرات ملحوظة في ثقافة المجتمع المغربي.
تقديم
تضرب ظاهرة التسول بجذورها داخل تاريخ المجتمعات الإنسانية، حتى وإن كانت درجة استفحالها متباينة ومختلفة من زمن لآخر أو من مجتمع لآخر، إلا أنها ظاهرة تتسلل لتُعبر عن نفسها داخل الممارسات اليومية لشريحة من أفراد المجتمع. لكن نظرا للديناميكية التي تحكم تاريخ الإنسانية، فإن فعل التسول أيضا محكوم عليه بالتغير شأنه شأن باقي الممارسات التي تصبح أسيرة وتابعة لحتميات معظم المتغيرات الخارجية، ومن أبرز المتغيرات التي قلبت العالم رأسا على عقب، نجد العولمة التي أرادت أن تقضي على هويات كل الحضارات لتغدو تابعة ومقلدة لأهوائها. وأصبح مفهوم الثقافة المحلية يعيش غربته في عالم يلتهم في الأقليات ويستبد فتاتها متجها نحو إقبار بعض الهويات. ولهذا، نجد معظم الأفعال والممارسات اعتراها التغيير وغير ملامحها، حيث يتم إقصاء السمات التي تشكل جوهر التفرد والخصوصية، ويتم تجاوزها حتى وإن كانت دينية أخلاقية، ولعل فعل التسول من بين هذه الأفعال التي تم هدمها وإعادة إعطائها قالبا جديدًا يُبنى وفق معايير جديدة وأسس جديدة ومنطق جديد. ولذلك، سنحاول هنا أن نضع فعل التسول تحت مجهر التحليل لكي نتعرف على كل ما هو ظاهري وباطني فيه وكشف خباياه، ولأن السؤال مفتاح المعرفة، سنطرح عدة تساؤلات لتؤطر وتسيج مسار البحث عن ظاهرة التسول الإلكتروني.
ماهي الطرائق المعتمدة في فعل التسول الإلكتروني؟ وما هي أهم التحولات التي عرفها فعل التسول بانتقاله من التسول التقليدي إلى التسول الإلكتروني؟ وما هي أبرز التحولات الثقافية التي أفرزها التسول الإلكتروني؟
فربما قد يعتمد المتسولون على طبيعة المحتوى وعرض أجسادهم، وهذه الطرائق المعتمدة ربما جعلتها تتجاوز التسول التقليدي إلى تسول أقل وصما، ما جعل البعد الثقافي يتغير ويغترب عن هويته.
أولا: الطرائق المعتمدة في فعل التسول داخل مواقع التواصل الإجتماعي
يعج العالم الافتراضي ويتغنى بتنوع كبير في طرائق التسول التي ابتدعتها فئة من الممارسين لهذا الفعل؛ وذلك بعيدا عن مقولات الأخلاق التي تم نفيها في عملية الابتكار الخاصة بهم، وأخذوا من البراغماتية بوعي أو بدونه ما قاله وليام جيمس: "لا أرى إمكانية تعريف كلمة الحقيقة أو وصف حكم من الأحكام بالصدق دون الاعتماد على نتائجه المترتبة عليه"[1]. وعليه يمكن القول، إنهم أخذوا من البراغماتية مبدأها الذي جعل كل ما يخدم مصالحهم، فهو حقيقي باعتبار التسول يمدهم بنتائج تخدم وتُشفي غليل نهمهم.
ومن بين الطرائق المعتمدة نجد ما يلي:
- الروتين اليومي:
تُعد هذه الطريقة من أوائل الأساليب التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد لقيت انتشارًا واسعًا خصوصًا بين بعض النساء والفتيات، حيث يُقدمن على استعراض أجسادهن بملابس شبه عارية، بعد اختيار دقيق لأزياء مصمّمة خصيصًا لإثارة انتباه المشاهدين. وغالبًا ما تكون هذه الملابس مصنوعة من أقمشة شفافة، لا تخفي الجسد بالكامل ولا تُظهره تمامًا، مما يمنحها طابعًا إيحائيًا متعمدًا.
غير أن الأمر لا يقتصر فقط على اختيار نوع اللباس، بل يمتد إلى انتقاء وضعيات وتصرفات محسوبة بدقة، تُعبّر من خلالها "صانعة المحتوى" — كما تُسمي نفسها — عن روتينها اليومي. إلا أن هذا الروتين، في كثير من الأحيان، لا يكون بريئًا أو عفويًا، بل موجّهًا بشكل واضح لاستقطاب المتابعين، بل وأحيانًا جذب المانحين والداعمين الذين يبدون إعجابهم بالجسد لا بالمضمون.
تُطرح هنا تساؤلات جوهرية حول أثر هذا النوع من المحتوى على القيم الثقافية والخصوصية الدينية، وعن سبب الإقبال الجماهيري الواسع عليه، رغم هشاشة مضمونه وغيابه في الغالب عن القضايا الهادفة التي تمس عمق مجتمعاتنا.
وقد يكون من أسباب هذا التقبل ما يمكن وصفه بميول الاغتراب عن الدين، وذلك نتيجة لتراكمات عدة، من بينها رفض بعض المؤسسات الدينية التي أصبحت تُنظر إليها بوصفها قسرية أو منفصلة عن الواقع، مقابل اتساع الفجوة بين غنى المؤسسة الدينية من جهة، وفقر الفرد المؤمن — ماديًا وروحيًا وفكريًا — من جهة أخرى[2].
في هذا السياق، قد يختار البعض "عرض الذات" كسلعة في سوق الاهتمام الرقمي، متجاوزين بذلك المنطق الديني والأخلاقي، الذي لطالما شكّل حاجزًا أمام الخضوع لمغريات عصر الرقمنة وتحويل الإنسان إلى مادة استهلاكية.
- لعبة الجولات:
تُعد هذه الطريقة من تقنيات التسول الحديثة التي ظهرت مؤخرًا مقارنةً بالطريقة الأولى، وتشمل الذكور والإناث معًا. تقوم على فتح بث مباشر يجمع بين شخصين أو أكثر — وغالبًا ما يكون بين ذكر وأنثى — بحيث يكون لكل طرف منهما جمهور من المشاهدين يسانده. ويُعبّر هؤلاء المشاهدون عن دعمهم عبر تقديم "هدايا" افتراضية (مثل: وردة، أسد...)، وهي في الواقع رموز لمبالغ مالية حقيقية.
تقوم اللعبة على فكرة التحدي بين الطرفين، حيث يُعلن فائز بحسب مجموع الهدايا التي يحصل عليها، ويخضع الخاسر لعقوبات يفرضها عليه الجمهور المتابع للبث.
وقد نتساءل: أين تكمن عملية التسول في هذا السياق؟
تتجلّى آلية التسول هنا في خضوع المشاركين، لا سيما الإناث، لما يمليه عليهم الجمهور مقابل هذه "الهدايا" المدفوعة. في كثير من الحالات، تُطلب من المشارِكات تحديات تتضمن الكشف عن جزء من أجسادهن أو القيام بإيحاءات معينة، مقابل تلقي رموز مثل "وردة" أو "أسد"، التي تُترجم فعليًا إلى مبالغ مالية.
وهكذا تُستخدم فكرة التحدي كواجهة تُضفي شرعية على هذا السلوك، فتبدو كأنها صفقة متبادلة لا علاقة لها بالتسول. لكن في جوهرها، تبقى هذه الممارسة شكلًا جديدًا من التسول، يرتدي قناع الترفيه والمنافسة، ويعتمد على آليات أكثر دهاءً من أنماط التسول التقليدي؛ إذ يُخفي علاقات الارتزاق خلف واجهة المشاركة والتفاعل. والأمر الغريب في هذا هو الجمهور الغفير الذي يُتابع هذا النوع من المحتوى، وربما هذا ما يؤكد صحة قول إلزا غودار Elsa Godard عندما ذهبت في قولها إلى أن "مجتمعنا الآن مازال بالتأكيد مجتمع فرجة، ولكنها فرجة بدون محكيات ولا سيناريوهات. فنحن لا نكلف أنفسنا كتابة قصة، بل نكتفي بتصوير أناس يمارسون حياتهم.[3]" لقد أصبحت معظم الأمور التي تُستهلك داخل هذا العالم الرقمي جوفاء تفتقر لروح المعنى.
- التسول بالزوجات
يُعد "التسول بالزوجات" أحد الابتكارات المنحرفة التي طورها بعض المتسولين الرقميين من أجل إنجاح عملية التسول عبر المنصات الإلكترونية. فقد تلاشت الحدود التي كانت تحمي خصوصية العلاقة الزوجية من أن تُعرض على الملأ، وأصبح بعض الأزواج يعمدون إلى عرض تفاصيل حياتهم الخاصة، بل وأجسادهم أحيانًا، في سبيل جلب المشاهدات والمتابعين.
وتتمثل المفارقة في أن هؤلاء لا ينظرون إلى أنفسهم من خلال أبعادهم الإنسانية أو العاطفية أو الأخلاقية، بل يقيسون ذواتهم بمقاييس كمية بحتة، لا تعترف إلا بلغة الأرقام: عدد المشاهدات، عدد الإعجابات، وعدد المتابعين. وهكذا، يتحول الوجود الشخصي إلى سلعة، ويتم تشييء العلاقة الزوجية وتحويلها إلى محتوى قابل للاستهلاك الجماهيري، حيث تُفقد القيم والمعاني الأصيلة لحساب منطق السوق الرقمي؛ "فقد تسبب النمو الهائل في التكنولوجيا الرقمية في تغيير جذري لتوقعاتنا حول ما يُعد من الخصوصيات، وحول نظرتنا بشأن ما ينبغي أن يكون من الخصوصيات. ومن قبيل المفارقة أن أصبحت فكرة الخصوصية أكثر ضبابية في نفس الوقت الذي حضيت فيه تكنولوجيا التشفير التي تعزز السرية بانتشار واسع[4]".
من بين الأسرار التي أسهمت في نجاح فعل التسول الرقمي، هو الإفصاح عن المسكوت عنه وجعله مرئيًا في فضاء العالم المرقمن؛ ذلك الفضاء الذي لا يعترف بمرجعية دينية أو أخلاقية، ويُعد مرتعًا للمحظورات وملاذًا للمكبوتات. فعندما يُرهق مسرح الحياة اليومية الفرد، كما يوضح إرفينغ غوفمان في تحليله للمثالية الاجتماعية، يعود هذا الفرد ليعيش كواليسه، ويعبّر عن حقيقته التي يُخفيها في الفضاء الرقمي، حيث لا أحد يلومه على ما يشاهده أو ينشره أو يكتبه.
في هذا السياق، يصنع المتسولون الرقميون محتوى يمكن اعتباره بمثابة "أفيون رقمي"، يتسلل إلى جراح المتلقين؛ تلك الجراح التي تمثل صرخات "الهو" التي تواجهها الأخلاق المجتمعية بالقمع والكبت والإدانة. ويجد هذا المحتوى طريقه إلى النفوس الجريحة التي تبحث عن منفذ خارج أطر التقييد الأخلاقي.
وتُعد الطرائق التي استعرضناها سابقًا مجرد أمثلة من بين حِيَل عديدة مبتكرة، فعالة، وتُعبّر عن مدى نجاعتها في بيئة مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُمارس بمعزل عن أيّ اعتبار ديني، أخلاقي، أو ثقافي. في هذا الإطار، يشرعن صانعو هذا النوع من المحتوى أفعالهم ضمن قواعد وضعوها لأنفسهم، لا تستند إلى أسس شرعية أو قانونية راسخة، بل تعتمد على مبدأ الجاذبية السطحية والمحتوى الاستهلاكي السهل.
وهكذا، ساهموا في بروز شكل جديد من التسول، لا يمت إلى البراءة بصلة، بل ألبسوه قناع اللطافة والبراءة المصطنعة، لتمرير رسائلهم وممارساتهم من دون أن تستشعر العامة عمق مخاطره، أو مدى ما يحمله من تبعات اجتماعية وثقافية وأخلاقية جسيمة.
خلاصة تركيبية:
يعكس العالم الرقمي تحوّلًا عميقًا في الإرث الثقافي للمجتمع المغربي، حيث بات المتسول الإلكتروني يرسم حدودًا جديدة تقتلع جذور التقليدية، وتُعرّي الهوية الثقافية والدينية، ليعيد نسجها بخيوط عصرية غريبة عن النسيج الذي شكّل ملامحها الأصيلة. فالجسد، الذي كان يتربع على عرش القداسة، والغارق في بحر الحياء، أصبح اليوم منهكًا تحت أمواج هوية تقليدية متآكلة، فخرج إلى فضاء البثوث المباشرة معلنًا انتماءه إلى هوية جديدة، مغايرة، لا تُبقي للحياء أو الخصوصية مكانًا يُذكر.
ثانيا: التحولات التي عرفها فعل التسول بانتقاله من التسول التقليدي إلى التسول الإلكتروني
لقد كشفت العولمة والرأسمالية ما كان الإسلام يحجبه دوما، وهو جسد المرأة الذي كان مقدسا داخل الثقافة الإسلامية. "والعولمة بالمفهوم الاجتماعي تعني انحلال صورة مرحلية مثبتة إقليميا، كانت قد ألغت التصور السياسي، والثقافي، والعلمي بشكل عام طيلة القرنين من الزمن. فالرأسمالية الشاملة تطابقها عملية العولمة الثقافية والسياسية، التي تلغي الإقليمية بصفتها مبدأ تنظيم المجتمع ومبدأ تنظيم العلم الثقافي، الذي تقوم عليه الصور الذاتية والأجنبية"[5].
لقد كان الكيان الديني الإسلامي يتعامل مع جسد المرأة كغاية في ذاته، محاطًا بسياج من القداسة والخصوصية، إلى أن جعله العقل الأداتي مجرد وسيلة. بتنا نتحدث اليوم عن "رسملة جسد الأنثى"؛ أي تحويله إلى مصدر للدخل، غير أن المقصود هنا ليس بائعات الهوى اللواتي يُحقّقن دخلهن من علاقات جنسية مباشرة، بل نتحدث عن شكل جديد من التسول، يُمارَس من خلال الجسد، لا بوصفه موضوعًا للرغبة المباشرة، وإنما كوسيلة جاذبة لمشاهدات وهدايا وتحويلات مادية في الفضاء الرقمي.
ففعل التسول اليوم لم يعد يُنظر إليه كفعل شوارع موصوم بالفقر والحاجة، بل أضحى يُمارَس بلغة ناعمة، أقلّ إثارة للوصم، وأكثر قابلية للقبول داخل منصات تُزيّف المعاني وتُجمّل القبح. فبعدما كان المتسول التقليدي يستجدي الجانب الديني والإيماني من الإنسان، نجد أن متسول اليوم يستهدف الغريزة. وإذا كان تسول الأمس يخاطب ما يُعرف لدى المسلمين بـ"أمة محمد"، فإن تسول اليوم يستنفر "أمة إيروس"؛ أي استهداف الليبيدو، بلغة سيغموند فرويد، من قِبل صُنّاع محتوى يخلو من المعنى، أو يختزن في عمقه وابلاً من الانحرافات والسلبيات؛ "ففي ظل هيمنة الغرب على المؤسسات الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي الذي أصبح شبيها بمجلس الأمن القومي الأمريكي، أخذ الغرب يقنن منظومة قيمه في مواثيق يسميها «دولية» ليفرضها باسم الأمم المتحدة على العالم بأسره[6]. ولهذا أصبح الانفتاح على الثقافات الأجنبية ينتشر بشكل أسرع، وبدأنا نشاهد آثارها في مختلف السوكيات داخل مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد أصبح لهؤلاء الأشخاص الغارقين في التفاهة رأسمال رمزي، ويُطلَق عليهم اليوم اسم "المؤثرين". والتأثير، في أصله، يُعد من الروابط الأساسية التي تُشكّل آليات التنشئة الاجتماعية، حيث كان الراشدون يُمارسون تأثيرهم على الأجيال الناشئة عبر نقل أفكار ذات بُعد ثقافي راسخ أو خلفيات دينية وأخلاقية تُسهم في بناء الشخصية والمجتمع.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: أي نوع من التأثير يُمارسه هؤلاء "المؤثرون" على الأطفال؟ وبأي خلفية يشتغلون؟ هل يقدمون فعلاً محتوى يرتكز على قيم تُعزز الوعي والمعرفة؟ أم إنهم يُروّجون لنموذج استهلاكي تافه يُفرغ الهوية من معناها، ويُفرّغ الطفل من أدوات بناء ذاته؟
يعمل صناع المحتوى (المتسولون) على الإطاحة بصورة ما نسميه ب (القدوة الإيجابية)؛ أي أن يكون دور الريادة في التأثير لأشخاص مثقفين يخافون على الهوية الثقافية لبلدانهم، وحاولوا إقبارها (المتسولون الإلكترونيون) في الحضيض لينساقوا وراء ثقافة عالمية؛ لأن "اليوم تحول العالم إلى قرية صغيرة بل وأصغر من ذلك نتيجة الثورة الصناعية والعلم الإمبريقي والثورة المعلوماتية"[7]. وما يتم حاليا في هذه المواقع هو إعادة بناء وتشكيل قدوة جديدة تعج بالسلبيات حاملة مطرقة الهدم للأخلاق والإبداع وتعظيم العلم. لقد أصبحت هذه الفئة تضع المثقف في كافة ضعيفة، وشخصيتهم المتسولة القاتلة بداخلها روح ثقافتها وعقيدتها الدينية في كافة أقوى. ودوما ما تُحاول البرهنة على تفوقها على حامل مشعال النقد البنّاء، وهو رجل الدين صاحب الخطاب الديني والمثقف صاحب مشعال العلم.
فالواقع بدأ يبرهن على ميل الجيل الجديد أكثر وأكثر إلى صانع المحتوى (المتسول)؛ وذلك نظرا لما يحققه من ثروة بجهله وجهده المنعدم. وهذا ما سبق أن تحدث عنه عبد الإله بلقزيز عندما عبّر عن الكيفية التي يقدم بها المثقف نفسه للجمهور، حيث "يقدم نفسه على أنه حامل للمعرفة وهو الذي يمتلك الرأسمال المعرفي نظرا لتفرغه بهذه المهمة، ويستثمرهذا الرأسمال لخدمة المجتمع خاصة المجتمعات المصابة بداء الأمية ونقص التعليم. وهذا ما يعزز الهبة التي يتمتع بها المثقف ليبلغ دوره مكانة دور الفقيه أو الشيخ الذي يعتبره الناس حاملا للمعرفة الغامضة السحرية التي تحل مشكلات العالم، لكن الهبة التقليدية للمثقف تفككت وتآكلت وتراجعت في ظل الانفتاح على التكنولوجية والإعلام، حيث أصبحت المعرفة متاحة وفي متناول الجميع، أصيبت جمهورية المثقف بفقر ولاء الناس في رضاهم عنها "[8]. لكن هنا في هذا السياق، ما أفقد المثقف مكانته ليس فقط شيوع المعرفة في التكنولوجية والإعلام، وإنما الثقافة التي صنعتها هذه التكنولوجيا جعلت الإنسان يهجر عالم المعرفة الذي يرونه عالما مُضنيا، واختاروا عالم جني المال بأبسط الطرائق، حيث لا يشترط الرفاه تحصيل العلم أبدا. فهم يزداد غناهم بجهلهم في حين كما قال الدكتور عبد الله بلقزيز: "يعاني المثقف من تدني مكانته الاجتماعية والاقتصادية، وأصبح مهمشا وخسر مركزه التقليدي والتراتبية الاجتماعية وسلم القيم".[9]
لقد بدأت هذه الفئة في تغيير الخطابات السائدة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت خطاباتها تتمرد على الخطابات الدينية والأخلاقية، وتتجاوز مختلف المقدسات كوسيلة جديدة لاستقطاب المشاهدين والمعجبين، يشتغلون بمنطق (كل ما هو مرفوض فهو مرغوب) ولذلك بالغوا في مداعبة المرفوض. وقد عبّر كل هذا على أن هذا العالم الرقمي هو عالم يحيا فيه الهو أكثر من الأنا والأنا الأعلى، ربما الواقع يفرض على الأفراد مجموعة من الإكراهات والقوانين الأخلاقية والقانونية والدينية والاجتماعية؛ أي إن الضمير الجمعي بلغة إميل دوركهايم Émile Durkheim هو من ينحت لنا الصورة التي يريد أن يرى بها أفراد مجتمعه كل حسب وضعيته ودوره داخل جماعته، وينجح بجعل الأنا والأنا الأعلى عندما يتحدان ليظل الهو يسبح ويعبر عن نفسه في العالم الرقمي، لكنني هنا أريد تجاوز فكرة آلان دونو Alain Deneault عندما قال إن "الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (مثل تويتر وفايسبوك وانستجرام) هي مجرد مواقع للّقاء الافتراضي وتبادل الآراء لا أكثر"[10]. لكننا هنا لن نسميه العالم الافتراضي؛ لأنه ليس بالافتراضي، وإنما هو عالم حقيقة أغلب الأشخاص الذين يكبحون حقائقهم في العالم المعيش وأغلبها غريزية ليعبر عنها بهوية رقمية مجهولة؛ لأن الواقع يفرض على الفرد الكيفية التي يريد أن يظهر بها. "فحين يؤدي فرد من الأفراد دورا من الأدوار، يطالب مراقبيه ضمنيا بأن يؤمنوا أن الشخصية التي يرونها تمتلك حقا تلك السمات التي يبدو أنها تمتلكها"[11]. ومفهوم "person»» شاهد بمعناه الأول (القناع) على التمثيل الذي يسكننا، وهذا اعتراف بحقيقة أن ما من أحد، في أي زمان ومكان، وبهذا القدر وذاك الوعي إلا ويؤدي دورا... وهذا القناع بمعنى ما، وبقدر ما يمثل التصور الذي شكلناه عن أنفسنا أو الدور الذي نسعى جاهدين للارتقاء إليه"[12].
لكن نوع المحتوى السائد في مجتمع ما هو إلا حقيقة أفراده. فيصعب القول عن مواقع التواصل الاجتماعية بالعالم الافتراضي، وهو في الأصل (عالم الحقائق المخفية). فكما يقول سغموند فرويد Sigmond Freud "الأنا الأعلى تتطور كنتيجة لتأثيرات اجتماعية وثقافية، موضحا أن الأنا يتحول من كونه مجرد استجابة للدوافع الغريزية إلى عقلانية وسلوكية تتأثر بالقيم والمبادئ. والأنا في البداية يكون ضعيف جدا؛ ضعيف أمام الغرائز التي تأتي من الهو ومع الوقت يصبح الأنا أكثر نضجا وأكثر قدرة على التفاعل مع الواقع والتحكم في التفاعلات العاطفية ويطور آليات دفاعية مثل الكبت"[13] وآلية الكبت تُرهق صاحبها ويُخرجها بدون حرج داخل هذا العالم الإلكتروني.
ففي المسرح الاجتماعي يحاول الأفراد إرضاء مطالب أناهم الأعلى وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم في المسرح الاجتماعي. لكن الانفتاح الانهزامي على ثقافة شعوب أخرى ذات ديانة مختلفة أو مُتمرد عليها تستهوي معظم شبابنا ذكورا وإناثا، وتسللت إلى اللاوعي الجمعي لديهم دون فحصها وتشخيصها أو انتقادها لأخذ أسمى ما فيها وما يتماشى مع خصوصية مجتمعنا العربي الإسلامي. وأخذوا الجانب السلبي من الثقافات الأخرى (الغربية) ومن بينها مفهوم الحرية الذي لازمه الغموض دوما، وهو ما أقحمهم في ممارسة مهنة التسول. "فمنذ البداية كان معنى الحرية معنى مراوغ ومهما بدت عليه من ملامح الإغراء، وقد غرس جون ستيوارت ميل بذورا خصبة وأخرى سامة داخل مفهوم الحرية عند حديثه عن الحرية والليبرالية، واختلط السام والخصب عند مل وظلت البذرة السامة تظهر ما بين فينة وأخرى. والليبرالية الجديدة اللاإنسانية بتعبير عبد الله الغذامي خطفت معنى الحرية لتحوله من معنى ثقافي وإنساني لتجيزه لمعنى حرية السوق ونظرية العولمة"[14]. وهذا ما حدث لمفهوم الحرية داخل العالم الرقمي، حيث أخذوها بمعناها السلبي دون العمل على أجرأة هذا المفهوم الشائك.
وبعد انتشار هذه الظاهرة في العالم الرقمي أصبحت تتسلل أفكارها للعالم الواقعي المادي، حيث تقتل في أفكار كيفية النظر إلى هؤلاء على أنهم متسولون، بل حاولوا تجاوز التسول التقليدي بتسول مبتكر جديد وهو التسول الإلكتروني. لكن المعضلة هنا هي أن إذا كان هؤلاء متأثرين بثقافة غربية فيجب ألاّ نغفل أن هذا النموذج الثقافي "رغم امتداد تأثيره غلى جميع القارات، يبدو أنه غارق في أزمة ويشكك بنفسه بعمق"[15].
ومن بين حيل التسول نجد سلعنة الأطفال، الذين وجدوا أنفسهم في عالم ممزق بدأت هويته تُقبر، فاقدين لهوية عريقة وعتيقة غارقين في عوالم فاقدة لتاريخها المنسي منقطعة الوصال مع حضارتها. وبتعبير المؤرخ مارك بلوخ "الرجال هم أبناء عصرهم أكثر من كونهم أبناء آبائهم"[16]. والواضح أن لعنة التقنية أخذت أسنى ما في تربية الآباء وأخضعت الآباء نفسهم لها، وأسقطتهم في مستنقع أزمة الهوية. وكما أشار «أمين معلوف» أنه "لا شك أن هذه العولمة المتسارعة تسبب تعزيزا للحاجة إلى الهوية[17]". والأسرة التي لطالما كانت المدرسة الأولى التي يتربى فيها الطفل، فقد أصبحت منحرفة عن وظيفتها هشة أسوارها واقتحمها الجهل وأفرغها من أصالتها وأضعف مكانتها وشيّد فيها معالم التفاهة، بدأت تُبنى أجيال خاضعة لأهوال التكنولوجيا وسحر العولمة، وأصبحوا يعيشون تحت رحمتها أسرى لها مبتعدين كل البعد عن قضايا المجتمع وأحواله كأنهم لا ينتمون له ولا تعنيهم مشاكله. لقد وضعوا التفكير النقدي في رفوف الموتى؛ لأنهم يشاركون ثقافة واحدة سلبية مشتركة لا تدعم هذا النوع من التفكير، وهذا الأمر سبق الحديث عنه قبلنا عندما تساءل «أمين معلوف» "ألسنا في طريقنا إلى عالم رمادي لا نتحدث فيه إلا لغة واحدة، ويتقاسم الجميع حزمة المعتقدات الضئيلة ذاتها"[18].
ومعظم الآباء أقحموا الأطفال في التقنية على حساب العيش الأصيل، فغرقوا في متاهة هذا العالم الإلكتروني الذي جعل منهم متسولين وأبطال بدون تاريخ يشهد لبطولاتهم ولا إنجاز وإبداع قد يحيي أسماءهم بعد مماتهم. أبطال ببطولة جوفاء صنعها الفكر الإيروسي (نسبة إلى إيروس)، فهم تائهون في وحل الانحطاط الأخلاقي وبفكر يستسلم ويخضع للعالم الرقمي كل الخضوع، وأصبحوا غرباء عن التفكير النقدي الذي لو كان حيّا كان ليُوقظ الأمهات والآباء من متاهة إدمانهم لهذا النوع من الممارسات غير البريئة، والتي ستغير مسار التنشئة الاجتماعية Socialisation من تربية تسعى لتحقيق مواطن صالح ذي فكر نقدي، أخلاقي، محب للوطن وهويته ...، إلى فرد سلبي لا يعلم شيئا سوى الخضوع لهذه المواقع التي تستعبده مقابل أن يمارس فيها فعل التسول مُتخليا عن جوهره الإنساني متحولا إلى كائن غيّر ثقافته ومعتقداته وممارساته وأصوله.
ويمكنني القول هنا إنه قد مات المعلم فينا، واقتُلِعت جذور الرغبة الجامحة في التربية السالمة غير المنحرفة، وتخلينا عن إنتاج أجيال مبدعة تتميز بالتفرد. لقد كان دوركهايم يقول: إنه لمن البداهة القول: "إنه لا توجد لدينا استعدادات فطرية عقلية أو أخلاقية لأداء وظائف بالغة الدقة والتحديد. فالإنسان المتوسط يتميز بقابلية كبيرة للتشكل، حيث يمكن له أن يمارس وظائف بالغة التنوع. وعندما يتخصص الإنسان في صورة ما، فإن ذلك لا يتم له لأسباب داخلية دفينة، أو تحت تأثير اندفاعات توجد في طبيعته. ولكن المجتمع ، ومن أجل تحقيق استمراريته، يحتاج إلى تقسيم العمل بين أعضائه[19]. وما نستقيهه من هذا القول هو أن البعد الواحد الذي أصبحنا ننحو نحوه ليس فطريا فينا، وإنما نحن من صنعناه وشيّدنا له مكانا فينا.
خلاصة تركيبية:
لقد تكبّد الواقع المعيش أشكالا مختلفة من التسول إلى أن ارتحل به متسولو مواقع التواصل الاجتماعي وغيّروا فيها الكثير، فلم يعد المتسول يقوى الظهور بلباس فضفاض وتحمّل قيض الشمس وزمهرير الشتاء في أحضان الشوارع والأزقة، بل ارتقى فعل التسول لوسائل تجعله يظفر بكميات مضاعفة من المال. وفي نفس الوقت، يسعى هذا الشكل الجديد من التسول أن يتجاوز صورة المتسول التقليدي الموصوم وصمة عار، وأن يظهر بصورة صانع المحتوى الذي يتقاضى أجره مقابل ما يقدمه من إبداع، وهو في الأصل إبداع في فعل يحيا على حساب الأصالة، التفكير النقدي، الأخلاق الدينية، وغيرها من المقدسات التي تموت قداستها بوجود هذا النمط الجديد من التسول.
ثالثا: التحولات الثقافية التي أفرزها التسول الإلكتروني
من داخل المنظور السوسيولوجي نؤمن بالتغيير والتحولات التي تنزل بثقلها على جميع المجتمعات، وهذا ما نجده لدى معظم السوسيولوجيين منذ تأسيس علم الاجتماع مع كونت Auguste Comte، دوركهايم E. Durkheim ، ماركس Karl Marx... لكن في هذا السياق، نضع الثقافة وبُعدها الديني موضع تساؤل. لماذا هذا النوع من التغيير؟ وفي سبيل أي رهان تم التغيير؟ وهل البديل قادر أن يعود على المجتمع بالنفع؟
على سبيل التوضيح، سأشير إلى أنني سأركز هنا بشكل كبيرعلى التحولات الثقافية وليست الاجتماعية فقط. ولذلك، وجب رسم الحدود بينهما لفهمهما، "فهناك تداخل وصلة لا تنفصل بين ماهو ثقافي وما هو اجتماعي؛ بمعنى أن وجود أحدهما يستدعي وجود الآخر. والتغير الثقافي هو كل ما يتغير في المجتمع سواء هذا التغير محدودا كان أم غير محدود في ظواهر مادية أو معنوية، وهكذا تكون هناك علاقة بين التغيرين. إلا أن التغير الثقافي يكون أعم وأشمل من التغير الاجتماعي بمعنى أن التغير الاجتماعي يقع في ضمن دائرة الثقافي، بينما ليست التغيرات الثقافية كلها تقع ضمن دائرة الثقافي"[20].
وسأنطلق هنا من إشكالية أسائل بها الأفراد داخل هذا العالم الإلكتروني، "إذا كان جوهر الحضارات واحدا وهو عمارة الأرض، فإن الثقافات بطبيعتها مختلفة لأنها ذات علاقة بأسلوب الحياة وفلسفة الفرد والجماعة"[21]. فلماذا إذن هذا هذا الترحال من ثقافة محلية خاصة إلى ثقافة عالمية تنعدم فيها الأخلاق مُنقطعة الوصال مع الجذور الدينية؟
التحولات التي عرفتها الثقافة الإسلامية خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي تحولات جذرية بدأت تتسرب للواقع الفيزيقي أيضا، يتم تجاوز بعض المفاهيم التي كانت تعبر عن قوة البعد الأخلاقي لدى الشعوب الإسلامية مثل مفاهيم من قبيل (عيب، حرام، حشومة...) كانت تُستحضر في حالة محاولة أحد ما على الولوج إلى المدنس، وهي مفاهيم تحذيرية يفرضها بُعد الأخلاق الدينية، ويمكن أن يتم استحضارها في بعض الممارسات أو نوع من اللباس أو بعض الأفعال... كانت تؤطر أفراد المجتمع وتحميهم من الوقوع في الانحطاط الأخلاقي والحفاظ على النظم والأنساق الاجتماعية مثل الأسرة وروابط القرابة والتماسك الإجتماعي...، لكن اليوم أصبح واقع المجتمع الإسلامي بشكل عام والمجتمع المغربي بشكل خاص يعيش التمزق والتيه والاغتراب وتهديد الهوية وارتمى في أحضان أخطاء بعض الحضارات دون تشخيصها وتحليلها ونقدها وانتقائها. وهذا ما لاحظه الدكتور خليل نوري مسيهر العاني عندما قال: "إن سبب اهتمام المسلمون بصورة عامة والعرب بصورة خاصة بموضوع الهوية خلال القرنين الماضيين يرجع إلى الشعور بالإحساس والخطر الذي يهدد هويتهم وحضارتهم وتاريخهم، والشعور بالحاجة إلى الإصلاح والتغيير"[22].
أعتقد أن الإنسان المغربي بشكل خاص أصابه الفشل، عندما استقبل أمواج التكنولوجيا القادمة من الغرب ووقع ضحية لها باسم المجتمع المفتوح. "ففي هذا الزمن تعني فكرة المجتمع المفتوح تجربة مفزعة لأناس يعانون من التبعية والعجز والبؤس، أناس يواجهون قوى لا يسيطرون عليها ولا يفهمونها تماما، بل ويُسحقون من جانب تلك القوى"[23]. وكانت هذه قصتنا مع الانفتاح الذي غرس فينا ضعفا واستقبلنا كل ما فاض منه دون أن نتجرّأ وننتقي منه الأرقى لما يُناسب تاريخنا وثقافته ودينه.
ويُعد التسول الإلكتروني من بين الأفعال المتعددة الأبعاد التي ساهمت في تعميق هذه الأزمة الأخلاقية بعرض الأجساد والزوجات وتفاصيل التفاصيل الخاصة بالأسر وكأنه في سبيل التسول الإلكتروني طلّق هؤلاء المتسولون المبادئ الأخلاقية، وتزوجوا الانحطاط والفساد الأخلاقي واعتنقوا دينا جديدا مرقمنا يُسبحون بلغة "(التكبيس)[24]" ويسجدون للمشاهدين سجدة يطلبون فيها المال ولا شيء غير المال يسيطر على عقولهم، وهي ثقافة جديدة يتم إنتاجها ويحيا معها الناشئ منذ نعومة أظافره دون أن يدري بأنها ثقافة بدون هوية وتاريخ تتوغل على حساب الثقافة الأصلية التي تحتضر في زاوية منسية تُقتل فيها كلما ابتعدوا أصحابها عن الكتب والأماكن المقدسة وعن حكايات العجائز الشعبية، ليستوطنوا في العالم الجديد الذي صنعوه بجدار هشة تتكون من الجهل والغرائز. لطالما كانت القصص الشعبية والمحلية تحمل رسائل قوية من خلالها يتم تلقين الأطفال حب الخير والاجتهاد وتُعلمهم الخشونة، كان لها دور كبير في تمرير الثقافة الأصلية لعقول الصغار. وكما يقول «أمين معلوف»: "إن كلا منا مؤتمن على إرثين: أحدهما عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعبه وجماعته الدينية. والآخر أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه. ويبدو لي أن هذا الأخير هو الأكثر حسما وأهميته تتصاعد يوميا؛ ومع ذلك لا تنعكس هذه الحقيقة على إدراكنا لذواتنا"[25]. والمتسول الإلكتروني اليوم يأخذ فقط من عصره ليبدأ القطع مع الأسلاف وقيمهم.
اليوم تم تجاوز تلك القصص التي كانت وسيلة من الوسائل التي تُعتمد في بناء الأجيال، وأصبحت التكنولوجيا وسلبياتها هي من تتحكم في التنشئة وفي عقول الصغار منذ الصبا لكي تنمو مع أفكار لا تمت لأصلهم ولمعتقداتهم بأي صلة. وأصبح النفور من الدين والثقافة يعبّر عن نفسه داخل مواقع التواصل الاجتماعية، ويمكن أن نقول بلغة الدكتور حليم بركات إنه "بدأ الأفراد يميلون للاغتراب من الدين كمفهوم ويرفضون المؤسسات الدينية القسرية خاصة فيما يتعلق بمقاومتها للتغيير. ونظرا لوجود تناقض بين غنى المؤسسات الدينية وفقر المؤمنين من الناحية المادية والروحية والفكرية، ما يجعلهم يعيشون في العجز وعدم القدرة على التحكم في مصيرهم"[26]، لتُفقد الثقة في المؤسسات الدينية وخطاباتها وينفر منها الأفراد سواء شعروا بذلك أم لا. وقصة الاغتراب قصة كانت تُلازم البشرية منذ زمن بعيد، ويعد "مصطلح شديد العمق، وعريق الأصل، ضارب الجذور في فجر البشرية جمعاء، ويعود إلى تلك اللحظة المتعالية التي غربت فيها الجنة بنعيمها السرمدي عن آدم عليه السلام"[27].
أصبح الفرد داخل مواقع التواصل الاجتماعي ذات غير متحكمة في ذاتها، فقدت أصالة قائدها (العقل) وما استنتجه أنه كلما غاب العقل ظهرت الشهوة واللذة التي تستولي على دوره وتُقصيه، وهذا واضح في صُناع المحتوى التافه وحتى في مُستهلكي هذا المحتوى الذي لا يحتوي شيئا سوى اللامعنى، فهم يستمرون في مشاهدة ما يصنعونه مقابل المال، حتى وإن كان فاقدا للمعنى من المنظور الديني، وفي نفس الوقت يشنون عليهم هجوما ونقدا لاذعا في التعاليق واقعين في تناقضات تمزقهم وتعبر عن نفسها حين نلاحظ ما يُفعل (مشاهدة المحتوى التافه)، وما يُقال (تعاليق تعبر عن الرفض).
فالمتسول والداعم لهذا الفعل كلاهما عقولهم متشعبة في عمقها فاسدة بعض عروقها تشربت من معين لا يناسبها ومصابة بداء الإيديولوجيات، وهذا العقل قائد لجسد يصدر أفعالا مناقضة لجوهره وبدأنا السؤال لماذا؟
وإجابة السؤال متوارية في حضن التفكيك لهذا العقل الذي عصفت عليه رياح التثاقف وأفقدته أصالته من جهة، والإيمان بالبعد المادي الذي يتحكم في وجودهم ويصنع منهم ما هم عليه، لتكون النتيجة بروز إنسان تقتله أصوات التناقضات ميّال للذة والمتعة أحيانا، وأحيانا يأخذه الحنين لماضيه وأخلاقه ودينه، لن تتغير أحواله إلى أن يعالج صراعه الداخلي. والعلاج يكمن في إسقاط التافه من عرش التفاهة الذي اعتقده الجميع عرش المجد، وهذا يعني محاولة إعادة المخيال الثقافي إلى أصله، وأن يستوعب خصوصية أعرافه وتاريخه، حتى وإن أراد هذا المُخيل التغيير يجب ألاّ يقطع سبل الوصال مع الهوية الثقافية الأصلية. نعلم بأن قبضة السحر قد استولت على الساحر، ويصعب إنقاذه، ورغم الصعوبة يجب أن يكون مصدر الأزمة نفسه مُعالجها؛ أي إفراغ المحتوى التافه من تفاهته وإعادة بنائه بمحتوى يحمل رسائل في القيم والإنسانية ويحمل روح الإبداع وترويض مواقع التواصل الاجتماعي، لتكون وسيلة للإنتاج دون التمرد عن الخصوصية التي تميز تاريخنا.
فإدراك الحضيض الذي وصلناه لا يعني الإستسلام له وإنما كما يعتقد إريك كازدين حينما اعتبر "ان فهمنا لحقيقة أنه ليس ثمة ما يمكنه أن يساعدنا لا يعني على الإطلاق أن نكف أيدينا ونتوقف عن العمل. على النقيض من ذلك، هذه هي الخطوة الأولى لاستيعاب الحدود الحقيقية لما نحن فيه، وما يقتضيه الأمر لتخطي تلك الحدود"[28]. وما نستفيده من هذه الفكرة هي أنه ليس لنا منقد سوى نحن أنفسنا عن طريق فك قيود هذا الانحطاط الذي لم يرحم أصالتنا الثقافية وأراد محوها.
خلاصة تركيبية:
لقد عصفت وهبّت رياح التغيير بشرّها تجاه مجتمعاتنا العربية بشكل عام والمغربي بشكل خاص، وارتحلت أفكار لم يكن لها وجود في قواميس مِخيال المجتمعات العربية الاسلامية وشدت رحالها لتستوطن في قعر ثقافتنا بعدما أزاحت وقتلت وأقبرت جزءا من الثقافة الأصلية وهويتها، وانتهى بها المطاف في هاوية النسيان. تغربوا في أوطانهم وعاشوا في كهوف الإغتراب التي صنعوها، لونوا تاريخهم بألوان الجهل والخضوع وبدأوا بإفراغ الذاكرة من الإرث الثقافي الأصلي ويحيوا بثقافة مغتربة رقمية. منهزمون وكما قال عبد الإله بلقزيز "بعض المحليين يشعرون أن ثقافتهم المحلية غير قادرة على التفاعل مع العالم الخارجي بشكل كامل، وأنها أضيق من أن تكون مقبولة عالميا مع الثقافات الأخرى"[29].
خاتمة:
بدأت تنجلي تمظهرات توحي على أن تركيبة ثقافة المجتمع المغربي في سير التواري خلف السواد لتُكتب في فصل جديد داخل كتاب الماضي، بدأ هذا المجتمع يقدم نفسه بنمط جديد غير النمط المعتاد، اختار الانسلاخ من حاضره ليرتمي في أحضان المستقبل المجهول وبدأ في هذا الانسلاخ بسلاسة دون أي تعارض كأن الجميع تسكنه وتقوده نفس الرغبة. ويعد التسول الإلكتروني من بين الوسائل الفتاكة التي تفرز تحولات عديدة لأنها متعددة الأبعاد، فهو ليس فقط تحول في طريقة التسول وإنما يحمل معه تغيرات أخلاقية ودينية وثقافية بصفة عامة، هذا الفعل (فعل التسول الإلكتروني) احتضن مفهوم الحرية دون أن يفهمه، واعتنق مفهوم الحداثة دون أن يستوعب ولو معنى حرف واحد من هذا المفهوم. وبدأ هذا الانتقال الانتحاري بمقولة مغربية قهرية تُلزم الأفراد على الانسجام مع هذا التحول اللاعقلاني وهي مقولة تقول: "راك باقي قديم"[30]، هذا ما يجعل هؤلاء يتوهمون الحرية والتقدم والتطور الحقيقيون دون أن يدروا بأن الفهم الخاطئ لتلك المفاهيم سيُدخلهم عالم الاغتراب والتخلف والجمود الفكري...، وبما أن هذه الأفكار الخاطئة بدأت تُهيمن على سماء العالم الرقمي، فهي من تشكل هوية الناشئة وتستولي على الوعي واللاوعي الخاص بهم.
كما أن هذه الثقافة الرقمية الجديدة تتسرب لتنتشر في الوجود الفيزيقي بداية من تنزيل المصطلحات الخاصة بهذه الثقافة إلى أرض الواقع ثم الإيمان بها لتُضاف في قاموس أفراد المجتمع، وكل مصطلح بمثابة مفهوم يحتاج للنظريات التي قامت بنحته ليحيا فيها، الأمر الذي يجعل ثقافة العالم الرقمي يُكتب لها أن تعيش في الواقع مع مصطلحاتها؛ فالواقع الفيزيقي هو النظرية التي بدأت تعيش فيها هذه المصطلحات الرقمية.
لائحة المراجع
*- باللغة العربية:
- إرفينغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، ترجمة ثائر ديب، الطبعة الأولى، (دار معنى النشر والتوزيع، 2021).
- آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة وتعليق د.مشاعل عبد العزيز الهاجري، الطبعيةالاولى، (دار سؤال النشر، لبنان-بيروت، 2020).
- إلزا غودار، أنا أُسيلفي إذن أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي، سعيد بنكراد، الطبعة الأولى، (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2019).
- إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة الدكتور على أحمد وصفة، الطبعة الأولى، (دار معهد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1922م).
- أمين معلوف، الهويات القاتلة: قراءات في الإنتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، الطبعة الأولى، (ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا- دمشق، 1999).
- أولريش بيك. ماهي العولمة؟، ترجمة أبو العيد دودو، الطبعية الثانية، (منشورات الجمل، بيروت بغداد، 2012).
- حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الانسان بين الحلم والواقع، الطبعة الأولى، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006).
- زيجمونت باومان، الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزة، الطبعة الأولى، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017).
- عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، الطبعة الثانية،(الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010).
- عبد اللطيف محمد خليفة. دراسات في سيكولوجية الاغتراب (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2003).
- عبد الله الغذامي، الليبرالية الجديدة: أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية، الطبعة الأولى، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، 2013).
- محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، الطبعة الاولى، (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة-القاهرة، 1999).
- هال أبلسون وآخرون، الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة أشرف عامر، (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ١١٤٧١ ، القاهرة جمهورية مصرالعربية، 2012).
- وليام جيمس، معنى الحقيقة، ترجمة وتقديم: أحمد الأنصاري، مراجعة حسن حنفى، الطبعة الأولى، (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008).
*- باللغة الفرنسية:
- Sigmund Freud٬ Le moi et le ça٬ Traduction de l’Allemand par le Dr. S. Jankélévitch en 1923 revue par l’auteurأأا
[1] وليام جيمس، معنى الحقيقة، ترجمة وتقديم: أحمد الأنصاري، مراجعة حسن حنفى، الطبعة الأولى، (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008)، ص: 148
[2] حليم بركات، الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الانسان بين الحلم والواقع، الطبعة الأولى، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006)، ص: 125
[3] إلزا غودار، أنا أُسيلفي إذن أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي، سعيد بنكراد، الطبعة الأولى، (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2019)، ص 123
[4] هال أبلسون وآخرون، الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة أشرف عامر، (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ١١٤٧١، القاهرة جمهورية مصرالعربية، 2012)، ص: 43
[5] أولريش بيك. ماهي العولمة؟، ترجمة أبو العيد دودو، الطبعية الثانية، (منشورات الجمل، بيروت بغداد، 2012). ص ص 9-10
[6] محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، الطبعة الأولى، (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة-القاهرة، 1999)، ص 25
[7] تركي الحمد، الثقافة العربية أمام تحديات التغير، الطبعة الأولى، (دار السياقي، بيروت-لبنان، 1993م)، ص: 43
[8] عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، الطبعة الثانية، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010)، ص ص 93-94
[9] مرجع سابق، ص 116
[10] آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة وتعليق د. مشاعل عبد العزيز الهاجري، الطبعة الاولى، (دار سؤال النشر، لبنان-بيروت، 2020)، ص 52
[11] إرفينغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية، ترجمة ثائر ديب، الطبعة الأولى، (دار معنى النشر والتوزيع، 2021)، ص: 35
[12] إرفينغ غوفمانن مرجع سابق، ص: 37
[13] Sigmund Freud٬ Le moi et le ça٬ Traduction de l’Allemand par le Dr. S. Jankélévitch en 1923
revue par l’auteur٬ p 21-22
[14] عبد الله الغذامي، الليبرالية الجديدة: أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية، الطبعة الأولى، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، 2013)، ص: 203-205، (بتصرف).
[15] أمين معلوف، الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، الطبعة الأولى، (ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا- دمشق، 1999)، ص: 80، بتصرف.
[16] أمين مهعلوف، مرجع سابق، ص: 91
[17] أمين معلوف، مرجع سابق، ص: 84، (بتصرف).
[18] أمين معلوف، مرجع سابق، ص: 93
[19] إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة الدكتور على أحمد وصفة، الطبعة الأولى، (دار معهد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1922م)، ص 126
[20] فضل عبد الله الربيعي، التغير الاجتماعي مقدمة في المفهوم والنظرية، (بيت الحكمة، بغداد العراق، 2020)، ص ص 54-55
[21] تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، الطبعة الأولى، (دار الساقي، شارع أمين منيمنة [نزلة السارولا] الحمراء، بيروت-لبنان، 1999م)، ص: 91
[22] خليل نوري مسيهر العاني، الهوية الإسلامية في زمن العولمة الثقافية، الطبعة الأولى، (سلسلة الدراسات الإسلامية المعاصرة، العراق-بغداد، 2009)، ص: 15
[23] زيجمونت باومان، الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزة، الطبعة الأولى، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017)، ص: 135
[24] التكبيس: هو مصطلح مرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي ويحيا خاصة في تطبق التيك توك ويُستعمل لطلب التفاعل.
[25] أمين معلوف، مرجع سابق، ص: 92
[26] حليم بركات، مرجع سابق، ص ص 125-126. (بتصرف).
[27] عبد اللطيف محمد خليفة. دراسات في سيكولوجية الاغتراب (دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2003). ص 19
[28] إريك كازدين وإمري زيمان، ما بعد العولمة، ترجمة أميرة أحمد إمبابي، الطبعة الأولى، (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، عمارات الفتح حي السفارات مدينة نصر- القاهرة، 2016م)، ص: 14
[29] عبد الإله بلقزيز، مرجع سابق، ص 236
[30] هي بمثابة وصمة تجعل من تُوجه له موسوم بالتخلف وعدم الوعي وينظر قائل القولة إلى المخاطب بأنه لايزال يحيا في عالم الأجداد ولم يستوعب بعد كل التحولات التي عاشها العالم الحالي.