من العقلانية إلى الرحمانية: بحث في القيم الأخلاقية


فئة :  مقالات

من العقلانية إلى الرحمانية:  بحث في القيم الأخلاقية

مقدمة

تمثل الأخلاق الجانب المعنوي والروحي في الحضارة الإسلامية وجزءا أصيلا من بنيتها الثقافية، كما أن للأخلاق دورا حاسما في التطور الفكري والتقدم الحضاري، فهي تلمس كل مظاهر الحياة الإنسانية، وتقرر مواقفنا إزاء الظواهر والمعطيات الخارجية. وبالتالي، يتميز الحديث عن الأخلاق بكونه يتصل بوجودنا الإنساني مع الحياة بتفاعلنا مع ما تطرحه من تحولات ومسارات.

هكذا نفهم تأثير الأخلاق في حياة الإنسان من خلال عملية التوافق بين تفكيرنا وانفعالاتنا مع المحيط[1]؛ فالأخلاق هي القواعد «التي تدلنا على الطريقة التي يجب أن نتصرف بها تحت ظروف معينة»[2]، ومنه، نستوعب أن الأخلاق ظاهرة اجتماعية وضعت مفاهيمها من قبل الإنسان، وبما أنها تتناسب مع الظروف، فهي نسبية وليست مطلقة وهذا ما يطبعها بشيء من العقلانية ويجعلها فكرية، لأنها تعمل على الاختلاف وتعترف به، سواء أكان اختلافا في الاعتقاد أو المرجعية الفكرية أو حتى اختلافا في الثقافة والمجتمع، ولأنها كذلك هذا ما يسمح لنا بالتحدث عن أنظمة متعددة للأخلاق تخص كل مجتمع بعينه. وبناء عليه؛ تصبح الأخلاق النسبية تجارب حياتية حقيقية تنطلق من ثقافات وقيم مختلفة منشؤها هو العقل الإنساني.

الأخلاق ظاهرة اجتماعية وضعت مفاهيمها من قبل الإنسان، وبما أنها تتناسب مع الظروف، فهي نسبية وليست مطلقة

إن الأخلاق كقيم إنسانية تتصل بالحياة العملية للأفراد، لذلك نرى البعض يردها إلى علم عملي يهدف إلى تحقيق غايات قصوى في حياة الإنسان على اعتبار أنها الخير الأقصى، وعلى عكس هذا الاتجاه العملي ذهب البعض الآخر إلى اعتبار الأخلاق علما نظريا لا غير، حيث المعرفة فيه تطلب لذاتها. ومنه؛ تنطلق دراستنا بالتركيز على تصور توفيق الطويل الذي مال لتكون الأخلاق علما نظريا وعمليا في آن، على اعتبار أن هذه الدراسة تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا، وفي مقارنة مع تصور زكي الأرسوزي، سنرى كيف ترتبط المسألة الأخلاقية بالقضية القومية على اعتبار أن الأفكار تعبر عن مآل المجتمع.

كما سنقف على لحظة من التحول الفلسفي تتبنى العناية باللسان العربي، حيث نتعرض للكيفية التي تجعل التفلسف هو الكشف عن عبقرية الأمة العربية، وفي ذلك نجد استدلالا لزكي الأرسوزي يقول فيه: «للعرب فلسفة كاملة، قائمة في ثنايا لغتهم، لم يعبر عنها حتى الآن أي مفكر آخر تعبيرا كليا ... فاللغة العربية، بما لها من قوة بيانية خاصة، تبدع لكل معنى من المعاني الوجودية الكبرة، صورة تستقطبه وتؤديه أمانة»[3]. من هنا، ينطلق بحثنا في الملاءمة في الأخلاق بين الطرح العقلي والطرح القومي. فما الذي يميز كلتا هاتين الفلسفتين؟ وما هي منطلقاتهما الفكرية وسماتها الفلسفية؟ وكيف تسهم الأطروحات الأخلاقية لكل من توفيق الطويل وزكي الأرسوزي في التعبير عن المجتمع العربي ومشاكله؟

أولا: قيم العقلانية

إن التفكير العلمي مطلب ضروري لفهم الواقع كما هو في ذاته ومحاولة تغييره بما يتلاءم مع مصلحة الإنسانية وأهدافها العليا؛ فالتفكير العلمي لطالما كان يعنى ببعد من أبعاد الواقع، وليس بالواقع على نحو مطلق كما يظن البعض، ولما كانت هناك جوانب من الحياة الإنسانية تتخطى حدود التفكير العلمي، ولم يستطع العلم أن ينتهي إلى حلّ مرضٍ لمشكلاتها، كانت العودة تقضي إلى الأخلاق كقاعدة سلوكية يتخذ منها الفرد أساسا في توجيه غايات السلوك والعمل وبما في ذلك أيضا العمل العلمي ذاته.

ومنه، يتخذ بحثنا مسارا للنظر في إنتاج أبرز الشخصيات العربية التي اهتمت بميدان الأخلاق، والتي من بينها توفيق الطويل "رائد الفلسفة الخلقية في العالم العربي المعاصر"[4] على اعتبار أن الرجل سعى جاهدا في أغلب كتاباته إلى ربط الفلسفة والدين والبحث في شتى أشكال إمكان الجمع بينهما، وكيفما كان مدار الفكر وقريحته، فهو لا يعبر عن ذاته خارجا كلحظة من لحظات النضج العقلي خارج إطار تسود فيه الحرية الفكرية، من ثمة كانت دعوته تناهض بالاعتدال لا التطرف، سواء أكان من جهة العقلانيين أو رجال الدين، ومنه يمكن الجزم على أن مفهومي الاعتدال والوسطية هي المناهج التركيبية والتحليلية الأقرب في بناء وفهم مقولة الأخلاق عند توفيق الطويل كممثل للمذهب المثالي، حيث إنه «أخرج كتابا في الفلسفة الخلقية استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدمين حتى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه هو أقرب ما يكون إلى الاتجاه العقلي المعتدل أطلق عليه اسم المثالية المعدلة»[5].

هذا الأخير كمفهوم نحته توفيق الطويل يقوم على ثقافة الاعتراف بالآخر؛ أي بالمبادئ الفطرية المشتركة بين جميع أجناس البشر «متمثلة بالاستعدادات والغرائز القابلة للتوجيه، بفعل العقل الذي يشكل مبعث القيم والمعايير المطلقة التي تنبني عليها فلسفة الأخلاق»[6]. من الملاحظ أنَّ توفيق الطويل يحدد موقفه المعتدل انطلاقا من انتقاده اللاذع لمنتقدي المثالية الكانطية للتحرر من نزعتهم الصورية المتطرفة، ثم يعمد إلى تقديم وتحقيق مفهومه المبتدع بما يتناسب مع قيم المجتمع ومعاييره، من خلال تصور الإنسان هو مجموعٌ يشترك فيه العقل والحس، لا كما سلف، حيث طغت فكرة الصراع بين العقل والحس الذي كانت لا تنتهي إلا بقضاء أحدهما على الآخر، فيشغل الثاني حيز الوجود انطلاقا من هذه الوسيلة التي انتهى بها أحد الطرفين إلى العدم.

وحتى نفهم المثالية الأخلاقية مع توفيق الطويل تستدعي الضرورة بالعودة إلى السياق التاريخي لها وخصوصا مع اللحظة الكانطية، حيث عمد إلى تبيان «خصائص المثالية التقليدية التي تقتضي وضع مثل إنساني رفيع يسير بمقتضاه السلوك الإنساني»[7]، وكيف أنها ترفض الموقف التجريبي الذي يتناول الأخلاق من زاوية براغماتية محضة.

وبينما الأخلاق مع توفيق الطويل هي غاية في ذاتها تماما كما أتى أرسطو بذلك، يقول: «إذ يرى أرسطو [...] بأن موضوع البحث الخلقي الرئيس، يشمل كل ما تتضمنه فكرة الخير الأقصى أو المرغوب فيه عند الإنسان - أي كل ما يقع عليه اختياره أو يقصد إليه عن تعقل، لا كوسيلة لتحقيق غاية بعيدة بل باعتباره غاية في ذاته»[8]، ذلك أن الغايات تكون في الأفعال نفسها أو في نتائجها، فإن كانت هناك غاية ما لأفعالنا نطلبها لذاتها.

فمن الواضح أن هذه الغاية التي نطلبها ليست سوى الخير الذي هو السعادة[9] على اعتبار أن السعادة غاية كل فعل إنساني، وهي مبنية على الاختيار، فانظر كيف أن الأصل في الدين هو الاختيار، ثم انظر كيف عرف ابن مسكويه الدين بـ: «وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى»[10]. لهذا، نجد أن قيمة الإنسان بالنسبة إلى كانط تتحدد بكونه فردا عقلانيا أخلاقيا عمليا، ولهذا كانت الأخلاق عند المثاليين تكتسي قيمة مطلقة وعامة، ومع هذا سيطرأ على هذه النظرة التقليدية بلورة جديدة في الفكر الإنساني ساهمت في نسج توفيق الطويل لرؤية واضحة معبرة عن قلب المجتمع، من خصائصها تحقيق الذات والإلمام بكل تفاصيلها البشرية، فالإنسان فيه أمور كثيرة، وهو إنسان بمجموعها كما قال ابن باجة فيما يتعلق بالنفس البشرية.

وأيضا من بين أشكال تحقيق الذات لقواها الحيوية تستدعي الضرورة إلى إعارة الانتباه والتركيز إلى محاولة معرفة ورصد إمكاناتها بجعل "مثل" كفيل بأن يحتذى به لتوحيدها وتعميق تكاملها، حتى يتسنى لنا أن نوحد بين أطروحتي الحس والروح في سياق يقبله العقل، وهذا هو مسار بلوغ السعادة بالاقتران إلى الفضيلة، فلا نعلي من قيمة إنسانية وخاصية مميزة للفرد كمحدد لهويته على حساب قيم أخرى.

فقط في دائرة الواجب يحظر العقل والرغبة على كفة الصراع، لذلك لا يجب أن نفهم الأخلاق كنفي للإرادة واختزال للذات من خلال مجاهدة النفس في سبيل إعلاء «القيم الروحية العليا على القيم الحسية الدنيا»[11]، ولكن على هذه التضحية في سبيل الارتقاء ألا تكون على حساب تلبية حاجات الجسد لكونها حاجات ترمي إلى تحقيق الذات بإشباع قواها الحيوية، فهذا أمر مرغوب مادام ليس ينعكس سلبا على قيم المجتمع، لأن في هذا التصور المثالي للأخلاق الفرد هو جزء من الجماعية وأساسها في الأصل.

ليس بين الفلسفة والأخلاق فواصل، ذلك أن الأولى هي فقه المعنى والثانية هي تجسيده، وهما معا للحياة إبداع أصيل

هكذا نخلص إلى أن الأخلاق المثالية استرعت في أطروحاتها الجسد، وغطت جانبا كبيرا من النفس الإنسانية، حيث انتهت إلى ضرورة تقتضي في هذه المثالية بأهمية إشباع الرغبات الإنسانية من أجل تحقيق الذات، مادام ذلك ليس فيه إخلال بأساس ووحدة المجتمع وأيضا لا يتعارض مع المصلحة العامة وإلا ستكون التضحية أسمى الممارسات التي تحقق الذات والارتقاء لما في ذلك من خير للمجتمع. ورغم أن هذا المجال لا يزال موضع خلاف بين الباحثين حسب تصور توفيق الطويل نظرا لطبيعته وعلاقاته بغيره من العلوم لما يشوبها من إبهام أو يلحقها من تطور، كان من ثمرة هذا التطور أن تتغير النظرة إلى علم الأخلاق موضوعا وغاية ومنهجا[12].

ثانيا: قيم الرحمانية

ينتقل بنا البحث في شخصية زكي الأرسوزي (1900 - 1968م) المفكر القومي العربي من النظر في الذات وانخراطها بالمجتمع إلى الحديث عن القومية العربية، حيث تصبح للأفكار مكانة خاصة معبرة عن مآل الأمم، فقد ارتبط وعيه الفلسفي بالحركة النهضوية العربية العامة، والتي انطلقت إبان القرن 19، ويتخذ مسار تحوله الفلسفي ووعيه الفكري منحى الانتقال من رغبة إنشاء فلسفة عربية عفوية إلى مستوى من الشعور يتجلى بالضبط في العناية باللسان العربي، وبالتالي جعل التفلسف هو الكشف عن عبقرية الأمة العربية[13].

يشكل اللسان العربي منطلق اهتمام الأرسوزي، حيث إنه خصص للأمة العربية تصورها للحياة والوجود من تصور يستمد خصائصه المميزة من لغتها الأم، وبالتالي لا يمكن الجزم على استيعاب مجريات هذه الأمة وتصوراتها خارجا عن منطق فلسفتها، لذلك خصص المفكر القومي وقتا طويلا في دراسة اللسان العربي القديم على اعتبار أن العودة إلى ماضيها أساس في استعادة أمجاد هذه الحضارة لكن بروح راهنية معاصرة تبعث رؤية مستجدة، وبالتالي يكون لدينا نموذج للمثقف المتحرر الذي يسعى إلى مجابهة أزمات الإنسان المعاصر بتذرع إلى شمول النظرة الفلسفية[14].

من خلال ما سبق؛ يتضح لنا أن فلسفة زكي الأرسوزي قائمة على رؤية أن للعرب فلسفة منسجمة ومتكاملة، ومرد هذا إلى لغتهم. لهذا، دعا إلى ضرورة التركيز عليها وفهم نظامها البياني[15]، فهي بالنسبة إليه أقوى لغة تبدع كل معنى من المعاني الوجودية، وتعبر عن أشكال الوجود، فهي فلسفة وجودية عبرت الوجود بما يمكن للدلالة والمعنى أن يحملا عن شكل هذا الموجود، وإنها لغة عربية ساهمت في تطور الفكر الإنساني وبلورة الوجود بانكشافه الحر أمام قواعدها ومجازها ... إلخ، ولهذا السبب كان «إنشاء هذه الفلسفة يؤدي إلى نتيجتين مهمتين؛ الأولى: إرساء فكرة البعث على قواعد صحيحة، والثانية إسهام العرب إسهاما جديا حاسما في التراث الإنساني. فالعقل الإغريقي الغربي، يجنح نحو الكشف عن نظام الطبيعة، بينما يجنح العقل السامي العربي نحو الحقيقة الروحية المثالية، ويجب أن يكمل كل منهما الآخر»[16].

إجمالا تتلخص الفلسفة العربية بحسب زكي الأرسوزي إلى ثلاثة مبادئ مستمدة من نظرته للحياة؛ أولا، لدينا الرحمانية، وثانيا لدينا المبدأ الفني، ثم ثالثا لدينا مبدأ البطولة كتحقيق غاية، وهي معا تجسد لنا تلك العلاقة المتمثلة بين الخالق والعالم المخلوق، وهي تحتل مرتبة التوسط بين الشيء وتشوقه ونزوعه للأصل، وأيضا تجسد لنا صورة الأم والجنين كعلاقة اتصال وانفصال؛ فالرحمانية منهج يقرر الاتصال بين النفس والعالم عن طريق الحس ليرتقي إلى الخيال الذي تتشخص فيه الأوضاع الاجتماعية، ولأننا بصدد الحديث عن حضارة عربية إسلامية لا يمكننا الاكتفاء بالحديث عن حدود التأمل وأشكاله، بل إن القول يرقى إلى مستوى يتصل بالوجدان مما يساهم أساسا في تعميق الرؤية الوجودية للإنسان، فيضع القواعد لذلك المعنى المنجلي في عباراته، وفي هذا الفعل نرى تنمية للنفس وتحرير لإرادة الفرد. إنها حرية الإرادة؟ بمعنى أن الحرية في الحدس العربي تتصل أساسا بمعنى "فعل الاختيار"؛ "فعل" كدلالة للاصطفاء والانطلاق و"الاختيار" كاشتقاق لمفهوم الخير. إنها حرية تغدي الجسد وتتوج بها الإنسانية وترقى بها الذات.

من ثمة كانت مهمة المجتمع أن يسمو بأفراده إلى المتعالي كنتيجة لعملية فيض عن مشيئة العناية، كمقوم يمد الأفراد بمقومات تحقيق كيانهم في إطار مطلق للحرية؛ أي في تصورهم للذات الإلهية، وسعي الفرد إلى استنباط تلك الصفات واشتقاقها من سلوكه الإنساني واعتداله في نزوحه نحو الفضيلة.

وعلى هذا النظر الذي لا تغيب فيه رؤية ذوقية تتجلى الحياة كحرية، وتلك هي الغاية الأسمى، حين تكون الحياة هبة من العناية وانتصار على القوى الغاشمة[17]، «فالحرية تبدو في الوجدان بوضوح متناسب مع ما تبدى في النفس من عمق في تجلياتها، حيث ينكشف على شفق المعنى الاتصال بين الطبيعة والملأ الأعلى - بين الضمير (اللاشعور) والشعور»[18]. من هنا، قامت "الإنسانية الجديدة"؛ أي على مبدأ انبثاق القيم الأخلاقية عن الوجدان ومبدأ انطواء النفس على عقل تكفل به شؤونها[19]، وكان من شأن هذا النظام الذي يراه الأرسوزي أن يجعل الناس متساوين في مبدأ تمييز الحقيقة من الخطأ، وفي مبدأ تمييز الخير من الشر، حتى وإن اختلفت رؤيتهم وتفاوتت عقولهم في استيعاب الحقيقة من حيث المبدأ والأصل والمعيار، وفي هذا ترى وحدتهم على الحقيقة، وعلى تلازم الحرية والإنسانية تقوم القيم الأخلاقية الفنية.

وتجدر الملاحظة إلى مسألة مهمة وخطيرة جاءت إبان القرن 20، حيث إن الأزمات الاجتماعية والسياسية والحروب التي عاناها الإنسان في هذه الفترة خلقت توثرا وقلقا كبيرين وإحساسا بالضياع لدى الأفراد والجماعات، بالإضافة إلى هذا وما خلفته الثورة الصناعية من روح التزمت التجريبي وهيمنة النزعة الآلية، أدى هذا إلى شعور ورغبة الإنسان في مواجهة التطور العلمي نظرا لبسط سيطرته على جميع مرافق الحياة الإنسانية، فهذه الأمور كان لها تأثير على القيم الإنسانية الروحية والأخلاقية «حيث أخذ مركزها يتضاءل بين الناس، فكان لذلك تأثيره على مفهوم الحرية وممارستها وكذلك على المفاهيم الأخلاقية والدينية بوجه عام»[20]. وعلى هذا، ظهر تيار فكري كصيحة معبرة عن التجربة الإنسانية ومعاناته مما ساهم معه في تدعم رسالة الحرية الإنسانية، فصارت بهذا المعنى الحرية "المعنى المساوق للوجود"[21].

خلاصة القول يمكن أن نجمل أن فكر زكي الأرسوزي يقوم على أساسين: الأول يتعلق بالحياة، حيث إنها أساس الفكر القومي لدى هذا الفيلسوف، فلما كانت الحياة في روح الأمة العربية مشتقة من معاني لغتها كجوهر في قوميتها، كان لابد أن تتخذ فلسفته هذا المنحى وتعبر عن فلسفة حياة. وأما الأساس الفلسفي الثاني، فيتصل بالتراث كحركة تاريخية مهمة دالة على وثبة الحياة في انتقالها عبر الأجيال[22]، وهنا يعتبر زكي الأرسوزي مرحلة الجاهلية[23] كأصل خالد، وهو بالنسبة إليه العهد الذهبي، في حين أن مرحلة الإسلام تعبر عن عهد جديد بأخلاقه التي صورتها وصاغتها كلمات الحق العزيز سبحانه وتعالى ونبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وبين المرحلتين يضم لنا الأرسوزي تلك اللحظة التي تشابكت فيها أخلاق الجاهلية وامتدت إلى الإسلام فتأسست عليه، وبالتالي فهو جعل الفارق بينهما أن كان الإسلام قد أضاف إلى الأخلاق الفطرية أخلاقا دينية.

إن الأخلاق في الحدس العربي هي فن إيجاد الحياة وإبداعها، أو بمعنى آخر إنها تحقيق الفطرة الموروثة عن الجيل الذهبي

يقول سليم بركات متسائلا: «فهل كان الأرسوزي يمثل تيارا معينا من تيارات الفلسفة [...] أم كان صاحب فلسفة جديدة تتأثر إلى حد كبير بهذه المدارس، ولكنها أرسوزية عربية، تتجلى في اللسان العربي، وتكون أساسا لبعث الأمة، التي تجد الأمة العربية فيها شخصيتها متكاملة الأجزاء. والتي تقوم على جدلين؛ الجدل الأول: إن المعنى (الإله) يتجلى في الحياة، وأن الحياة تتجلى في الأمة، وأن الأمة تتجلى في العبقرية، وأن العبقرية تتجلى في لسانها. الجدل الثاني: إن دراسة اللغة العربية، أو اللسان العربي، يبعث عبقرية الأمة. وإن بعث الأمة، يبعث الحياة ارتقاء إلى المعنى، والمعنى هو القادر على كل شيء»[24].

إذن؛ نستنتج أن أفكار الأرسوزي قامت في جوانب عديدة منها على التحليل اللغوي في ارتباطها الوثيق بهويتها العربية وبعدها المتعالي الذي يتصل بالقضية الرحمانية، كما رأينا سابقا والبعد الانبعاثي الذي يحكم غاياتها «لقد انطلق من ((فقه اللغة)) إلى ((فقه المعنى))، هذا التعبير ارتضاه بدل ((الفلسفة)) وحاول تفجير الكلمة ليبعث منها سليقة عربية تعيش في القرن العشرين وتجيب على مشاكله»[25]، وأيضا نستنتج أن الأخلاق تحتل مركزا خاصا عند الباحث زكي الأرسوزي في طيات فكر الفلسفي والسياسي أيضا، ولذلك ليس بين الفلسفة والأخلاق فواصل، ذلك أن الأولى هي فقه المعنى والثانية هي تجسيده، وهما معا للحياة إبداع أصيل. إنها كما يقول زكي الأرسوزي: «ليست الأخلاق نهيا عن السوء ولا أمرا بالتقوى، بل إنها منظومة أعمال يستكمل بها الفرد شروط الحياة مرتقيا من شخص إلى ذات»[26].

هذه هي الأخلاق التي نفتقر إليها ونطالب بها، ليس أخلاق الثواب والعقاب، بل أخلاق الحياة، أخلاق التعاطي مع أشكال الوجود وركائز المجتمع القومي، ولذلك فهي أخلاق ارتقائية موجهة لتحقيق هذا النوع من السمو والتعالي إلى ما هو إنساني محض يخدم الإنسانية المحضة. إن الأخلاق في الحدس العربي هي فن إيجاد الحياة وإبداعها، أو بمعنى آخر إنها تحقيق الفطرة الموروثة عن الجيل الذهبي، ثم استئناف النمو والتطور إلى شكل أرقى وأرقى، وهو ما برز مع الجيل الثاني إبان ظهور الإسلام.

خاتمة

إن الأخلاق الحقة هي التي تبقى لجوهرها وتصلح لكل زمان ومكان. إنها تتطور وتسمو بالفرد إلى الأفق، نحو نظام متكامل منسجم، وإلا فالباقي هو قيم الانحطاط والارتداد. لذلك نجد في الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية تشديدا على الأخلاق، ليس كمحدد لطريقة تصرف الإنسان وسلوكه مع كل مظاهر الحياة فقط، بل أيضا كعلم يهدي إلى التي هي أقوم وهي ما عبره عنه توفيق الطويل بلسانه بالاتجاه السوي، لذلك هو يقول بما تتركه الأخلاق من حرية التصرف الأمر الذي يشي إلى الاعتراف باختلاف تطبيق المبادئ الكلية في الأخلاق حسب تغير المكان والزمان؛ وبينما أخذت الأخلاق منحى مختلفا نفهمه في الطابع القومي للفكر لدى زكي الأرسوزي، حيث إنه يربط بين الفلسفة كفقه للمعنى وبين الأخلاق كتجسيد لهذا المعنى، ليحقق شروط الحياة من خلال لغته المعبرة عن الوجود الأصيل.

 

لائحة المصادر والمراجع

  • أبو ريان، محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي، أرسطو والمدارس المتأخرة، الجزء الثاني، الطبعة الثالثة، دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية.
  • أبو ريان، محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي، الفلسفة الحديثة، الجزء الرابع، دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية، 1996
  • بركات، سليم ناصر، الفكر القومي وأسسه الفلسفية عند الأرسوزي، الطبعة الثالثة 1984
  • بن عدي، يوسف، أطروحات الفكر العربي المعاصر في مناهج تحليل التراث، الطبعة الأولى، منشورات دار التوحيدي، 2015
  • جاسم، موفق مهدي، أين تبحث عن مصدر الأخلاق، الطبعة الأولى، دار الروافد، بيروت - لبنان، 2015
  • الطويل، توفيق، أسس الفلسفة، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة - مصر.
  • عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، دراسة تحليلية للاتجاهات الأخلاقية الحالية في الوطن العربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، 1990


[1]. جاسم، موفق مهدي، أين تبحث عن مصدر الأخلاق، الطبعة الأولى 2015، دار الروافد، بيروت - لبنان، الصفحة 14

[2]. المرجع السابق، ص. 16

[3]. بركات، سليم، الفكر القومي وأسسه الفلسفية عند الأرسوزي، 1979، دار دمشق للطباعة والنشر، الصفحة 202

[4]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، دراسة تحليلية للاتجاهات الأخلاقية الحالية في الوطن العربي، 1990، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، الصفحة 105

[5]. المرجع السابق، ص. 106

[6]. المرجع السابق، ص. 106

[7]. المرجع السابق، ص. 111

[8]. الطويل، توفيق، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص. 365

[9]. أبو ريان، محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي، أرسطو والمدارس المتأخرة، الجزء الثاني، الطبعة الثالثة، دار المعرفة الإسكندرية، الصفحة 215

[10]. بن عدي، يوسف، أطروحات الفكر العربي المعاصر في مناهج تحليل التراث، الطبعة الأولى 2015، منشورات دار التوحيدي، الصفحة 259

[11]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص. 112

[12]. الطويل، توفيق، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص. 364

[13]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص. 119

[14]. بركات، سليم، الفكر القومي وأسسه الفلسفية عند الأرسوزي، مرجع سابق، ص. 77

[15]. «فاللسان العربي اشتقاقي البيان، ترجع كلماته كافة إلى صور صوتية مرئية، مقتبسة مباشرة من الطبيعة (1) إن اللسان العربي، بالنظر إلى نشأته: (صور صوتية مقتبسة عن الطليعة مباشرة) وبالنظر لصناعته أيضا (تجلي العبقرية العربية في كافة أصوله، أي في منظومته الصوتية وفي قواعده النحوية وفي مفرداته) هو بدائي وبدئي. وكل كلمة أو قاعدة تحمل طابع عبقريته أيا كانت، فهي مستعارة منه (2). تنبثق عن ذات الأمة نظرتها في الوجود، وهي تحمل طابعها»، بركات، سليم، الفكر القومي وأسسه الفلسفية عند الأرسوزي، المرجع السابق، ص. 206

[16]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص. 120

[17]. المرجع السابق، ص. 122

[18]. المرجع السابق، ص. 122

[19]. المرجع السابق، ص. 122

[20]. أبو ريان، محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي، الفلسفة الحديثة، الجزء الرابع، 1996، دار المعرفة الجامعية، ص ص 350 - 351

[21]. المرجع السابق، ص. 351

[22]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص. 124

[23]. «فالعناصر التي تكون القومية العربية، ترجع أول ما ترجع، إلى أول عهد الإسلام بل وما قبله، بالنسبة لبعض هذه العناصر، من قبيل ذلك: الوطن، الجنس، وإلى حد ما اللغة. وهكذا نجد أن القومية العربية ليست فكرة جديدة، ولا من صنع عرب العصر»، بركات، سليم، الفكر القومي وأسسه الفلسفية عند زكي الأرسوزي، مرجع سابق، ص. 167

[24]. المرجع السابق، ص. 74

[25]. عطية، أحمد عبد الحليم، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص. 124

[26]. المرجع السابق، ص. 125