مواقع التواصل الاجتماعي وبناء القناعات الدينية السائلة لدى الشباب: السلفية الجهادية نموذجا


فئة :  مقالات

مواقع التواصل الاجتماعي وبناء القناعات الدينية السائلة لدى الشباب: السلفية الجهادية نموذجا

مواقع التواصل الاجتماعي وبناء القناعات الدينية السائلة لدى الشباب:

السلفية الجهادية أنموذجا([1])

مقدمة:

تحدث "هربرت ماركوز" في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" على أن سيطرة الإنسان على الإنسان ما تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، وبالرغم من كل التغيرات الحاصلة استمرارا تاريخيا، وما تزال هناك رابطة بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي، بيد أن المجتمع البشري الذي باشر مبادراته ومجهوداته نحو الطبيعة يسيطر عليها ويَتَمَلَّكُها عن طريق التكنولوجيا، قد غير المبادئ الأساسية للسيطرة؛ فتبعية العبد للسيد كما يخبرنا "ماركوز" والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، قد حلّ محلها في العصر التكنولوجي أو ما بعد الحداثي نوع آخر من التبعية التي تخضع المرء "لنظام أشياء موضوعي"، وإذا كان هذا النظام من صنع التكنولوجيا ونتائجها، فقد أصبحت السيطرة تعتمد راهنا - وفي ظل توجه الشباب أفرادا وجماعات نحو العوالم الافتراضية التي تبنيها وتنتجها شبكة الإنترنيت، يعتلون منصاتها، ويسطرون على سيولة تدفقاتها-على القدرة على التشبيك بين الهويات، والتأثير في القناعات، والضخ الكثيف للخطابات السائلة: من التثقيف إلى الترفيه إلى الحشد والتحريض إلى الاستقطاب والتجنيد فالجهاد، الأمر الذي وضع السلفية الجهادية على خارطة التطورات التكنولوجية والمعلوماتية الحاصلة، ومكنها من التكيف مع المستجدات المحلية والعالمية لتحافظ على توازناتها وتمدد كينونتها ما بين الواقعي /الافتراضي، والمحلي /العولمي، والماضوي/المستقبلي.

انطلاقا من هذه الزاوية النظرية والمعرفية المستجدة في العلوم الاجتماعية، سنتناول في دراستنا هذه دور مواقع التواصل الاجتماعي وصفحاتها الافتراضية في تشكيل الوعي والسلوك الديني، وبناء قناعات دينية سائلة لا تنفك تتمدد وتنتشر، وهو الأمر الذي استغلته السلفية الجهادية أشد استغلال، مع محاولة تفكيك ارتباط الاجتماعي بالديني، والواقعي بالافتراضي، والوقوف على بنية الخطاب السلفي الجهادي على الإنترنيت من حيث الاستقطاب والتجنيد، وصولا إلى إضفاء الشرعية وصك أحكام الطهر والصفاء لدى الباحثين عن الأمة الافتراضية.

أولا: مواقع التواصل الاجتماعي وظاهرة نشوء المجتمعات الافتراضية

1- حول مفهوم مواقع التواصل الاجتماعي

تعد مواقع التواصل الاجتماعي، من أحدث منتجات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وأكثرها شعبية، ورغم أن هذه المواقع أنشئت في الأساس للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، إلا أن استخدامها امتد ليشمل الأنشطة السياسية، والثقافية، والتربوية والرياضية والدينية أيضا، لقد أصبح يطلق على مواقع التواصل هذه - والفايسبوك أهمها- اسم الإعلام الاجتماعي الجديد، ومن سماته: الدينامية، والتطور والانتشار، "وقد كان في بدايته مجتمعا افتراضيا ضيقا ومحدودا، ثم ما لبث أن توسع وتمطط ليتحول من أداة تواصلية نصية مكتوبة، إلى أداة تواصلية سمعية وبصرية أيضا، تؤثر في قرارات المستخدمين واستجاباتهم"[2]، سواء عن طريق قدرتها على شحذ المشاركة من أجل تحقيق رغبات وأهداف الفئات مشتركة الاهتمامات والأنشطة، أو من أجل تحقيق التشبيك والمناصرة والتفاعل والضغط، أو من أجل تأطير واستقطاب المتعاطفين والمريدين من أجل تنمية الرأسمال الاجتماعي، المُشكَّل أساسا من فئات جمهور واسع النطاق وغير محدود أو متجانس لا يكفّ عن التوسع والامتداد.

نتيجة هذه المنجزات و"في سنة 2010 أصبح الفايسبوك الموقع الأكثر زيارة في العالم، متجاوزا بذلك محرك البحث google، هذا الحدث نبه إلى بداية شيوع وجماهيرية مواقع التواصل الاجتماعي"[3]، وتوسع قاعدة رأسماله الاجتماعي، وفي سنة 2017 نجح هذا الموقع في "تخطّي توقّعات مُحلّلي سوق الأوراق المالية بعد تحقيقه لعائدات وصلت إلى 9.3 مليار دولار أمريكي خلال أربعة أشهر فقط".[4]

لقد أصبح لمواقع التواصل الاجتماعي هذه -خاصة الفايسبوك- قوة وقدرة غير محدودة على التأثير في ثقافة الأفراد خاصة الشباب، وسلوكياتهم، وأفكارهم وتصرفاتهم. فكل مبادئ وقناعات هؤلاء سواء عبر التخيل أو التحدث أو التحليل الدقيق أو تبني تجارب وخبرات الآخرين، أصبحت داخل هذه المواقع قابلة للتعديل والتغيير من طرف المؤثرين، حيث أصبح مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي اليوم "لا يكتفون بالعيش في المجتمع، بل يقومون أيضا بإنتاج أشكال جديدة للوجود الاجتماعي؛ أي للمجتمعات، بغية مواصلة العيش، وعبر قيامهم بتحويل طرق عيشهم، يُحَّولون في الوقت عينه طرق تفكيرهم وتصرفهم وبالتالي ثقافتهم".[5]

2- حول مفهوم المجتمعات الافتراضية:

مهدت زيادة تعاطي الناس خاصة فئة الشباب مع تطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي بروز مجتمعات جديدة داخل شبكة الإنترنيت، تختلف كلية عن المجتمعات الواقعية، حيث أوضح بارلو Barlow أن "الحياة فيها أصبحت مؤسسة على أولوية الحريات الفردية والالتزام بالتعددية والتنوع والمجتمع".[6]

أطلق على هذا النوع من الكيانات: المجتمعات الافتراضية أو الجماعات الافتراضية، والتي لاقت قبولا وانتشارا واسعا لدى المشاركين على الإنترنيت، واعتبرت بذلك أمكنة ثالثة جديدة لكن افتراضية مثل مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة والقوائم البريدية والبريد الإلكتروني وغيرها، حيث تشير الإحصاءات إلى أن موقع التواصل الاجتماعي الفايسبوك مثلا بلغ عدد المنتسبين إليه أكثر من مليار مستخدم يتصل أكثر من نصفهم بالموقع مرة في اليوم على الأقل، ويمضون أكثر من 20 دقيقة في الإبحار عبر صفحاته وفق إحصاءات أليكسا Alexa لترتيب المواقع.

إن الشباب وفي العصر التكنولوجي أو ما بعد الحداثة بالمنظور السوسيولوجي الحديث، ووفق "الوعاء الشبكي المعلوماتي للمجتمع الكوني وبخاصة في الفضاء الرقمي الإلكتروني المطلق"[7]، أصبح يتوجه أكثر فأكثر نحو خيار المجتمعات الافتراضية وما تتيحه عوالمها الافتراضية من حرية أكثر في القول والفعل، بما في ذلك الشأن الديني اعتقادا وممارسة أيضا، حيث لم تعد القناعات الدينية مرتبطة بعملية برمجة مجتمعية أو فردية تضمن إمكان إعادة إنتاج السلوك والوعي الديني التقليدي، وإنما حصيلة تفاعل وترابط أوسع وأشمل لمجتمع قُدِّر له أن يوضع على الخط، وأن يتخلى عن أمكنته الطبيعية التقليدية ليتواجد في أمكنة سائلة وافتراضية، بثقافة جديدة وذات جديدة، وعادات وتقاليد جديدة، وسلوكيات ووعي ديني جديد مع تمثل للذات والهويتية بثقة أكبر.

ثانيا: الشباب والحاجة إلى القناعة الدينية: ترميق الهوية اجتماعيا وافتراضيا

1- الشباب وعلاقة الديني بالاجتماعي:

تختلف السياقات والظروف التي تُحدد فيها ظاهرة الشباب، وذلك تبعا لاختلاف الطابع الحضاري والنظام الاجتماعي والمستوى الاقتصادي والثقافي وغيرها. إن هذا الاختلاف في تحديد مفهوم الشباب كفئة عمرية، أو شريحة اجتماعية مميزة من الناحية الزمنية، يدفعنا أكثر إلى تناول المفهوم سوسيولوجيا، على أساس أن السوسيولوجيا تعتبر الشباب بناء اجتماعيا، وليس فئة عمرية أو كيانا بيولوجيا وحسب، إذ يؤكد "بيير بورديو" Pierre Bourdieu أن "الشباب مجرد كلمة[8].

ومعنى أنه بناء اجتماعي؛ أي يكتسب خبراته من خلال تفاعله الاجتماعي ومن خلال العلاقات التي يربطها مع الآخرين من حوله، والتي ينشأ التفاعل الاجتماعي عنها، وهو ما يفضي في النهاية بالنسبة إلى الشباب إلى بناء هوية جديدة وكيان اجتماعي جديد، بعبارة أخرى، فإن الشباب يعيدون إنتاج الأنماط التقليدية المتوقعة للسلوك، وفي الوقت نفسه يعملون على تغيير الحياة من حولهم وكذلك نظامهم الاجتماعي، "باعتبار هذا السن هو سن الاختيارات" كما تقول جوكالب [9]Gokalp، و"سن بناء وتكوين الطموحات"، كما يرى Erickson إريكسون[10].

وبحكم انتمائنا إلى مجتمعات إسلامية، فإن أكثر ما يتم الاعتماد عليه لتنشئة وإعداد الشباب لدخول عالم الكبار واجتياز المرحلة الانتقالية هو المقوم الديني بالدرجة الأولى، من أجل تجاوز التوترات والتقطعات التي تشوب المرحلة، والتي يضيع فيها الشباب بحثا عن هويته الخاصة وأناه الفردي، فيجد الكثير من الشباب في الدين وطقوسه الملاذ الآمن لتأسيس يقينهم الأنطولوجي ومنظومتهم الأخلاقية والقيمية، إذ يوفر الدين في هذه الحالة إمكانية بناء هوية دينية خاصة تتراوح بين الاعتدال في المظهر الخارجي والممارسات اليومية، والمقاومة من أجل كسب الاعتراف، يشكلها شباب وجدوا أنفسهم في ظروف خاصة أو دونية، فينكفئون عندئذ على ذواتهم ليبدؤوا رحلة البحث عن عالم "طهري" خاص بهم أكثر طهارة ونقاء مما يروج من حولهم، ومن ثم يبدؤون رحلة البحث عن انتماء أو تنسيب جديد ونوعي وغالبا ما يكون في كنف الجماعات الدينية، هذه الأخيرة نجدها تكثّرت وتعددت مشاربها واتجاهاتها، وطروحاتها، بما فيها الجماعات التي اختارت اللعبة السياسية أو الجهادية أو التطرف الأيديولوجي لإيجاد مكان ملائم لها في المجتمع.

شكل صعود السلفية الجهادية أحد تمظهرات "عودة الديني" إلى الحياة العامة، ضمن محاولة لأسلمة المجتمعات العربية وأسلمة المشروع التحديثي الذي قادته نخب مرحلة ما بعد الاستقلال

في هذا السياق، شكل صعود السلفية الجهادية أحد تمظهرات "عودة الديني" إلى الحياة العامة، ضمن محاولة لأسلمة المجتمعات العربية وأسلمة المشروع التحديثي الذي قادته نخب مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي بنت أيديولوجيتها على مقولة "الصحوة الإسلامية" كرد فعل على مشروع الحداثة التغريبي الذي خلفه الاستعمار، الأمر الذي مهد لعودة التقاطع بين الدين والسياسة بالشكل القوي الذي ما زال مستمرا إلى الآن، ويفسر "محمد أركون" ظاهرة التداخل بين الإسلام والحركات السياسية من خلال تأكيده "على أن الإسلام ملجأ هوية لمجتمعات ومجموعات عرقية ثقافية، اقتلعت من بناها وقيمها التقليدية، بفعل التحديث المادي، كما إنه مأوى لجميع القوى الاجتماعية التي لا تستطيع التعبير عن نفسها سياسيا إلا في أمكنة تحميها المناعة الدينية، وهو أخيرا وسيلة يعتمدها من يريدون الوصول إلى السلطة"[11]، ففي العالم الإسلامي لا يمكن تحقيق أي طموح سياسي من دون الاستناد إلى الدين، كما أنه لا يمكن تحقيق أي إصلاح ديني من دون دعم السلطة السياسية، ويشير المؤرخون إلى أن "محمد بن مسعود" استقبل "محمد بن عبد الوهاب" وخاطبه قائلا: "هذه الواحة لك، لا تخش الأعداء وبإذن الله سبحانه وتعالى وإن نبذتك نَجْد بأكملها لن تركك وسنبقى إلى جانبك، فأجابه "محمد بن عبد الوهاب" قائلا: "أنت زعيم هذه الواحة وأنت رجل حكيم".[12]

2- الشباب وعلاقة الديني بالافتراضي:

عوضت المجتمعات الافتراضية كما سبق وذكرنا الكثير من المعاملات المادية ونقلتها من وجودها الواقعي المحض إلى مجرد بيانات رقمية مكونة من بتاتي الصفر والواحد، "حيث يؤكد روبرت بتنام Robert Putnam أن "نمو المجتمعات المحلية الافتراضية يساعد في إنتاج الرأسمال الاجتماعي الافتراضي"[13]، حيث إن الواقع الافتراضي أصبح يوفر أرضية خصبة لظهور الخصائص التي تسمح بتشكل وبناء الهوية لدى الشباب، من خلال ما يعرف بنظرية الحضور الاجتماعي، "والتي تعبر أساسا عن مسألة إشباع الذات الاجتماعية في الإنسان".[14]

وأهم ما يبرز من هذه الخصائص هو سيرورة تشكل الذات الافتراضية، حيث يتبنى بوستر Poster مثلا تحليلا ثقافيا لأساليب التكوين والتشكل الذاتي، يؤكد من خلاله أن الواقع الافتراضي الذي تنتجه التكنولوجيا يخلق الذات، إنه "يكون الذاتية بالطرق نفسها التي تتكون بها الحقائق الأخرى"[15]، بمعنى أن الاتصال لا يحدث داخل الواقع الافتراضي في فراغ أو يبتغي اللامعنى، بل بالعكس إن من يقوم به في هذه اللحظة يلعب دور الفاعل الاجتماعي بامتياز، على أساس أنه –أي الواقع الافتراضي- هو "مشهد مجتمع افتراضي له طبيعة خاصة"[16]، تتطبع بها الهويات والقناعات والمشاعر الضالعة في هذا المشهد، مما ينجم عنه ظهور خصائص مختلفة يتم بناؤها رقميا، منعكسا كل ذلك على الهوية الافتراضية، وسيرورة تشكل القناعات والمشاعر والمبادئ من داخلها، وهو ما يمكن من فهم الذات والهوية الشخصية الافتراضية، داخل واقع افتراضي جديد، يسير جنبا إلى جنب مع الواقع الحقيقي، بل وينافسه أيضا، ويؤثر كل منهما في الآخر بصفة متبادلة.

والمتأمل في مختلف تطبيقات الإنترنيت خاصة مواقع التواصل الاجتماعي يلمس وجود كثافة في التعابير الافتراضية عن القناعات والمشاعر الدينية، والتي تؤكد تراجع النظام الاجتماعي القديم، وبروز نظام جديد تكنو اجتماعي على حد تعبير فيلسوف التقنية "جاك إلول" Jacques Ellul[17]، وهو ما سمح للشباب بتمثل ذواتهم وهويتهم وكأنهم في بيئة طبيعية ولكن بوسائط تكنولوجية آلية "من شأنها فتح المجال واسعا لكل الاختلافات الثقافية والعرقية والنوعية والجنسية"[18]، إضافة إلى الاختلافات الفكرية والدينية والعقدية.

إن شباب اليوم، باعتبارهم جيل الإنترنيت بامتياز، جيل خبر خدماتها المفتوحة وتمرس على الحرية التي يتيحها فضاؤها الافتراضي، سواء في القول أو الفعل، أصبحوا يتعاطون أكثر فأكثر مع قضايا الدين ومعضلاته، ويقبلون على مناقشة مواضيعه حتى بأكثر قضاياه حساسية، نظرا لتملصهم من الرقابة، بالرغم من أنهم وفي المرحلة السابقة كانوا مستبعدين من الشأن العام ومن قضاياه، ومحرومين من مناقشته وإبداء آرائهم، بفعل الوصاية التي كانت تمارس عليهم من طرف مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

إن الدين بهذا المعنى بالنسبة إلى الشباب لا يعود مؤسسا على الإكراه كما كانت تفرضه المؤسسات الدينية، بل على العكس من ذلك يصبح الشباب داخل الواقع الافتراضي في حالة تحرر ديني تخول لهم اختيار ما يناسب قناعاتهم ومشاعرهم، دون أن يعني ذلك قطع الصلة مع الديني، بمعنى آخر عندما لم يجد شباب اليوم ما يشبع شغفهم الديني والروحي لدى الأسرة والمسجد ووسائل الإعلام والفضاء العمومي، انتقلوا إلى الأنترنيت وفضائها الافتراضي، الأمر الذي خلق مشاعر وقناعات دينية مغايرة، توحي بعودة قوية إلى الديني وفكرة التدين في أوساط الشباب، حيث يذهب إرنست رينان Renan في دراسة له عن تاريخ الأديان إلى أنه يمكن أن يضمحل كل شيء نحبه وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة ولكن يستحيل أن ينمحي التدين"[19]، لكن هذه العودة القوية للديني داخل الواقع الافتراضي ليست بالشكل التقليدي كما تم ترسيخه داخل الواقع الحقيقي، وإنما في شكل جديد يتميز بالكثير من النقد والحرية في بناء القناعة وفي الاعتقاد.

إن الشباب هم الذين خلقوا لأنفسهم هذه القناعات الدينية الجديدة، فهي منفذ للتنفيس عن احتياجاتهم الإنسانية المتناقضة: احتياجات للخروج عن سطوة مؤسسات التنشئة الاجتماعية، التي ينحصر دورها في إعادة إنتاج الوضع القائم والحفاظ عليه كما أكد ذلك "بورديو" في كتابه "إعادة الإنتاج"، إضافة إلى حاجة التغيير والتجديد، والاستجابة للضغوط والرغبات والميولات النفسية، وبالتالي فإن التمسك بهذا النوع من المشاعر والقناعات الدينية المنبثقة داخل الواقع الافتراضي، قد سمح للشباب بأن يحافظ لنفسه على هوية تميزه من جهة ويبني لنفسه القناعات التي تناسبه دون خوف أو تماهي من جهة أخرى، "وهو إذ يفعل ذلك يتحرك في إطار المعايير الاجتماعية ولا يضطر إلى خرقها".[20]

ثالثا: السلفية الجهادية والحاجة إلى توسيع الرأسمال الاجتماعي

1- البحث عن أطر عولمية للانتماء:

"لا خلاص خارج الكنيسة" هذه المقولة منسوبة إلى القديس "قبريانوس القرطاجني"، وهو أسقف من القرن الثالث الميلادي، وفي عصرنا الحالي لدينا منطق حديث مناظر لهذا المنطق الحضاري، حيث لا يتمتع الفرد بوجود مرئي خارج مؤسسة تؤطره وتشكله، والسلفية الجهادية اليوم بمختلف مشاربها قد أصبحت هي المؤسسة الراعية لجماعة المؤمنين، إذ تتمحور أيديولوجيتها حول احتضان المؤمن، وتلبية حاجاته وتقوية إيمانه واعتقاده من أجل مجابهة حالة اللايقين التي تسود عالمه، والشك في قدرته والتساؤل الحاد حول مصيره، والتصدع المستمر في بناء هويته.

وهو ما أكده "أوليفييه روا" في كتابه "الجهل المقدس"، حيث أوضح أن هناك انتعاشا دينيا عالميا وعودة قوية للدين، كما صرح مؤلفو "السوق الدينية في الغرب" أن هناك سوقا دينية رائجة في الغرب على عكس ما رُوِّج سابقا عن اتساع رقعة العلمنة وانحسار الفكر والوعي الديني، وهو الأمر الذي انعكس إيجابا على عدد الحركات والجماعات الدينية إن في الشرق أو الغرب، وأوجد حربا محمومة بينها من أجل توسيع قواعد رأسمالها الاجتماعي، عن طريق جلب المزيد من الأتباع والمريدين، إضافة إلى تزايد أعداد المنتمين طوعا لهذه الجماعات، كما تنامت وبشكل ملفت للنظر ظاهرة التحول من جماعة لأخرى ومن دين لآخر أو إلى اللادين.

في هذا السياق، يحيل مفهوم الرأسمال الاجتماعي حسب "بورديو" إلى "مجموعة الموارد الحالية والممكنة والمرتبطة بشبكة دائمة من العلاقات الممأسسة بشكل أو بآخر والمرتبطة بالتفاعلات والمعارف المتبادلة"[21]، وهو نتاج للتفاعلات بين الأفراد في الشبكات الاجتماعية الواقعية أو الافتراضية، على نحو تتجه فيه الروابط الدينية والأيديولوجية إلى تعويض الروابط الاجتماعية والتعاقدية، وبمفهوم "فيبر" التأطر داخل جماعات تجمعها وحدة الشعور والانتماء، وتتأسس على التساند والتآلف والتواشج في تقاسم انتماء عقدي وأيديولوجي مشترك، فيصبح الانتماء تعبيرا عن الاعتراف الاجتماعي داخل نسق مجتمعي ظل الشباب مستبعدين منه، واقعين على هامشه، وخلاص أخروي يبدأ من إصلاح دنيوي يتراوح بين الموعظة وتغيير المجتمع عبر الدعوة، أو تبني الموقف الجهادي القائم على ضرورة الخروج على المخالفين ومحاربتهم، حيث يصبح القتال وممارسة التطرف والعنف من أجل تغيير المجتمع واجبا شرعيا على كل مؤمن.

هذا الموقف الأخير هو ما ميز السلفية الجهادية في السابق، باعتبارها إطارا للانتماء وتشكيل أو ترميق الهوية الفردية، إنها ولمدة غير يسيرة ظلت مرتبطة بالمكان الذي ترعرعت فيه وملتزمة بثقافته وخصوصياته، ولذلك ظلت كل رقعة مكانية من الفضاء الجغرافي العربي موسومة بحركة وأيديولوجية إسلامية. أما اليوم، فقد تغيرت أطر الانتماء وظهرت حركات جهادية عالمية ذات تنظيمات راديكالية، من قبيل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

لقد تمكنت هذه التنظيمات العالمية، من التوسع وتحقيق الانتشارية، بل وإنشاء فروع لها في مختلف الجهات والقارات بما فيها بلاد الغرب الإسلامي وآسيا وأوروبا، عن طريق اعتمادها سياسة الفصل بين المعلم الديني والثقافي، حيث يصير المعلم الديني منزوعا عن جذوره وخصائصه الجغرافية والثقافية، ومغلفا في قوالب جديدة تمكنه من التنقل في كل الأمكنة أو في اللامكان.

ولذلك يرى "أوليفييه روا" أن "عودة الديني المتمثلة في الإسلام السياسي والسلفية الجهادية الراهنة لا يمكن أن تكون احتجاجا أو رد فعل على حداثة مستلبة أو وهمية، وإنما هي شكل مختلف للدخول في الحداثة"[22]، حيث أجبرت الأديان في عصر الحداثة السائلة على البحث عن أطر جديدة للانتماء وإعادة بناء ذاتها في فضاء مستقل، ومثال ذلك ما أورده الباحث "أدواري" في كتاب "السلفية العالمية"، حول السلفية باعتبارها ظاهرة ما بعد حداثية، واعتبار السلفي الأوروبي المنفصل عن جذوره الاجتماعية /التاريخية فردا معولما لم يعد مهتما بعد هذه التحولات بجذوره الثقافية الخاصة وبأرض والديه، ويفضل بدلا من ذلك الحراك الثقافي العابر للقوميات من خلال الرغبة في الاستقرار في مدن كوزموبوليتانية.

يرى "أوليفييه روا" أن "عودة الديني المتمثلة في الإسلام السياسي والسلفية الجهادية الراهنة لا يمكن أن تكون احتجاجا على حداثة مستلبة أو وهمية، وإنما هي شكل مختلف للدخول في الحداثة

2- من الاستقطاب الصلب إلى السائل:

تواكب أزمة الهوية مرحلة المراهقة وبداية الشباب، وتمثل المطلب الأساسي للنمو خلال هذه المرحلة، وتعبر عن تحول في شخصية المراهق نحو الاستقلالية الضرورية للنمو السوي في المراحل القادمة، ومن ثم السعي إلى تحقيق تميز ذاتي وفردي؛ أي البحث عن "الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون، باعتباره منتميا لتلك الجماعة".[23]

وهو ما تم استثماره وعلى درجة كبيرة من البرغماتية من طرف حركات الإسلام السياسي والسلفية الجهادية بتشكيلاتها ومشاربها المتنوعة، إذ عملت بداية على استقطاب وجذب الشباب ممن يعانون توترات وإحباطات في مرحلتهم الانتقالية أو من تركوا لشأنهم وحساباتهم الخاصة، أو الواقعين على هامش المجتمع وطبقاته، وكذلك المتحولين من عالم الجريمة والانحراف وإدمان المخدرات، وذلك من أجل توسيع قواعدها وتقوية فصائلها، عن طريق الحركات الدعوية في المساجد والقيام بمبادرات خيرية واجتماعية لصالح الفئات المعوزة، كما تمثل نشاطها أيضا في توزيع المنشورات الورقية وأشرطة الدعاة السماعية والمصورة، إضافة إلى تنظيم دورات تكوينية وتداريب، والدخول في مخيمات مبرمجة من أجل التشبع بأيديولوجية الجماعة ومصالحها. وإذا كان هذا النوع من الاستقطاب لا يخرج عن الاستراتيجيات الصلبة أو المادية المرتبطة بحيثيات المكان والزمان، وبمعنى آخر البيئة المادية والواقعية الحاضنة لإنتاج الرأسمال البشري الخاص بالحركات الإسلامية سواء منها السياسية أو الجهادية، فإن ذلك كله قد انتهى في عصر ما بعد الحداثة وعصر بلوغ النهايات: نهاية التاريخ والإيديولوجيات والنهضة والثورة والتغيير..[24]، ومن ثم لم تعد المجتمعات المعاصرة مرتبطة بديناميات المادة الصلبة وحسب، بل مشدودة إلى عصر تنطبق عليه مقولة عصر السيولة، حيث أصبحت المادة سائلة وكل ما يرتبط بها من ديناميات اجتماعية وبشرية أصبح كذلك؛ أي لا يتنقل فيزيائيا طبقا للصلابة (المكان والزمان)، بل أضحى مرتكزا على بعد آخر يلخصه مصطلح السيولة، أو بمعنى آخر التدفق. ويعود مفهوم السيولة- إلى عالم الاجتماع "زيجمونت باومان" Zygmunt Bauman الذي استعمله لشرح مآلات الحداثة الراهنة، وذلك عبر سلسلة من كتب السيولة "المراقبة السائلة، العنف السائل، الشر السائل..، في كتابه "الحداثة السائلة"، ذكر "باومان" ما يلي: "ما قرّرت أن أسميه بوضوح الحداثة السائلة، إنما هو الإيمان المتنامي بأن التغير هو الثبات الوحيد، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد".[25]

وعليه، فقد انتقل نشاط الحركات الراديكالية بما فيها السلفية الجهادية المتمركز حول الاستقطاب والحشد والتجنيد وجلب المزيد من الأتباع والمريدين، وفي العصر المعلوماتي السائل والمجتمعات الافتراضية السائلة، إلى مجال أوسع وأرحب وأكثر تقنية ومكننة، حيث أصبح مرتكزا على الصور والفيديوهات والأيقونات والرسومات وكل تطبيق رقمي يستطيع أن يجمع بين دال ومدلول بحسب تعبير "دي سوسير".

رابعا: مواقع التواصل الاجتماعي وأشكال الجهاد الافتراضي

1- التجنيد والاستقطاب الافتراضي:

طرحت مسألة فقدان الفضاءات الآمنة في العالم الواقعي من أجل جذب واستقطاب المزيد من المريدين والمجندين - بفعل تزايد الرقابة المحلية والدولية على الأفراد والهيئات خاصة في أعقاب 11 سبتمبر (أيلول) 2001- ضرورة البحث عن فضاءات آمنة في العالم الافتراضي، باعتباره عالما من دون حدود. إنه كوني ومعولم وموحد بشكل من الأشكال ومتاح لجميع البشر الانخراط فيه، وبفعل قدرته على توفير تطبيقات مبتكرة وخلاّقة قادرة على التجدد والتخفي وابتداع طرائق للتجنيد فائقة الدقة والقوة، أمكن تزويد الشباب الجالسين أمام شاشات الحواسيب بالمادة الأيديولوجية والدينية والسياسية، وممارسة كل أشكال الدعاية والاستقطاب للتأثير فيهم، وصولا إلى التجنيد والتدريب والتخطيط، في فضاء غرف افتراضية معتمة، تجهد الأجهزة الاستخباراتية المحلية والعالمية في تتبع أثرها أو مراقبتها، دون أن تظفر بنتائج تذكر، خاصة عندما يتعلق الأمر بفئات يصعب تجنيدها ميدانيا، كفئة النساء، حيث عمل أحد الجهاديين السلفيين، وهو "عبد العزيز المقرن على تأسيس موقع جهادي مخصص للمرأة حمل اسم موقع "الخنساء" وعمل الموقع على تجنيد النساء عبر شبكة الإنترنيت لصالح تنظيم القاعدة، وكانت تشرف عليه نساء يتوفرن على الأيديولوجيا السلفية الجهادية نفسها"[26]، وبموجب هذه التطبيقات التكنولوجية نشطت النساء الجهاديات داخل العالم الافتراضي وأبرزن قدرة عالية على التخفي والمراوغة أمام أجهزة المراقبة، وفي حالات كثيرة تحولن نحو العالم الواقعي من خلال صناعة كتائب "الاستشهاديات" اللواتي نفذن عمليات انتحارية في مناطق مختلفة.

وبموجب ذلك، واجهت الأجهزة الاستخبارية العالمية في إطار حربها على ما يسمى "الإرهاب" تحديا غير مسبوق، فقد اعتادت هذه الأجهزة التعامل مع عدو ظاهر واضح المعالم، وتنظيمات صلبة تتوافر على هيكل تنظيمي محدد، وقيادات ورموز واقعية معروفة في أماكن جغرافية محددة، إلا أن النموذج الجديد الذي أصبح سائلا وافتراضيا لا يقوم على الجماعات المنظمة في العالم الواقعي، وإنما على الأفراد المراوغين في العالم الافتراضي.السائل، "هذا الخلل هو ما بات يفاقمه اليوم "إلغاء الحدود" وتواصل التواصل بين البشر، أفرادا وجماعات، بفعل وسائل التواصل والنشر المعاصرة دونما اعتبار لموانع سيادية من أي نوع"[27]، ومرد ذلك إلى أن "تنامي شبكة الإنترنيت في العالمين العربي والإسلامي مكن تنظيم القاعدة مثلا من الانتشار والتجنيد، إذ وفرت الشبكة إمكانات هائلة للنمو والانتشار وعولمة الجهاد".[28]

وبفضل ما قدمه الواقع الافتراضي من إمكانات وتطبيقات، سارعت الفروع الإقليمية للتنظيمات: القاعدة بداية وتبعها تنظيم الدولة الإسلامية داعش إلى إنشاء وتأسيس مواقع ومنتديات جهادية ومراكز إعلامية، إضافة إلى تأسيس الكثير من الصفحات على الفايسبوك بفضل الميزات التي يتوفر عليها، خاصة عامل النشر الواسع والمتسم بالسرعة الفائقة والآنية، مع إمكانية التفاعل معه والتعليق عليه، ثم تبادل الرسائل والأفكار والآراء ونقل الصور والفيديوهات للتعليق عليها، وإنشاء صفحات خاصة ومغلقة، بغرض جذب أكبر عدد من المستخدمين الافتراضيين للتفاعل مع ما ينشر، ومن ثم التأثير فيهم وفي اتجاهاتهم وقناعاتهم الدينية والأيديولوجية، كما وفر موقع التواصل الاجتماعي التويتر مثلا، أحدث الآليات التفاعلية للشباب ونقصد تغريدة "الهاشتاغ"، التي تسمح بإطلاق فكرة أو رأي أو فيديو واستقبال ردود كل المتفاعلين معها، سواء ممن تشملهم قائمة صفحة المستخدم أو غيرهم، من أي مكان في العالم ليصل عددهم إلى الآلاف في غضون ساعات قليلة، والنماذج المعروضة على هذا الموقع، تحيل إلى كثافة واسعة في الردود والتعليقات تتجاوز أحيانا مئات الآلاف ومن كل بقاع العالم.

وفرت هذه الإمكانات التكنولوجية آفاقا كبيرة لنقل معركة الجهاد من الواقع المادي الصلب إلى الواقع الافتراضي السائل، ووجدت بموجبها السلفية الجهادية العالمية فرصا ملائمة للانتشار وجذب المزيد من المجاهدين والمقاتلين، ونظرا لهيمنة الشباب على منصات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وبفضل عامل التخفي الذي يميز الهويات الافتراضية، أصبح بإمكان القادة المؤطرين البحث عن العناصر الجديدة وتيسير انضمامها للتنظيم، واختيار العنصر الافتراضي الملائم للعمل الجهادي، وجمع التحريات عنه، ومعرفة قناعاته الدينية والسياسية من خلال ما ينشره ويعلق ويتفاعل معه، ومن خلال صداقاته القائمة داخل صفحته، ثم الانتقال إلى بناء الجسور المؤمّنة لمعرفة هل يصلح هذا الشخص للعمل الجهادى والتنظيمي، وذلك عن طريق بناء علاقات افتراضية معه، تيسر توطيد أواصر التعالق والترابط بينه وبين التنظيم، وذلك كله في بيئة من أهم سماتها ديمومة الاتصال وانسيابية التدفق، حيث يجري غسيل الأدمغة عن طريق نزع القيم الشخصية، وغرس أفكار أيديولوجية محلها تبدأ بالحوارات العادية، سواء رياضة أو أفلام سينمائية أو معلومات عامة، لتنتهي إلى الانجذاب نحو قراءة الكتب والأبحاث المؤسسة لأيديولوجية وهوية التنظيم، وصولا إلى درجات متقدمة تتعمق فيها صلة العضو بالتنظيم وتتوسع علاقاته، ودوام تفاعله وولائه، الأمر الذي ينتهي إلى تحديد مهمة التكليف المنوطة به، سواء إدارية أو عسكرية قتالية.

3- الجهاد الافتراضي الطوعي:

تتزامن ظرفية عصرنا الحالي مع هجرة الهويات الفردية والجماعية بما فيها العربية، إلى المجال الافتراضي الذي يتولى فيه الغلاف المعلوماتي إعادة تشكيل الواقع الإنساني، حيث ننتقل وكما أشرنا سابقا من الحديث عن مجتمعات واقعية، إلى مجتمعات افتراضية، ومن هويات واقعية إلى هويات افتراضية مغلفة ورمزية، وهو الأمر الذي أثر على البعد الاجتماعي والثقافي للمجتمعات، من خلال تراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمؤسسات الدينية وعجزها عن تلبية الحاجات النفسية والروحية لدى الشباب ومن ثم التحكم فيها وتنظيمها، الأمر الذي دفع شباب اليوم إلى البحث عن ممكنات بديلة من أجل ترميق الهوية وترميم تصدعاتها، وإضفاء المعنى على وجودهم الذاتي، وإيجاد مكان اجتماعي جديد يمكنهم من التموقع داخل نسق ظلوا مستبعدين منه ويقعون على هامشه –الدين-.

لكن هذه العودة القوية للديني ليست بالشكل التقليدي كما تم ترسيخه داخل الواقع الحقيقي، وإنما في شكل جديد يتميز بالكثير من الجرأة والرغبة في اختيار وبناء القناعات ودفعها إلى التماهي إلى حد التطرف، إذ حلت الإنترنيت محل المساجد والزوايا في عمليات الاستقطاب والمشاركة والتدريب والتجنيد، ولم تعد السلفية الجهادية تبحث عن أعضاء لها، فالجيل الجديد من الشباب هو من أخذ المبادرة، "فما عادت القاعدة تبحث عن أعضائها بل هذا الجيل هو من يسعى إلى الانضمام للقاعدة".[29]

يتعلق الأمر إذن بشكل جديد من أشكال الانتماء واختيار القناعات الدينية، ويتخذ كتمظهرات المبادرة الذاتية أو الشخصية للشباب من أجل الانضمام الطوعي للحركات الجهادية، والسعي نحو القبول به عضوا افتراضيا في الجماعة، من خلال إعرابه عن استعداده التام لتقديم كل أشكال الولاء والدعم الافتراضي. وقد أشارت الدراسات والاستطلاعات الميدانية حول السلفية الجهادية، إلى أن ما يميز هذا النوع الجديد من الجهاديين هو حالة الكُمون في الفضاء الواقعي، حيث لا يُظهرون أيّ سلوك أو تفاعل يدل على هويتهم أو ميولاتهم المتطرفة، ولكنهم بالمقابل ينشطون في الواقع الافتراضي، ومصدر قوتهم هو حيازة قدرات علمية وتقنية عالية في مجال المعلوميات خاصة القدرة على اختراق المواقع الاستراتيجية والعسكرية العالمية، ويمتلكون تدابير وأنظمة أمن الحماية على الإنترنت الأكثر تعقيدا وفعالية، كما يسعون لأخذ المبادرة الذاتية والدعاية للتنظيم وشخصياته القيادية البارزة دون أن يكونوا أعضاء فيه، ولا يتركون فرصة تمر دون أن يهاجموا الأجهزة الأمنية والعسكرية، من أجل كسب ثقة التنظيم ونيل مباركة قياداته ومن ثم تيسير الطريق نحو الالتحاق به.

أطلق على هذا الجيل الجديد من الشباب، الجيل الثالث من الجهاديين أو "خلايا المبادرة الذاتية"[30] وهم في مجملهم ينتمون إلى مناطق جغرافية متنوعة، ويمارسون نشاطهم الجهادي على الإنترنيت بصفة فردية وبدون أية قيادات فعلية، "فهذا النوع ينشط عبر العالم الافتراضي من خلال أفراد لا صلات لهم تنظيمية مباشرة بالقاعدة أو بجماعات الجهاد العالمي"[31]، وفي غضون فترة معينة من الزمن يتحول الفرد منهم إلى قائد افتراضي أو رمزي فعلي لا أحد يعرف هويته، ولكنه دائم الحضور افتراضيا ومستعد لجعل خبراته المهنية والتقنية رهن إشارة أعضاء التنظيم، بدءا من تقطيع وإعداد أشرطة الفيديو وصولا إلى صنع القنابل اليدوية وتفجيرها. وقد تنامت بشكل لافت للنظر خلال السنوات القليلة الماضية موجات القيادات الافتراضية ذاتية التأطير والتدبير، وأشهر ممن ظهر من هؤلاء الجهاديين الافتراضيين من "الموجة الأولى التي ظهرت عام 2002 أبو بكر الناجي، وأبو عبيدة القرشي، ولويس عطية، ومن الموجة الثانية التي ظهرت عام 2006 حسين بن محمود وعطية الله، ومن الموجة الثالثة التي ظهرت عام 2009 عبد الرحمن الفقير ويمان مخضب وأسد الجهاد.."[32]، وبفضل ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من تطبيقات وتكنولوجيات واسعة الانتشار وجبارة التأثير، عاشت التنظيمات الجهادية عبر هؤلاء الجهاديين الطوعيين "العصر الذهبي" لحركة الدعوة الافتراضية.

كان بالإمكان أن تكون قوة الأنترنيت الجبارة قوة محررة، ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر

هذا النوع من الجهاديين وغيرهم كثيرون هو من أصبح يسعى للانضمام إلى الحركات الجهادية، سواء القاعدة أو داعش أو أي فصيل آخر من فصائلها، إذ يبادرون بدخول الواقع الافتراضي، ثم يبدؤون بالبحث والسؤال والتواصل دون أن يلتفت إليهم أحد مستثمرين في ذلك خبراتهم ومؤهلاتهم العالية في مجال المعلوماتية، أو مجالات اشتغالهم في الواقع الحقيقي خاصة إذ كان ذلك يتيح لهم الاحتكاك بمن يرونهم أعداء لله وللإسلام، وعندما يصبحون جزءا من العالم الافتراضي، بمعنى يتعودون تملكه والحضور فيه وفي أروقته وردهاته العميقة، يخرجون من عزلتهم الافتراضية، ويباشرون أعمالهم الجهادية إن واقعيا أو افتراضيا.

لقد كشف الجيل الثالث من الجهاديين الافتراضيين وبالملموس خطر جهاديي العالم الافتراضي خاصة بعد قيام البعض منهم بعمليات داخل الولايات المتحدة، بل وفي أكبر قواعدها الاستخباراتية والعسكرية الحصينة، الأمر الذي أبرز تحديا غير مسبوق في سياق الجهاد الافتراضي الطوعي، خاصة حينما يكون أفراده متخفين واقعيا ومتمكنين افتراضيا، الأمر الذي يجعلهم وأعتى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على منصة واحدة لا مجال فيها لاستباق الأحداث وتغليب الموازين.

خاتمة:

إن ديناميكية التكنولوجيا والتقدم التكنولوجي قد تلبست على الدوام تلبسا أيديولوجيا، خاصة في مجال الاعتقاد والتدين الذي يعتبر المدخل الصحيح للتحكم في الهويات وبناء القناعات، وقد أصبح بموجب ذلك "لوغوس التكنولوجيا" بلغة اليونان القديمة "لوغوس العبودية" المستديمة، سواء كانت طوعية أو لاإرادية؛ ففي زمن السيولة المعلوماتية والاهتمام بالهوية وهوس الظهور والانكشاف أمام الذات والآخر، أصبح الشباب، باعتبارهم قوة عددية وفعلية داخل الإنترنيت ومواقعها التواصلية في حاجة إلى وعد جديد بأنهم وإن كانوا ينتمون إلى فئة البسطاء أو المقهورين والمهمشين، بإمكانهم اليوم الفوز باهتمام العالم أيضا، وليس فقط النجوم والقادة، ومن ثم ظهر خطاب حركات السلفية الجهادية، مهيمنا على المواقع والمنصات، دافعا بتطبيقاتها إلى الممارسة والفعالية حد الهوس، مروجين لخطاب: "أنت أيها الشاب الفاني البسيط يمكنك أن تكون مهما للعالم بسبب الطريقة التي تظهر بها وتدبر من خلالها هويتك الافتراضية والواقعية".

ولعل قراءة النماذج التفسيرية التي ظهرت في إطار السعي للتأثير في القناعات الدينية لدى الشباب، بل وإعادة بنائها وفق أيديولوجيا سلفية جهادية عالمية، تسعى إلى وصل الإنسان بالإله، والعقل بالوحي، والدنيا بالآخرة، من خلال ضمان الديمومة بين الحياة والموت، والعالم الافتراضي والواقعي، والهويات والقيادات، قد أفضت إلى التعرف على مدى شيطانية الآلة التكنولوجية –نقصد بها الإنترنيت- وقدرتها على سد الحاجات والتماهي مع الأفكار والقناعات، خاصة حينما جُعلت تحت سيطرة التنظيمات الجهادية والمتطرفة.

خلاصة القول إذن، لقد كان بالإمكان أن تكون قوة الأنترنيت الجبارة قوة محررة عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات في يد البشر يسيطرون بها على الطبيعة ويتملكون خيراتها، ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر، عن طريق تحويل البشر أنفسهم إلى أدوات، وإلى موضوعات يسهل التأثير في وعيها وقناعاتها، حيث أصبحت "الآلة عبارة عن عبد يستغل في صنع عبيد آخرين"[33]، وإنه لمن غريب الصدف أن تكون آخر مستجدات الحداثة توظف لمحاربة الحداثة نفسها.

 

لائحة المراجع:

باللغة العربية:

-          أحمد بيضون، الربيع الفائت: في محنة الأوطان العربية أصولا وفصولا، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ط1، 2016

-          أحمد محمد جاد، المناهج الاجتماعية في دراسة التدين، دراسة نقدية مقارنة، (مصر: مجلة الجمعية الفلسفية المصرية)، 2009

-          أرون ريمون، أفيون المثقفين، ترجمة قدري قلجعي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، بدون ذكر تاريخ النشر

-          آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد، (القاهرة: المركز القومي للترجمة)، ط1، 2014

-          أكرم حجازي، رحلة في صميم عقل السلفية الجهادية: القاعدة أنموذجا، سلسلة أبحاث ودراسات في السلفية الجهادية على الرابط https://www.cia.gov/library/abbottabad-compound/AC/ACE3E3B3F8DC7DA42E93B731FE977857_Rehla_Sameem_As_Salafiya.pdf

-          أوليفييه روا، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، (بيروت: دار الساقي)، ط1، 2012

-          جون بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، ط1، 2008

-          حسن أبو هنية، المنظمات والحركات العابرة للحدود، ضمن مؤلف جماعي: التداعيات الجيواستراتيجية للثورات العربية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ط1، 2014

-          حمزة المصطفى، الدولة الإسلامية والجهاد في زمن الحداثة، قراءة في المفاهيم والتجارب المعاصرة، مجلة تبين، العدد 5/18، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) خريف 2016

-          زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو حجر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016

-          عمارة محمد، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، سلسلة في التنوير الإسلامي، العدد 32، (القاهرة. دار نهضة مصر)، 1999

-          موريس غودولييه، جماعة، مجتمع، ثقافة: ثلاثة مفاهيم لفهم الهويات المتصارعة، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية، العدد 3/16، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ربيع 2015

-          هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، (بيروت: منشورات دار الآداب)، ط3، 1988

باللغة الفرنسية:

-     Ellul Jacque, le système technicien, Paris: Editions le cherche midi, 2004

-     Martin Alban, Éric Delcroix, Facebook: on s"y retrouve, France: Editions Pearson Education, 2008,

-     Romain Rissoan, Les réseaux sociaux: Facebook, Twitter, Linkedln, Viadeo, Google, Comprendre et maîtriser ces nouveaux outils de communication, France: Editions ENI, 2011

باللغة الإنجليزية:

-     Barlow John Perry, (1996), A Declaration of the Independence of Cyberspace, inédit. En ligne http://www.eff.org/pub/Publications/John_Perry_Barlow/barlow_0296.declaration

[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 46

[2] Martin Alban, Éric Delcroix, Facebook: on s'y retrouve, France: Editions Pearson Education, 2008, p1

[3] Romain Rissoan, Les réseaux sociaux: Facebook, Twitter, Linkedln, Viadeo, Google, Comprendre et maîtriser ces nouveaux outils de communication, France: Editions ENI, 2011, p12

[4] Facebook Reports Second Quarter 2017 Results

[5] موريس غودولييه، جماعة، مجتمع، ثقافة: ثلاثة مفاهيم لفهم الهويات المتصارعة، مدلة عمران للعلوم الاجتماعية، العدد 3/16، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ربيع 2015، ص 121

[6] Barlow John Perry, (1996), A Declaration of the Independence of Cyberspace, inédit. En ligne http://www.eff.org/pub/Publications/John_Perry_Barlow/barlow_0296.declaration

[7] علي محمد رحومة، (2008)، علم الاجتماع الآلي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عدد 347، يناير 2008، ص 147

[8] Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système, Paris: Editions de minuit, 1980, p143

[9] Gokalp Cathrine, Quand vient l’âge ses choix: enquête auprès des jeunes de 18 a 25 ans: emploi, résidence, mariage, Paris: Edition PUF (travaux et document), INED, 1981, p95)

[10] Erikson Erik, (1968), Identity, youth and crisis, New York: Editions Norton, 1968, p142

[11] حمزة المصطفى، الدولة الإسلامية والجهاد في زمن الحداثة، قراءة في المفاهيم والتجارب المعاصرة، مجلة تبين، العدد 5/18، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) خريف 2016، ص 142

[12] المرجع نفسه، ص 147

[13] رحومة، ص 65

[14] رحومة، ص 105

[15] نقلا عن رحومة، ص 127

[16] جون بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، ط1، 2008، ص 27

[17] Ellul Jacque, le systéme technicien, Paris: Editions le cherche midi, 2004, p217

[18] رحومة، ص 149

[19] أحمد محمد جاد، المناهج الاجتماعية في دراسة التدين، دراسة نقدية مقارنة، (مصر: مجلة الجمعية الفلسفية المصرية)، 2009، ص 48

[20] آصف بيات، (2014)، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد، ط1، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ص 279

[21] Bourdieu, p 144

[22] أوليفييه روا، الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، بيروت: دار الساقي، 2012 ـ ص 20

[23] عمارة محمد، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، سلسلة في التنوير الإسلامي، العدد 32، (القاهرة. دار نهضة مصر)، 1999، ص 6

[24] أرون ريمون، أفيون المثقفين، ترجمة قدري قلجعي، (بيروت: دار الكتاب العربي، بدون ذكر تاريخ النشر)، ص 121

[25] زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو حجر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016، ص 26

[26] حسن أبو هنية، المنظمات والحركات العابرة للحدود، ضمن مؤلف جماعي: التداعيات الجيواستراتيجية للثورات العربية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، طَ 1، 2014، ص 535

[27] أحمد بيضون، الربيع الفائت: في محنة الأوطان العربية أصولا وفصولا، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ط1، 2016، ص 246

[28] حسن أبو هنية، ص 534

[29] حسن أبو هنية، ص 535

[30] أكرم حجازي، رحلة في صميم عقل السلفية الجهادية: القاعدة أنموذجا، سلسلة أبحاث ودراسات في السلفية الجهادية على الرابط https://www.cia.gov/library/abbottabad-compound/AC/ACE3E3B3F8DC7DA42E93B731FE977857_Rehla_Sameem_As_Salafiya.pdf

[31] المرجع نفسه.

[32] نشرها جاريت بارشمان، الخبير المتخصص في مكافحة الإرهاب وتتبع المواقع الجهادية على مدونته http://jarretbrachman.net، نقلا عن الباحث حسن أبو هنية، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ الدخول 14-02-2018/01h27

[33] هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، (بيروت: منشورات دار الآداب)، ط3، 1988، ص 76