آلانْ بَاديُو الصّوفِيُّ المُسْتَتِرُ بين نسبيته الفرنسية وكونيَّتِه العرفانية


فئة :  مقالات

آلانْ بَاديُو الصّوفِيُّ المُسْتَتِرُ بين نسبيته الفرنسية وكونيَّتِه العرفانية

آلانْ بَاديُو الصّوفِيُّ المُسْتَتِرُ بين نسبيته الفرنسية وكونيَّتِه العرفانية

 لا أُنكر إنني أجازف بالكتابة عن المفكر الفرنسي آلانْ بَاديُو (Alain Badiou، و. 1937)، حيث إنَّني حديث عهد به. لكنْ وجدتُ في أقوال الأمريكي توماس كون (Thomas Kuhn، 1922 - ت. 1996) شُفْعَة استثنائية، عندما قال: "تتوفَّر فرصٌ لدى من هُم أقلِّ إلماماً وخضوعاً للنَّماذج (paradigms) الفكرية الموجودة للخروج منْ تأثيرها، والالتحاق بأنموذجٍ فكري جديد (paradigm shift) [1]. نعم، إنَّني قليلُ الإلمام بنموذج آلانْ بَاديُو الفكري، وأمام هذا الإقلالِ كنتُ بأَمَسِّ الحاجة أنْ أُمَوْضِعَ أفكار بَاديُو في إطارٍ ذهنيٍّ مألوفٍ لَدَيّ كالتَّصوُّفِ مثلاً. فبعد قراءته تكرارا ومرارا وجدت في قراءته كصوفيٍّ فرنسيٍّ مستتر إجراء يسمح لي بتصنيف (أفكار بَاديُو) الدَّخيل الجديد على عقلي في إطار مألوف فرصة لتأسيس أنموذج قرائيٍّ جديدٍ لأفكار آلانْ بَاديُو. اسمحوا لي في هذه المقالة أن أخوض نحتَ نصٍّ تجريبيٍّ أَشْعَث فوضويٍّ (messy text)[2]، حيث سيجد القارئ أنَّني سأخلص إلى وصف آلانْ بَاديُو كصوفيٍّ يُحيي فكرة "الفيلسوف الدّرويش المتجول في الكرة الأرضية" لنشر قيم الاكتراث بمشاكل العالم (المسؤوليَّةَ الكونيَّةَ) مجددا بعد أن ْأماتَ تفشِّي الفكرِ النِّسبيِّ ذلكَ الحسّ، أو قراءته كعارفٍ يتحدَّث عن قيمة الحب الروحيِّ والأخلاقيِّ الفرديِّ والجماعيِّ والكونيِّ، نابذاً ثقافة الجنس المادية السّريعة. بين يديكم مقالة فوضويَّةٌ شعثاء، فمثل هذه التجارب بكل صراحة تنفتح على عالمين؛ عالمِ المكتوب عنه (آلانْ بَاديُو)، وعالمِ الكاتب (أنا)، تاركاً إصدار الحكم المعرفيِّ على النصِّ الأشعث بيد صاحب الجلالة؛ "القارئ"، ليشخص ويحكم على مدى تطفل ذاتيَّتي على النصِّ، فتكون ذاتيتي هو ما تكتشفون، أو سيشخص القارئ مدى سَعيي للخروج بمقالةٍ موضوعية حول المفكِّر الفرنسي آلانْ بَاديُو.

الذَّات، المشكلة والحقيقة

يرى آلانْ بَاديُو أنَّ حياة الإنسان هي حياة مرتبطة بحياة "ذَاتِيّتِهِ"، وموتَه بموت ذاتيَّته، والذَّات تمارس عملية "تَذْويتِهَا" أو بداية حياتها الذَّاتية متى ما قامت بإنتاج "الفهم"، ومتى ما توقفتْ عملية "التّذْويتِ" يتعطَّل إنتاج الفهم، ومعه تنتهي حياة الذات. يواصل أشهر فلاسفة القارة الأوروبية على قيد الحياة؛ آلانْ بَاديُو، شارحاً أنَّ الفهم الفلسفي لا ينتج إلا من خلال إنتاج "فهمٍ" جديد مرتبط باكتشاف "الفراغ". إنَّ رَصْدَ الفراغ مرتبط بقدرة الفيلسوف على التقاط إشاراتٍ تتحدَّث عن وجود مشكلة في المعرفة حول "وضعٍ" فلسفيٍّ معيَّنٍ ذي "حدثٍ" خاصٍّ به.

"الحقيقةُ" قضيَّة كبيرة عند المفكر الفرنسي، فهو يقول إنَّ القِوى الرأسمالية، في لحظة توحشها، استفادت من لحظة ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية المتأثرة بالنسبية والقائلة بأن الحقيقة "محلية"، ومن أن الحقيقة هائمة في حقول معاني لغوية، يفهمها من ينتمي إلى لغة المحلِّيات فقط. وعليه، فإنه لن يتمكَّنَ مَنْ هو في الغرب، بجهله اللغوي وبمعاني اللغة ورمزيتها الموجودة في الشرق، من أن يحكم على ما يجري في الشرق، ولنفس السبب النسبيِّ لن يتمكن من هو في الشمال من أن يفهم ما يجري في الجنوب.

النسبية اسم آخر لعدم الاكتراث

يقول آلانْ بَاديُو هنا: ولهذا الخلل النسبي المتواجد كمفهوم في ما بعد البنيوية، وفي ما بعد الحداثيَّة تتراجع مفردة "الحقيقة" في أدبياتهم. تضيع "الحقيقة" ومعها يضيع الحق وتُهدر الحقوق. يتردَّد "الكونيُّ" مِنْ نُصرة "المحليِّ" تحت ذريعة أنهم قالوا له إنَّه لا يفهم ثقافتهم، وعليه فإن الأمر لا يعنيه. لذلك، وبالرغم من إطراء آلانْ بَاديُو على مدارس ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثية، إلا أنَّه يرى ضرورة ترميم سلبياتِها.

إنَّ العثور على "الفراغ" هو خرقٌ في جسد المعرفة عند رؤية ما لم يُرَ، لأن لدى آلانْ بَاديُو، عند عثور الفيلسوف على الفراغ المتمثل في علاقة اللاعلاقات، أو الاهتداء إلى وجود مساحة لا تمثلها المصطلحات السابقة، ولا تعبر عنها، هو أمام مشكلة يجب عليه إبرازها. كل هذا لا يعني أن ذلك الفراغ لم يكن موجوداً، أو أنَّه فراغ بلا معلومات، بل يؤكِّد آلانْ بَاديُو أنه فراغ كان دائماً "كامناً" (من الكمون) بوجوده، لكنْ لم تبرق سماء معارفنا الذَّاتية ببرقٍ يوفِّر لنا بعضاً من النور المعرفيِّ لرؤيته.

المسؤولية الكونيّة المُرَقّعَة بالنّسبِيّاتِ

"الحقيقة" لدى آلانْ بَاديُو متكدسة كطبقاتٍ كثيرة. كثيرة جدا، وهي ذات مساحة أكبر بكثير من مساحة الفراغ؛ فهم الفراغ يُمَكّنُنَا من فهم جزء من الحقيقة لا كل الحقيقة. فالحقيقة كونية وهي مشترك كوني يراه عرفاء الفلاسفة الكونيون. ولن يستطيع العارف الفيلسوف المحلي (البحريني على سبيل المثال) من فهم حقيقة الفراغ من خلال محليته، بل عليه البحث عن فراغات أخرى تسمح له بتقصي الحقيقة الكونية لكي تحول إلى عارف كوني.

تماما مثل الباحث الذي تواجد في ألمانيا. فعند اكتشافه لفراغ ما قد يفهمه، وقد يرى "جزءا" من الحقيقة المتكثفة في ذلك الفراغ، لكن الذّات لن تتمكن من إكمال تَذْوِيتِها إلا بالتعرف على "كامل" الحقيقة؛ لأن الحقيقة عند آلان غشاء يغطي كافة الكون وكل الوجود. عليه، فإن الذّات لا تكتمل من مجرد فهم محليتها عبر المشاكل النسبية، بل تبدأ بالاكتمال بعدما تشرع بالبحث عن فراغات أخرى. قد تكون في جغرافيات أخرى. ربما أمكننا القول إن البحث في جغرافيات خارج إطار المحلي انفتاح الذات لتخوض عملية استرقاع أجزاء الحقيقة من كل الفراغات التي جربتها الذات الإنسانية ليراها "العارف"، وبعدها تتمدد الذات لتنضج عندما تتمدد عبر فراغات الكون لربط المحلي بالكوني. فالطريق إلى الكونية متعدد عبر تذويت كل ذات لذاتها لكن تبقى الحقيقة الكونية مشترك بشري يراها "العارفون" الكونيون "السالكون" في منهج آلانْ بَاديُو المنادي بالحب والجمال الكوني.

العارف والحب

الذّات والتّذْويتِ تجربة تفتح فرصة للتعرف على مشكلةٍ ذاتِ أبعادٍ حقيقة؛ هكذا ينطلق آلان باديو بتدشين نظريَّتِه حول الحبِّ[3]، فهو يرى أنَّ الإنسانَ يبحث عن حبٍّ وشريكٍ له في مشوار حياته، ويكتشف الإنسان، من خلال الحبِّ، عدَّةَ مشكلاتٍ وعدَّة حقائق، فالحب ليس قصةَ نشوةِ البدايات، بل هو تحدِّي تشييد بناء يروي سيرة تماسك واستمرارٍ وسيرورة. "الحبُّ" آليَّةُ ابتكارِ طريقةٍ جديدة للاستمرار. إنَّه آليةٌ تعلِّمُنا مفهوماً جديداً للزَّمن، والحبُّ يعلِّمُنا الرغبة الدائمة في الدوام، ومنَ الحبِّ نتعلم إعادة ابتكار الحياةِ مِن أجلِ الحياة. يصور باديو أننا نحب فكرة الحب لأننا نحب الحقيقة، فالحب إجراءً للحقيقة لا يتعطل، ومع الحب نجني الخبرة التي من خلالها نشيد نوعاً معيناً من الحقيقة، ويعتقد (باديو) بأن الناس يحبون الحب؛ لأنهم يحبون الحقيقة.

"هذه الحقيقة هي ببساطة شديدة حقيقة الاثنين؛ حقيقة الاختلاف كما هي، وأعتقد بأن الحب -الذي أسميه "مشهداً من اثنين"- هو هذه الخبرة. بهذا المعنى، إنَّ الحب الذي يقبل التحدي ويقبل الاستمرارية، ويقبل خبرة العالم هذه تماماً، فإنه من وجهة نظر الاختلاف يُنتج، على هذا النحو، حقيقةً جديدةً حول الاختلاف، لهذا، فإنَّ الحبَّ الحقيقي محطُّ اهتمام الإنسانية كلها دائماً، بغضِّ النظر عن تواضعه الظاهري، وعن تواريه. نحن نعرف كيف ينجرف الناس بقصص الحب! ولا بُدَّ أن يسأل الفيلسوف: لماذا يحدث هذا؟ لماذا هناك العديد من الأفلام والروايات والأغاني التي تكرّس تكريساً كاملًا قصصَها للحب؟ لا بدَّ أنَّ هناك شيئاً ما كليّاً في الحبّ لكي تثير قصصُه اهتمام هذا الجمهور الغفير. إنَّ الكلّي هو أن الحبَّ يقَدِّم خبرةً جديدةً للحقيقةِ حول كيف أن تكون اثنين وليس واحداً، فأيّاً كان الحب فهو يعطينا دليلاً جديداً على أنَّنا نستطيع أن نقابل العالم، ونختبره بوعيٍ آخرٍ غيرِ الوعيِ المنعزل، ولهذا نحب الحب؛ كما يقول (سان أوغسطين)، ونُحب أن نُحبَّ، لكنَّنا نحب أيضاً أن يُحبَّنا الآخرُ، وذلك لأننا نحب الحقائق ببساطة. هذا ما يعطي الفلسفة معناها؛ الناس يحبون الحقيقة حتى عندما لا يدركون هذا"[4]. كما يقرِّرُ آلانْ بَاديُو.

الحب في النهج البَادُيوِي مشروع لا ينفصل عن عملية التذويت الجامعة، ما بين النسبية والكونية والعلائقية التجريبية. إنه مشروع يؤطر عودة الكونية في إطار المسؤولية والمبالاة ببلاء الكون، كجزءٍ من عملية نضوج الفيلسوف (الدرويش-القطب). يغلف آلان باديو آلات هذه التجربة في إطار الحب، وينادي بتجاوز الاهتمام الإثاري المؤقَّت الذي يعمل من خلاله الوعي الغربي وإعلامه، بل ينادي بديمومة الاهتمام، والعمل على ترقيع ثغراته من أجل البقاء/، فمن الحب نتعلم إعادة ابتكار الحياة للحياة، كما يقول آلانْ بَاديُو.

"العارف" آلان باديو أيقظَ وعيَ مريدي كتاباته، ليسيحوا كفلاسفة دراويش متجولين في أرضِ المعمورة، أو كباحثين عن الفراغاتِ هنا وهناك لتشخيصها وإيجاد حل لمشاكلها، وعند خوض الفيلسوف (الدرويش الرحالة) أحوال المقامات تنضج رويدا رويدا تذويتاته. الإنسان في سعيه إلى الكمال قضية صوفية تسمى "الإنسان الكامل"، وهي أيضا قضية (الشيخ) آلان باديو. كلّ هذا يجب ألا يخلو من مشاعر الحب كما يقول العاشق آلان باديو. الحب للذات والحب للزوجة والأسرة والجماعة والبشرية في المعمورة فكرة نبيلة وأخلاقية ينادي بها المحب آلان باديو. فالحب بالنسبة للصوفيِّ، كما تقول الهندية فريدة خانم، "هو إيمان غارق في الحبِّ العالميِّ"[5].

[1] تجد صدى هذه الفكرة عندما تحدث عن مرحلة فترة "تحول ما قبل النموذج" (pre-paradigm shift period). للمزيد أنقر هذا الرابط

https://plato.stanford.edu/entries/thomas-kuhn

[2] في غمرة سعيه حول وضع معيار منهجي للكتابة الإثنوغرافية في لحظة ما بعد الحداثة استحدث الأمريكي جورج ماركوس

George E. Marcusمفردة نص تجريبي أَشْعَثُ فوضوي (messy text) في مقالة نقدية مهمة نشرت تحت عنوان

On Ideologies of Reflexivity in Contemporary Efforts to Remake the Human Sciences

رابط المقالة (https://www.jstor.org/stable/1773315). بعد ذلك التقط نورمان دينزن (Norman K. Denzin، و. 1941) مصطلح نص تجريبي أَشْعَثُ فوضوي (messy text). وثم توسع في شرح هذا المفهوم كمنهج كتابي ليكون مدخلا صالحا لمرحلة ما بعد الحداثة. مرحلة مشاكسة تسعى الى تجريب مالم يجرب الى الان. تطرق نورمان دينزن الى ذلك في عام 1996 في كتابه:

Interpretive Ethnography: Ethnographic Practices for the 21st Century

[3] كل هذه الأفكار استعانت بكتاب آلان باديو "آلانْ بَاديُو في مدح الحب" كتاب من ترجمة غادة الحلواني والذي نشر في عام 2104 من قبل دار التنوير.

[4] تجد هذا النص في "في فلسفة الحب، آلان باديو يكتب" نشره أحمد بادغيش نقلا من كتاب "آلانْ بَاديُو في مدح الحب" كتاب من ترجمة غادة الحلواني. (https://saqya.com/في-فلسفة-الحب، -آلان-باديو-يكتب/)

[5] كتبت السيدة الفاضلة فريدة خانم مقالة قريبة من أفكار آلان ناقشت فيها دور الصُّوفيّ في نشر الحب خلف محليته لنشره في كل الأماكن التي يتجول فيها. عنوان المقالة: Sufism: A mystic faith soaked in universal love

للمزيد أنقر الرابط: (https://timesofindia.indiatimes.com/sufism-a-mystic-faith-soaked-in-universal-love/articleshow/2993959.cms)