آلان تورين ودينامية السوسيولوجيا


فئة :  مقالات

آلان تورين ودينامية السوسيولوجيا

لم يكن انتماء آلان تورين Alain Touraine للسوسيولوجيا نتاجا للصدفة كما يخيل للبعض؛ فانتمائه كان من أجل المشاركة في تغيير العالم، وشرطا لقيام السوسيولوجيا كعلم ملتزم وراديكالي، نظرا لأنه كان يهدف إلى تغيير جوهري في موضوع السوسيولوجيا بشكل عام. فقد كانت أبحاثه النظرية والميدانية تسعى إلى إعادة الاعتبار لموضوع السوسيولوجيا من خلال دراسة الفاعل ككائن تاريخي مرتبط بشروط ووضعيات اجتماعية، حيث لا يتخذ الفعل معناه الحقيقي إلا في علاقته مع البنية.

سعت السوسيولوجيا مع تورين إلى الانتصار للفعل بدلا من الانتصار لما يسمى بالنسق

ألان تورين هو عالم اجتماع فرنسي (من مواليد عام 1925م)، حصل على شهادة التبريز من المدرسة العليا للأساتذة عام 1950، والتحق بالمركز الوطني للدراسات الاجتماعية، ليعمل فيه باحثا حتى عام 1958، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تحت إشراف جورج فريدمان Georges Friedman عام 1955، وقد قام بتأسيس مجلة Sociologie du travail عام 1959 بمعية مجموعة من علماء الاجتماع الفرنسيين مثل ميشيل كروزيي Michel Crozier. كما أنجز العديد من الدراسات والأبحاث حول الحركات الاجتماعية والوعي العمالي.

يعرف آلان تورين بأبحاثه في مجال سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، وحول نظرية الفعل، ومن أهم أعماله، عمله الرئيس بعنوان سوسيولوجيا الفعل Sociologie de l’action (1965). إلى جانب ذلك، فإن له أكثر من ثلاثين مؤلفا مثل: تطور عمل العمال في معامل رينو L'évolution du travail aux usines Renault (1955)، إنتاج المجتمع Production de la société (1973)، من أجل علم الاجتماع Pour la sociologie (1974)، عودة الذات Le Retour de l’acteur (1984)، نقد الحداثة Critique de la modernité (1992)، ما هي الديمقراطية؟ Qu’est-ce que la démocratie ? (1994)، أن نفكر باختلاف Penser autrement (2007)، نهاية المجتمعات La fin des sociétés (2011)، إلخ.

سعت السوسيولوجيا مع تورين إلى الانتصار للفعل بدلا من الانتصار لما يسمى بالنسق الذي يرتبط بمفاهيم مثل الوظيفة، الدور، الثبات، التكيف أو الاندماج الاجتماعي. فقد كانت السوسيولوجيا في أواسط القرن العشرين ترتبط بنظرية تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) التي لم تتجاوز إطار المؤسسات، والتي تقوم بتغييب دور الفاعل الاجتماعي، وتتمثل المجتمع ككائن حي يخضع للتطور العضوي، باعتبار أن الإنسان جزء من العالم الحي، والمجتمع والثقافة جزء من تقدم الحياة. وعلى الرغم من أن السوسيولوجيا النقدية حاولت الكشف عن الوهم الذي أثارته السوسيولوجيا الكلاسيكية حول المعايير والأدوار والوظائف، واعتبار أن هناك ما يسمى بعلاقات الهيمنة والسيطرة، فإن هذه السوسيولوجيا نفسها سرعان ما سوف تتحول أسلحتها النقدية إلى ضدها، نظرا للمغالاة في دور الفاعل وفصله عن انتمائه داخل النسق الاجتماعي.

وقد اعتبر تورين أن السوسيولوجيا الكلاسيكية تصور المجتمع على أنه مجرد نسق منظم يستمد وجوده من تقدمه وتطوره المتواصل عبر عملية التنشئة الاجتماعية والتكيف الاجتماعي والضبط الاجتماعي. كما اعتبر أن مشكلة السوسيولوجيا النقدية التي تتمثل في التفاعلية الرمزية والفردانية المنهجية تكمن في تمجيد الفاعل، وتقوم بتضخيم إمكانياته الإستراتيجية، وإغفال القضايا الكبرى المرتبطة بالقوة وبالبناء، على الرغم من تأكيدهما على التفاعل بين الذات والمجتمع. فبعدما ظهرت لنا سوسيولوجيا النسق بدون فاعل (الوظيفية، الماركسية، البنيوية) ظهر لنا خطر الانسياق نحو سوسيولوجيا الفاعل بدون نسق (التفاعلية الرمزية، الفردانية المنهجية)، ولهذا كان هدف تورين هو بناء سوسيولوجيا تطابق بين الفاعل والنسق.

ضمن هذا الإطار، يقترح تورين إعادة تعريف السوسيولوجيا باعتبارها دراسة للفعل الاجتماعي، فعل ذات تاريخية تتحدد توجهاتها بالنظر إلى مجموع الظروف الاجتماعية. فالحقيقة الاجتماعية في شموليتها يجب أن يتم تحليلها عبر مجموعة من أنساق الأفعال[1]. وعلى هذا النحو، قام تورين بمجهود نظري لتجاوز هذه الوضعية التي أسقطت السوسيولوجيا في ثنائية النسق والفاعل، عبر مقولة نسق الفعل، فما هو مهم، هو أن يتم استبدال تلك المسافة الفاصلة بين الفاعل والنسق بالارتباط معا، وهذا ما تسمح به فكرة نسق الفعل عند تورين عبر التفكير في الدينامية الاجتماعية التي تميز المجتمعات الغربية، مركزا في تحليلاته على الصراعات والتناقضات بين الطبقات الاجتماعية في امتلاك التاريخانية، فدراسة المجتمع تكمن في حركيته وليس في سكناته.

يمثل كتاب "من أجل السوسيولوجيا" عند تورين ميلاد ما يسمى بمنهجية التدخل السوسيولوجي (l’intervention sociologique) التي تهدف إلى دراسة الحركات الاجتماعية (Mouvements sociaux)، حيث يفترض في عالم الاجتماع أن ينخرط في الحركة، وأن يقوم بدراسة الفعل من داخلها دون تبني إيديولوجية الفاعلين (القائمين بالفعل)، وهو ما يؤكده حول مهمة عالم الاجتماع بقوله: "ينخرط في الحركة، نعم؛ ولكن يجب عليه أيضا أن يتخلص من تنظيمها"[2]، بمعنى أن يكون حرّا تجاه تنظيمها. هذا يعني أيضا التركيز على المناضلين في القاعدة وليس مع القادة أو الإيديولوجيين الواقعين تحت تأثير الترسيمات المخصصة للحفاظ على أدوارهم[3].

تسمح هذه الطريقة لدى تورين بتفعيل المجتمع وإظهار حركاته والمساهمة في تشكيلها، فقد كانت هذه الطريقة السوسيولوجية سببا في إنشاء مركز التحليل والتدخل السوسيولوجي (EHESS) ما بين (1981 ـ 1982) بعد أن تخلى تورين عن مركز دراسة الحركات الاجتماعية (CEMS) الذي تم تأسيسه عام 1970.

يفترض آلان تورين في المجتمع أن يكون واعيا بذاته، وقادرا على تغيير نفسه، ومدعو إلى البحث عن الفاعلين الحقيقيين

يمزج تورين بين الالتزام العلمي والالتزام الأخلاقي في سوسيولوجيته من خلال منهجية التدخل السوسيولوجي التي تجمع بين الملاحظة بالمشاركة والمنهج التاريخي بهدف إحداث تلك المسافة الضرورية بين الباحث وموضوعه، حيث يمكن اعتبار هذه الطريقة تصورا جديدا لحرفة عالم الاجتماع من أجل تجاوز أدوار الاستكشاف فقط والتحليل الموضوعي للعالم الاجتماعي عبر الانخراط في تغييره، مستلهما بذلك كل المعارف العلمية في مساعدة الحركات الاجتماعية على صياغة وعيها برهاناتها وخصومها ومشروعها التاريخي الذي تحمله للمجتمع شريطة ألا يسعى عالم الاجتماع إلى فرض نفسه على الجماعة[4].

ويرتبط التحليل السوسيولوجي لدى تورين بمجموعة من المفاهيم الرئيسية، مثل التاريخانية (L’historicité)، الحركات الاجتماعية، الذات (Sujet). وهذه المفاهيم نجدها مترابطة فيما بينها بسبب رفض تورين لكل التحليلات الاجتماعية التي تسعى إلى تفسير المجتمع بأنه يخضع لمبدأ غير اجتماعي، محدد من طرف قوة غير مرتبطة بإرادة الفاعل الاجتماعي مثل الوصاية الإلهية، الصدفة، الطبيعة...إلخ.

إن المجتمع في نظر تورين هو نتاج لأفعاله وممارساته وللعلاقات المميزة، يفترض في المجتمع أن يكون واعيا بذاته، وقادرا على تغيير نفسه، ومدعو إلى البحث عن الفاعلين الحقيقيين. فالفاعل دائم الفعل والحركة، قادر على استثمار نفسه وتفعيل ذاته. ولذلك يقدم لنا مفهوم التاريخانية كمفهوم مركزي، الذي يدل على المعنى الذي يتخذه الفعل عند الفاعل، حيث يقول تورين:

"أسمي ما أدعوه تاريخانية ذلك البعد الذي يتخذه المجتمع اتجاه نشاطه، والفعل الذي يحدد من خلاله مقولات ممارسته، فليس المجتمع ما هو كائن، ولكن ما يفعله لكي يكون عن طريق المعرفة التي تخلق وضعا للعلاقات بين المجتمع ومحيطه، من خلال التراكم الذي يقتطع جزءا من الناتج المتوفر من الدائرة المؤدية إلى الاستهلاك، عن طريق النموذج الثقافي الذي يتحكم في الإبداعية بأشكال تخضع للنفوذ المجتمع العملية على سيره الذاتي، فهو الذي يخلق مجموع توجهاته الاجتماعية والثقافية بفعل تاريخي يكون فعلا ومعنى"[5].

يقترح تورين هنا ثلاث ميزات أساسية تسهم في تكوين ما يسميه بالتاريخانية وتوجيه عمل المجتمع في ممارسته، وهي كالتالي[6]:

ـ نمط المعرفة، وبخاصة الصورة عن العالم وعن العلاقات الاجتماعية وعن اللااجتماعي Non-social واللغة، كلها تساهم في توجيه التصرفات الاجتماعية كما تساهم في تعريف الوضعية situation.

ـ التراكم l’accumulation الذي بواسطته يوظف قسم من الإنتاج القابل للاستهلاك في عملية الإنتاج، ويساهم ليس فقط في العمل، بل في إنتاج العمل.

ـ النموذج الثقافي الذي عبره يدرك المجتمع نفسه ويستوعب إبداعيته créativité.

فالتاريخانية في نظر تورين هي قدرة المجتمع على إعادة إنتاج نفسه؛ أي إنتاج توجهاته الاجتماعية والثقافية من خلال ممارساته وأنشطته، الشيء الذي يجعله كائن موجود وليس ما يفترض أن يكون عليه من قبل القوى غير الاجتماعية. كما أنه يقوم على النموذج الثقافي الذي يعطي للتاريخانية معنى للممارسات الاجتماعية من خلال توجيه الفعل التاريخي. فالتاريخانية أشبه بنظام معقد يقوم على الفعل التاريخي وعلى أنظمة المعرفة، وأشكال التراكم وعلى النمط الثقافي، حيث يتم تسييرها وتوجيهها من قبل قوى تنافسية متصارعة داخل المجتمع.

وعلى الرغم من أن مفهوم التاريخانية يعدّ مفهوما ديناميا، إلا أننا نجد تورين يرفض كل تصور اختزالي الذي ينظر إلى المجتمع نظرة تطورية، فالمجتمع لا يخضع إلى وضع مسبق، وإنما هو خاضع لتوجيهات الفاعلين الذين يرسمون خطوطه الدقيقة والعريضة. فلا "يمكن أن نفهم الفاعل الاجتماعي من خلال المجتمع الذي ينتمي إليه، بل يجب الانطلاق من الفاعلين الاجتماعيين ومن الصراعات القائمة التي تجعل بعضهم في مواجهة البعض، والتي ينتج المجتمع نفسه عبرها، وذلك حتى نفهم كيف تنشأ مقولات الممارسة"[7].

وبالتالي، يجب أن ننظر إلى الفاعلين على أساس قدرتهم على التأثير داخل النسق، وهو ما جعل تورين يقارن بين المجتمعات التي تتميز بتاريخانية عالية، ومجتمعات تتميز بتاريخانية ضعيفة. ففي المجتمعات ضعيفة التاريخانية، يدرك النموذج الثقافي بصفة مجردة على أنه نظام كلي "ميتا ـ اجتماعي" (Méta-Social)، وهي لا تؤمن بالتغيير والإبداع ونجدها تميل إلى إعادة إنتاج النسق، حتى لا يتم تهديد مصالحها ووجودها. وفي المجتمعات عالية التاريخانية يكون "تأثير إنتاج العمل على إنتاج الخيارات كبيرا، يكون إدراك الإبداعية عمليا، فيعرف العلم على أنه إبداعية، وقوة مباشرة لتحويل حالة الطبيعة"[8].

يرى تورين أن جوهر دينامية المجتمع يكمن أساسا في الحركات الاجتماعية باعتبارها ذوات فاعلية، حيث يعتبر بأن موضوع السوسيولوجيا هو "دراسة التصرفات الاجتماعية، وفي الدرجة الأولى، دراسة التصرفات التي ترتبط مباشرة بالتاريخانية؛ أي بعلاقات وصراعات الطبقات، تصرفات ندعوها الحركات الاجتماعية"[9]، وهو الأمر الذي جعله يراهن كثيرا على سوسيولوجيا الفعل التي تهتم بدراسة الأفعال والعلاقات والصراعات والتنافسات والأنساق الاجتماعية.

يعرف تورين الحركات الاجتماعية بأنها "فعل تنازعي بين وكلاء الطبقات الاجتماعية المتصارعين من أجل مراقبة نسق الفعل التاريخي"[10]. إنها تعمل بذلك، دائما على أن تمتلك التاريخ لنفسها من خلال الدفاع عن هويتها واستقلالها ضد خصومها كلما دعت الضرورة إلى ذلك. فأهم ما يميز الحركة الاجتماعية هو المرور من الهوية الدفاعية إلى الهوية الهجومية، فعن طريقها يستطيع المجتمع أن ينتصر لوجوده عبر مجموعة من المبادئ التي وضع لها تورين تسمى مبادئ الوجود، حيث تتمثل في ثلاثة مبادئ، وهي كالتالي:

ـ مبدأ الهوية: إذ يتعين على الحركة الاجتماعية أن تعلن عن هويتها ومن يمثلها.

ـ مبدأ التعارض: تحديد الخصم الذي يتعارض مع أهداف الحركة الاجتماعية وتوضيحه بشكل موضوعي.

ـ مبدأ الكلية: وهو أهم مبدأ عند تورين، حيث يفترض من الحركة الاجتماعية أن تكون مكونة من وعي جمعي وشمولي؛ بمعنى آخر ألا تكون أقلية أو فردية، لأن هذا المبدأ يساهم بشكل كبير في التأثير على الرأي العام، وعلى تحقيق المطالب والمكتسبات وضمان الحقوق.

تلك هي أهم المبادئ التي وضعها تورين لتوجيه الحركات الاجتماعية من أجل السيطرة على التاريخانية التي تشير إلى الأشكال الثقافية العامة وبنى الحياة الاجتماعية؛ فالمجتمع يشير إلى الاندماج الاجتماعي، بينما الحركات الاجتماعية تعني فعلا صراعيا يعارض أشكال الاندماج الاجتماعي التي تحدثها المؤسسات الاجتماعية والسياسية.

هذا، وقد تميزت سوسيولوجيا تورين في بداية الثمانينيات من القرن العشرين بعودة الفاعل Retour de L’acteur، هذه العودة لم تكن عفوية عرضية، وإنما تضافرت فيها حيثيات وشروط كثيرة، وساهمت في بروز الفاعل بشكل قوي، ومن ضمن هذه الحيثيات والشروط ضعف النظريات الوظيفية والبنيوية في تفسير الظواهر الاجتماعية، ثم التحولات الاقتصادية والسياسية التي عرفها العالم خلال فترة السبعينيات مثل تفكك الدولة القومية، وانحلال الدولة الاجتماعية التي كانت في نهاية المطاف تمثل سلطة قهرية على الأفراد والجماعات الصغرى، فقد كانت هذه الجماعات تنظر لنفسها في موقع التبعية.

إن عودة الفاعل ستبرز من خلال زوايا متعددة ومختلفة، تتمثل مثلا في بروز حركات النوع والحركات النسائية التي اعتبرها تورين من أهم الحركات الاجتماعية في القرن العشرين، والتي أفرزتها مخلفات الحداثة.

الذات الفاعلة هي عملية تحرر من أشكال الهيمنة والسيطرة، حيث تفترض في هذه الذات بناء نفسها لمواجهة الآخر

سيركز تورين على فكرة أساسية مفادها أن الجماعات الاجتماعية التي تتشكل في استقلال نسبي عن الدولة هي التي تسعى إلى التعبير عن امتلاكها للتاريخانية، حيث سيتم التركيز هنا على حركية المجتمع في علاقتها بقضايا الدولة، وسوف يبلور مفهوم الذات الفاعلة كتعبير عن هذه الحركية، فأن تكون ذاتا فاعلة هو أن تكون قادرا على الفعل والحركة، كما أنه سيهتم بدراسة الحركات الاجتماعية، فالهدف منها هي تحرير الذات من الهيمنة التي يمارسها النظام على الفرد. فالذات في نظر تورين: "ليس عنصرا من عناصر التعارض (الذات الفاعلة من جهة والعقل من الجهة الأخرى)، بل كتعبير محسوس عن رفض مزدوج وعن قرار. هناك رفض للسلطة التكنوقراطية، للعقلنة بالمفهوم التايلوري، ورفض للسلطة الجالياتية، لتسلط الهوية؛ لأن كل ذات فاعلة هي في آن واحد كونية وجالياتية"[11].

يدافع تورين عن فكرة مهمة، وهي ألا يصبح الفرد قطعة شطرنج يتم التلاعب بها من طرف النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ أي ألا يكون الفرد مستعبدا أو داخل مصفوفة اجتماعية يتم برمجته وفق نمط اجتماعي وإيديولوجي يخدم فئة أقلية متحكمة، فالفرد عند تورين يمكن أن يكون فاعلا، لأنه حرّ في توجهاته واختياراته وقادر على تغيير محيطه، ولا يمكن له أن يكون ذات فاعلة إلا حينما يؤمن بفرديته على الفعل، وهذا ما يميز الذات الفاعلة عند تورين، لأنها تسعى إلى تحرير نفسها من كل أشكال التحكم التي يمارسها المجتمع المبرمج.

إن هدف الحركة الاجتماعية عند تورين هو تحرير الذات من أشكال الهيمنة والسيطرة عبر تغيير العالم عن طريق العقل والتقنية والتقدم[12]، والذات عنده تتجسد في الفاعل الاجتماعي المرتبط بالعلاقات والصراعات الاجتماعية. فالذات هي الفاعل "عندما يكون على مستوى الفاعلية التاريخية لإنتاج توجهات كبرى معيارية للحياة الاجتماعية"[13]. وهذه الذات هي نفسها حركات اجتماعية، حيث يقول: "لا توجد الذات إلا باعتبارها حركة اجتماعية، إلا كاعتراض على منطق التنظيم (ordre)، سواء اتخذ شكلا نفعيا أو كان بحثا عن التكامل الاجتماعي".[14]

من هنا يتضح أن الذات الفاعلة هي عملية تحرر من أشكال الهيمنة والسيطرة، حيث تفترض في هذه الذات بناء نفسها لمواجهة الآخر؛ أي أنها تتأسس لمواجهة ومقاومة مراكز السلطة في (مجتمع مبرمج) الذي يعني به آلان تورين التحكم في البشر، لكي يكون لها مشروع سوسيو ـ ثقافي تتشارك فيه مع باقي الذوات الفاعلة والمتمثل بالدرجة الأولى في الحرية، وهو ما يردده بقوله:

"إن فكرة الذات الفاعلة تستدعي إلى خاطري فكرة النضال الاجتماعي، إضافة إلى فكرة الوعي الطبقي والشعور القومي في المجتمعات سالفة، ولكن بمضمون مختلف ينأى عن كل تمظهر خارجي، ويتجه، مع بقائه صراعيا، نحو الذات الكاملة. لذا كان أول ما خطر ببالي من أجل توضيح فكرة الذات الفاعلة صور المقاومين، صور المقاتلين من أجل الحرية"[15].

يحاول تورين في كتابه "نقد الحداثة"[16] إعادة الاعتبار بشكل كبير للذات الفاعلة، وأن ينفي مسألة تحكم البنيات في الأفراد، لأن الحركات الاجتماعية تعمل كوسيط، من خلالها يصبح الفرد فاعلا، ويكتسب هامشا من الحرية، فالحركات الاجتماعية بهذا المعنى هي تلك الوساطة التي بموجبها يمكن للفرد أن يقوي حريته الفردية.

إن فكرة الذات الفاعلة عند تورين تجمع بين ثلاثة عناصر أساسية لا يمكن الفصل بينها؛ الأول هو مقاومة السيطرة، والثاني هو حب الذات، وبه يطرح الفرد حريته باعتبارها الشرط الرئيس لسعادته وهدفا مركزيا لحياته، والثالث هو الاعتراف بالآخرين كذوات فاعلة، ومن ثم دعم القواعد السياسية والقانونية التي تمنح العدد الأكبر من الناس أكبر الفرص الممكنة التي تمكنهم من العيش كذوات[17]. فالذات الفاعلة هي الحرية بالدرجة الأولى، حيث تعتبر الديمقراطية شرطا لوجودها، علما أن هذه الذات مهددة في المجتمعات التابعة والمغلوبة على أمرها بسبب غياب الديمقراطية. كما أنها مهددة في المجتمعات المحدثة، بالانحلال بسبب منطق السوق والاستهلاك. ولا يمكن لهذه الذات أن تتحدد وأن تدرك نفسها إلا بصراعها ضد منطق السوق والأجهزة التقنية... فالذات عقل وحرية وذاكرة في آن معا. وهذه الأبعاد الثلاثة تتجاوب مع أبعاد الديمقراطية[18].

ويرى تورين أنه إذا أردنا أن نختبر ذواتنا كذوات فاعلة، فإنه يظهر من خلال التزاماتنا ومسؤوليتنا "تجاه حق كل فرد في العيش بكرامة والاعتراف له بهذه الكرامة؛ أي بما يستحيل انتزاعه من دون أن تفقد الحياة كل معناها"[19].

ففي مؤلفه الذي يحمل عنوان "نحن، الذوات الإنسانية"[20] تتجلى فكرة الكرامة بوضوح حينما يرى أنها أصبحت هي الفكرة المركزية عند الفاعلين الاجتماعيين الذين يصارعون السلطة الكلية، والتي تسعى إلى السيطرة على ذواتهم، فهذه السلطة تتميز بكونها تمتلك القدرة على أن تتحكم وتسيطر على الموارد الطبيعية وخاصة في المجال الاقتصادي، كما أن لها القدرة في أن تسيطر على الذات الإنسانية من خلال التحكم في تأويلات الأفراد لأنفسهم ولأفعالهم عبر التسويق والإشهار والإعلام ...إلخ. هذه السلطة تبقى في الأخير من اصطناع السياسي بالدرجة الأولى، قبل أن تكون اقتصادية أو تقنية. إن فكرة الكرامة التي عبر عنها الفاعلون الاجتماعيون في شعاراتهم ليست فكرة ثقافية، وإنما هي فكرة أخلاقية، لأنها أصبحت من الحقوق الأساسية إلى جانب الحرية والعدالة، وهما كلمتان متصلتان من الصعب الفصل بينهما، ومنهما تنبع فكرة الكرامة، ولهذا يظهر جليا أن مقاومة السلطة الكلية أو الشمولية تتم عبر بناء حركات أخلاقية، تطرح فيها الكرامة كمدخل للدفاع عن حقوق الإنسان، ولذلك يرى تورين أنه يجب على كل الحركات الاجتماعية الجديدة أن تكون أخلاقية وديمقراطية في آن معا.

وعلى ما يبدو، أن المجتمع المعاصر حسب تورين هو مجتمع يميل إلى الهيمنة والتسلط والسيطرة على الفاعلين، وأن الحركة الاجتماعية باعتبارها الذات الفاعلة، ما هي إلا تعبير عن رفضها لهذه الهيمنة والتسلط والسيطرة بمختلف أبعادها، فهي عبارة عن تمرد اجتماعي يتم في هامش المجتمع حينما تكون هناك أزمة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تبنى كفاعل في النزاعات والصراعات الاجتماعية.

يؤكد تورين أنه في المجتمع الطبقي الذي يقوم على التراتبية والتمايز الاجتماعي لا يمكن أن نفصل السوسيولوجي عن ما هو سياسي؛ فالسوسيولوجيا كعلم وممارسة والتزام هي "معرفة نضالية" بامتياز. إنها علم للتحرر من العلاقات الاجتماعية التي تقوم على الهيمنة، والتي يمارسها النظام؛ فالسوسيولوجي كما يقول تورين: "ملتزم بالضرورة ضمن الصراع من أجل التعرف على العلاقات الاجتماعية ومن أجل التعبير عنها ضد سيطرة النظام، وخاصة عندما يكون هذا الأخير استبداديا"[21]، حيث يفترض في عالم الاجتماع أن يساهم بشكل أو بآخر في دفع بالحركات الاجتماعية نحو التغيير بهدف امتلاك التاريخانية، نظرا لأن الفعل هو الذي يحدد الأوضاع والظروف، ومن المستحيل دراسة الحركات الاجتماعية من دون أن ينخرط فيها عالم الاجتماع، لأن الموضوعية الباردة بحسب تورين تتعارض مع حرارة الحركات الاجتماعية.

في ختام القول ومن خلال المنجزات التي أنجزها ألان تورين، نلاحظ أن له حضورا قويا ومتميزا في الساحة العلمية، وخاصة فيما يخص تحليله العميق للحركات الاجتماعية، فهو يعد من أشهر منظري الثورة، ويرفض الانسياق وراء المصالح الشخصية، فهو يعبر عن نموذج المثقف العضوي، ويؤكد دائما أن دور السوسيولوجي هو رهانه على الحركات الاجتماعية ومواجهة القوى التي تسعى إلى السيطرة والهيمنة. فمن وجهة نظره، فإن مهمة السوسيولوجي هي النضال من أجل التغيير ضد النظم والمؤسسات التي تمارس الضغوطات والإكراهات على الذوات الإنسانية.

 

المراجع والمصادر:

أنصار، بيار. (1992): العلوم الاجتماعية العاصرة، ترجمة نخلفة فريفر، المركز الثقافي العري، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1

تورين آلان. (1979): من أجل علم الاجتماع، ترجمة، تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ـ سورية.

تورين، آلان. (2011): براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1

تورين، آلان. (2016): ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، الطبعة 3

كابان، فيليب& دوتيه، جان فرانسوا. (2010): علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية ـ دمشق، الطبعة 1

مجموعة مؤلفين. (2009): إشكالية الفكر المعاصر، ترجمة محمد سبيلا، سلسلة ضفاف، منشورات الزمان، الطبعة 1

Touraine, Alain. (1973): Production de la société, Paris, Le Seuil.

Touraine, Alain. (1984): Le Retour de L’acteur, Paris, Fayard.

Touraine, Alain. (2015): Nous- sujets humains, éd. Du Seuil.

[1]. بيار أنصار، العلوم الاجتماعية العاصرة، ترجمة نخلفة فريفر، المركز الثقافي العري، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1، 1992، ص 52

[2]. آلان تورين، من أجل علم الاجتماع، ترجمة، تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ـ سورية، 1979، ص 53

[3]. بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سابق، ص 258

[4]. المرجع نفسه، ص 258

[5]. Alain touraine (1973): Production de la société, Paris: Le Seuil, P. 10

[6]. بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سابق، ص 54

[7]. ألان توران، هل فكرة المجتمع فكرة ضرورية؟، ترجمة محمد سبيلا، إشكالية الفكر المعاصر، سلسلة ضفاف، منشورات الزمان، الطبعة 1، 2009، ص 19

[8]. Alain touraine (1973): Op.Cit, P.29

[9]. Ibid. P. 19

[10]. Ibid. P. 347

[11]. فيليب كابان وجان فرانسوا دوتيه، علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية ـ دمشق، الطبعة الأولى 2010، ص 226

[12]. منذ سنة 1968، لم يعد آلان تورين يؤمن بأن التقدم في المعارف متلازم مع تحرير الفرد، حيث أصبح هذا الأخير منهك اتجاه تدفق المعلومات والخدمات والإعلانات ووسائل الاتصال والأسواق.

[13]. Alain Touraine (1984): Le Retour de L’acteur, Paris: Fayard, P.15

[14]. آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة عبد السلام الطويل، مراجعة محمد سبيلا، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء ـ المغرب، 2010، ص 239

[15]. آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 2011، ص 179

[16]. آلان تورين، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص 213

[17]. آلان تورين، ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، الطبعة 3، 2016، ص 166

[18]. المرجع نفسه، ص 167

[19]. آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، مرجع سابق، ص 233

[20]. Alain Touraine (2015): Nous- sujets humains, éd. Du Seuil.

[21]. آلان توران، هل فكرة المجتمع فكرة ضرورية؟، مرجع سابق، ص ص 21 ـ 22