حوار مع الفيلسوف خلدون النبواني


فئة :  حوارات

حوار مع الفيلسوف خلدون النبواني

حوار مع الفيلسوف خلدون النبواني

محمد بن الظاهر: أرحب بكم دكتور خلدون النبواني في هذا الحوار حول أحد الموضوعات المهمة، ألا وهي العلاقة بين الفلسفة والأدب؛ هل يمكن اعتبار الأجناس الأدبية وسائل من وسائل التعبير الفلسفي بالإضافة إلى بسطها ونقلها للمفاهيم الفلسفية؟

خلدون النبواني: لأجيب عن سؤالك سأسأل عن معنى عبارة "التعبير الفلسفي"؛ إذ هل هناك تعبير فلسفيّ واحد؟ وبمعنى آخر هل هناك لغة فلسفية واحدة للفلسفة تميزها عن غيرها؟ يمكن القول في البداية أن لغة الفلسفة هي برهانية، استدلالية تقوم على الحجة والنقاش (الجدل) والبحث في الأسباب والنتائج، تطغى عليها قوانين السببية والغائية والمنطق. هذا هو الدرس الأرسطيّ المدرسي للغة الفلسفة الذي لا يزال سائداً ومسيطراً على فهمنا للفلسفة ولغتها أو "وسائل تعبيرها كما تقترح". ومفهوم السيطرة يعني هنا هوية حازتها الفلسفة، والهوية تحديد؛ بمعنى أن كل ما يخرج عن هذه المحددات سيكف، وفقاً لهذا التحديد، أن يكون لغةً فلسفية أو سيعتبر انحرافاً عنها. ولهذا، يرى مدرسو الفلسفة وهم الأغلبية الساحقة، أن وسائل التعبير الأدبي هي إقحام وتشويه للفلسفة ولغتها. ولهذا، حاولوا نفي البلاغة والشعر والمخيلة إلى خارج حدود الفلسفة. بهيمنة الدرس الأرسطيّ للغة العقل والأورغانون ارتبط الخطاب الفلسفي بالعقل والبرهان والمنطق بما يتضمن ذلك من حجج عقلانية ونقاش وحوار براغماتي وتاريخ الفلسفة يحفل بهذه اللغة منذ سقراط وصولاً إلى هابرماس.

لكن، من جهةٍ أخرى، هل تحتكر هذه المحددات الخطاب الفلسفيّ؟ لا شك أن الكثير من النصوص الفلسفية الأصيلة تمردت على هذه القوالب وخرجت عنها وأحياناً خرجت عليها. فقبل سقراط كان الشعر وسيلة تعبيرٍ فلسفية بامتياز، قبل أن يخرجه منها أفلاطون الذي كثيراً ما كان يلجأ إلى استحضار الشعر (بخاصة عند هوميروس) وأساليب القص المسرحيّ. كان هرقليطس شاعراً، وعبّر عن فلسفة الصيرورة شعرياً، بل حتى بارمنيدس قدم فكرته في الثبات والوجود الباردة جدًّا على شكل قصيدة.

لا شك أن سقراط كان معادياً بالعمق للسفسطائيين وبلاغتهم، لكنه كان واحداً منهم بامتياز. ربما تميز عنهم فقط في أسلوب التهكم التوليديّ الذي يستخدم العقل والحجة والبرهان، لكنه ظل مع ذلك بلاغيًّا جدًّا. ولو تجاوزنا إشكالية العلاقة المعقدة المتشابكة بين أفلاطون وسقراط، إلا أن أفلاطون هو من كتب حوارات سقراط بأسلوبٍ مسرحيّ. ولهذا كل مؤلفات أفلاطون (باستثناء الرسائل) هي حوارات مسرحية تستكمل شروط الكتابة البلاغية المسرحية من استحضار للشخصيات والخلفية؛ أي الديكور الذي تتحاور فيه الشخصيات، بل والمؤثرات الصوتية والضوئية مكتوبة كنص. يصعب أن تجد حواراً لأفلاطون لا يستحضر فيه الأسطورة أو أشعار هوميروس أو شعراء إغريق آخرين وكتاب مسرح مثل أرسطوفان. الشعر حاضر بقوة في النص الأفلاطوني ليس فقط كاستشهاد، وإنما يحضر كلغة فلسفية بنسبٍ متفاوتة في الحوارات. فحوارات الشباب أكثر بلاغة وجمالاً وخفة من الحوارات التي كتبها وهو كهلاً. خذ مثلاً محاورة فيدروس وهي الأكثر شاعرية وخفة ورشاقة، أو تراجيديا "اعتذار من سقراط". الخ

ثم ماذا عن لغة نيتشه التي خرجت على كل تراث وتقاليد لغة العقل الميتافيزيقية التي تكرّست منذ أرسطو كلغة وحيدة للفلسفة معترف بها؟ جاء نيتشه عكس كل هذا التراث وبخاصة بعد استقالته من مهام التدريس وتفرغه لمهام التأمل والتأليف الفلسفي وأقصد هنا بعد ثلاثية تأملات في غير أوانها، وتحديداً منذ مؤلفه الضخم إنسانيّ إنسانيّ جدًّا إلى أن بلغ ذروته الشعرية في هكذا تكلم زرادشت. هناك من المدرسيين من يرى أن نيتشه – بخروجه عن لغة الفلسفة الأرسطية التي صارت عندهم كسكة القطار الثابتة التي لا يجب أن يخرج عنها قطار التعبير الفلسفي - ليس فيلسوفاً؟ كان هذا مثلاً رأي يوسف كرم عندنا الذي لم يجد في نيتشه سوى "فيلسوفًا مطبوعاً حشر في زمرة الفلاسفة". لكن نيتشه ولغته لم تكن سوى استعادة للغة فلسفية كانت مؤسسة للفلسفة ما قبل السقراطية. وبعد نيتشه صار التعبير البلاغي والشعري مدرسة لها أنصارها الذين يدافعون عنها.

ولعل أفضل من اشتغل على الكشف عن الكامن الأدبي في النص الفلسفي هو جاك دريدا وأتباعه من التفكيكيين الأمريكيين وبخاصة جوناثان كوبر.

محمد بن الظاهر: هل يمكن اعتبار بعض الأعمال الأدبية فلسفية، حتى وإن لم تكتب بنية فلسفية صريحة؟

خلدون النبواني: لا شك أن التفكيكية قدمت إسهامات بارزة في هذا المجال؛ ففي الوقت الذي اهتم دريدا بكشف الأدبي والبلاغي في الفلسفي والعقلاني متعاملاً مع العديد من النصوص الفلسفية كنصوص تخضع أيضاً للنقد الأدبي، دعا جوناثان كولر إلى الكشف عن الفلسفيّ في النص الأدبي.

لكن بعيداً عن هذا الحفر التفكيكي في النصوص، يمكن لنا التأكيد بالإيجاب عن سؤالك: نعم، هناك أعمال أدبية كان لها أثر كبير على الفلسفة وعلم النفس دون أن تقصد ذلك مباشرة. حين كتب سوفوكليس مسرحيته الشهيرة أوديب ملكاً كان يكتب تراجيديا إغريقية ونصًّا مسرحيًّا عظيماً، ولم يكن يُفكر بما سيفضي إليه نصه من تحليلات ومقاربات فلسفية ونفسية عديدة وحين كتب شكسبير مسرحية هاملت لم يكن يكتب نصًّا فلسفيًّا، بل مسرحاً تراجيدياً فرض بقوته وأصالته نفسه على عقل الفيلسوف. نصوص كثيرة كانت كنزاً تأويلاً للفلاسفة منذ الإلياذة والأوديسة لهوميروس وصولاً إلى روايات ميلان كونديرا مررواً بالمسرح الإغريقي ومسرح شكسبير وروايات دوستويفسكي وكافكا وألبير كامو، الخ.

محمد بن الظاهر: يحضرني فرويد وآخرون ممن استقوا نظرياتهم من أعمال سفوكليس في أوديب ملكا والمزدوج لدوستويفسكي...؛ كيف يمكن للفيلسوف أن يستفيد بدوره من الأدب؟

خلدون النبواني: منذ أن استفاد فرويد من الأدب في تطوير أفكاره في التحليل النفسي مثل "عقدة أوديب" التي اعتمد فيها على نصوص أدبية كبيرة مثل أوديب ملكاً لسوفكليس وهاملت لشكبير والأخوة كارمازوف لدوستويوفسكي، ثم اهتمام الأدباء أنفسهم بالاطلاع على بعض التيارات والأفكار الفلسفية، ليبنوا عليها بنية أعمالهم الروائية والمسرحية الأدبية، حدث هناك جدل مُبسِّط حول من يستفيد من الآخر: الأدب أم الفلسفة؟ لا شك أن كليهما يستفيد كثيراً من الآخر. تحدثنا عن فرويد وكيفية توظيف الأدب في التحليل النفسي، لكن يصعب أن تجد فيلسوفاً لا يستحضر الأدب ليبني عليه فكرةً ما. عند أفلاطون هناك استحضار لشعراء ومسرحيي الإغريق مثلاً. وفي الفلسفة العربية الوسيطة، ستجد استحضاراً لقصة حي بن يقظان مثلاً عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي. عند ماركس ستجد توظيفاً مهماً لرواية روبنسون كروزو لدانيال ديفو وللعديد من مسرحيات شكسبير التي يبني عليها أفكاراً فلسفية واقتصاديى وثورية إلخ، بل إن تقديم الأمثلة على استفادة الفلاسفة من الأدب يبدو حشواً فهو أوضح من أن يحتاج لدليل. وعلى المقلب الآخر تجد من الأدباء من يقرأ الفلسفة بجد ويعملون على توظيف بعض أفكار الفلاسفة في أعمالهم الأدبية. كانت قد أثارتني تلك القرابة بين شعور راسكنكلوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستيوفسكي بعقد ذنب كاسحة سممت حياته بعد قتل المرابية، وبين صياغة هيجل لهذه الفكرة في فينومينولوجيا الروح. وبعد بحث، وجدت أن دوستيوفسكي كان قد اطلع على فلسفة هيجل، وأعتقد جازماً أنه وظف صياغة هيجل لعقاب سلب الحياة المقدس في روايته تلك. وحين ستجد قرابة بين رعب روايات ونصوص كافكا وفلسفة كيكيجارد المتشائمة؛ فهذا لأن كافكا قرأ كيركيجارد، ولن يغيب عنك عقدة الأب المسيطر الحاضر الغائب على نصوص كل منهما. كل رواية اسم الوردة لأمبيرتو إيكو مبنية على حبكة تعقيدات ترجمات كتاب الشعر لأرسطو الذي دخل اللغات الغربية عن ترجمات عربية. أما عند كونديرا، فستجد مرجعيات فلسفية كبيرة تظهر بوضوح في رواياته مثل مفاهيم الخفة والثقل والموت والخلود والضحك إلخ.

محمد بن الظاهر: هل يمكن لعمل أدبي أن يقوم بنقد جذري لنظام فلسفي برمته؟

خلدون النبواني: نعم ولا. نعم، لأن الأدب كثيراً ما ينطح لنقد الأيديولوجيات، والفكر حين يتشيأ ويكف عن سيلانه يصبح أيديولوجيا جامدة. لنتذكر مثلاً جورج أورويل بنقده لأيديولوجية الماركسية الستالينية التي تجذرت في روسيا فتنبأ بنهاية النظام السوفيتي وانتقد سياساته في مزرعة الحيوان وانتقاده للنظام الشمولي، نظام "المراقبة والمعاقبة" في روايته 1984. ونعم، لأن الأدب يسبق الفلسفة مثلاً في التعبير عن "روح العصر" فكان أدب الحداثة مثلاً تعبيراً مبكراً عن أزمة الفكر الحديث المتذرر والمتشائم بعد أن فقد العالم الضمانة الإلهية التي كانت تضمن ترابك المجتمعات في العصر الوسيط ما قبل الصناعي ولعل أعمال كافكا عكست على نحو أدبيٍّ رمزيّ الكثير من تحولات وتغيرات الفكر والمجتمع الغربي الحديث. لست مختصا في النقد الأدبي، ويستطيع مختص بهذا المجال أن يعطي الكثير من الأمثلة التفصيلية حول هذه الفكرة. ولا، لا يستطيع العمل الأدبي هدم باراديغم فلسفي؛ لأن عملية التغيير هنا تكون من الداخل وتحتاج إلى تفكيك فلسفي نصيّ من الداخل. الأدب ينتقد من الخارج، ويبين العيوب ويكشفها ويساعد الفيلسوف في الانتباه لمشاكل نسقه الفلسفي، لكنه يظل خارجياً على الفلسفة، رغم تداخله معها.

محمد بن الظاهر: اشتغلتم أستاذنا على مفهوم الحداثة زمنا، هل يساهم الأدب في إعادة تشكل رؤيتنا للذات والهوية في سياقات فلسفية مختلفة؟

خلدون النبواني: دون شك وهو يسبق في ذلك الفلسفة. سبق الأدب الحديث وما بعد الحديث الفلسفة في التعبير عن التغيرات المجتمعية والذوقية والاهتمامات الشخصية، وتغير تصورات المرء لعلاقته بالآخرين والعالم. فلو أخذنا مثلاً مفهوم "ما بعد الحداثة" لوجدنا أنه ظهر في الأدب والنقد الأدبي قبل أن يُصاغ لاحقاً فلسفياً كمفهوم مع جان فرانسوا ليوتار. في كتابه المهم تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثيّ استشرف الناقد الأدبي إيهاب حسن، انطلاقاً من الرواية الغربية إعادة تشكل للرمز والذات وتفكك الهوية. في كتابه هذا يضع حسن قائمةً بأهم المفاهيم التي تغيّرت بين أدب الحداثة وأدب ما بعدها، - فهو يرصد مثلًا كيف حلّ اللعب مكان الهدف، والنص المفتوح مكان النص المغلق، والفوضوية مكان الهرمية، والبلاغة مكان المنطق، وسيرورة وصيرورة العمل الفني المفتوحة مكان موضوع العمل، واللّاخلق مكان الخلق، والتفكيك مكان الشمولية، واللّاتركيب مكان التركيب والغياب مكان الحضور، والتناثر مكان المركز، والنص والتناصّ مكان النوع الأدبي وحدوده، والسطح مكان العمق، والريزوم Rhizome مكان الجذر، وسوء الفهم Misreading ورفض التأويل، مكان القراءة والتأويل، والقصص الصغرى مكان القصص الكبرى، والرغبة مكان العَرَض Symptom، والمتحوِّل مكان النمط، والسيكيزوفرينيا مكان البارانويا، والفرق والفارق Difference-Differance والأثر مكان الأصل والسبب، والشبح المُقدّس مكان الرب/الأب، والتهكم مكان الميتافيزيقا، والمحايث مكان الترانسنتدنتالي، إلخ. في هذه القائمة نلاحظ من دون شكٍّ أثر مفكّري "الحداثة المتأخّرة" الفرنسيين على مفاهيم "ما بعد الحداثة" الأدبية مثل مُصطلحي الريزوم واللذة المأخوذيْن عن دولوز، لكننا نلاحظ وبشكل خاصٍ طغيان مفردات دريدا على القاموس ما بعد الحداثي مثل: الغياب، واللعب، والتفكيك، واﻟ Misreading والفرق والفارق والأثر. ولا بد من القول هنا إنه بقدر ما مارست الفلسفة تأثيرًا على النقد الأدبي، كما يتجلّى في قائمة إيهاب حسن، فإن هذه الأخيرة ستؤثّر بدورها، وبطريق معاكس، على المقاربة الفلسفية لمصطلح "ما بعد الحداثة"؛ إذ تحضر قائمة إيهاب حسن في خلفية أولى الطروحات الفلسفية لما بعد الحداثة عند جان فرانسوا ليوتار.

محمد بن الظاهر: سبب اتجاه بعض الفلاسفة والمفكرين للتعبير عن أفكارهم في قالب فني كالشعر والرواية والقصة والنص المسرحي؟ أطرح هذا السؤال وفي ذهني أعمال العروي والحبابي وبلقزيز الروائية، وشعر طه عبد الرحمن، وقبلهم المعري في رسالة الغفران، وابن طفيل في حي بن يقضان، ورسالة أصوات أجنحة جبرائيل للسهروردي وغيرهم دون الحديث طبعا عن السياق الأوروبي الذي تتعدد فيه الأعمال من ديدرو إلى الآن؟

خلدون النبواني: يمكن لنا ذكر العديد من الفلاسفة الذين كتبوا فلسفة بلغة بلاغية أدبية مثل أفلاطون نفسه الذي مسّرَح الفلسفة، فجعلها في حواراته أقرب إلى المسرح بوصف خلفية مشهد كل حوار وأجوائه وبحواريات لشخصيات حضارة كأبطال عرض مسرحيّ. حي بن يقظان مثلاً لابن طفيل يمكن اعتبارها أول رواية فلسفية جديرة بهذا الاسم. الأمثلة أكثر من حصرها عن حضور الأدب في الفلسفة ولعل سارتر هو أبرز الفلاسفة الذين حرصوا عن التعبير عن أفكارهم الفلسفية بكتابات أدبية تنوّعت بين المسرح والرواية والمقال الأدبي. لكن كل هذه الأمثلة بما فيها كتابات سارتر تحتفظ بشيء من التقابل أو "علاقة مرآتية" تفصل وتميز بشكلٍ ما بين الأدبي والفلسفي على نحو تقابلي كما ينبِّهنا الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي في حواره مع الناقد الأدبي الكبير عبد الفتاح كيليطو.

محمد بن الظاهر: هل يمكن اعتبار بعض الأعمال، وإن جنست تحت اسم جنس أدبي، أعمال فلسفية خصوصا وأنا أتحدث عن دوستويفسكي وغوته وشكسبير وكونديرا...؟

خلدون النبواني: نعم، هناك أدباء غير فلاسفة (أي غير مكونين فلسفياً ولا يدّعون حتى انتماءهم لمعشر الفلاسفة) أنتجوا نصوصاً أدبية مسكونة بالفلسفة حد تحولها إلى مصدر إلهام ومراجعات نقدية مهمة جدًّا من قبل الفلاسفة. قد تكون البداية مع الملاحم الشعرية لهوميروس وهزيود، لكن أيضاً مع تراجيبدا سوفوكليس الذي ألهم فرويد نظرية "عقدة أوديب"، أو مع مسرح شكسبير وما طرحه على الفلسفة من تساؤلات وأفكار فلسفية أصيلة في هاملت على سبيل المثال التي أسس على أساسها دريدا فكرته عن الحضور الشبحي. لنتذكر مثلاً كذلك أن رواية الأخوة كارمازوف مضمخة بالأسئلة الفلسفية العميقة جدًّا، وكيف أثرت بشكل لا يمكن نكرانه مع نصوص أخرى لدوستويفسكي على كتابات نيتشه المعجب جداً به وغيره الكثير من الفلاسفة في ورقتنا سيكون هناك توقف أيضاً عند "الأدب الفلسفي المعاصر" بخاصة مع كافكا وكامو وأثره على الفلسفة والفلاسفة المعاصرين.

محمد بن الظاهر: يقال لكل فيلسوف شاعره؛ أي إن الفيلسوف يجد عند الشاعر رؤيته للعالم ويعكسها؛ في سياق العلاقة دائما...ما موقفكم دكتور خلدون من رؤية أفلاطون للشعر وكذا هايدغر استحضارا منا للطرحين؟

خلدون النبواني: لا. لا أجد أن لكل فيلسوف شاعره، وإلا ما كنا اجتهدنا في إيجاد هذه العلاقة الغامضة والمعقدة في تاريخ الفلسفة. كما قلت قبلاً كانت الفلسفة محمولة على الشعر في المرحلة ما قبل السقراطية التي يشيد بها هايدجر ومن قبله نيتشه. لكن صراع سقراط مع السفسطائيين على أولوية البلاغة أم العقل انتهت، رسمياً ومدرسياً بانتصار المدرسة السقراطية التي أقصت البلاغة بوصفها مقابل العقل أو نقيضه. معظم الفلاسفة ليس لديهم لا أسلوب شعري أدبي ولا حتى اهتمام بالأدب، وهذا ليس نقيصة وإنما هي الفلسفة بتنوعها وغناها ومحرماتها ومقدساتها، إلخ. العديد من الفلاسفة يجدون، في الشعر انتقاصاً من العقل، وهذا يبدو مبرراً حقيقةً حين تجد، وبخاصة عندنا في حضارتنا التي يطغى عليها الشعر، إقحاماً مفرطاً ومبالغاً به للشعر على الكتابة الفلسفية فيصبح النص باروكياً لا هو فلسفيّ على نحوٍ متسق ولا شعريّ على نحو إبداعيّ.

أما بالنسبة إلى أفلاطون فإن موقفه الشائع، كخرافة، من طرد الشعراء من جمهوريته هو ما يمكن أن نعثر عليه في محاورة الجمهورية، إحدى أهم محاوراته الفلسفية. لكن شائعة "طرد أفلاطون للشعراء من الجمهورية المثالية التي يدعو إليها لا يعدو عن كونه مبالغة أو سوء فهم وسوء قراءة. لو عدنا إلى قراءة هذه المحاورة، لوجدنا أن أفلاطون لا يقصي الشعر بالمطلق، وإنما يضع له شروطا وحدودا وقوالب ضيقة جدًّا، ليتوافق مع تصوره عن الجمهورية. يعترض أفلاطون على الشعر الذي يقلِّد الواقع ويحاكيه، ولا يجد له حاجة في جمهوريته، وهو يعترض على بعض "الأساطير" الواردة في أشعار هوميروس ويراها خطيرة على النظام الاجتماعي ومخرِّبة للروح، ويطالب الشعراء بالحديث عن الخير فقط والابتعاد عن استذكار الشرور. وهو ينتقد في الشعر أخيراً لا عقلانيته. لكننا سنظلم موقف أفلاطون من الشعر لو اكتفينا بموقفه المعادي والضيق من الشعر والشعراء في الجمهورية. ففي محاوراته الأخرى، يحضر الشعر بقوة وهو يستحضر هوميروس، الذي ينتقده بقسوة في الجمهورية، كدليل شبه حاسم لدعم أفكاره. في كل نصوص أفلاطون هناك حضور للشعر والوحي (دلف – الذي هو مصدر الشعر والوحي معاً) وبخاصة في محاور فيدروس أو القوانين على سبيل المثال لا الحصر.

أما موقف هايدجر من الشعر (ليس من الأدب بالعموم، لكن من الشعر حصراً)، فهو موقف مختلف تماماً عن موقف أفلاطون في الجمهورية. وإذ يمنح هذا الأخير الأولوية للعقل على البلاغة والشعر، فإن هايدجر سيعطي الشعر أولوية التعبير عن الحقيقة قبل الفيلسوف. الشعر يقود الفلسفة ويتقدمها عند هايدجر لا العكس. في مقاله "هولدرلن وجوهر الشعر" يقول فيلسوف الوجود أن الإنسان يسكنُ داخل الشاعر على هذه الأرض. الشعر عند هايدجر هو انفتاح الموجود أو الدازاين على الوجود الذي يتكشف له من خلال الشعر. وفي الوقت الذي يرى فيه هايدجر اللغة مسكن الوجود، فإنه يعتبر الشعر اللغة أو القول الأكثر أصالة فيها، وأن الشاعر والمفكر هما حارسا مسكن اللغة؛ أي حارسا مسكن الوجود. وإذ يقول أفلاطون أن اللغة محاكاة وتقليد ناقص للواقع، فإن هايدجر لا يجد الشعر تقليداً للعالم وإنما كشف له. ولهذا هو لا يرى هولدرلن شاعراً غنائياً رومانطيقياً، وإنما راءٍ وعرّاف.

وأنا أشتغل على طبيعة العلاقة بين الفلسفة والأدب، كان في ذهني دائما ذلك الحد الفاصل بين الحقلين إلى أن اطلعت على نصكم "الأدب فلسفي" وقلتم في رَصِّ هذا المفهوم أنه نوع من الكتابة غير المصنفة تحت أي جنس؛ ألا يمكن أن نقول أنه أسلوب هذا العصر الذي يفرض على المفكر سلطته؟

خلدون النبواني: في تنظيره لعبثية وضع حدود واضحة ثابتة صارمة بين الفلسفيّ والأدبي كحدين متعاكسين أو ثنائيتين ميتافيزيقيتين متقابلتين أبداً، اجتهد دريدا في الكشف عن تداخلهما الخفيّ. لم يعمل دريدا على التأليف بين الفلسفي والأدبي كمقولتين متمايزتين أو متناقضتين يتم الجمع بينهما ببساطة على طريقة التركيب الهيغلي، وإنما من خلال فكرته الأصيلة في الإصابة la contamination أو منطق العدوى. وفقاً لهذه الفكرة الدريديّة لا يُصبح كل حد مديناً فقط بوجوده للآخر، إنما هو مُصابٌ ومسكونٌ به منذ الأصل. من هُنا يؤكِّد دريدا على وجود ارتباط جذريّ بين الفلسفة والأدب اللذان يتغذيان من الجذور نفسها، جذور الطفولة ذا المعنى لا يعود الأدبي نقيضاً للفلسفيّ، بل قدره؛ مبتدأه ومبتغاه، مسكوناً به والعكس صحيح وكلما حاولنا الفصل بينها فإن أحدهما يتشبث ويختفي بالآخر أكثر فأكثر. إنها لعبة الفوارق إذن التي تنسج شبكة من العلاقات المُعقّدة يتداخل فيها الأدبيّ بالفلسفيّ والفلسفيّ بالأدبيّ، وهي أيضاً استراتيجية الحجب والإخفاء ومنطق الكبت الذي لا يقضي على ما يكبته وإنما يخفيه ويحجبه فيه. وعليه فإن الفلسفة والأدب اللذان وقع الظن بأنهما انفصلا وتمايزا يجد كل منهما نفسه محكوم بالآخر بشكل لا واعي، لكن فاعل ومؤثر في الخفاء يجمعهما نفس النسيج الحي الذي يشكل خلايا النص سواء أكان فلسفياً أم أدبياً. اتُّهم درديدا كثيراً من طرف حراس حدود التخصصات والانتماءات إلى أنه قد منح الغَلبة والأولويَّة للبلاغة على حساب المنطق وإلى أنه تعامل مع الأعمال الفلسفيَّة بوصفها أعمالاً أدبيَّ، وهي على كل إمكانية فتحتها التفكيكية سمحت لدريدا بمقاربة بعض النصوص الفلسفية قراءة أدبيَّة من بوَّابة نقد النَّصِّ.

وأختصر إيجابتي على سؤالكم بوصف علاقة الأدب بالفلسفة الآن وفي الماضي وربما غداً بعلاقة مساكنة سرية حميمية.

محمد بن الظاهر: شكرا جزيلا أستاذي على رحابة صدركم وافساحنا المجال لتدارس الموضوع معكم.


مقالات ذات صلة

المزيد