أحمد الخمليشي: قضايا تجديد الفقه الإسلامي


فئة :  حوارات

أحمد الخمليشي:  قضايا تجديد الفقه الإسلامي

 أحمد الخمليشي، مفكر مغربي له رؤية تجديدية في كثير من القضايا الفكرية والفقهية. حصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص من كلية الحقوق بالرباط عام 1962 م، والدكتوراه في القانون الخاص من كلية الحقوق بالرباط عام 1974 م. شغل منصب قاض في محكمة الاستئناف ورئيساً للمحكمة الإقليمية من 1960 إلى 1970 م، وأستاذًا بكلية الحقوق بالرباط من 1971 إلى 2000 وهو الآن يشغل منصب مدير لمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط، له العديد من التآليف والمشاركات العلمية منها:

"شرح القانون الجنائي العام"، "شرح القانون الجنائي الخاص"، "شرح قانون المسطرة الجنائية "، "التعليق على مدونة الأحوال الشخصية"، "المسؤولية المدنية للأبوين على أبنائهما القاصرين"، "دراسة تمهيدية لمشروع القانون العربي الموحد في مجال رعاية الأحداث"، "تشريعات قضاء التحقيق في الدول العربية"، سلسلة "وجهة نظر" حول نقد الفكر الفقهي الإسلامي ووسائل تجديده (صدرت منها ثمانية أجزاء)، بالإضافة إلى أبحاث ومقالات قدمت في مؤتمرات وندوات داخل المغرب وخارجه.

وفي هذا الحوار يناقش الباحث قضايا تهم الفقه الإسلامي في علاقته بالواقع، وما يراه منطلقًا لرؤية تجديدية تتجاوز الرؤية التقليدية ومقولاتها التي تقف دون انفتاح العقل الفقهي على الواقع ومتطلباته.

عبد الله إدالكوس: فرضت المتغيرات الاجتماعية والثقافية وكذا السياسية والاقتصادية على المشتغلين بالبحث الفقهي طرح العديد من الأسئلة والإشكالات على المنظومة الفقهية، أفرزت مراجعات وقناعات جديدة تهم الخطاب الإسلامي عمومًا والفقهي على الخصوص، غير أنّها لم ترتق إلى المستوى المطلوب نظريًّا وعمليًّا. ذلك أنّها في الغالب ما ترتهن بالقضايا الجزئية ولم تلامس هذه المراجعات البنية المؤسسة والمقولات الضابطة للاجتهاد الفقهي.

ماهي في نظركم أهم المقولات التي تقف دون انفتاح المدونة الفقهية ومواكبتها للقضايا الراهنة؟

الدكتور أحمد الخمليشي: من أهم العناصر المنتقدة: فرض التقليد، وشمولية ضوابط أصول الفقه، وأثرها الحاسم في استنباط الحكم، ووصف الرأي الاجتهادي بحكم الله، والتجديد المقترح للفقه.

ـ التقليد: منذ قال الشافعي في القرن الثاني إنّ كل من لم تجتمع فيه شرائط الاجتهاد يتعين عليه التقليد، توالى بعده ترسيخ المبدأ الذي انزلق إليه مفكرون مرموقون مثل ابن رشد الذي قرر أنّ العوام لا يعتد برأيهم لأنّ "فرضهم التقليد"، والغزالي الذي قال: "ويجب على العامي اتباع المفتي إذ دل الإجماع على أنّ فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أو صدق، أخطأ أم أصاب. فنقول قول المفتي... لزم بحجة الإجماع، فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدًا".([1]) وبهذا التوجه:

ـ غيب مبدأ مسؤولية الفرد.

ـ أهدر المبدأ الأساسي في الإيمان بالدين وبقيمه وهو: المعرفة والاقتناع وليس مجرد التقليد والاتباع. "إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون" الزخرف - آية 22.

ـ أعفي الفرد المسلم من المسؤولية التي يتحملها بصريح عشرات الآيات القرآنية:

"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً". الإسراء - آية 36

"أيحسب الإنسان أن يترك سدى"؟. القيامة ـ آية 35.

"إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان". الأحزاب ـ آية 72.

"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى". الإسراء ـ آيات 13ـ15.

ـ أبعدت آية: "وأمرهم شورى بينهم". الشورى ـ آية 35.

ـ ساعد على قيام الطوائف والمذاهب التي ينادي كل منها بالانفراد بالحق وبضلال غيرها.

ـ شمولية ضوابط أصول الفقه: جميع الأحكام التفصيلية المكونة للمنظومة الفقهية توصف بأنّها استنبطت من نصوص الشريعة بالضوابط والقواعد التي يتقن "المجتهد" دراستها في أصول الفقه. وبهذا الإسناد المباشر استحقت صفة "أحكام الشريعة".

لكن ما يجب أن يلاحظ هو أنّ ضوابط أصول الفقه تعالج الدلالة اللغوية للنص من منطوق ومفهوم واقتضاء وهي بذلك لا تتناول إلا النصوص الجزئية، وهو ما يؤكده صراحة تعريف الأصوليين أنفسهم للفقه بأنّه "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية" فضوابط أصول الفقه تبحث في أوجه دلالة الأدلة السمعية الجزئية وهي المنطوق والمفهوم والاقتضاء، إضافة إلى المعنى أو المعقول عند بعضهم.

والنصوص الجزئية الواردة في شؤون الحياة العامة / المعاملات محدودة جدًّا مقارنة بملايين وقائع الحياة التي يراعى في تقرير أحكامها عدم معارضة قيم الشريعة ومبادئها العامة أو بعبارة جامعة يراعى فيها تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.

والقيم والكليات والمصالح والمفاسد معان عقلية عامة يشترك جميع العقلاء في إدراكها كما يقول الشاطبي ولا علاقة لتنزيلها على الجزئيات بالدلالة اللغوية التي تبحثها ضوابط أصول الفقه فمثل العدل والظلم والفحشاء والمعروف والمنكر، واليسر والعسر... ليست لها دلالة لغوية على واقعة أو عدة وقائع معينة.

لذلك عند الاختلاف بشأنها تكون المناقشة بالاستدلال العقلي والمنطق وليس بضابط من ضوابط أصول الفقه.

عبد الله إدالكوس: لمزيد من البيان والتوضيح نرجو أن تقدموا لنا أمثلة على هذه القضايا

الدكتور أحمد الخمليشي: مثلاً: اختلف في ضرب المتهم بجريمة لحمله على الاعتراف هل هو مصلحة أو مفسدة فتحاجّ الغزالي والشاطبي بما يلي:

يقول الغزالي: "فإن قال قائل المصلحة داعية إلى الضرب بالتهم في السرقة والقتل وما يجري خفية وغيلة، فإنّ الجاني لا يقر على نفسه مختارًا، وإقامة الحجج والبينات على الاختزال الجاري في ظلام الليل ممتنع، وتعطيل الحقوق لا سبيل إليه وقد رأى مالك ذلك... قلنا هذه المصلحة غير معمول بها عندنا وليس لأنّا لا نرى اتباع المصالح ولكنها لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها فإنّ الأموال والنفوس معصومة، وعصمتها تقتضي الصون عن الضياع. وإنّ من عصمة النفوس أن لا يعاقب إلا جان، وأنّ الجناية تثبت بالحجة، وإذا انتفت الحجة انتفت الجناية، وإذا انتفت الجناية استحالت العقوبة. فكان في المصير إليه نوع آخر من الفساد فإنّ المأخوذ بالسرقة قد يكون بريئًا من الجناية، فالهجوم على ضربه تفويت لحق عصمته من نفسه ناجزًا لأمر موهوم يرجح حاصله إلى التشوف إلى تأكيد عصمة المال. فإن كانت مصلحة ذي المال في ضربه رجاء أن يكون هو الجاني فيقر، فمصلحة المأخوذ في الكف عنه وترك الإضرار به. وليس أحدهما برعاية مصلحته أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع في أن لا عقوبة إلا بجناية ولا تظهر الجناية في حقه في الخفاء إلا ببينة...

ولو قيل إنّ من ظهرت عدالته لا يعاقب، وإنّما يعاقب متهم بأمثال ذلك.

لقيل: وبم تعرف وجه التهمة ولا سبيل إلى تصديق صاحب الحق فيه، فإنّه في الدعوى متهم أيضًا والأغراض متطرقة إليه؟

فإن قيل إنّ التهمة تثبت بكونه معروفًا بالسرقة، وبما يعرف من حاله في الترداد على الموضع الذي جرت فيه السرقة قبل ذلك الوقت أو بعده، أو ما يجري مجراه من المخاييل.

فنقول يستحيل الهجوم على عقوبته بالسرقة السابقة التي عرف بها وعوقب عليها،... فليس من ضرورة كل من سرق شيئًا أنّه يسرق أمثاله وإن كان من ضرورته... فالهجوم على عقوبته تعرض لحقه الناجز بالتفويت لأمر هو موهوم"([2]).

ودافع الشاطبي عن الضرب لأنّه: "لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

فإن قيل هو فتح باب تعذيب البريء، قيل ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررًا، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعًا من الظن. فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته فتغتفر... فإن قيل: لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال (أي عملاً بمذهب مالك الذي لا يؤاخذ بالإقرار المكره عليه) فالجواب أنّ له فائدتين:

إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه وهي فائدة ظاهرة.

والثانية: أنّ غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع هذا الفساد"([3]).

هذا المثال المختلف في حكمه المحقق للمصلحة، نجد كل فريق يؤيد رأيه بالتحليل العقلي للواقعة وآثارها، وبالاستدلال المنطقي على نتائجها. ولا إشارة لدى الفريقين معًا إلى أي ضابط من ضوابط التفسير الأصولية التي تشكل مجال تخصص "الفقيه" وهو ما يؤكد أنّ تنزيل كليات الشريعة ومبادئها على الجزئيات لا يحتكره دارس أصول الفقه وإنّما يشاركه فيه كل متمتع بملكة العقل والتحليل المنطقي الغريزي مع إدراك ولو محدود لوقائع الحياة وملابساتها كما يعيشها الناس بإيجابياتها وسلبياتها.

عبد الله إدالكوس: الفقيه هو من يجتهد في استخلاص الأحكام من أدلتها التفصيلية، لذلك هو من يملك صلاحية تحديد المقاصد والمصالح والمفاسد. فكيف ترون هذا الاختصاص؟

الدكتور أحمد الخمليشي: إنّ ما يقال من اختصاص الفقيه وحده بتحديد المصالح والمفاسد، والاستقلال بإدراك مقاصد الشريعة ـ لا يبدو سليمًا، ولإثبات عكس ما نقول نطلب تقديم مثال واحد لمصلحة أو مفسدة أو مقصد من مقاصد الشريعة يعتمد في إثباتها على ضوابط التفسير الأصولية بعيدًا عن معايير التحليل العقلي والبرهنة المنطقية.

وإلى جانب تنزيل الكليات الذي لا مبرر لاحتكاره من دارس أصول الفقه، نجد نصوصًا جزئية لا يخضع تفسيرها لضوابط أصول الفقه إضافة إلى مجالات كثيرة من شؤون الحياة العامة يتوقف حسن تنظيمها ومراعاة قيم الشريعة بشأنها، على معارف بعيدة عن تخصص الفقه وأصوله.

من أمثلة الأولى: تحديد سن الرشد، وسن الحضانة، وفترات الطهر والحيض لاحتساب العدة، وفترة الحمل... إلخ التي لم يكن "المجتهد" فيها متوفرًا على المعرفة المساعدة على تحديد الحكم، ومع ذلك وجد نفسه مفروضًا عليه الجواب عن كل الأسئلة ولو كان الجواب لا صلة له بالواقع مثل ربط الرشد بتكون الحيوان المنوي والبويضة والذي كثيرًا ما يكون في الحادية عشرة وما قاربها ومن يكون في هذه السن يكون بعيدًا قطعًا عن "الرشد" والخبرة بالحياة.

ومثل ذلك إنهاء الحضانة بالأثغار، أو بقدرة الطفل على الأكل والشرب وارتداء ملابسه وحده...

وإمكانية اعتداد المرأة بثلاثة أقراء في أقل من شهر، أو في فترة خمسة عشر عامًا إذا كانت فترات طهرها المألوفة خمس سنوات...

وتمديد فترة الحمل إلى خمس وسبع سنوات...

إنّ القائلين بهذه الآراء الشاذة معذورون لأنّ عدم جواب السائلين كان يعني في الثقافة السائدة نقصًا في الشريعة التي ينطق المجتهد أو المفتي باسمها.

ومن أمثلة الثانية كثير من مرافق المجتمع الحديث التي يتطلب تنظيمها معارف وتخصصات بعيدة عن المتخصص في أصول الفقه.

مثلاً سياسة أسعار السلع والخدمات: فصنف أول من السلع والخدمات يترك للعرض والطلب، وصنف ثان يخضع للسعر الإجباري، وصنف ثالث تحكمه قوانين المنافسة، وصنف رابع تضاف إلى سعر تكلفته ضريبة للخزينة العامة أو الجماعية، ويتفاوت مقدارها بين عشرات المواد والخدمات. وصنف خامس يدعم من الدولة ليعرض في السوق بأقل من سعر التكلفة... الخ.

هل يتصور أن يستقل فرد ـ وإن يكن نابغةً في الموضوع معرفةً ودرايةً ـ بوضع قوائم للأصناف المشار إليها في مكتبه، ويلزم المجتمع بتنفيذها دون مناقشة؟ أليس هذا مستحيلاً بالبداهة؟

وإسناد ذلك إلى المجتهد أو العالم أو الفقيه ألا يبدو أكثر غرابة؟ فإلى جانب تعذر جمع المعارف المؤلهة للتقرير، فإنّ الموضوع بعيد كل البعد عن تخصصه الذي هو ضوابط أصول الفقه المساعدة على إدراك منطوق النص أو مفهومه أو مقتضاه.

وخلاصة ما سبق: أنّ ادعاء استنباط كل الأحكام المدونة في المنظومة الفقهية، بقواعد وضوابط التفسير الأصولية، غير صحيح.

لأنّ هذه الضوابط لا تهم إلا النصوص الجزئية، وهي قليلة جدّا مقارنة مع الأحكام المقررة بتنزيل الكليات والمقاصد، أو بالمعرفة المتخصصة والخبرة بوقائع الحياة ونوامسها.

عبد الله إدالكوس: نفهم من كلامكم دكتور أنّ هذه الضوابط ليست مطلقة؟

الدكتور أحمد الخمليشي: مع النسبة المحدودة للأحكام المسندة إلى النصوص الجزئية، فإنّ ضوابط تفسيرها ليس لها إلا دور استئناسي في فهم هذه النصوص، والدليل القاطع على ذلك تعدد الآراء. فهناك من ناحية الاختلاف في عدد من الضوابط وفي ترتيبها، ومن ناحية ثانية عدم التزام المجتهد نفسه للمبدأ ذاته كالعموم والمفهوم، والشرط والصفة... إضافة إلى تعدد النصوص - سيما ظنية الورود ـ الذي يشكل مصدرًا للاختلاف في نسبة عالية من الأحكام الفقهية.

إنّ دلالة النص اللغوية التي تساعد على إدراكها ضوابط التفسير الأصولية لا تزيد عن كونها أحد العناصر المرشدة للمفسر إلى جانب مراعاة كليات الشريعة وقيمها، وآثار الحكم حالاً ومآلاً والواقع وملابساته المتغيرة... واستحضار كل العناصر وتقديرها يختلف بشأنه الأفراد اختلافًا جوهريًّا وهذا ما يفسر تعدد الأحكام الاجتهادية في الأغلبية الكاسحة وربما تعدد جميعها دون استثناء.

وحضور كليات الشريعة ومقاصدها ومبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد في تفسير النصوص الجزئية إلى جانب معرفة الواقع وملابساته المتنوعة والمعقدة، كل ذلك يجعل اعتماد رأي الفرد في ذلك التفسير غير مقنع بل غير مقبول لأنّ ما يتعين التوفر عليه من معرفة، واستحضاره من فرضيات نتائج الحكم وآثاره تنوء عنه طاقة الفرد، لذلك تعين أن تبقى صلاحياته قاصرةً على إبداء الرأي، أما التقرير فيكون للجماعة أي المؤسسة التي تنتدبها لذلك.

عبد الله إدالكوس: غالبًا ما يحاط قول الفقيه واجتهاده بسياج من التقديس لا يسمح بانفتاحه على الاختلاف، وهو ما يفسر النمط المنغلق للكتابة الفقهية فكيف تفسرون ذلك؟

الدكتور أحمد الخمليشي: من الموضوعات التي نعتقد ضرورة مناقشتها في المنظومة الفقهية، وصف الرأي الاجتهادي بأنّه حكم الله الأزلي أو حكم الله التابع لحكم المجتهد.

الواصفون للرأي الاجتهادي بحكم الله الأزلي يؤسسون رأيهم على مثل قول الشافعي في الرسالة: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على الهدى فيها" وقول الشاطبي في الموافقات: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم من الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله".([4])

ويبدو هذا الرأي غير مؤسس، ومما يؤكد ذلك:

ـ أنّه يتضمن التكليف بما لا يطاق إذ لا وسيلة لمعرفة تطابق الرأي الاجتهادي مع الحكم الأزلي ولو على سبيل الظن، فالأحكام الاجتهادية تتعدد وتختلف إلى حد التعارض ولا سبيل إلى معرفة مطابقة واحد منها للحكم الأزلي الواقع به التكليف، وهو ما يعني التكليف بما لا يطاق، والقرآن ينفي التكليف بالعسر فبالأحرى ما لا يطاق "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".

ـ أنّه أسس لتكوين الفرق العقدية والمذاهب الفقهية التي شكل "فقه" كل مذهب منها "أحكام الشريعة" التي لا يجوز العمل بما يخالفها مع ما تبع ذلك من فرض التقليد وإعلان انتهاء الاجتهاد.

ـ المبالغة في تضخيم معارف المجتهد والسمو بمصدرها فهو قد بلغ فهم قصد الشارع في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فيصدر الأحكام بما يريه الله، والحال أنّ هذا المقام لم يبلغه حتى خاتم الرسل الذي عاتبه القرآن على بعض اجتهاداته الشخصية، وكيف ينطق كل مجتهد بما يريه الله ويتناقضون في عشرات بل مئات الأحكام؟

ـ كيف يفهم المجتهد قصد الشارع في كل جزئية وفي كل باب والأغلبية الساحقة من مجالات الحياة ـ سيما اليوم ـ لا إلمام له بمعرفتها؟

والواصفون للرأي الاجتهادي بأنّه متبوع بحكم الله و"موافقته" عليه، نجد فيه من المغالاة والاضطراب ما لا يخفى.

هل هناك مغالاة أكثر من اعتبار حكم المجتهد متبوعًا وحكم الله تابعًا له؟

وأي اضطراب أشد من كون هذا الرأي لا يترتب عنه "البراء" فقط الذي تنكره كل المذاهب السنية وإنّما يستلزم براءات متعددة ومتناقضة للواقعة نفسها عندما تختلف آراء المجتهدين وتتعارض.

وأخيرًا فإنّ وصف رأي المجتهد بحكم الله أو بحكم الشريعة، تبعه تلقائيًّا:

أولاً: ـ تحصينه من الإلغاء أو التعديل فلا يملك ذلك فرد ولا جماعة ولا الأمة ذاتها، قد يظهر اجتهاد مخالف أو مناقض له، وغاية ما ينعت به أنّه "حكم شرعي" ثان ولا أثر له في الاجتهاد الأول.

ثانيًا: ـ تهيب مناقشته لأنّه حكم الله أو حكم الشريعة، والمطلوب من المؤمن الامتثال لأحكام الله وليس المجادلة في صلاحيتها، ولذلك كثيرًا ما يتم الاستشهاد بآية: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا". الأحزاب ـ آية 36.

ثالثًا: ـ تشكل ثقافة عامة بعدم التمييز بين الأحكام النصية والأحكام الاجتهادية ووصف الجميع بأحكام الله أو أحكام الشريعة.

رابعًا: ـ ظهور تيارات استقطبت نسبة مهمة من الأمة، ومع اختلافها في بعض التفاصيل يجمعها اعتقاد أنّ فهم السلف لنصوص الشريعة هو الفهم الصحيح والنهائي الذي لا تجوز مناقشته أو إعادة النظر فيه.

5ـ التجديد المقترح للفقه:

من أهم الأفكار المتداولة في المنظومة الفقهية حول التجديد وتقديم فقه يستجيب لحاجات الفرد والمجتمع المعاصرين: الاجتهاد الجماعي، واعتماد مقاصد الشريعة.

قدمت عشرات الاقتراحات عن الاجتهاد الجماعي الذي يكون من كبار العلماء في القطر الواحد أو في كل العالم الإسلامي أو بمشاركة "المتخصصين" في معارف الحياة المختلفة، أو بتكوين "العلماء" في التخصصات الحديثة... الخ.

وتعذر التطبيق لأي اقتراح لاستحالة الاتفاق على تحديد "كبار العلماء" واستبعاد غيرهم ومنعهم من إبداء آرائهم الاجتهادية، وعلى طريق التعيين أو الانتخاب لكبار العلماء ومن يشارك في الانتخاب؟ والمختصون في المعارف الحديثة ما هي نسبتهم؟ وهل يشاركون في التقرير أم يقتصر دورهم على تقديم "الخبرة"؟

وقبل كل ذلك الاقتراحات كلها تتجاهل الأوضاع الدستورية في الدول الإسلامية التي من المؤكد أنّ مجتمعاتها لن تتنازل عن حقوقها في التقرير استجابةً لمن يدعي الوصاية عليها في ذلك دون سند أو وسيلة إقناع.

وبالنسبة إلى ما سمي بالاجتهاد المقاصدي تشعب التنظير له بعشرات الآلاف من المؤلفات والأطروحات فضلاً عن الأبحاث والمقالات العصية عن الحصر. أما التطبيق فلا أثر له على الرغم من استمرار الدعوة إلى الاجتهاد المقاصدي أكثر من قرن من الزمن.

وأقصد بانعدام الأثر غياب جزئيات اتفق على تغيير أحكامها تحقيقًا لمقاصد الشريعة وذلك لسببين أساسيين:

الأول: ميل عامة "الفقهاء" المنادين بالاجتهاد المقاصدي إلى الالتزام عمليًّا بالتقليد، وهذا ثابت من الجزئيات التي يفتون فيها وحتى من مؤلفاتهم التي يتعرضون فيها لبعض الأحكام الفقهية. ولا يقتصر هذا على فتاوى الأفراد مثل الضرائب التي ما تزال عشرات الفتاوى تصدر بتحريمها، وإنّما يشمل كذلك "الاجتهاد الجماعي" من ذلك مثلاً قرار "مجمع الفقه الإسلامي" التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، بربوية عقود التوريد وعقود البورصات العالمية التي لا يؤدى فيها الثمن فور إبرام العقد، دون بيان للمقصد الذي يفوته تأخير أداء الثمن أو يحققه تعجيله في ظل ملابسات هذه العقود التي تتم بعشرات أو مئات الملايين ويتأخر تسلم المبيع فيها بضعة أشهر الأمر الذي يعرض المستورد لخسارة مؤكدة بحرمانه من جزء من رأسماله واستفادة المورد منه، في الوقت الذي نظمت فيه إجراءات المحافظة على حقوق الطرفين معًا بما يسمى "خطاب الضمان".

والثاني: أنّ ما قد يراه عالم أو مفت من تعديل أو تغيير لبعض الأحكام استعمالاً للاجتهاد المقاصدي، يبقى مجرد رأي شخصي للقائل بها ولا يكتسب صفة الحكم الاجتهادي الملزم، لأنّه لا أحد تم الاعتراف له بصفة "مجتهد" طيلة كل الفترة التي كثر الحديث فيها عن الاجتهاد المقاصدي أي منذ قرن من الزمن أو أكثر.

وأخيرًا فإنّ الخطاب السائد هو قصر الاجتهاد ـ أيًّا كان مستنده ـ على المجتهد / العالم / الفقيه، الذي تبدو معارفه بعيدة عن كثير من مرافق المجتمع الحديثة وما يحدث فيها كل يوم من تطور في التنظيم والتدبير. فكيف يفصل مثلاً في جزئيات سياسات: الأسعار، ومكافحة التضخم، وخفض نسبة البطالة، إلى تحديد علاقات الدولة بغيرها من الدول... ما دام الفقه يشمل "جميع تصرفات العباد لا يخرج عنها اعتقاد، أو قول أو عمل" فيشمل "علاقة المكلف بربه، وبنفسه وبغيره، وبالدولة... وعلاقة الدولة بغيرها من الدول في زمن السلم والحرب" فهو يشمل مختلف المجالات "العقيدة، والعبادة، والمعاملة، والمال، والاقتصاد، والأسرة، والسياسة، والحكم، والقضاء، وغير ذلك" ـ البيان الختامي للمؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها ـ المنعقد بمكة في 17 ـ 20 يناير 2010.

فهل يتصور أن تكون للفقيه الكلمة الفصل في كل هذا، وأنّه باستعمال "مقاصد الشريعة" يحسن إدراك تفاصيله، وملايين جزئياته التي تتغير ظروفها وملابساتها باستمرار زمانًا ومكانًا؟.

عبد الله إدالكوس: من المؤكد أنّ ما أشرت إليه يشكل فعلاً حاجزًا أمام الإبداع والانفتاح على القضايا المجتمعية المعاصرة، وهو ما يحول دون مواكبة الفقه للمجتمع المعاصر ذي الطبيعة المركبة، خصوصًا إذا نظرنا إلى العلائق التي تفرض نفسها والتي تتجاوز الحدود الجيوساسية. فما هي العناصر التي ترونها أساسية للرؤية البديلة؟

الدكتور أحمد الخمليشي: باختصار شديد يلخص البديل الذي أدعو إليه في تجاوز ما يبدو منتقدًا من عناصر المنظومة الفقهية:

1 - خطاب الشريعة ليس قاصرًا على الفرد، وإنّما هو موجه كذلك إلى الأمة / المجتمع في كل الشؤون المرتبطة بالحياة المشتركة وأداء أمانة الخلافة في الأرض، وهو ما يفرض التخلي عما اصطلح عليه بـ "فروض الكفاية" التي يدخل فيها كل المصالح المادية والمعنوية الجماعية.

إنّ اعتبار الخطاب بها موجهًا إلى الفرد، وإلى تقديره المحكوم بإمكانياته المعنوية والمادية ينتهي حتمًا إلى تخلف الانضباط في إنجازها بل إلى تعذر هذا الإنجاز للكثير من المصالح العامة التي يستحيل تنفيذها بإمكانيات الفرد المعرفية منها والمادية.

2 ـ العقل مناط التكليف، لذلك ينبغي تجاوز: "العقل لا يحسن ولا يقبح"، نعم عقل الفرد الواحد قد يشطّ أو يزيغ، ولكن ما نقصده: عقل الجماعة بعد تبادل آراء الأفراد ومناقشتها.

3 ـ الأمة مكلفة بالبحث عن الدلالة الظنية للنصوص ظنية الدلالة، وعن التنزيل الظني كذلك للكليات على الجزئيات، وليس بالبحث عن الحكم الأزلي لأنّ التأكد من الوصول إليه مستحيل ولا وجود للتكليف بمستحيل.

والحكم الظني هو الذي تقرره الأمة عن طريق الشورى، أما ما يصل إليه الفرد فهو رأي ظني وليس حكمًا ظنيًّا.

ووصف الحكم بالظني يقتضي قابليته مبدئيًّا للتعديل والتغيير في كل وقت تطبيقًا لمبدأ "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا" ويتحقق ذلك:

إمّا بما يكشفه التطبيق من خطأ في التنظير، أو في تقدير المآل.

وإما بتغير أحوال الواقع وملابساته وطوارئه.

4 - المطلوب من الأمة في تنظيم شئونها وعلاقات أفرادها ليس الاستناد في حكم كل جزئية إلى نص من الشريعة، وإنّما الممنوع هو معارضة النص ومصادمته وهو أمر لا يحتاج إلى زيادة شرح. فكل ما رأت فيه مصلحة راجحة على نقيضها كان تشريعه مقبولاً ولو لم يتم الاستناد فيه إلى نص جزئي أو كلية من الكليات العامة للشريعة.

5 ـ ضوابط التفسير الأصولية تساعد فقط على الفهم الظني للنصوص الجزئية إلى جانب الملابسات الواقعية والمعرفية للواقعة المعنية التي يتعذر أن يحيط بها ويستحضرها الفرد الواحد.

6 ـ طبيعة فهم الأفراد التعدد الذي يتناقض مع وحدة الحكم التي يفرضها تنظيم شؤون الحياة لذلك لا مناص من الفصل بين الرأي الذي يبقى حقًّا مشاعًا بين كل الراغبين في إبدائه، وبين تقرير الحكم الذي هو صلاحية تملكها الأمة من خلال مؤسساتها وليس الأفراد.

7 ـ هذا الفصل بين إبداء الرأي وبين تقرير الحكم هو الذي تقرره صراحة آية "وأمرهم شورى بينهم" وثانيًا هو ما انتهى إليه فكر الإنسان في مسيرته الاستخلافية باهتدائه إلى "دولة المؤسسات" التي تجمع بين ممارسة الفرد لحريته وحقوقه وأداء واجباته وبين تشخيص حق الأمة في التقرير عن طريق مؤسسات تضبط اختصاصاتها ومسؤولياتها قواعد نظامية دقيقة، وتتبادل الرقابة التي تحد من الغلو والتجاوز.

8 ـ الأنظمة الدستورية السائدة اليوم في الدول الإسلامية تضم العناصر الأساسية لما تأمر به آية الشورى، وما تنبغي العناية به هو الجوانب السلبية التي تكاد تجردها من أهدافها الجوهرية.

ويبدو من أهم الجوانب السلبية:

ـ انتشار الأمية المترتب عليه غياب الوعي الذي يحصن المواطن من السير على غير هدى.

ـ القصور الملاحظ في الخطاب الديني الموجه إلى السلوك الذي يلخصه حديث "الدين المعاملات".

ـ الولاء الحزبي الذي يغتال في حالات غير قليلة الشعور بالمسؤولية والوفاء بالتعهدات الانتخابية.

- ما يرافق الدعاية الانتخابية من الوسائل المالية المنحرفة، والمبالغة في الوعود التي لا تتورع عن الإغراء حد الكذب والاستخفاف بقيم الأمانة والمسؤولية.

إنّ النظام الدستوري الشائع اليوم مع ما يرافقه من سلبيات لن تتخلى عنه المجتمعات المعاصرة ـ وبالأحرى المقبلة ـ وهو في جوهره تطبيق لمبدأ الشورى المقرر في القرآن.

لذلك فإنّ المطلوب هو السعي إلى تخليصه من الشوائب في اتجاه تحقيق التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع والتزاماتهما، وترسيخ دولة المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة التشريع حتى يتحقق فيها التمثيل الحقيقي لإرادة الأمة. هدف عزيز وصعب التحقيق، ولكن لا محيد عنه تنفيذًا لسنة الله التي لم تترك الإنسان سدى، وطبعت فيه غريزة البحث المتواصل عن الأفضل. ونسأل الله الهداية إلى سواء السبيل.

عبد الله إدالكوس: هل هذا يعني أنّ المنهجيات العتيقة قد فقدت صلاحيتها ولم تعد ملائمة؟

الدكتور أحمد الخمليشي: ليست المنهجيات الفقهية العتيقة هي العائق لانفتاح العقل، لأنّ تلك المنهجيات وضعت لزمانها، وللملابسات التي كانت تحيط بوقائع الحياة المعيشة، وليس من حقنا البحث عما إذا كانت ملائمة أم لا لحياة الناس إذ ذاك "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" 140/البقرة.

العائق الحقيقي المكبل لعقولنا هو الثقافة المسيطرة على مجتمعاتنا، والفقهاء ليسوا وحدهم المسؤولين عن ترويج هذه الثقافة بل المجتمع كله حريص على التمسك بها. فالسائد بين المسلمين هو إقالة عقولهم وإعفاؤها من المسؤولية عن فهم الدين وقيمه التي تمزج بين تنظيم التعايش الدنيوي والمصير الأخروي، وللاطمئنان إلى تلك الإقالة، أضحى جزءًا من الإيمان الاطمئنان إلى تلقي أحكام الدين جاهزةً وللتنفيذ فقط من القائمين بـ"التبليغ" وبتنفيذ ما أوكله الله إليهم من البيان لأحكام الدين وتفسير نصوصه.([5])

إنّ الخروج من أزمة التصور والممارسة المشار إليها في السؤال لن يتحقق إلا بتغيير ثقافة الفرد المسلم القانعة بالتلقي من الوسيط والاتباع لما يلقى إليه باعتباره وحده الحق وكل ما عداه ضلال، وتعويضها بثقافة قيام الدين على الاقتناع المؤسس على الفهم والإدراك وإن تم ذلك بمساعدة الغير عند الاقتضاء.

عبد الله إدالكوس: السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو إلى أي حد يمكن الركون إلى المنجز المنهجي المعاصر بالنظر إلى السياق الحضاري والمعرفي المغاير الذي أفرزه؟

الدكتور أحمد الخمليشي: المناهج الحديثة المستعملة في العلوم الإنسانية هي نتاج الملاحظة والتحليل العقلي لوقائع حياة الإنسان وخصائصه الفكرية والسلوكية، ومن ثم فإنّ استعمالها يقرب الباحث من الحقيقة ويدنيه من واقعية أحكامه واستنتاجاته وبالخصوص عندما تستحضر مجموع أفكار الباحثين التي تتكامل في جوهرها وإن اختلفت في عدد من التفاصيل والجزئيات.

وبالرجوع إلى تاريخ الفقه ومسيرته تتأكد الآثار السلبية التي لحقته من التيار المناوئ لدراسة المنطق والفلسفة([6])

أما المشاريع الحديثة المنادية بإصلاح أدوات إنتاج الفقه، ومضمون أصوله فلا جدال في جديتها وواقعيتها، وإن كان كل منها مجهودًا فرديًّا، وبهذه الصفة تختلف فيما بينها في بعض المعايير، وقد لا تكون بعض الاقتراحات في أي مشروع غير صائبة، سيما مع تباعد الأقطار الإسلامية واختلاف ملابسات واقع كل واحد منها.

كل هذا يفرض أداة جماعية للمجتمع السياسي تأخذ الأصلح من مجموع المشاريع والآراء وتقرر تطبيقها، غير أنّ هذه الأداة لم توجد بعد، فتعذرت الاستفادة من الأفكار الإصلاحية وإن كثر المنادون بها.

عبد الله إدالكوس: يقتضي الحديث عن الأداة الجماعية تجاوز منطق الفتوى الفردية إلى فتوى المؤسسة، ليأخذ الفقه بعدًا مؤسساتيًّا. لكن ألا تعتقدون أنّ هذه المسألة ماتزال بعيدة المنال؟ وأنّ المؤسسة يمكن أن توظف في سياقات أخرى؟

الدكتور أحمد الخمليشي: أود الإشارة إلى أنّه ينبغي تحديد معنى الفقه ثم الحديث عن مأسسته.

ينبغي أن يقتصر المفهوم الاصطلاحي لكلمة "الفقه" على إبداء الرأي:

ـ في تفسير نص شرعي جزئي.

ـ وفي تنزيل كليات الشريعة على جزئياتها.

ـ وفي اقتراح حلول غير مصادمة لنصوص الشريعة لوقائع لم يرد بشأنها نص جزئي أو عام.

والفقه بهذا المعنى ليست له أيّ قوة إلزامية في التطبيق، وهذا ما كان عليه الفقه الإسلامي في بداية نشأته وهو بهذا المعنى غير قابل للمأسسة لأنّ كل من أنس من نفسه القدرة على إبداء رأيه كان له ذلك ولو في وقائع محدودة، وتبقى مدى قابليته للمناقشة رهينة بحجج الإقناع المرفقة به.

أما الفقه بمفهوم التشريع الملزم، وهو المعنى المتداول اليوم لمنظومة الفقه الإسلامي، فهو الذي يحتاج إلى المأسسة وإلى إبعاده من الفوضى العارمة التي تنال منه اليوم نتيجة للفتاوى غير القابلة للانضباط والمختلفة إلى حد التناقض والشذوذ.

ومقاومة المأسسة ترجع في اعتقادنا إلى أمرين:

الأول: ارتباط مأسسة التشريع في الدول الإسلامية بدخول المستعمر إليها واستنساخه شكلاً وموضوعًا من قوانين مجتمعاته المختلفة عن المجتمعات الإسلامية عقيدةً وتراثًا وأعرافًا.

والثاني: الثقافة التي باسم الدين فرضت التقليد على المجتمع في تنظيم شؤونه العامة، وخولت إفراد "العلماء" الاختصاص بالتقرير الانفرادي في ذلك بصفة "التوقيع عن رب العالمين" أو كما نقل الغزالي عن أبي الأسود: "الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك".

لذلك فإنّ قبول المأسسة يبقى رهينًا بتغيير هذه الثقافة عن طريق الوعي العام بتطبيق آية "وأمرهم شورى بينهم". و"العلماء التقليديون" جزء من المجتمع إذا صلحت تصوراته واهتدى وعيه، اندمجوا فيه واستقامت المسيرة.

والسؤال عن ضمان عدم توظيف الفقه والتشريع لمصالح خاصة، يبدو غير دقيق بجمعه الفقه مع التشريع، والحال أنّ الفقه بوصفه مجرد إبداء الرأي في فهم نص أو في اقتراح حل لواقعة اجتماعية، لا سبيل إلى توظيفه لمصالح خاصة لأنّه غير ملزم لأحد.

أما التشريع فإنّ السبيل إلى تفادي سوء توظيفه يتحقق بالوعي الاجتماعي الذي يوفره التعليم ونشر المعرفة، وبالمؤسسات الدستورية التي تعكس إرادة المجتمع، وتشعر بالمسؤولية عن وظيفتها أداءً ورقابةً.

عبد الله إدالكوس: واقع الحال يؤكد أنّ المجاميع الفقهية بعيدة كل البعد عن مشاكل المجتمعات الإسلامية:

الدكتور أحمد الخمليشي: بالتأكيد الجميع متفق على أنّ المجامع الفقهية بمختلف أشكالها لم تتمكن ولو جزئيًّا من معالجة المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي كله من ثنائي: القانون الوضعي، وأحكام الشريعة.

والسبب الأساسي لذلك هو أولاً أنّ كل المجتمعات الإسلامية متمسكة بأنظمتها الدستورية المكتوب منها وغير المكتوب في نظامها التشريعي ولم تجد أمامها بديلاً يستجيب لحاجات واقعها المتجدد. والسبب الثاني أنّ هذه المجامع تميل إلى استنساخ الحلول الفقهية الموضوعة لواقع تغيرت كل معالمه، وليس في إمكانها الاستجابة لكل ما يحتاج إليه تنظيم مرافق المجتمع الحديث وتطورها المتسارع.

عبد الله إدالكوس: أنت من الداعين إلى استرجاع سلطة الأمة في التشريع وكثيرًا ما تتحدث عن الأمّة المالكة لصلاحية التقرير في تطبيق الشريعة. ما معنى ذلك؟

الدكتور أحمد الخمليشي: ما أقصده بالأمة المالكة لصلاحية التقرير في تطبيق شريعتها هو المجتمع الذي تضمه وحدة سياسية أي الدولة بالاصطلاح المتداول، فالدولة هي التي تسهر على التطبيق الإلزامي لما تقرره مؤسساتها الدستورية المعنية، ولا يبدو ممكنًا ـ في الوقت الحالي على الأقل ـ خلق مؤسسة تشريعية واحدة لكل العالم الإسلامي، فضلاً عن أنّ الأوضاع الاقتصادية والعمرانية والبيئية، والجغرافية وغيرها تختلف من دولة إلى أخرى ويتعذر معها توحيد التشريع. فالمغرب والجزائر مثلاً متجاوران ومع ذلك فإنّ الضرائب في المغرب تتجاوز 25% من الدخل الوطني بينما تكاد لا تتعدى 2% في الجزائر التي تعتمد في ميزانيتها على دخل الغاز والبترول.

وإذا كانت قيم الإسلام وكلياته تلزم الجميع فإنّ تفسيرها يرتبط بأوضاع كل بلد. فالعدل، أو اليسر في مجال الضرائب مثلاً أو الأسعار ليس له دلالة واحدة حتى بين بلدين متجاورين.

وهل في الإمكان توحيد التشريع الخاص بالماء بين تركيا الغنية بالأنهار والمخزون الجوفي، وبين الأردن الذي لا يملك من المياه ما يلبي ضروريات المواطن؟

عبد الله إدالكوس: نرجع إلى مسألة التقليد، لقد عرفتم بنقدكم الشديد له، ألا ترى أنّه لا فقه بدون تقليد؟

الدكتور أحمد الخمليشي: فكرة التقليد نبذها القرآن في غير ما آية واستنكر على الإنسان أن يعتبر نفسه مهملاً "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" أو يقلد غيره من غير اقتناع وبينة "إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون".

وحذر منها السابقون وإن كانوا قلة([7]) ومع ذلك تمكنت ثقافته من التحكم في مسيرة المجتمع الإسلامي "عوام" و"علماء". وبالتأكيد أنّه انتقل إليه ذلك من إرث إنساني عام وقديم، وهو اعتبار تعاليم الدين من عالم الغيب "اؤتمن" على نقلها إلى المؤمنين بها رجال نصبوا أنفسهم لأداء هذه المهمة، أما المؤمن العادي فعليه أن يتلقى من هذا "الوسيط"، ولا أهلية له في التعامل المباشر مع تلك التعاليم.

ويبدو غريبًا انتقال ثقافة "الوسيط" إلى الإسلام الذي جمع كتابه/القرآن وضبط كتابته عقب وفاة الرسول عليه السلام مباشرة، وقد تزول هذه الغرابة إذا استحضرنا دخول عشرات الشعوب من ملل سماوية ووثنية إلى الإسلام في سنوات محدودة وقبل أن يتعلموا اللغة التي نزل بها القرآن وكتب في المصحف.

هذه الظروف هي التي يسرت احتضان الثقافة المتوارثة في كل الأديان والملل من فرض "الوسيط" في فهم الدين والنطق بأحكامه.

عبد الله إدالكوس: دافعتم على هذا المسار الجديد من خلال تجربة دار الحديث الحسنية، فماهي الإضافة التي شهدها الإصلاح الذي عرفته هذه المؤسسة؟

الدكتور أحمد الخمليشي: الإصلاح الأساسي الذي أدخل على نظام التكوين في دار الحديث الحسنية منذ عام 2005 هو تلقين الطلبة مواد العلوم الإنسانية، إضافة إلى لغتين أجنبيتين لهما حظ الأسد في الإنتاج الفكري الإنساني.

ولا ينتظر تحقيق أهداف هذا الإصلاح قريبًا لسببين: الأول نسبة عدد طلبة المؤسسة مقارنة بعشرات الآلاف المنتسبين إلى مؤسسات ما يزال التكوين فيها موجهًا بالطابع التقليدي النقلي.

والثاني: أنّ هؤلاء الطلبة يصعب عليهم الانقطاع عن التكوين الذي تلقوه قبل التحاقهم بالمؤسسة فضلاً عن أنّ ما يتلقونه فيها ما يزال مشحونًا بكثير من سمات المبدأ المتحكم "الفقه ينقل ولا يتعقل".

ولكن في المدى البعيد ستتحقق بالتأكيد الأهداف المتوخاة من الإصلاح الذي أدخل على التكوين في مؤسسة دار الحديث الحسنية.


[1]ـ المستصفى ـ 2/387

[2]ـ شفاء الغليل ص 110

[3]ـ الاعتصام ـ ص 120

[4]ـ الموافقات ـ 4/106                    

[5]ـ في المهرجان الذي أقامه مركز شباب الدوحة للشيخ القرضاوي في 17 فبراير 2005 أكد الشيخ: "قد نذرت نفسي للدعوة إلى الله ولن أتخلى عن المهمة التي وكلني الله بها، فأنا أعتبر نفسي موكلاً من الله تعالى ولن أنسحب من هذه المهمة أبدًا..." عن جريدة: التجديد تاريخ 23 فبراير 2005

[6]ـ يقول ابن تيمية عن المنطق: "ولهذا ما زال علماء المسلمين وأيمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله، حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أيمة الشافعية والحنفية وغيرهم فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله. حتى أنّ من الحكايات المشهورة التي بلغتنا: أنّ الشيخ أبا عمرو ابن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا (أي من أيدي الصليبيين المحتلين لها) مع أنّ الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلامًا، وأمثلهم اعتقادًا" مجموع الفتاوى ـ 9/7

[7]ـ "إنّ في التقليد إبطالاً لمنفعة العقل، لأنّه إنّما خلق للتدبر والتأمل، وقبيح من أعطي شمعة يستضيء بها يطفئها ويمشي في الظلام." ـ ابن الجوزي (ت. 597) في كتابه تلبيس إبليس ص 81