أحمد بوعود: الدراسات الدينية بحاجة إلى إعادة نظر وتجديد


فئة :  حوارات

أحمد بوعود: الدراسات الدينية بحاجة إلى إعادة نظر وتجديد

 محفوظ أبي يعلا: بدايةً، ولتعريف القارئ العربي بكم؛ نبدأ بالسّؤال الآتي: من هو الدّكتور أحمد بوعود؟

د. أحمد بوعود: أحمد بن أحمد بوعود، ابن مدينة تطوان، حصلت على البكالوريا شعبة العلوم التجريبية بثانوية الشريف الإدريسي، بعدها تخرجت من كلية أصول الدين، جامعة القرويين، حيث حصلت على الإجازة العليا، ثم دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الدراسات الإسلامية، بوحدة التكوين والبحث القرآن الكريم ومستويات الدرس اللغوي، من جامعة سيدي محمد بن عبد الله. وكان موضوع بحثي، هو: الظاهرة القرآنية عند محمد أركون تحليل ونقد، والذي صدر عن منشورات الزمن في طبعتين (2010- 2013).

حصلت على شهادة دكتوراه في الدراسات الإسلامية، من جامعة عبد المالك السعدي، تطوان المغرب، ببحث موضوعه: علوم القرآن في المنظور الحداثي.. دراسة تحليلية ونقدية، وقد صدر هذا البحث عن دار الكلمة في القاهرة عام 2015م.

كما حصلت على دكتوراه ثانية في الفلسفة، من جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس المغرب، ببحث موضوعه (الهيرمينوطيقا والنص القرآني.. مقاربة تأويلية مقارنة لمفهوم الإنسان في القرآن الكريم)، وقد صدر هذا البحث بعنوان "الإنسان في القرآن.. دراسة فلسفية مقارنة عن منشورات الزمن"، في طبعتين: (2014- 2016م).

محفوظ أبي يعلا: يعرف طلبتكم أن أسلوبكم في التدريس مميز؛ إذ يشبه الأسلوب التوليدي لسقراط، لأنكم تعتمدون على طرح الأسئلة أكثر من الإجابة عليها، كما تتركون لطلبتكم الفرصة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. هل يمكنكم أن تحدثونا عن هذا الأسلوب في تدريس الفلسفة في الجامعة المغربيّة والصعوبة التي واجهتكم فيه؟

د. أحمد بوعود: لما انتقلت إلى الجامعة، وجدت نفسي أمام نخبة تخصصها الفلسفة، والدرس الفلسفي: هو درس نقاش، وأكثر من هذا؛ فالمناهج التعليمية المعاصرة أصبحت تنبذ التلقين، وصارت تتحدث عن تواصل تعليمي متعدد الأبعاد، بمعنى؛ أن الرسالة التربوية تدور بين الأطراف دورانا مثلثًا، أو ثلاثيًّا؛ حيث يكون التواصل بين المعلم والمتعلمين، وبين المتعلمين أنفسهم، وهنا، يكون المدرس بمثابة مرشد، وليس المصدر الوحيد للحقيقة.، وهذا المستوى أرقى من سابقه، وأنسب للدرس الفلسفي، مادام المتفلسفة أناسًا ينشدون الحقيقة، وكان التحدي الأكبر هو أن تجعل المتعلم يستمتع بالفلسفة، لهذا حاولت سلوك طريق المناقشة والحوار، عوضًا عن طريق التلقين والتواصل الأحادي.

ولا أخفيكم أن هذه الطريقة شكلت تحديًا كبيرًا، لعدة اعتبارات، منها؛ أنك تفسح المجال للطلبة لإبداء رأيهم، وهم لم يتعودوا على أجواء حرية التعبير، بسبب نمط التربية، مما قد يؤدي إلى فوضى. أو بسبب خجل بعضهم، كما يمكن أن يفاجئك أحدهم بكلام بعيد جدًّا عن الموضوع؛ فكيف توجهه، وفي نفس الوقت تشجعه حتى لا يحجم عن الكلام مستقبلًا؟ ومن جهة أخرى؛ تتطلب من المدرس إعدادًا جيدًا، وإمساكًا بتلابيب موضوع حصته، ومركزًا إلى أبعد الحدود، حتى لا ينفلت الموضوع من بين يديه، فضلًا عن تواصله مع الطلبة، بأن يكون قريبا منهم، وهذا ما يجعل من هذه الطريقة أمرًا ليس بالسهل، نظرًا للشروط التي تتطلبها، خاصة في ظل انعدام الإمكانيات، وفي ظل الاكتظاظ، ومع هذا وذاك، يبقى الرهان: هو أن يستمتع المدرس والطلبة، على حد سواء، بالدرس الفلسفي.

محفوظ أبي يعلا: ما هو تقييمكم للدرس الفلسفي المغربي المعاصر؟

د. أحمد بوعود: لا يمكن فصل الدرس الفلسفي عن المنظومة التعليمية كلها، وعن العلوم الإنسانية خاصة؛ فالجميع يعرف مدى الأزمة التي يعاني منها التعليم، ولكن رغم هذا، لا ننكر أن هناك جذوة خير في التعليم ككل، وفي الفلسفة، خاصة، تتمثل في نخبة من الأساتذة، الذين يواصلون حمل المشعل رغم الرياح العاتية، وفي نخبة من الطلبة، الذين يجتهدون رغم ضعف الإمكانيات، ويبذلون جهودًا فردية خلاقة، تظهر من خلال ما يكتبونه من مقالات وأبحاث، لكن نتمنى المزيد؛ فالقناعة من الله حرمان.

وفيما يخص المقررات التي تشغل مستويات الإجازة، يلاحظ عليها أنها تقتصر على حقب معينة؛ فلا يكاد الطالب يخرج بتصور عن القضايا الفلسفية، إلا عند حدود الفلسفة الحديثة، وتبقى الفلسفة المعاصرة مغيبة عن التكوين، إلا أن بذل الطالب مجهودًا فرديًّا، ونلمس هذا في البحوث التي يتقدم بها الطلبة لنيل الإجازة؛ فأكثر البحوث تتناول قضايا الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة، وقليلون من يتجاوزون ذلك إلى الفلسفة المعاصرة.

محفوظ أبي يعلا: جمعتم بين التكوين الأصولي والتكوين الفلسفي؛ إذ إنكم من خريجي كلية أصول الدّين بتطوان، ثم إنكم حصلتم على دكتوراه في الدّراسات الإسلامية من جامعة عبد المالك السعدي، رغم أن توجهكم في المرحلة الثانوية كان توجها علميًّا؟ لماذا اخترتم دراسة أصول الدين؟

د. أحمد بوعود: نعم، كانت هناك عدة اعتبارات جعلتني أرحل من العلوم إلى الأصول، وعلى رأسها الرغبة في المعرفة والاكتشاف، رغم المعارضة الشديدة التي تلقيتها آنذاك من أساتذتي الذين درّسوني في الثانوي، لكني رسمت، آنذاك، أهدافًا، يبدو لي، الآن، أنني حققت بعضًا منها.

في كلية أصول الدين، كان التركيز على العقائد، وعلم الكلام (هو أصول الدين)، والفلسفة الإسلامية، والفكر الإسلامي، والتصوف، والأديان، وغير ذلك من الموضوعات ذات البعد الفكري، وإليها كنت أميل أكثر، إلى جانب الفقه وأصوله، والحديث، وغير ذلك من التخصصات الشرعية، التي تضفي على تكوين الشخص طابعًا مزدوجًا.

والملاحظ؛ أن هذا التكوين ساعدني كثيرًا، لما اخترت الدراسات الدينية والهيرمينوطيقا في تكوين الدكتوراه بشعبة الفلسفة، وكذلك، عند تناول قضايا فلسفة الدين، كما ساعدني، أيضًا، في تناول قضايا الفكر الإسلامي، سواء في أبحاثي أو مقالاتي، ولعله من المفيد، اليوم، في زمن عبر المنهجية، أن يتزاوج التكوين الفلسفي مع التكوين الشرعي، خدمة لهما معًا.

محفوظ أبي يعلا: كيف يمكن أن يخدم التكوين الشرعي التكوين الفلسفي في نظركم؟

د. أحمد بوعود: في نظري، يمكن للتكوين الشرعي أن يخدم التكوين الفلسفي، من خلال كثير من القضايا، خاصة، وأننا في زمن العودة إلى الدين، كما يقول كثير من فلاسفة الدين؛ فلا بد، إذن، من ترميم التواصل بين الفلسفة والدين، وهذا لا يمكن أن يتم، إلا إذا كان هناك جمع بين تكوين شرعي وتكوين فلسفي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى؛ فالتكوين الشرعي إذا أضيف إلى التكوين الفلسفي، يجعل مساحة التواصل للفيلسوف أوسع، كما يجعل خطابه أشمل، وأذكر، هنا، توجيها لأستاذي الدكتور عز العرب لحكيم بناني؛ إذ كان يقول لي: يجب أن يجد الناس من مختلف التخصصات بغيتهم في بحثك. (والمقصود هنا؛ التخصصات الشرعية والتخصصات الفلسفية).

محفوظ أبي يعلا: كيف ترون التدريس الديني في المغرب؟ أعني؛ الجامعات، على الخصوص، هل تنفتح شعب الدّراسات الإسلامية أو أصول الدين، في نظركم، على المناهج الإنسانية الحديثة في دراسة الدين؟ أم أن أسلوب التعليم في هذه الجامعات لازال تقليديًّا يعتمد على الحفظ ودراسة الكتب الكلاسيكية؟

د. أحمد بوعود: ما يقال عن الفلسفة، يقال عن الدراسات الإسلامية، ولكن مجال الدراسات الإسلامية، ربما، كان في حاجة إلى تجديد نظر، ومزيد بحث؛ لأنه مرتبط بالدين. ويمكن أن ألخص التجديد المنتظر في:

- تكامل الدراسات الإسلامية مع باقي التخصصات، وكنت قد أشرت إلى هذا في توصيات بحثي في دكتوراه الفلسفة؛ فأي تخصص منغلق على ذاته لا ينتج، ومثل هذا التكامل، من شأنه أن يزيل الكثير من الغموض، حول بعض القضايا الدينية التي يساء فهمها من قبل غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية، كما من شأنه، أيضًا، أن يغني حقل الدراسات الإسلامية، ويكسبها حيوية أكثر.

- التمكن من اللغات الأجنبية: حتى يكون لدينا خريجون قادرون على التواصل مع الآخر، وإظهار الدين في نقائه وصفائه. اليوم، هناك دراسات، استشراقية وغربية، حول القضايا الدينية، ومنها الجيد والرديء، ومن المؤسف، حقًّا، أن تجد طالب الدراسات الإسلامية، أو المتخرج منها، لا علم له بها، وإن علم؛ فعن طريق الوساطة والترجمة.

- تغيير طريقة التدريس: بأن تكون طريقة قائمة على حل الإشكالات، خاصة تلك التي تعم بها البلوى، حتى يستطيع الطالب معرفة طرق التعامل مع الوضعيات المختلفة؛ فالتلقين والحفظ ولّى عهدهما، بالنسبة إلى كل العلوم والتخصصات، ولا يكفي أن نخرّج طالبًا حافظًا للمتون وجامعا للعلوم؛ بل يجب أن يضاف إلى ذلك، مهارة حل الإشكالات العلمية الراهنة، التي يطرحها هذا الواقع المعقد المتشابك، وكنت ختمت أكثر من مرة بعض مكتوباتي ومشاركاتي في الندوات، بأن ننتقل بتدريس القضايا الدينية؛ من منهج الحفظ والتلقين، إلى منهج الإشكالات، والمناقشة، وتعويد الطالب على حلها، وأعتقد أن هذا الأمر، ليس بغريب عن تراثنا؛ فهناك نماذج كثيرة في هذا الباب.

محفوظ أبي يعلا: هل يمكن أن تذكروا لنا بعض هذه النماذج؟

د. أحمد بوعود: هناك أمثلة كثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، تفيد أنه كان يلجأ إلى أسلوب طرح السؤال على صحابته، لتعليمهم قضية ما، وذلك لجذب انتباههم، وتركيزهم مع الجواب، أو تصحيح ما لديهم من أغاليط، ويحضرني، هنا، أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم. ثلاثاً..."، وحديث: "أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها..."، وحديث: "أتدرون من المفلس؟"، الذي نعرفه جميعًا. إذن، أسلوب الإشكال أو طرح السؤال على المتعلم، ليس بشيء غريب عن ثقافتنا؛ بل التلقين: هو الغريب الذي ورثناه من عصور الجمود.

ومثلًا؛ عندما نقرأ كتاب الموافقات للشاطبي، نجده يحدد لأخذ العلم طريقين: أحدهما المشافهة، ويقصد بالمشافهة هنا الحوار، ويقول عنها إنها أنفع الطريقين وأسلمهما، وذلك؛ لأنها تحفز المتعلم على التفكير أثناء التعلم، وعلى تحريك ملكة السؤال والنقد، كما أنها أرسخ في الذهن، وأبقى في الذاكرة حتى بعد فوات الزمن. والطريق الثاني: المطالعة، والتلقين من المطالعة. لكننا اليوم، لا نجد في الغالب إلا تلقينًا من كتاب، أو تلقينًا من محفوظ، وهذه لا تحفز على سؤال، ولا على نقد، كما أن مضمونها يتلاشى مع تقدم الزمن.

محفوظ أبي يعلا: حصلتم، دكتور أحمد، كذلك، على الدكتوراه في الفلسفة ببحث موضوعه: "الهيرمينوطيقا والنص القرآني"، هل يمكن أن تحدثنا عن أطروحتكم الأساسية في هذا البحث؟

د. أحمد بوعود: إن الإنسان محور الأديان السماوية كلها؛ بل إنه محور جميع المذاهب الفكرية والقوانين الوضعية، وقد اهتممت به غاية الاهتمام، بغية إسعاده وتيسير سبل عيشه، والإنسان، منذ أن ظهر على وجه الأرض، وهو لا هم له سوى أن يكون مرتاحًا، ومطمئن البال، وهو لا يكد ولا يتعب، إلا من أجل هذه الراحة، وتلك السعادة التي تتحدد من خلال علاقته بأفراد مجتمعه، وتواصله مع جميع البشر.

والقرآن الكريم، كله، يخاطب الإنسان، ويتنوع خطابه بتنوعه، وإن معرفة الدلالات التي يحملها هذا الخطاب وذاك الحديث، لا تتم إلا بالتعرض لهذه القضايا، بمختلف التأويلات التي أعطيت لها، من أجل الوصول إلى نموذج إنساني، يقبل الآخر كما هو، ويسعى إلى إسعاده رغم الاختلاف في العقيدة، والمذهب، والفكر، خاصة، ونحن نعيش في عصر طغت فيه الأنانيات، وساد التعصب، وغابت الأخوة الإنسانية.

من هنا؛ كان عملي في هذا البحث ينصب على:

أولًا: اعتماد القضايا المذكورة في القرآن؛ المتعلقة بمطلق الإنسان، بغض النظر عن عقيدته ودينه، وقد وردت هذه القضايا في القرآن المكي، كما وردت في القرآن المدني، وإن كان أغلبها في القرآن المكي، وهذا له دلالاته.

ثانيًا: فحص آراء المفسرين وبحث تأويلاتهم، والنظر في مدى ملاءمتها للواقع، والاجتهاد في تأويلات جديدة قدر الإمكان.

ثالثًا: الانفتاح على مجالات معرفية أخرى؛ (علم الكلام، والفلسفة، والتصوف، ...إلخ)، في دراسة قضايا الإنسان، حتى تكتمل الرؤية والإحاطة بالموضوع من معظم زواياه.

محفوظ أبي يعلا: دكتور أحمد، في نظركم، ما الذي يمكن أن تضيفه الهيرمينوطيقا لفهمنا للنص القرآني؟ وهل الهيرمينوطيقا المعاصرة، تختلف عن التأويل، كما عرفه فلاسفة الإسلام والمفسرون قديمًا؟

د. أحمد بوعود: الكلام عن الهيرمينوطيقا يطول، وقد سبق أن نشرت في هذا الموقع[1]، مقالًا مركزًا في الموضوع، وأكتفي، هنا، بالإشارة إلى أن تصور شلايرماخر، مثلًا، حول ضرورة الفهم في ضوء معناه العام وسياقه الكلي، أو فهم الجزئي في ضوء الكلي، وهو أمر مطلوب ومحمود؛ بل مهم جدًّا، بخصوص فهم نص سماوي، قال به الأصوليون في الفكر العربي الإسلامي، على رأسهم؛ الإمام الشاطبي رحمه الله، كما أن غادمير حين يذهب إلى أن كل تفسير للنص تفسير صحيح، وكل قراءة له تعتبر صحيحة؛ فإن هذا على جانب كبير من الصواب، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يوجد الكثير من الشواهد على ذلك، كما في قوله بعد العودة من غزوة الأحزاب: "‏لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي ‏‏بَنِي قُرَيْظَةَ"؛ حيث فهم بعض الصحابة الحديث على حرفيته، فلم يصل العصر إلا في بني قريضة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث، على أنه حث على السرعة؛ فصلى العصر حيثما أدركته، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام الفريقين. لكن القول بإطلاق تعدد المعنى وتطوره وعدم ثباته، وإن كان يخلد خلود النص عند تباعد الزمان واختلاف المكان؛ فإنه قد يهدد الحكم الذي جاء به النص، وقد يصل الأمر عند تقادم الزمان إلى نقيض الحكم والمقصد، وفي واقع الفكر العربي الإسلامي، يوجد الكثير من الشواهد على ذلك.

إن وظيفة الهيرمينوطيقا، تكمن في عبور الفجوة التاريخية، من خلال البحث في معاني السابقين، وتفسيراتهم، وأفهامهم ومدى صلاحيتها اليوم، والبحث عن معان جديدة، تتجاوز أفهام السابقين، وتحقق للنص خلوده من غير المساس بقدسيته، وهذا يقتضي التزود بفنون اللغة، كما ذكر شلايرماخر، وإدراك مقاصد القرآن وأسباب نزوله، وفقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ، وتدخل، هنا، جميع مكونات هذا الواقع، بكل علومه ومخترعاته.

محفوظ أبي يعلا: من كتبكم المنشورة "الظاهرة القرآنية عند محمد أركون؛ تحليل ونقد"، ما الذي دفعكم إلى كتابة هذا الكتاب، أو بالأحرى هذا النقد، لأطروحات محمد أركون؟

د. أحمد بوعود: في القرن التاسع عشر الميلادي، فوجئ المسلمون بالهوة الكبيرة بين واقعهم وتراثهم، وبين واقعهم وواقع الدول الأوربية، التي بلغت شوطًا بعيدًا في التقدم العلمي والصناعي؛ فعادوا إلى مرجعيتهم وتراثهم، ليجددوا التواصل معهما، ويبحثوا عن زاد يعينهم على ردم الهوة التي تفصل بينهما وبين واقعهم، وعلى الالتحاق بالغرب. وهناك من تنكر لمرجعيته وهويته، ليحل محلها مرجعية أخرى وهوية غربية، ولكن الرجوع إلى هذه المرجعية وإعادة قراءتها، اختلفا باختلاف الأدوات؛ فهناك من استعمل الأدوات القديمة مع تعديل خفيف، ومنهم من رأى ضرورة الاستفادة مما وصلت إليه العلوم الإنسانية الحديثة، لا سيما اللغوية، ليطبق ذلك على التراث الإسلامي وعلى القرآن الكريم، وفي هذا الإطار؛ اخترت نموذجًا يعتبر أبرز هؤلاء الداعين إلى تطبيق الإنسانيات والألسنيات المعاصرة في قراءة القرآن الكريم للدراسة، ويتعلق الأمر بالدكتور محمد أركون؛ مؤرخ الفكر الإسلامي، لما تعرفه مؤلفاته من إقبال من قبل النخبة المثقفة، ومنع من قبل بعض الدوائر.

وقد سلكت في البحث منهجًا وصفيًّا، وتحليليًّا، ونقديًّا، دون أن أنسى أن هناك صعوبات، تتمثل في غياب دراسات علمية موضوعية عن فكر محمد أركون، آنذاك، على الأقل باللغة العربية، ثم المتن المترجم المحشو بمختلف مصطلحات فروع العلوم الإنسانية المعاصرة، فضلًا عن ضرورة العودة إلى ما يستخدم أركون من مفاهيم ونظريات، للتعرف عليها في أصولها وبلغتها قدر الإمكان.

إن محمد أركون يعتمد في مشروعه على منهج التفكيك، والذي يهدف إلى تقويض كل ما له علاقة بـ"الميتافيزيقا"، لذا؛ كان أركون يحافظ على مسافة نقدية تجاه القضايا الدينية، ويمارس ما سماه بــ"التقشف والنقاء العقلي والفكري"، وهذا ما دفعه إلى حذف عبارات التعظيم والتنزيه لله ولرسوله.

إن هذا المنهج يرفع كل قدسية عن النص القرآني، ويساويه بالنص البشري، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن بخطة التأنيس، ليسهل بعد ذلك التصرف فيه، وهذا المنهج يتشكل من ثلاث مراحل: خرق الحدود التقليدية (transgresser)، وزحزحتها عن مواقعها (déplacer)، ثم تجاوزها (dépasser).

إن تطبيق المناهج اللغوية التي نتجت، بالأساس، عن التعامل مع نص بشري، لا يستقيم دائمًا، إزاء النص القرآني، لكون هذا الأخير، ليس مجرد قصة أو حكاية شعبية؛ بل كتاب هداية وإيمان، لا ينطبق عليه ما ينطبق على النص البشري، ثم إن هذه المناهج ظهرت في مناخ وظروف لا تتناسب والنص الديني.

محفوظ أبي يعلا: ما هي مشاريعكم المستقبلية دكتور أحمد؟

د. أحمد بوعود: أشتغل هذه الأيام على فلسفة محمد عزيز الحبابي رحمه الله، وأعيد قراءة مكتوباته، للإجابة عن بعض الإشكالات التي سيأتي ذكرها، إن فلسفة الحبابي تشكل مشروعًا نهضويًّا، يهمّ الإنسان بمختلف حيثياته، ويهمّ الإنسانية جمعاء، همه في هذا كله؛ أن تسود الفضائل والأخلاق، وأن يخرج الإنسان من أنانيته التي يكاد يذوب فيها، وأن يُنتشَل الضعيف من براثن القوي، سواء كان هذا القوي فردًا أو جماعة. وهذا ما عبر عنه بشكل صريح أكثر من مرة: هل من منقذ للمجتمعات الحالية من الشرنقة الذاتية التي تأسر الأنا، ومن الشرنقة الجماعية التي تحشر الدول في متاهات بلا مخرج؟ وكيف يستقيم الحديث عن حضارة في ظل تدهور أخلاقي؟ وهل فشلت المذاهب المعاصرة، حقًّا، في الرقي الأخلاقي بالإنسان؟ وكيف ساهمت في التدهور الأخلاقي للإنسان؟ ألا يمكن أن تدلنا المذاهب والفلسفات المعاصرة إلى نسق أخلاقي؟ أم أنها في علاقة صدام مع الأخلاق؟ ما الذي يمكن أن يضيفه الإيمان إلى الأخلاق؟

إن هذه الأسئلة، كانت الهم الذي سكن الحبابي، رحمه الله، وهو يكتب، ويحاضر، ويحاور، ليبحث له عن جواب، ويدعو الآخرين إلى أن يفكروا معه، لإيجاد تلك الحلقة المفقودة.

محفوظ أبي يعلا: شكرًا لكم دكتور أحمد بوعود.

د. أحمد بوعود: أشكركم جزيل الشكر على أسئلتكم الدقيقة، وأتمنى لكم دوام التوفيق والسداد عزيزي محفوظ.

 


[1]ـ مقال "الهيرمينوطيقا وعبور الفجوة التاريخية في فهم النص القرآني"، نشر على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، بتاريخ: 31 أكتوبر 2014م.