التصوّف اليوم: وظائفه وأبعاده وصلته بالإسلام السياسي حوار مع د. محمد التهامي الحراق


فئة :  حوارات

التصوّف اليوم: وظائفه وأبعاده وصلته بالإسلام السياسي حوار مع د. محمد التهامي الحراق

الدكتور محمّد التهامي الحرّاق هو باحث وأكاديمي مغربي، مهتمّ بالدراسات الإسلاميّة، وخاصّة ما اتّصل بالتصوف. له كتابات غزيرة توزّعت بين كتب ومقالات منشورة في قضايا الفكر الإسلامي والتجربة الصوفيّة والسماع ...، نذكر منها: "مقام التجلّي في قصائد الصوفي أبي الحسن الششتري" (1998)، "موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع الصوفي المغربي" (2010)، "لماذا نفرح بالمصطفى (ص)" (2013)، و"جمالية السرد في الرواية العرفانية" (2014)، و"إنِّي ذَاهِبٌ إلى ربِّي، مقاربات في راهن التدين ورهاناته" (2016)، "مُبَاسَطَاتٌ في الفكر والذكر" (2019)، "في الجمالية العرفانية... من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام" (2020). وله كذلك مشاركات إعلامية وفنية في عدة ملتقيات ومهرجانات مغربيّة ودوليّة. وبحكم اختصاص الدكتور محمّد التهامي الحرّاق في مجال الدّراسات الصّوفيّة وخبرته فيها فضلا عن جمعه بين البحث الأكاديمي والممارسة عبر تجربته الطويلة في مجال الموسيقى الصّوفيّة، رمنا النظر معه في خصوصيّة التصوّف وموقعه حاضرا في زمن استشرى فيه العنف باسم الدّين، وتعالت أصوات تنادي بالتجربة الصوفيّة حلاّ بديلا وعلاجا يقي المسلم بل الإنسانيّة شرّ آفات الانغلاق والتشدّد التي اعتبرت من إفرازات بعض تشكيلات الإسلام السياسي المتطرّفة. فقد عدّ التصّوف علامة على الإسلام المنفتح المعتدل الطهري في احتفائه بقيم المحبّة والتسامح والإيثار والجمال.. ولعلّ هذا ما دفع بعض أطراف الإسلام السياسي اليوم إلى سلوك ضرب من مهادنة التصوّف ورجاله تمهيدا لاحتوائهم واستقطابهم بعد أن كانت تصرّح بتكفيرهم وتبديعهم وتنكر عليهم فهمهم للدّين وطقوسهم ولا تتوانى من ثمّ عن محاربتهم. لقد تجلّت في كتابات الدكتور محمّد التهامي الحرّاق رؤية جديدة وطريفة للتجربة الصوفيّة في عمقها الروحي والتربوي الأخلاقي، وفي سعيها إلى الارتقاء بالإنسان الحيّ فينا عبر تطوير وعيه بالجمال الكامن فيه وفي العالم حوله، وهو ما لا يتحقّق إلاّ برؤية نقديّة بنّاءة ذاتية بدءا تمكّن من حسن استثمار الإرث العرفاني والجمالي للتجربة الصوفيّة وتحكم تنزيلها في سياقاتها التاريخيّة تمهيدا لمسايرتها عصرها وقدرتها على تقديم الحلول لأزماته ومشاغل الإنسان فيه. وكان لهذا صدى في حوارنا معه، فله جزيل الشكر على رحابة صدره وجميل تفاعله وعميق إجاباته.

صابر سويسي: الأستاذ الفاضل محمّد التهامي الحرّاق، كثيرا ما يرتبط ذكر التصوف اليوم بما يسمّى بالإسلام الشعبي أو الإسلام الأهلي. هل ترى في ذلك استنقاصا من التصوّف الذي حرص أعلامه الأوائل على جعله حكرا على خاصّة الخاصّة وأسّسوا لضرب من النخبويّة فيه؟ أم هو على خلاف ذلك، يمكن أن يعدّ علامة صحّيّة تحسب له وتدلّ على نجاحه في الوصول إلى عموم المسلمين؟

محمّد التهامي الحرّاق: بداية، أرى لزاما توضيح العلاقة بين ما سميتموه "الإسلام الشعبي" أو "الإسلام الأهلي"، وبين "التصوف"؛ لأن هذا الأخير مراحل ومسارات وتجارب ومدارس هي من التعدد والتنوع والغنى والاختلافِ، حيثُ يصبح من باب الإجحاف واللاعلميةِ إطلاقُ حكم عام وشامل وإجمالي يخص علاقة "التصوف" بـ"الإسلام الشعبي" أو "الإسلام الأهلي". لكن غالبا ما تنصرف الإشارة، عند الحديث عن "التصوف الشعبي"، إلى العمل الروحي للطرق الصوفية التي تبلورت أساسا، انطلاقا من القرنين السادس والسابع للهجرة، والتي تُشكِّل مرحلة ما يمكن تسميته بـ "مأسسة التصوف"، حيثُ انتظمَ السلوك الصوفي في تنظيمات روحية ذات أبعاد اجتماعية وتعليمية واقتصادية وسياسية وجهادية، احتضنتها "الزوايا" و"التكايا" و"الخانقاوات"، وشكلت لحظةً متوترة لتمَاسِّ الروحاني بالتاريخي، والعرفاني بالاجتماعي. وفي هذا السياق، وطلبا لتوسيع دائرة المريدين والفقراء المنتمين لشتى الطرق الصوفية، وإسهاما في تأطير الناس على مختلف المستويات، انطلاقا من الأساس الروحي التزكوي الذي يشكل بؤرةَ التصوف، تمَّ إنتاج خطابٍ صوفي يمزج بين الوعظ والحكايةِ والكرامةِ والحِكمة، ويتوسَّل بمعجم قريبٍ من العامة ووجدانِهم، مثلما تَمّ التوسل بأعمال إحسانية وأدوار اجتماعية وإصلاحية وتعليمية وجهادية ونفسية، فضلا عن توظيف حلقات الذكر والإنشاد وموسيقى السماع الصوفي الزاوياتي؛ كل ذلك من أجل تأطير "الحشود" وتغذية الانتماءِ الروحي والديني فيهم. بهذه الملامح، راح الخطاب الصوفي يبلورُ وعيا صوفيا جماعيا بين مختلف الفئات الشعبية؛ وذلك حين راحَ يغتني بما من شأنهِ أن يغذِّي متخيَّلَ هذه الفئات، من خلال نصوص الكرامة وتصانيف تراجم الصلحاء ومناقبِ الأولياء وحكايا الصالحين، حيث انتعشت في نسيجهِ مفاهيمُ "الجذب" و"الحال" و"الولاية" و"الصلاح"... حتى تشكَّلَ معجمٌ ذو مدلولٍ صوفي شعبي لم يُفْرَد بعدُ بالدراسة؛ معجمٌ ينهل من مدونة "الأذكار والأحزاب الصوفية" و"المناجيات" و"كلام القوم" و"حِكَمهم" و"إشاراتِهم"، لكن بلغة عامية تخاطِب الروحاني في الوجدان العام بلغة روحية إبداعية صارت عنوانَ الصَّلاح والوَلاية بين عامة الناس. وقد غذَّت هذا الأفقَ اللقاءاتُ والاجتماعاتُ الاحتفالية بين أرباب الطرقِ في المواسم، مثلما غذَّاها تسامُق قبابِ الصالحين وما أضيفَ لهم من خواص روحية واستشفائية وعوالم يمتزج فيها الغيبُ بالأسطورة، تلبيةً لاحتياجات اللاوعي الجمعي في شروطٍ تاريخية واجتماعية متفاوتةِ القساوة الطبيعية والاقتصادية والسياسية.

لذا، وبالنظر إلى هذه الوظائف المتعدِّدَة للتصوف في بعده الشعبي، لا يمكن إلا أن نُقِرَّ، من جهة، بأهمية الأدوار التاريخية التي اضطلع بها المنحى الصوفي في التأطيرِ التعليمي والاجتماعي والسياسي، والاستجابةِ للاحتياجات النفسية والروحية والأنطولوجية ضمن سياقات تاريخية كانت تستوجبُ تدخُّل الصوفي في الفعل الاجتماعي والسياسي. لكن هذه الوظائف، وبحُكْمِ التعدد الذي أشرتُ إليه آنفا، كانت لها، من جهة ثانية، آثارٌ في تحريفِ القيم الدينية والروحية، مثلمَا حصل في بعض التجارب من تحويل التوكُّل إلى تواكُل؛ وتحويل الروحانية المحتفية بالمعاني الذوقية الجوانيةِ إلى خرافية تحتفي بالدجل والسحر والشعوذة، وتحويل السَّماع بما هو موسيقى تربوية تزكوية ذات أفق روحي إلى طقوس فولكلورية فارغة من المعنى؛ إن لم تكن ممزوجة بأبعاد أسطورية وسحرية لا صلةَ لها بروحانيات التصوف عند الصلحاء المؤسِّسين لتلك الطرق الصوفية التي تحمل طقوسُها أسماءَهم؛ أشير هنا تمثيلا إلى ما حصل في مسار بعض الطوائف الصوفية مثل "العيساوية" و"الحمدوشية" وغيرهما.

وهنا، ينبغي أن أشير إلى أنه ليس ثمة، بالضرورة، فَرْق حدِّيّ بين "تصوف الخاصة" و"تصوف العامة" الموسوم بـ"التصوف الشعبي"؛ إذ نجدُ كثيرًا من الصوفية الذين جمعوا بين الكتابات العرفانية العالية وهي من نَفَسِ الخاصّة، وبين الكتابات الصوفية التربوية الموجَّهة للعامّة. فمنذ مثلا القرن السابع للهجرة، نجد أبا الحسن الششتري (تـ668هـ) يكتبُ نصوصاً نثريةً وشعرية صوفية دقيقَةَ النَّفَس في العشق الإلهي والوحدة الوجودية والمعارف الذوقية العليا، وفي الوقتِ ذاته يكتبُ أزجالا تربوية صوفية تطرب لها العامّة معنى ومبنى. وسيمتدُّ هذا الأمر مع كثير من العارفين، كما الشأن، مثلا مع علي الجمل العمراني (تـ 1193هـ) أو أحمد بن عجيبة (تـ1224هـ) أو محمد الحراق الحسني (تـ1261هـ)، والذين كتبوا نصوصا في غاية العمق العرفاني والخصوصية الذوقية اللدنية، وفي الوقت ذاته صدرت عنهم نصوصٌ أخَر للتداول العام في الزوايا وبين عوام المريدين والفقراء. وهذا ما يفسِّر كيف تتجاور في مجالسِ المذاكرات ومحافلِ السماع الصوفي بهذه الزوايا نصوصٌ فصيحة موزونة في قمة الأفق الذوقي والإشارة العرفانية، ونصوص أخرى تربوية بالزجل الأندلسي أو الملحون (وهي الأشعار المنظومة بالعامية المغربية)، حيث تتجاور في الحلقة الإنشاديةِ الواحدةِ في المغرب، مثلا، نصوصُ الحسين بن منصور الحلاج (تـ309هـ)، وعبد القادر الجيلاني (571هـ)، ويحيى بن حبش السُّهروردي، الشهير بالسهروردي المقتول (تـ586هـ)، وعمر بن الفارض (تـ 632هـ)، ومحيي الدين بن العربي الحاتمي (تـ638هـ)،؛ مع نصوص الزجَّالين مثل أبي الحسن الششتري، وعبد الرحمن المجذوب (976هـ)، وأبي عبيد الله الشرقي (تـ1010هـ)، وعلال الشرايبي (تـ 1200هـ)، وأحمد بن عاشور الرباطي (تـ1250هـ)، وعبد القادر العلمي (تـ1266هـ).. إلخ؛

الخلاصة أن التصوفَ لما انخرط بقوة في جدلية التاريخ والمجتمع خلال المرحلة الطرقية تعيينا، استطاع المزج بين نزوع الخواص إلى تعميق تجاربهم الذوقية ومعارفهم العرفانية، وبين الاستجابة لاحتياجات ومتطلبات التحشيد والتأطير والفعل في المجتمع. وبقدر ما كان ذلك إيجابيا ومفيدا لحركة هذا المجتمع، كان لذلك أيضا آثارٌ على تحريف كثير من قيم التصوف، وهو ما لم يكن منه بُدٌّ بسبب التورط في رهانات الصراع التاريخي الذي اقتضاهُ التَّمَاسُّ مع مفارقات الاجتماع والسياسة.

صابر سويسي: كيف يمكن أن نفهم التجربة الصوفيّة اليوم؟ هل نفهمها في مختلف وظائفها الذاتيّة والاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة...؟ أم مازالت بعد تفهم في علاقة بأدوارها التربويّة الأخلاقيّة والروحيّة والجماليّة؟ بمعنى هل تكتمل هذه الوظائف وتتساوى أم ترجح دوما كفّة البعد التربوي والروحاني؟

محمّد التهامي الحرّاق: ربما كان جليّا اليوم أنّ التجربة الصوفية قد فقدَت جَمًّا من وظائفها الاجتماعية والسياسية والتعليمية والاقتصادية؛ ذلك أنّ مسار تحديث مجتمعاتنا قد قوَّى من مركزية الدولة، والتي كانت تنتعشُ عند ضعفها تلك الوظائفُ في التاريخ؛ بل إن عددًا من الوظائف الإحسانية والتأطيرية والاجتماعية التي كانت سندًا للتصوف في مرحلته الطرقية، بدأ يضطلعُ بها المجتمع المدني ومؤسساتُه الجمعوية والتأطيرية. ولذا، يكاد يقتصر دور التجربة الصوفية الفردية والزاوياتية الجماعية اليوم على الأدوار الأخلاقية والروحية والجمالية. وها هنا أيضا، تجدُ مؤسسات الزوايا نفسَها في مآزق شتى؛ منها أنّ آلياتِ اشتغال المجتمع الحديث تغيَّرت جذريا عمّا كانت عليه في المجتمع التقليدي، والذي كانت تضطلعُ فيه مؤسساتُ الزوايا بوظائفها الآنفة. فالسؤال المطروح اليوم على التجارب الصوفية المنتظمة في مؤسسات الزوايا هو ما يلي: أي تخليقٍ لأي مجتمع؟ بل أي خطاب صوفي كفيل اليوم بتجديد وظائف التجربة الصوفية في السياق الراهن؟

لنسجّل أن جُلَّ التجارب الصوفية الروحية الفردية والمؤسساتية في التاريخ نجحت بفضل حُسنِ قراءتها لسياقاتها التاريخية والدينية والاجتماعية؛ بل حتى تلك التي اصطدمت بالمجتمع كانت تحمل في ذاتها قوةً نقدية وطاقة استثنائية لتحدِّي الحس العام في فهم الدين والوجود والإنسان. فيما نرى اليوم أنّنا إزاء صراعٍ شرس بين تجارب روحية تُحاول أن تستديم القوة على إنتاج المعنى الروحي وتغذية الظمأ الأنطولوجي الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، وبين طوفان لا يُقاوَم لمجتمع فرجوي يُسلِّع كلَّ شيء، ويزُجُّ بالإنسان في مسارات حياتية مادية محض، يحكُمُه فيها جنونُ التطور التكنولوجي التقني، وتضخُّم النَّهم الرأسمالي والاستهلاكي المتوحش واللامحدود، مع انفتاح غيرِ منضبط بين اللغات والثقافات والأديان، وتخليطٍ للهويات ودوائرِ الفهم، وصناعةِ الأحلام وتقديس الأوهام، مما يجعل الناسَ في مواجهة مأساوية إزاء "عدمية" تخيِّمُ أشباحُها على كل المصادر التقليدية لتغذية الإنسانِ بالمعنى.

وحتى، حينما تحقَّقَ بعضُ الوعي بقدرة التجارب الصوفية، في أعلى ذُرَاها الإسلامية، على الإسهام في التخفيف من غلواء "أزمة المعنى" التي تستبدُّ بالسياقين الغربي والإسلامي؛ الأول، بحُكْم ما أفضى إليه النزوعُ الحداثوي المتطرف من تأليه للعقل وانفصالٍ قاسٍ عن التعالي، والثاني بحُكْم ما أفضى إليه الفشلُ في ولوج الحداثة من انفجار تشددي مرعب للمكبوتِ الديني؛ قلتُ حتى حين تحقَّقَ بعضُ هذا الوعي، فقد تَمَّ في الغالبِ التعاملُ بسطحيةٍ وشعاراتيةٍ مع نصوصٍ عرفانية كبرى أخمدَ وَقْدَتَها الفلسفيةَ والروحانية، مثلما تمَّ التعامل بفولكلوريةٍ معَ البعد الحضارِي والجمالي في الموروث الصوفي، في اللباس والمعمَارِ وَالإنشادِ والموسيقَى والطقوسِ الجمالية المحايِثَة، مع تناسٍ مُكلِّفٍ لحقيقةٍ نفيسة؛ مؤدَّاها أنّ هذه المكوناتِ لا تأخذُ أبعادَها وتضطلع بوظائفِها الروحية والجمالية المطلوبة إلا ضمن نسقٍ معرفي عرفاني وتربوي روحاني لم يتمَّ تجديدُه بَعدُ بما يلائم أسئلةَ العصر ورهاناته. وهذا ما جعلنا اليوم إزاءَ نوعٍ من "دَنْيَوَةِ" الموروثِ الصُّوفِي في السياق الراهن، بدل أن يكون هذا الموروثُ مَمْتَحًا ومُستَلْهَمًا لـ"رَوْحَنَة" المجتمع الحديث، والإسهامِ في إنقاذهِ من انسداداته المعنوية وإفلاسِه الرمزي.

إذن، بدون عمل نقدي ذاتيّ للتجاربِ الصوفية اليوم، وبدون تأهيلِ الزوايا ومؤسسات الصَّلاح، بما يمَكِّنها من قراءة سليمةٍ لرهانات السياق التاريخي المعاصر في مختَلِف الأبعاد، وفي صدارتها الرهاناتُ الدينية والروحية؛ وتأهيلِ هذه المؤسسات لحسن استثمار إرثها العرفاني والروحاني والجمالي، من أجلِ صياغة خطاب صوفي قادر على أن ينافس مختلف الخطابات المتدافعة اليوم، وقادر على أن يلبِّي احتياجات الإنسان المعاصر للمعنى، في لحظة تاريخية تشكِّلُ فيها أسئلة المعنى والتعدد الديني والحرية الاعتقادية وتدبير الاختلاف والتعامل مع الطبيعة والبيئة والمصير الروحي للإنسان في عالم ما بعد التقنية وغيرها قضايا مُحْرِقة؛ إذا لم يُنجَزْ هذا العملُ النقدي الذاتِي، فإنّ الخطاب الصوفي سوفَ يظل، بأبعادهِ المختلفةِ، مجردَ مُسَكِّنٍ غيرِ فعال، قابلٍ للاستعمال الإيديولوجي في هذا الاتجاه أو ذاك، دون الاضطلاع بالوظيفة التربوية والروحانية التي يُمكن أن يسهم بها في إنقاذ إنسانية الإنسان المُهدَّدَة اليوم أكثر من أي وقت مضى.

أختم هنا بالقول: إنّ هذا الرهان الأعظم للخطاب الصوفي هو رهانُ الدينِ ذاته، ولما كان التصوف هو البعد الروحاني الجواني الأخلاقي للدين، كان الرهانان وجهين لعملة واحدة.

صابر سويسي: صنّف التصوّف قديما في باب المعارضة، وعُدّ صاحب مشروع مخالف للنظام السائد خاصة من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، ونذكر في ذلك الأزمة التي نشأت بين أعلامه القدامى، وبين الفقهاء وتبعاتها، وظلّت علاقته مع الحكّام غير مستقرّة. هل حافظ التصوّف اليوم على هذا الخط؛ أي على التمايز والنأي عن السلطة السياسيّة وشكل التديّن الرسمي ورموزه أم تغيّرت الصورة؟

محمّد التهامي الحرّاق: يحتاج سؤال علاقة التصوف بالسلطة إلى دراسات تاريخية تُغطّي مختلف مراحله ومدارسه، وقد أُنْجز الكثير منها، ومازال الأكثرُ مسطورًا على لائحة الانتظار. أسجل هذه الملاحظة كيما ننأى بحديثنا عن كل حُكْمٍ تعميميّ يخصّ هذه العلاقة، أكانت محاباة أم مسانَدة أم معارَضة أم اعتزالا أم صراعا؛ لأن هذا الموضوع عرف أحكامًا كادت شهرتُها أن تحوِّلها إلى مسَلَّمَات، في حين نحتاج إلى إبراز كثير من الوثائق المخطوطة في الخزائن العامة والخاصة وتظهيرها وتحقيقها، ثم دراسة كثير من المراحل والأعلام والنصوص واستبيان كثير من المصادر والمواقف من وجهات نظر مختلفة، وباستعمال أدوات منهاجية أكثر إضاءة لكي ننتهي إلى نتائج معرفية معقولة لا إلى أحكام نهائية كما هو الحال اليوم مع جمٍّ منها، والتي نجد أغلبها ذا نفحةٍ إيديولوجية إما سلفية أصولانية أو تاريخوية وضعانية أو غيرهما.

وبناءً عليه، يصعب أن نجزم أنّ "التصوف صاحبُ مشروع مخالف للنظام"، ففي مراحل أولية من تاريخه، ظل التصوف انشغالا تعبديا وروحانيا يحاول إعادة الاعتبار إلى الوجه الروحاني والجواني والإحساني للدين في سياق كلامي وسياسي تميَّزَ بصراع ملتهب. ولذا عمل القومُ على تبيان "عقيدة" أهل النسبة العرفانية، وبيان العلامات المخصوصة لـ "مذهبهم" الصوفي (لنتذكر مثلا عنوان كتاب أبي بكر الكلاباذي (تـ 380هـ)، "التعرف إلى مذهب أهل التصوف")، كما أن عنايتهم بالمستوى الأخلاقي والروحاني والإحساني في الدين خلال هذه الفترة، اقتضته منهم التحولاتُ الاجتماعية والسياسية والتاريخية الذي عرفها المجتمع الإسلامي خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، لكن ذلك لمْ يتحول لديهم إلى مشروعٍ سياسيّ صريح، يُخالف النظام القائم ويقدِّم نفسهُ بديلا عنه.

نعم، قد نقرأ بروزَ التصوف في هذه الفترةِ، من زاوية معينة، كردِّ فعل على تطور حياة البذخ لدى الفئات المستفيدة من توسُّع الإمبراطورية الإسلامية، وانتعاشِ ثقافة الرخاء والتنافس على امتلاك الإقطاع والغلمان والجواري، وظهور طبقة من عِلْية القوم من أمراء وتجار وولاة، أخذتها زينةُ الدنيا وبهجتُها، وهو ما يجعل من بروز هذا الاتجاه الزهدي ثم الصوفي نوعا من الاحتجاج الاجتماعي الذي ينتقدُ هذه الفئات من منظور ديني روحي معياري، وهو الأمر الذي وضعَ الصوفيةَ في مواجهة فقهاء البلاط الذين شكَّلوا الذراع الإيديولوجي للطبقة المستفيدة من التحولات السياسية والاجتماعية المذكورة. على أن هؤلاء الفقهاء اصطدموا مع الصوفية في كل المراحل التي اختلفت فيها الخطابات باختلاف المواقع والمنافع والرهانات، وهو ما جعل بالفعل علاقة الصوفية مع الحُكَّام غير مستقرّة. ومرجع ذلك في نظرنا إلى أمرين رئيسين يميزان المنحى الصوفي بإجمال:

الأول هو اهتمام هذا المنحى بالبعد الأخلاقي والتربوي المثالي في الدين، بل ومحاولة تعميق الأفق الروحاني العرفاني فيهِ بنوع من الحريةِ في البحثِ واستغراقِ التجربة الذوقية والدفعِ بها إلى الأقاصي، وهو ما يشكِّل اختلافا استراتيجيا مع الخطابِ الفقهي الأكثر احتكاكا مع السياسة والتاريخ والمجتمَع، والميَّال إلى التقعيد والتقنينِ وضبط الحدود؛ إذ ظل هذا الخطاب دومًا سندا إيديولوجيا للسلطة ومصدرا لشرعيتها وتبرير سيادتها وأداةً لإخضاعِ الناسِ لحكمِها؛

أما الأمر الثاني، فهو توسُّع التصوف في مرحلته المؤسساتية بين الفئات المختلفة، وتكاثرُ أتباعه ومريديه وفقرائِه في الطرق الصوفية المتعددة، مما منحَ التصوفِ قدرة تأطيرية للمجتمع تبدَّت في الأدوار التعليمية والاجتماعية والجهادية والنفسية وغيرها مما أشرنا إليه آنفا، والذي اضطلعت به الزوايا، ومن ثَم تنازعَ التصوفُ هذه الأدوارَ مع السلطة السياسية، بحسب قوتها وضعفها، الأمر الذي جعل علاقته بهذه السلطة غيرَ مستقرة.

ولعل في هذين الأمرين ما يفسِّر سبب اصطدام زمرةٍ من العارفين مع السلطةِ السياسية، إما لاختلاف خطابِهم عن الخطاب الفقهي المسانِد للسلطَة؛ ونستحضرُ هنا المصير المأساوي لكل من الحلاج والسهروردي المقتول وعين القضاة الهمذاني (تـ525هـ)؛ وإما لارتياب السلطةِ الزمنيةِ في حقيقةِ امتدادهم الروحي وتوجُّسها من "عقيدتهم" وكثرة أتباعهم؛ ونمثل لذلك باستدعاء وإشخاص السلطان علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي لبعض أعلام مدرسة "ألمرية" إلى مراكش لاستبيان نواياهم؛ مثل أبي الحكم بن برجان (تـ536هـ)، وأبي العباس بن العريف (تـ 536هـ)، وكذا استدعائه في الوقت نفسه أيضا للصوفي أبي بكر الميورقي الذي ضُرِبَ بالسوطِ قبلَ أن يُطلَقَ سراحُه. وقد ظلَّ هذا الارتيابُ العقَدي والسياسي في الصوفية، مُستمِرا إلى العهود الحديثة، كما حصل مع الصوفي أحمد بن عجيبة في تطوان شمال المغرب، والذي امتُحِنَ في دعوتهِ الصوفية الإصلاحية وسُجِن لأجل ذلك.

نعم، ظهر بعض الطموح السياسي لدى بعض الصوفية وسعوا إلى إلباسِ "ثورتهم" لبوسا صوفيا، كما هو الشأن بالأندلس مع ابن مسرة الجبلي (تـ319هـ)، وخصوصا مع أبي القاسم ابن قسي (توفي 546 هـ)، صاحب كتاب "خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين"، وقائد الحركة الشهيرةِ بـ "ثورة المريدين". لكن، وفي لحظات أخرى، لجأت السلطةُ الزمنيةُ إلى استثمارِ الامتداد الشعبي لبعض أعلام التصوف لتغذية شرعيتها وتوسيع نفوذها، مثلما تعكسُ ذلك، مثلا، "ظهائر التوقير" التي كان يوزعها سلاطين المغرب على كثير من أعلام التصوف وشيوخ الزوايا. على أنّ هذا النزوع إلى استغلال الامتداد الشعبي للتصوف الطرقي، هو ما ستظهر آثارُه بشكل بارز في الفترة الاستعمارية، حيث سيتم استقطابُ بعضِ الزوايا من لدن المستعمِر، في حين سيضطلع أغلبُها بأدوار تعبوية وجهادية رائدة في مقاومة الاستعمار باسم "الجهاد الأصغر" الذي ظلت الزوايا تدعو إليه وتؤطرهُ حين تضطرها الظروفُ التاريخية إليه.

خلاصة هذه الملحوظات أن العلاقة بين التصوف والسلطة ظلت متحرِّكَة وغير مستقرة وخاضعة للاعتبارات التاريخية المتغيرة، لكن الثابت في الخطاب الصوفي أنه ظل يحافظ على دوره في تغذيةِ البعد الروحي والأخلاقي وتعميقه في الدين، وهو ما جعلَه يدخل، أحيانا كثيرة خلال المرحلة ما قبل الطرقية، في مواجهة مع الخطاب الفقهي الذي كان يستفيد من مجاورتهِ للسلطة الزمنية ويتنعم بسطوتها وعطاءاتها. وكم كان يُحرِج الصوفيةُ الفقهاءَ أمام السلطة السياسية أو أمام المجتمع، حينَ يرفعُون في وجوههم النقدَ باسمِ معياريةِ التدين الأخلاقي ونموذجية السلوك الروحي، وههنا كان يُشهر الفقيه "سلاحا فتاكا"، فيطعنُ في عقيدةِ الصوفي ويرميهِ بالتبديع والتفسيق والتكفير. هذه المواجهةُ عينُها كانت تشتعلُ أيضا حين كان الصوفي يتمكن من توسيع دائرة نفوذه الروحي، ثم الاجتماعي في لحظة معينة، فترتابُ فيه السلطة السياسية، إذ ذاكَ يتصدى لهُ فقيهُ السلطان، فإما أن يعطي حينئذٍ ولاءه للسلطة الزمنية، ويصبح هو وأتباعُه طوع أمرها وسياستها، وإما أن يتصدى الفقيهُ لمحاربته باسم الخروج عن الطاعة أو باسم الابتداع، ومن ثمَّ يسوغُ للسلطانِ استعمال العنفِ المشروعِ حيالهُ باعتباره خارجا عن الملة وعن شرعية الجماعة.

أما في المرحلة الطرقية، فقد تأرجحت علاقة التصوف الزاوياتي مع السلطة بحسب ضعف هذه الأخيرة أو قوتها، وبحسب رهانات الطرق الصوفية التي كانت تتغير بتغير الظروف والإكراهات التاريخية كما بيَّنا آنفاً. معنى هذا أنّ التصوف وخلال المرحلتين، وعلى ما في علاقتهِ بالرهانات التاريخية والسياسية من مدٍّ وجزرٍ، لم يكن من ثوابتهِ صياغةُ مشروع مخالف للنظام، بلْ كان الثابتُ فيهِ هو اشتغالهُ أساساً على الوظيفة الروحية والأخلاقية، وهذا الأفقُ يستعصي في جوهرهِ على التوظيف الإيديولوجي، وهو ما كانَ مصدرَ مشاكلهِ مع الفقهاء والسلطة الزمنية على السواء.

على أنّ هذه المعطيات، ومثلما تنفي عن التصوفِ عن أن يكون دوما مع أو ضد النظام السياسي السائد، فإنّها تنفي عنه كذلك تلك الأحكام العامة التي تتهم أهلَهُ بالانغماسِ في الغيبيات ومفارقة التاريخ والانعزال عن المجتمع وقضاياه. إنها علاقة مركبةٌ مع التاريخ والمجتمع، مثلما هي غير مستقرة مع الحُكّام، تُمليها اجتهادات الصوفية واختلافُ تجاربهمْ في تثمير وظيفتهم الأخلاقية والروحية في التاريخ، حسب السياقات الاجتماعيةِ والشروط الزمنية المتغايرة.

ولا تشذُّ علاقة الصوفية اليوم بالسلطة السياسية عن هذه المحددات، فهي ليست أحادية الاتجاه والنمط في سائر المجتمعات الإسلامية، وإن كانت تنحو اليوم منحى يجعلها أقرب إلى التوجُّهات الرسمية لعددٍ من "الدول الإسلامية"، لكون هذه الأخيرة تجد في التصوف، خطابا وذاكرة وذخيرة وقيَما، ما يمكن أن يقوم بديلا ومنافسا للخطاب الديني التشددي الذي تنتجه السلفيات بتفاوت في المستويات؛ ولاسيما خطاب الإسلام السياسي الذي يرفع شعارات مثل "الإسلام دين ودولة"، فيما يكاد الصوفية يؤكدون اليوم أنّ الإسلام لله والدولة لسائر المواطنين؛ فضلا عن اعتماد أرباب التصوف على ذاكرة من المعارف والنصوص الروحانية التي تركِّز على البعد الروحاني والأخلاقي والجواني في الدين، والذي يكاد يضيع في حمأة الصراعات والتوترات السياسية التي يورط فيه الإسلام السياسي الدين.

أضف إلى ذلكَ أنّ المرجعية الصوفية، ولا سيما في مستواها العرفاني والفلسفي، تزخرُ ببذورِ أفق إنسي كوني يعيد ترتيبَ علاقة الإنسان بالمطلق، ويزودنا بقيم روحانية تؤسس للقبول بالمختلف في المذهب والعرق، بل والدين نفسه، وهو ما تحتاجُه اليوم اللحظة العالمية التي يريد أن ينأى الحكماءُ فيها بالصراعات عن الصيغ الدينية أو الطائفية أو المذهبية، طلبا لترسيخ القبول بالتعددية الدينية داخل المجتمع الواحد ثمّ داخل العالم. خدمةً لهذا الأفق يتمُّ اليوم استحضار أعلام عرفانيين كبار مثلا الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي أو مولانا جلال الدين الرومي أو غيرهما؛ ذلك أن هذا الاستحضارَ يريدُ أن يجعلَ منهُ البعضُ سندا مرجعيا لـ"علمنة الإسلام" إن صح التعبير؛ وهو العمل الذي يشكل النقيض الموضوعي للإسلام السياسي، شرط أن تُفْهم "العلمنة" بما هي فصل بين مجال الدين ومجال السياسة، لا بما هي استئصال للدين من الحياة ونفي للمطلق من الوجود.

صابر سويسي: يعلن كثير من رموز الإسلام السياسي اليوم اعترافهم بالتصوّف واحتضانهم له ويستحضرون أعلامه وأخبارهم ومقالاتهم ويعدّونها ركيزة لفكرهم، هل من تقاطع بين التصوّف وأدبيّات ما يسمّى بالإسلام السياسي؟

محمّد التهامي الحرّاق: كما هو بين من الجواب الآنف، ثمة اختلاف بنيوي في الأسس العامة للخطاب الصوفي بتعدد مناحيه ومجاليه، وبين خطاب الإسلام السياسي. يهتم الأول بالإصلاح بدءا من العناية بالفرد، باطنا وأخلاقا، بينما ينشغل الثاني بالتدبير المجتمعي والتنظيمي للأفراد؛ يركز الأول على صلة الفرد بالله ليكونَ نافعا لسائرِ الخلق، فيما يركز الثاني على الدينِ لتلحيمِ الأفرادِ داخل هوية عقدية ومذهبية معيَّنة، ينشغل الأول بإنقاذ الفرد من شهوات نفسه بما فيها وفي مقدمتها حبُّ الرياسة، فيما يطلب الثاني السلطة لتنفيذ "شرع الله" وتطبيقه في المجتمع؛ يركز الأول على البعد الروحاني والأخلاقي في الدين من حيث هو البعد الخالد والكوني، فيما يركز الثاني على البعد الفقهي التشريعي، وعلى تقاطعات السلطة والدين في التاريخ الإسلامي؛ بعبارةٍ جامعة، ينشغل الأول بتحرير "السالك" من مُغْرَيَات السلطة، فيما ينشغل الثاني بكيفية الوصول إلى السلطة. هكذا يبدو أن الأول نتاج تاريخ من السعي إلى أخلاق التقوى وأدبيات تزكية النفس، فيما الثاني نتاج تاريخ من الصراع على الحكم، وأدبيات الأحكام السلطانية. طبعا برزتْ بعضُ نزوعات السعي إلى السلطة باسم التصوف في التاريخ كما رأينا آنفا، مثلما عقدت بعض جماعات الإسلام السياسي نوعا من المصالحة مع البعد التربوي والتزكوي في التصوف دون التخلي عن مشروعها السياسي، وجدنا ذلك مع مُؤسّس جماعة "الإخوان المسلمين" الذي استلهم الأسلوب التربوي الصوفي في تأطيرِ جماعته، مثلما نجد الأمرَ ذاتهُ اليوم مثلا مع "جماعة العدل والإحسان" في المغرب، والتي يُعَدُّ مؤسِّسُها الأستاذ عبد السلام ياسين سليلَ مدرسة صوفية هي الطريقة القادرية البوتشيشية شرق المغرب.

لكن الاتجاه العام للخطاب الصوفي تربوي تزكوي روحاني، يتعلق بإصلاح قلب الفرد وتزكية نفسه واستخلاص البعد الجواني الروحاني الإحساني في الدين، ولا يُعْنى عموما بأسئلة الحُكم والدولة وتدبير إشكالات الاجتماع والاقتصاد وتوازنات القوى؛ بل ينأى عن ذلك مما يؤهل أهلَه، في كثير من اللحظات، للتدخل لدى الجهات المتصارعة على الحُكم أو على الموارد الاقتصادية أو في المجالات الاجتماعية..، من أجل رأبِ الصدع وإيجاد الحلول والمخارج من تلك الأزمات. الأمر الذي يعني أنّ نأي الصوفي عن تلك المطامح والمطامح السياسية والسلطوية يمثل عنصرا رئيسا في نجاح تدخلاته، كما كان شأن أدوار شيوخ الزوايا في حل نزاعات القبائل، والتي تشبهُ اليوم ما يسمّى بـ"الدبلوماسية الروحية".

أستحضر هذا المثال لأدلِّل على أنّ اختلاف موقف التصوف عن موقف الإسلام السياسي لا يعني انعزالية الأول وهروبهُ من المجتمع وغرقه في الغيبيات واستقالته من الحياة كما أشرنا آنفا، وإنما هو موقف مبدئي يرتبط بفهمه للدين، وتركيزه على ما يعتبرهُ "جوهريا" فيه، أي على البعد المتعالي والقيمي والأخلاقي، وهو الثابت في الدين على امتداد التاريخ المتغير للتدين.

ولما كان خطاب الإسلام السياسي ينهل من المرجعية الدينية نفسها، وكان الخطاب الصوفي ينافس الإسلام السياسي في هذه المرجعية ويكسر احتكاره لها، بدأ الإسلامُ السياسي يتوجه نحو استراتيجية أخرى، وهي البحث عن تقاطعات وقواسم مشتركة بين الخطابين لرفع هذا التنازع ومحاولة استقطاب التصوفِ "سياسيا" إلى جانب الإسلام السياسي ضد الخطاب العلماني أو الخطاب اللاديني؛ خصوصا لما لاحظ الإسلام السياسي دعم المرجعيات الرسميةِ للخطاب الصوفي للأسباب المشار إلى بعضها آنفا.

صابر سويسي: هل يمكن أن نعدّ اعتراف بعض رموز الإسلام السياسي اليوم بالتصوف مجرّد محاولة لاحتوائه دفاعا عن موقعهم وتأكيدا لسعيهم نحو فرض وصايتهم على فعل التديّن؟

محمّد التهامي الحرّاق: لا يمكن أن يكون الأمرُ إلا كذلك، بدليل موقفهم الانتقائي من التصوف، حيثُ راح الإسلامُ السياسي يقدِّمُ قراءة معينة لتاريخ التصوف، ويجتزئ من ذاكرته ومواقف أعلامه وتعدد مناحيه ومجاليه، ما يُقَرِّبه من خطاب الإسلاميين، فيما يستبعد منه ذلك الأفق العرفاني الروحاني الفلسفي الذي ينسِفُ أسسَ هذا الخطاب الدينية. وبهذا السعي، فإنّ الإسلاميينَ يعيدون إحياء الصراع الفقهي الصوفي بإخراج آخر؛ حيثُ يقبَلون بنوع من "التصوف السلفي"، وقد ينعتونهُ تلطيفا وتخفيفا بـ"التصوف الأخلاقي" أو "السني" ذي الحلّة الفقهية، وهو "تصوف" يريدونهُ مُستنَدا أخلاقيا لخطاب الإسلام السياسي دون أن ينسِفَه، مستبعدِين من التصوف ذاك الأفق الفلسفي والعرفاني، وكذا ذاك الأفق الشعبي في التصوف الطرقي، وهما الأفقان اللذانِ يتناقضانِ مع البعدِ الإيديولوجي السلفي والهوياتِي المنغلِق لمشروعهم السياسي، ويشكلان لهذا السبب عينِه موضوع عنايةِ القراءة "الحداثية" و"العلمانية" للتصوف.

إننا أمامَ نزوع لممارسةِ الوصايةِ على فعل التدينِ، يظهرُ بدءا في النطقِ باسم الدين، لقبولِ "الشرعي" من التصوف ونبذ "البدعي" منه؛ وهو الخطاب الوصائي الفقهي نفسه المسانِد للسلطة السياسية والمُعَضَّد بها في التاريخ الإسلامي كما رأينا، ثم هو اعترافٌ "ماكرٌ" سياسيا يطلبُ سلبَ "الورقة الصوفية" وسحبَها من يدِ الأطرافِ المنافِسةِ أو المناهِضةِ للإسلام السياسي؛ سواء أكان ذاك الطرفُ جهةً رسميةً أم كان جهةً سياسية أم جهةً مدنية. وتكمن هنا أهمية الخطابِ الصوفي، ولا سيما في أفقه الشعبي الطرقي، وفي أفقه الفلسفي والعرفاني، في كونه كما أشرنا يؤسس لتدينٍ نقيضٍ للرؤية الإيديولوجية للإسلام السياسي؛ تدين يركز على الفردِ، وعلى البعد الروحاني والأخلاقي، وينفتحُ على الثقافة الشعبية والجمالية، ويزهدُ في الفعل السياسوي باسم الدين، ويؤسس لإنسية روحانية كونيةٍ تتجاوز الهويات المغلقة والانسدادات التيولوجية المحنطة، وهو ما يفجر جملة من الثنائيات التي تقتات عليها الإيديولوجية الأصولانية بمختلف فروعها العلمية والحركية والجهادية؛ مثل ثنائيات دار السلم / دار الحرب؛ دار الإيمان/ دار الكفر؛ السنة/البدعة، الولاء/البراء؛ الفرقة الناجية/الفرق الضالة.. إلخ. ومعلومٌ أنّ القراءات "الحداثية" (وخصوصا الما بعد حداثية) و"العلمانية" و"التنويرية"، تجدُ في هذا الموروث الصوفي ممتَحاً خصبًا لكسرِ احتكارِ الإسلامِ السياسي، بل وكل فروع الخطاب الأصولاني، الحديث باسم الدين، وممارسة الوصاية على فعل التدين.

بإيجاز، إننا إزاء "صراع تأويلات" بلغة بول ريكور، صراع تحتضنهُ ذاكرةُ الموروث الصوفي، لكنه مفرط في راهنيته التاريخية والدينية والسياسية. وهو ما يجب أن نفطن له في محاولات الإسلام السياسي "مغازلة" نوع من الخطاب الصوفي و"استقطابه" إلى جانبه في مشروعه السياسي.

صابر سويسي: هل يمكن أن يشكّل التصوّف تهديدا للإسلام السياسي؟ فبعض الدارسين يرونه حلا لمقاومة العنف والتطرّف والإرهاب وهي ظواهر كثيرا ما تنسب إلى ما يسمّى اليوم بالإسلام السياسي؟

محمّد التهامي الحرّاق: بالفعلِ يشكل التصوفُ تهديدا للإسلام السياسي بالمعنى الذي بينتهُ آنفا؛ وأهمية التصوف في مقاومة الظواهر المقترنة بتدين الإسلام السياسي ثابتة. وقد سبق لي في كتابي "إني ذاهب إلى ربي.. مقاربات في راهن التدينِ ورهاناته" (دار أبي رقراق، الرباط، 2016)، أن بينتُ أهمية التصوفِ في معالجةِ آفات خمس يعاني منها تديننا اليوم جراء تسيدِ الإسلام السياسي، وهي الآفات التي تشكلُ مهادات العنف والتطرف وغيرهما من الظواهر المشار إليها في السؤال. وقد وصفتُ تلك الآفات بـ"السينات الخمس"؛ وأعني بها آفة "التسييس"، وآفة "التطقيس"، وآفة "التلبيس"، و"آفة التيئيس"، و"آفة التبئيس"؛ ذلك أن الزج بالدين في تفاصيل قضايا سياسية ظرفية ذات رهانات متقلبة تتجاذبها أجندات ومصالح وخلفيات اقتصادية وجيواستراتيجية لا صلةَ مباشرةَ لها بالدين ومقاصده الـمتعالية، واتخاذَ الدين مناطَ صراع بين الناس بدل أن يكون مناطَ توجيهٍ أخلاقي لوجودهم في مختلِف مراتبه، وأداةَ تقريبٍ روحي بينهم من منظور إنساني رحموتي؛ كل ذلك يجعلنا إزاء تدين مفصول عن الأخلاق، وهذا ما سميته بـ"آفة التسييس"؛ على أن من وخيم نتائجِ تسييس الدين تعطيلُ روحانيته وتحنيطُ بعده الروحي الـمتعالي، وهو ما يُحَوِّلُ شعائرَه ومناسكه إلى مجرد طقوس شكلانية بلا معنى، تكفُّ عن أن تُثْمِرَ رشدا أخلاقيا و"استقامة" سلوكية، وهذا ما يجعلنا إزاء تدينٍ بلا روحانية، وهو ما سميته "تطقيسا".

أضف إلى ذلكَ، أنّ سعي الإسلام السياسي إلى احتكارِ النطق باسم السماء والوصاية على الدين، وادعاء امتلاك الحق الـمطلق و"الإسلام الصحيح" في عالم مفتوح، وإزاء أشكال تدينية متنافرة، كل منها يدّعي أنّه الممثل الأسمى للدين الحق (الفرقة الناجية)، مع العجز صياغة فهم عقلاني للدين ضمن الـمعقولية الحديثة المؤسَّسَة على القبول بالتعدد وشرعية الاختلاف وتمجيد حقوق الإنسان والإعلاء من رابطة الـمواطنة على كل الأواصرِ.. إلخ، ووضعٌ كهذا ما يفتأ يخلق ارتباكا ذهنيا ووجدانيا لدى المتديّن، حيث يجد نفسه إزاء تدين منافر للمعقولية الحديثة، أي إزاء تدين بلا عقل، أو قل إزاء تدينٍ يتعارض فيه الإيمان والعقل ويلتبس فيه الحقّ بالباطل، وهو ما أطلقتُ عليه "تلبيسا".

ثم إنّ تغليبَ التسييسِ واللهث وراء السلطةِ وتغييبَ الأخلاق والروحانية والعقلانية من ممارسة الدين، يلقي بنا في أتون تدين عاجز عن بعث الأمل في المتدين، وعاجز عن بناء علاقة هذا الأخيرِ بربه وبذاته وبمحيطه وبالوجود بناءً منشرِحاً بروحِ محبة متجددة، تغذي فيه ظمأ فطريا وأنطولوجيا للمعنى، عجزٌ يُحوِّلُ التدينَ إلى مصدر يأس وعَدَمٍ بدل أن يكون منبعَ أملٍ ومعنى ورواء روحاني، وهذا هو ما نعنيه بآفة "التيئيس"؛ وطبيعي أنّ اليائس الفاقدَ للأملِ والمعنى والروحانية لا يرى في الوجود جمالا، ويعامل بذهنية التحريم كل أشكال الإبداع والفن، بل إن يأسَه هذا يُحِلُّ فيه ثقافةَ الكراهية والعنف والموتِ محلَّ ثقافة المحبة والسلام والحياة، مما يظهر في رؤية عبوسةٍ سوداوية للعالم، تجعلَ التديُّنَ مخاصِما شرسا لـمختلِفِ أشكالِ الجمال، وهو ما قصدناه بآفة "التبئيس"، ومعلوم ما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي رواه البيهقي في "شعب الإيمان": "إنّ الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويُبْغض البؤس والتباؤس".

هكذا، وإزاء هذه الآفاتِ الخمس التي يعاني منها تدين الإسلام السياسي، والتي تشكل المهاداتِ الخلفيةَ لممارسةِ العنفِ والتطرفِ والإٍرهاب، فإنّ التصوف، وبَعد إجراء نقد ذاتي لبعض الممارسات غير الرشيدة التي يسلكها بعضُ المنتسبين إليه وتجديدِ قراءة ميراثه العرفاني، كفيلٌ بالإسهام في ترشيد هذا التدين من خلال "تخليق" فهمِ الدين بإحياء بعده القيمي المتعالي وانتشالِه من أوحال السياسوية، وكذا من خلال "روحنته" عبر العمل على بعث التثمير الروحي لمناسكه وشعائره، وكذا من خلال "أنسنته" التي من شأنها أن تحيي روحَ الدين المشيَّدة على العقل والأمل والمحبة والجمال في خدمة "الإنسان"، باعتباره أسمى قيمة في الوجود، وحاملا للأمانة الإلهية وبوصفهِ خليفةً لله في الأرض ونفخَتَه الروحية الأزلية، وهو ما من شأنه أن يسهم بقوة وفعالية في رفع الآفات الخمس التي يوقعنا في براثنها الإسلام السياسي، ومن ثم يسهمُ في إنقاذنا من دياجير العنف الرمزي والمادي التي تقودنا إليها تلكَ الآفات.

صابر سويسي: هل يمكن توظيف التصوف اليوم بأخلاقيّته وجماليّته للارتقاء بوعي الإنسان المسلم بذاته وقيمه وإنسانيّته وفاعليّته؟

محمّد التهامي الحرّاق: أعتقد أننا إزاء إمكان معرفي وروحاني إنساني وكوني استثنائي في الثقافة الإسلامية؛ فما تزخر به المرجعية العرفانية الإسلامية من إشارات وإشراقات وآفاق، يُسعف بما لا نظير له، في التأسيس لمساهمة فعالة للمسلمين اليوم في صياغة المشترك القيمي الإنساني، وذلك بعيداً عن كل خطاب سياسوي ظرفي أو شعارات إيديولوجية. لكن هذا الأفق، وكما أشرت بشكل عابر آنفا، ليس أمراً جاهزاً أو معطى ناجزاً؛ بل يقتضي "إعادة اكتشاف" ثم "إعادة بناء" فـ"إعادة امتلاك".

أما "إعادة الاكتشاف" فنعني بها تظهيرَ جمٍّ من النصوص والتجاربِ الصوفية وإبرازها، وتجاوز نسيانِ عدد من الإشارات العرفانية النفيسة، كتلكَ التي تؤسس، مثلا، لمفهوم "الإسلام الأنطولوجي" بما هو إسلامُ الفطرةِ، والذي يَستمد العارفونَ معناهُ من إقرار الأرواح في الأزل لبارئها بالربوبية، قال تعالى: )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ( (الأعراف، الآية 172). هذا الإشهاد يجعلنا، في المنظور العرفاني الإسلامي، نرى أنّ كل الأرواح حاملةً لهذا السر الإلهي، وتكتنزُهُ في كينونتها الباطنة، من حيث هي نفخةٌ إلهية، كما يُسْتَفادُ ذلك من الحديث الوارد في "صحيح البخاري"، والذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ"؛ أي كل مولود يولد حاملا لمعنى تسليم روحه بربوبية بارئها في عالم الذر، مُنقاداً للأمر الإلهي بالتكوين ("كن") في أول الخلق؛ وهذا هو المعنى الأعم للإسلام؛ أو قل الإسلام الأزلي أو الأنطولوجي، وهو غير الإسلام بالمعنى العام من حيث هو رسالة توحيدية، توالَى على تشييدِ لبناتِها الانبياءُ رضوان الله عليهم، أو الإسلام بالمعنى الخاص من حيث هو رسالة تشريعية محمدية خاتمة، أو الإسلام بالمعنى الأخص من حيث هو مرتبةٌ تتمفصل مع مرتبتَي الإيمان والإحسان لتشكيل معمارية الدين الخاتم.

ومثل هذا الأفق الرحبِ في فهمِ الدين، يفتحُ لنا إمكاناتٍ تيولوجية غيرَ مفكر فيها تنطلقُ من داخل النسقِ لتؤسس لروحانية كونيةَ يحتاجها المسلمون اليوم بملحاحية قصوى لتجاوز انسداداتهم الإيديولوجية وانغلاقاتهم التيولوجية. ذاكَ ما تفيدنا فيه مثلا إعادةُ اكتشافِ نصوصِ زمرة من العارفين الكبار أمثال الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي ومولانا جلال الدين الرومي والعارف أبي الحسن الششتري وغيرهم.

يقول الششتَري مثلا في بعض تواشيحه، منطلِقا من أفق الإسلامِ الأزلي أو الأنطولوجي الذي أدركهُ العارفُ بذوقِه الخاص، بعدَ أن ترقَّى في منازلِ الإحسان ومراقِي المحبةِ، حتى أضحى يرى محبوبَه متجليا في سائرِ مجالي الأكوان، يُشاهِدُ بعينِ قلبهِ سرَّ نفخته الأزليةِ في سائر الخلقِ مهما كان لونُهم أو معتقَدُهُم أو لغتُهم:

مَحْبُوبي قدْ عمَّ الوجودْ

وقدْ ظهرْ في بيضْ وسودْ

وفي نصارَى مَعْ يهودْ

وفي الحروفِ وفي النّقطْ افهمنِي قَطْ افهمنِي قَطْ.

لاحظْ معي أن هذه التجلّي للمحبوب يتجاوز في مجاليهِ كلَّ التصنيفاتِ والانتماءاتِ والدوائر الهوياتية المغلقة؛ أكانت عِرقية (قد ظهر في بيض وسود)، أو عَقَدِية (وفي نصارى مع يهود) أو لغوية (وفي الحروف وفي النقط).

على أن هذا الأفق الذي نشيرُ إليه، مثلما يحتاجُ إلى "إعادة اكتشاف"، يحتاجُ أيضا إلى "إعادةِ بناء"؛ أي إلى إعادة قراءة وصياغةٍ وبَنْيَنةٍ وفقَ شروطِ المعقولية الخاصة بزماننا المعرفي والتاريخي، حتى يستطيعَ أن يُسهِمَ في التأسيس الروحي لقيم "القبول بالآخر" و"تعدد الحقيقة الدينية" و"حرية الاعتقاد" و"تقديس حرمة الإنسان" وغيرها من قيم حقوق الإنسان.. إلخ، وبذلك يمكن لهذا الأفقِ أن يشكّل سنداً روحانيا مرجعيا لبناء مشتَرَك قيمي كوني، وصياغة نزعة إنسانية كونية جديدة، تواجِه كل الأصولانيات الدينية واللادينية والاستهلاكية التي ترومُ نسفَ إنسانية الإنسان والذهابَ به نحو المجهول.

وهنا، تحتاج هذه الذخيرة المرجعية العرفانية إلى "إعادة امتلاك" في رهانات السياق المعاصر؛ أي تحتاجُ إلى أن تتكلمَ لغتنَا، وتنطقَ باحتياجاتنا، وتتجاوبَ مع ظمأ أرواحنا للمعنى هنا والآن، كيما تُسعفنا في مواجهة الأصولانيات المذكورة، والتي تروم نسف إنسانية الإنسان سواء باسم القداسة والوصايةِ على الدين، أو باسم الحداثة وتوثين العقل وإنكارِ التعالي، أو باسمِ نهم الاستهلاكِ وتأليه الربح. و"إعادة الامتلاك" هذه أمر ضروري من أجل الإفادة من تلك الذخيرةِ في تصحيحِ "جدلية العقل والروح" في السياقين الغربي والإسلامي على السواء، فهذا التصحيحُ هو الكفيلُ بمساعدتنا على مواجهة الانسدادات الأنطولوجية التي تُلقينا في أتونِها الملتهب "أزمةُ المعنى" التي تشكلُ الداءَ المعنوي لعصرنا، والتي أشرنا لبعض علاماتها في إجابة سابقة. على أنّ "إعادة البناء" و"إعادة الامتلاك" هاتين، تمكِّنانِنا من استيعاب كل أبعاد الخطاب الصوفي الفلسفية والروحانية والجمالية من دون الوقوع في مآزق السطحية أو الفولكلورية أو الشعاراتية التي أومأنا إليها سابقا.

بهذه المثابة، يمكنُ تثميرُ التصوفُ ليس للارتقاء بوعيِ الإنسانِ المسلم فقط، بل للإسهام في الارتقاء بالإنسان بإطلاقٍ، انطلاقا من منظور إسلامي إنسي روحاني كوني.