أخلاقيات الحرب وصناعة الحروب: استجواب فلسفي لمشاركة الأفارقة في الحروب العالمية واستبعادهم من النُّصُب والمعالم التذكارية الحربية

فئة :  ترجمات

أخلاقيات الحرب وصناعة الحروب:  استجواب فلسفي لمشاركة الأفارقة في الحروب العالمية واستبعادهم من النُّصُب والمعالم التذكارية الحربية

أخلاقيات الحرب وصناعة الحروب:

استجواب فلسفي لمشاركة الأفارقة في الحروب العالمية واستبعادهم من النُّصُب والمعالم التذكارية الحربية[1]

تشيدوزي ج. تشوكووكولو Chidozie J. Chukwuokolo[2]

ترجمة/ دعاء عبد النبي حامد*

مقدمة المترجمة

تتناول هذه الدراسة إشكالية التهميش التاريخي لمشاركة الجنود الأفارقة في الحربين العالميتين، وتعيد قراءتها من منظور فلسفي وأخلاقي ناقد يرتكز على الميتافيزيقا الإفريقية ومبدأ التكاملية الشاملة. تنطلق المقالة من نقد أخلاقيات الحرب خصوصًا في سياق التسليح النووي وتكشف عن استمرار الإقصاء والتمييز العنصري في تمثيلات الذاكرة العالمية، رغم المساهمات الفاعلة للأفارقة في هزيمة الفاشية الألمانية. وتطرح الدراسة فلسفة "الوَحدة المنسجمة" في الرؤية الإفريقية بديلاً إنسانيًا وأخلاقيًا للنظام الدولي القائم على الردع والتفوق والإقصاء، مؤكدة أن بناء سلام عالمي حقيقي لا يمكن أن يتحقق دون شمول كل الشعوب، واحترام تميزها، والاعتراف المتكافئ بمساهماتها التاريخية. في الحقيقية تأتي أهمية المقال كونها تلقي لظلالها على الأحداث المؤسفة في منطقة الشرق الأوسط في إطار الحرب الإسرائيلية الإيرانية والتبرير غير المبرر من القوي الغربية للحق الإسرائيلي المزعوم، أيضاً تأتي أهمية الدراسة في دعوتها الواضحة للتعامل مع البشرية جمعاء على حد السواء، باعتبار أن كل إنسان هو حلقة في الكون وأن جميع البشر، رغم الاختلاف فهم يكملون بعضهم البعض، تدعو الدراسة من خلال النهج الإفريقي إلى النظر في مصلحة ورفاهية البشرية جمعاء دون التمييز على أساس العرقي، ودون النظر لمصلحة فئة على حساب فئة أخرى لابد من النظر إلى الإنسان بما هو إنسان.

المستخلص

تُعدّ الحروب أحداثًا كارثية تُلحِق أضرارًا فادحة بالبشر والمجتمعات. وإذا نظرنا إلى حالة الحربين العالميتين، اللتين بلغ تأثيرهما نطاقًا عالميًا، وكانت أساليب خوضهما شاملة، فإن هذه الحقيقة تصبح أكثر وضوحًا. فالمخاطر التي قد تُشكّلها حرب عالمية مستقبلية على الإنسانية، في ظل التقدم الهائل في علوم وتكنولوجيا الحرب والأسلحة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تُعدّ خطيرة للغاية. تهدف هذه الورقة إلى توظيف أخلاقيات الحرب وفنونها بوصفها خلفية تحليلية لتقييم أبعاد استبعاد الأفارقة من النُصُب والمعالم التذكارية التي تكرّم الجنود وخدماتهم في الحربين العالميتين، رغم أن مشاركتهم وإسهاماتهم المتنوعة كانت بارزة وعظيمة. تثير المقالة قضية الهوية العرقية في كلتا الحربين من خلال طرح تساؤلات فلسفية: هل يشترك الجنود الأفارقة في هاتين الحربين في إنسانيتهم مع نظرائهم البيض؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، تبرز إشكالية أخرى: لماذا إذن لا تزال خدماتهم تُعامَل بوصفها سلعًا، إلى درجة تبرير تغييبهم عن النُصُب والمعالم التذكارية التي خُصّصت للجنود الذين خدموا وقُتلوا في الحربين؟ الاستنتاج الخطير الذي تخلص إليه هذه التساؤلات هو أن بعض الدوائر السلطة المُهيمنة لا تزال، وإن كان ذلك عن خطأ، تؤمن بأن الأفارقة وبغضّ النظر عن الحقائق التاريخية المرتبطة بالحربين، لا يُنظَر إليهم كمساهمين حقيقيين في الجهود التي بُذلت لإنهاء التهديدات التي كانت تمثلها تلك الحروب للسلام العالمي. ولإعادة النظر في هذا التوجه، توصي الورقة بضرورة إدراج القيم الإفريقية في التكامل والشمول ضمن الجهود المبذولة لتحقيق السلام العالمي الدائم ومنع نشوب الحروب في المستقبل.

مقدمة

وفقاً لتوماس هوبز، فإن "حالة الطبيعة" تتسم بحرب الجميع ضد الجميع، وهي حالة تنافس دائم وعنيف يتمتع فيها كل فرد بحق طبيعي في كل شيء، ويسعى كل فرد إلى تدمير الآخرين في سعيه الدؤوب نحو السلطة. وتكون الحياة في هذه الحالة «بائسة، وهمجية، وقصيرة الأجل». لقد شكّلت الحرب جزءًا جوهريًّا من تاريخ الإنسان إلى درجة أن هناك مقولة تقول "قبل أن يكون هناك سلام، لا بد من نشوب حرب". ويمكن فهم هذا النوع من الحروب الذي تحدّث عنه توماس هوبز بوصفه صراعًا أو تناقضات تُسهم في تطوّر المجتمعات البشرية. وعلى هذا المستوى، كانت النزاعات بين الأفراد والمجتمعات تُحسم باستعراض القوة، مما أدى إلى نشوب حروب استنزافية متعدّدة عبر التاريخ الإنساني. ومع الحرب العالمية الثانية وما رافقها من أحداث، خاصة استخدام الولايات المتحدة القنابل النووية ضد مدينتين يابانيتين، وما خلّفه ذلك من دمار مرعب وخسائر بشرية هائلة وآثار ممتدة بسبب التلوّث الإشعاعي، بدأ القرن العشرون يشهد طموح بعض الدول إلى امتلاك الأسلحة النووية. وقد شكّلت هذه الحالة الشرارة التي أشعلت سباق التسلّح، الذي أصبح سمة مميزة للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الخصم الإيديولوجي آنذاك.

وقد دفعت الحرب الباردة، طوال مدتها، البشرية إلى مرحلة خطيرة من القدرة على تدمير الذات؛ إذ عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة، والاتحاد السوفييتي وحلفاؤه في أوروبا الشرقية من جهة أخرى، على تطوير وتخزين ترسانات ضخمة من الأسلحة التقليدية والنووية وأسلحة الدمار الشامل. ولم يُنهِ انهيار الاتحاد السوفييتي وما ترتّب عليه من انتهاء الحرب الباردة التهديدات التي تمثلها سباقات التسلّح، لا من حيث انتشار الأسلحة النووية، ولا من حيث القدرات التكنولوجية التي باتت تمتلكها دول عدة. ويكفي الإشارة إلى كوريا الشمالية، التي تواصل إنتاج الأسلحة النووية وتجربتها وتخزينها، رغم العقوبات القاسية المفروضة عليها من قِبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة. وعلى الرغم من الإدراك العميق لما تمثّله هذه الأسلحة من دمار شامل في حال اندلاع صراع عسكري مباشر بين أي قوتين نوويتين وحلفائهما، فإن خطر اندلاع حرب عالمية تشمل البشرية بأسرها لا يزال قائمًا، نظرًا لضخامة ما هو مخزّن من الأسلحة، فضلًا عن الإمكانات التقنية المتاحة لتصنيع المزيد منها.

هناك أسئلة وقضايا أخلاقية ضرورية متعلقة بالعرق؛ خلال الاحتفالات التي أُقيمت في فرنسا بمناسبة الذكرى المئوية للحربين العالميتين، أثار بعض المعلقين ملاحظات حول استبعاد الأفارقة من النُصُب والمعالم التذكارية المرتبطة بالحربين، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية تُعيد إلى الواجهة إشكالية الهوية العرقية والإقصاء في سياق هذين الحربين: هل كان الجنود الأفارقة الذين شاركوا في الحربين يشتركون في إنسانيتهم مع نظرائهم البيض؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، تبرز إشكالية أخرى: لماذا لا تزال خدماتهم تُعامَل كما لو كانت سلعة، إلى الحد الذي يُبرّر استبعادهم من النُصُب والمعالم التي خُصّصت لتكريم الجنود الذين خدموا وماتوا في كلتا الحربين؟ والاستخلاص الخطير من هذا الاستبعاد يتمثل في أن بعض الأوساط المؤسسية لا تزال – رغم خطأ هذا الاعتقاد – تنظر إلى الأفارقة بوصفهم غير مساهمين في الجهود التي أفضت إلى هزيمة ألمانيا، ومن ثمّ إلى إرساء أسس السلام العالمي، وذلك على الرغم من الحقائق التاريخية التي تثبت عكس ذلك.

يوجد خطرٌ جوهري في استبعاد أي عِرق، لا سيما الأفارقة الذين شاركوا في الجهود العالمية لتحييد التهديد الذي مثّلته ألمانيا وحلفاؤها للسلام العالمي خلال الحربين العالميتين. فمثل هذا الاستبعاد قد يدفع العرق المُهمّش إلى تبني سياسات وخيارات، من بينها السعي إلى امتلاك أسلحة دمار شامل، في محاولة لإثبات ولو بحد أدنى أن له مكانة وكرامة ينبغي الاعتراف بها ضمن النظام العالمي. ويُعَدّ هذا التوجه انعكاسًا لما يُعرف بالواقعية البنيوية (أو الواقعية الجديدة)، وهي النظرية السائدة في العلاقات الدولية منذ أن قدّمها كينيث والتز Kenneth Waltz عام 1979 في كتابه "نظرية السياسة الدولية". وتُؤكّد هذه النظرية أن الفوضى، إضافة إلى التفاوت في القدرات – كما يتضح من عدد القوى العظمى الموجودة في النظام الدولي – تُشكّلان المبدأ الذي يُحرّك ويُحدّد طبيعة وهيكل العلاقات الدولية. وبخلاف الواقعية الكلاسيكية التي يُمثّلها مفكرون مثل هانز مورغنثاو Hans Morgenthau، ترى الواقعية البنيوية أن سلوك الدول يتحدد بفعل القيود الهيكلية التي يفرضها النظام الدولي نفسه. ونظرًا إلى غياب سلطة مركزية رسمية تُنظّم هذا النظام، فإن الفهم السائد بين الدول هو وجود مساواة شكلية في السيادة بين جميع الوحدات الفاعلة. ومن ثم، فإن كل دولة تتصرّف وفقًا لمصالحها الذاتية، وترفض إخضاع تلك المصالح لمصالح منافسيها أو لأي فاعل دولي آخر.

إن السعي إلى البقاء الذاتي هو القوة الدافعة الوحيدة التي تحكم سلوك جميع الدول في النظام العالمي، وهو ما يدفعها إلى تنمية قدراتها العسكرية الهجومية بهدف التدخل في الشؤون الخارجية، سعيًا منها إلى تعزيز مكانتها ورفع مستوى قوتها النسبية مقارنة ببقية الدول في النظام الدولي. ويُعزى غياب الثقة والمعروف باسم "النخبة الأمنية" بين الدول، إلى عدم اليقين الذي يُحيط بمواقف كل دولة تجاه الأخرى. فكل فاعل دولي ينطلق من مبدأ وجوب الحذر الدائم من فقدان القوة، حتى ولو على نحو نسبي، مع السعي المستمر لتفادي أي تهديد قد يمسّ بوجوده. وعلى الرغم من أن الدول تتشابه في احتياجاتها، فإن هذا التشابه لا يمتد إلى قدراتها على تلبية تلك الاحتياجات، فبعض الدول أكثر قدرة من غيرها على تحقيق أهدافها. وتترتّب على هذه الحقيقة محددات واضحة في إمكانيات التعاون الدولي، حيث إن التعاون غير المشروط قد يؤدي إلى قلب موازين القوة لصالح بعض الدول، مما يُضعف الدول الأخرى ويحوّلها إلى تابعة للفائزين. وكما قال أحدهم دون الكشف عن هويته: "إن رغبات كل دولة وقدراتها النسبية على تعظيم قوتها تقيد بعضها بعضًا، مما يؤدي إلى توازن في القوة والعلاقات الدولية." ومع ذلك، تواجه كل دولة معضلة أمنية نابعة من هذه المنظومة، مما يعني في ظاهر الأمر أن البشرية لا تزال تواجه غيابًا فعليًا للسلام العالمي. وهذا الوضع القائم، الذي يُعبّر عن النظام الدولي الراهن ويشكّل مبدأً موجّهًا للعلاقات الدولية، لا يمكنه بحال من الأحوال أن يضمن سلامًا عالميًا دائمًا.

المبدأ الأفريقي للتكامل والشمول. إذا كانت البشرية غير آمنة على نفسها في نظام دولي ظهر إلى الوجود بعد نهاية حربين عالميتين، حيث تم حشد جميع أعراق العالم لاستعادة السلام العالمي، ومع ذلك يتم التقليل من شأن مشاركة الأفارقة في كلتا الحربين، ويتم التخلص منها إن لم يتم إنكارها تماماً، فلن يكون من الخطأ تقديم طريق يمكن للبشرية من خلاله طلب الحماية ولو من نفسها.

التكاملية وإعادة النظر في أخلاقيات الحرب

من منظور فلسفي، تشير التكاملية إلى الرؤية التي ترى أن المواقف المتعارضة ليست بالضرورة مواقف متناقضة أو متنافرة من حيث وجهة النظر، بل تُفهم ضمن ما يُسمى بـ "الإنسانية الشاملة". وتنبع هذه الرؤية من إدراك أن الإقصاء لا يعني بالضرورة التناقض المطلق غير القابل للتوفيق. ومن ثم، فهي لا تُلغي إمكانية التوليف بين الأضداد التي يمكن أن تتكامل لصالح البشرية جمعاء. وقد عبّر إي. إي. أسوزو I.I. Asouzu عن هذا المعنى بدقة حين قال إن التكاملية: "تنظر إلى جميع الوقائع النسبية بوصفها جوانب من وحدة متعالية للوعي، تسعى للتعبير عن ذاتها بأشكال متعدّدة في التاريخ، وهي تُدرك الحاجة إلى ربط جميع العلاقات بأساس مشترك من المعنى والتبرير، ضمن منظور شامل وكلي. وتكمن لحظة التناقض في عدم قدرة العقل على الإقرار بنسبيته الداخلية، وبالتالي إحجامه عن المساهمة في تأكيد مطلقه".

وقد تبنّى عدد من الفلاسفة الأفارقة هذا التصور في مجال الفلسفة، حيث عرضوا الكون بوصفه كلاً متكاملاً تُدرَك فيه جميع مظاهر الواقع بوصفها حلقات مفقودة في سلسلة الوجود. ووفقًا لما يقرره كريس إيجييوما Chris. O. Ijiomah، فإن التكاملية في النظرة الكونية الإفريقية تُعبّر عن "وَحدة منسجمة". ويُوضح أن العلاقة بين الميتافيزيقا الإفريقية ونظرية المعرفة تستند إلى مبادئ التواصُل والتكاملية أو النمط الحَلقي الهندسي (hypocycloid archetype). وهكذا يُنظر إلى الواقع بوصفه كيانًا موحّدًا مترابطًا، حيث يرتبط كل شيء بكل شيء آخر. وفي هذا السياق، يُؤكّد إيزو أونييوتشا Izu. Onyeocha قائلًا: "هناك شبكة من الاستمرارية بين الأحداث وأسبابها، بين الحيّ وغير الحي، بين الإنسان وتحت الإنسان وفوق الإنسان، بين المادي والروحي، وبين الأحياء والأموات. ولذلك، فإن الإنسان الإفريقي لا يجد حرجًا في نسب هذه الخَلقية إلى الواقع الإلهي."

القناعة المطروحة هنا تتمثل في أن هناك علاقة منسجمة بين العالَم المرئي والعالَم غير المرئي من الواقع، وهي العلاقة التي تؤسّس للنظام الاجتماعي-السياسي، والاقتصادي، والأخلاقي أو السلوكي، والثقافي الذي يعيشه الإنسان وسائر الكائنات التي تقطن هذا العالم. والموقف المعبر عنه هنا هو أن الميتافيزيقا الإفريقية، في جوهرها، لا تقبل فكرة التفرقة، بل لا تتصورها أصلًا بين عالم التجربة الحسية من جهة، والعالم غير المنظور الذي يمنحها المعنى ويفوقها إدراكًا ويُفسّرها من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، يرى تشينوا أتشيبي Chinua Achebe أن الواقع في ميتافيزيقا الإيغبو Igbo يُفهم من منظور تكاملي، حيث يصرّح بأن العالم الذي نعيش فيه له نظيرٌ ومُضاعف في عالم الأرواح. فالإنسان يوجد في هذا العالم، في حين أن "تشيه" (chi) أي الروح الفردية الملازمة تقبع في العالم الآخر. فالإنسان، في نظر ميتافيزيقا الإيغبو، ليس سوى نصف الكائن، بل النصف الأضعف – في حين أن النصف الآخر، وهو الروح "تشيه"، يُكمّله ويشكّل معه الإنسان الكامل. وتُجسّد لغة الإيغبو أيضًا هذه الفلسفة التكاملية، وهو ما يفسّر ملاحظة نووغا D.I. Nwoga بأن "الإيغبو يرون الأشياء في ثنائيات تكاملية". وتشير كل هذه المواقف إلى فهم دينامي متكامل للواقع، حيث لا يمكن في التصور الإفريقي للعالم أن تُفهم الأشياء بوصفها مادية أو روحية فقط، بل بوصفها مزيجًا من كلا العنصرين، بوصفهما وجهين لمرحلة من مراحل الوجود في هذا العالم، الذي يتسم بتكامل متناسق متجذّر في تركيب شامل ومندمج للتناقضات.

وعلى خلاف التصور الغربي، لا تُضحّي النظرة الإفريقية للكَون بأي كائن لصالح آخر، بل تُقدّم كل الكائنات في تسلسل هرمي من حيث الأهمية، يُنتج شبكة من العلاقات التكافلية المتناغمة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بعض المقدمات الفلسفية لفكرة التكاملية في الفكر الغربي، وإن كانت لا تزال تُعبّر عنها في إطار من التناقض. ولهذا السبب، فإن المعرفة المجزأة التي قدّمها هيجل G.W.F Hegel عن الجدل (الديالكتيك) كمحاولة للاقتراب من فكرة التكاملية، توقفت عند مستوى المفاهيم ولم تستطع أن تحلّ الأضداد دون أن تُبقيها في موقع التقابل أو التنافر. وكذلك الأمر في الفيزياء الحديثة، حيث عبّر بور Bohr عن مبدأ التكاملية في ميكانيكا الكم، لكنه استخدم المصطلح بمعناه الضيق؛ أي إن تطبيق المفاهيم الكلاسيكية على ظاهرة معينة يمنع استخدام مفاهيم كلاسيكية أخرى في الوقت نفسه، رغم أنها قد تكون ضرورية في سياق آخر لتفسير الظاهرة ذاتها. وبالتالي، فإن عرض بور لمبدأ التكاملية لا يفي بمعايير النظرية الإفريقية للتكاملية التي تتسم بالشمولية؛ لأنه قدّم أفكاره بصيغة إقصائية لا تفي بالمنظور الجامع الذي تقوم عليه التكاملية الإفريقية.

يكمن الفرق بين النظريتين الإفريقية والغربية في تكاملية الرؤية الإفريقية، وهي الشمولية التي يؤدي غيابها في النموذج الغربي إلى فشل هذا الأخير ضمن السياق التحليلي المعروض هنا. ومن خلال ما سبق عرضه من جوهر مبدأ التكاملية كما يتجلى في التصور الفلسفي الإفريقي للكون، ومكانة الإنسان ودوره فيه، يُصبح من الضروري أن نتخيّل عالمًا تُوجّهه شمولي متكامل العلاقات الإنسانية. غير أن هذا التصوّر سيظلّ بعيد المنال ما لم يُعاد النظر في طبيعة الإنسان على نحو يعكس هذا التوجّه التكاملـي. وعلى الرغم من أن ذلك ليس بالمهمة السهلة، إلا أن قدرة العقل البشري على تجاوز النظام المباشر للواقع من أجل بلوغ أساس موحِّد نهائي للمعنى، تدفعنا إلى القول إن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلًا، بل يمكن القول إنه ضروري في إطار السعي الإنساني لحماية ذاته عبر رسم مسار نحو السلام العالمي. إن المنطق الذي يُعيد صياغة الفهم المثالي للطبيعة البشرية، كما ورد في هذا السياق، يُشير بوضوح إلى ضرورة إعادة النظر في هذه الطبيعة على أساس "الشمول المتبادل" لا "الإقصاء المتبادل"؛ إذ إن هذا الأخير لا يؤدي سوى إلى ترسيخ سلام عالميّ حصريّ ومحدود، لا يخدم إلا فئة دون أخرى.

في الواقع، خُلق الإنسان بجوهر معين، جوهرٍ موجه نحو غاية، يُفترض به أن يوظّف عقله في سبيل تحقيق الخير الشامل. العقل هو هذا الجوهر الثابت الذي به يُصبح الإنسان ما هو قادر على أن يكونه. ومن خلال العقل، يُحقّق الإنسان محفّزاته الموجَّهة نحو الغاية. ومن ثم، فإن أيّ إنسان لا يُفعِّل عقله يُعدّ فاقدًا لجوهره الإنساني. وهكذا، فإن ترقّب الإنسان للواقعين: الدنيوي والأخروي، يجب أن يدور حول أساس موحّد ومنسجم للوجود. ويعود هذا إلى حقيقة أن الإنسان دائمًا يسعى إلى تفسير كلّي وشامل لواقعه، على نحو يُعزّز من رفاهيته الشاملة. وهذا هو نمط الطبيعة الإنسانية الذي تُدافع عنه هذه المقالة: طبيعة إنسانية تُفعِّل العقل ضمن إطار من الانسجام الشامل والتكامل، من أجل إعلاء الرفاهية البشري. فمثل هذا التصور سيوفّر نوعًا من النظام الاجتماعي يدرك فيه الإنسان أن بقاءه مرهون ببقاء الكائنات الأخرى من حوله، وأنه ليس أفضل منها، بل يتحمّل مسؤولية النهوض برفاهية كل كائن على الأرض؛ إذ إن جميع الكائنات فريدة في وجودها. وإذا كان هناك كائن يرى نفسه ضمن تسلسل هرمي بوصفه "متفوقًا" أو "أسبق" من غيره، فإن عليه أن يُدرك أن هناك أوجهًا يكون فيها كل كائن لا غنى عنه. وكما يعبّر عن ذلك أسوزو، فإن هذا هو التفرد، هذا التصور الإنساني الشامل، التكاملي والاندماجي، الذي كشف عنه التحليل بجلاء.

خاتمة

بلغت أخلاقيات الحرب ذروتها في "أخلاقيات السلاح النووي"، والتي تفترض أن الاحتمالات الحقيقية لفناء البشرية، أو التدمير الجماعي للبشر، أو الأضرار البيئية الهائلة الناجمة عن حرب نووية شاملة، تُشكّل مشكلات أخلاقية عميقة. وتفترض هذه الرؤية على وجه التحديد أن نتائج مثل فناء الإنسان، أو تدميره على نطاق واسع، أو إلحاق الضرر بالبيئة تُعدّ شرورًا أخلاقية. ومن الجوانب الأخرى المثيرة للقلق أن تصنيع الأسلحة النووية دون قيود، وتخزينها بكميات هائلة، يفرض عبئًا بيئيًّا يتمثل في النفايات النووية والتلوث الذي ستتحمّله الأجيال القادمة. وقد خلص بعض الباحثين، مثل راموس Ramose، إلى أن من الخطأ الأخلاقي أن نتصرف بطرائق تؤدي إلى هذه النتائج، ما يعني أن خوض الحروب النووية يُعدّ فعلًا غير أخلاقي. ومع ذلك، فإن أنصار النظرية الغائية (consequentialism) يُروّجون لفكرة أن "الغاية تُبرّر الوسيلة". ويزعمون أن استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي ضد اليابان في مدينتي هيروشيما Hiroshima وناغازاكي Nagasaki قد أدى إلى إنهاء مفاجئ للحرب العالمية الثانية. ويُطرح كذلك رأي مفاده أن الحرب، بحد ذاتها، تُبرّر ضرورة اللجوء إليها عند الحاجة. لكن يبقى السؤال الجوهري: متى يُمكن اعتبار الحرب ضرورة؟ والإجابة عن هذا السؤال تبدو بالضرورة ذات طابع ذاتي ونسبي، نظرًا إلى أن الدخول في الحرب قد يكون في كثير من الأحيان مدفوعًا بالطمع السياسي لا غير.

إن الترويج لامتلاك الأسلحة النووية قد يؤدي بدوره إلى نشوب حرب نووية، والحرب في جوهرها شر؛ لأنها تُلحق في نهايتها المعاناة لأغلبية الشعوب، وخاصة الفقراء، في حين يفرّ أولئك الذين يُطلق عليهم "السلطة الشرعية" مع عائلاتهم إلى أماكن آمنة. ومن أجل تفادي الإبادة الشاملة المحتملة للجنس البشري، التي قد تنجم عن حرب نووية شاملة دون ضوابط، توصي هذه المقالة بتبنّي مبدأ التكاملية الشاملة كمرجعية أخلاقية لتوجيه العلاقات الإنسانية على المستوى العالمي. وينطلق هذا التصور من الإيمان بأن جميع أفراد الجنس البشري بوصفهم بشرًا يجب أن يُنظر إليهم من خلال رؤية كونية تتعامل مع الوجود ككلٍّ تكاملي، حيث يُنظر إلى كل عناصر الواقع بوصفها حلقات مفقودة من سلسلة الوجود. وعند فهم الواقع من خلال منظور التكاملية في الرؤية الإفريقية للعالم، والتي تُجسّدها فكرة "الوَحدة المنسجمة"، سيكون بالإمكان تجاوز ممارسات الإقصاء التي طغت على الطريقة التي تم بها تجاهل مساهمات الأفارقة في الحربين العالميتين، واللتين أفضتا إلى هزيمة ألمانيا، واحتواء عدوانها، ووئد التهديد الذي كانت تمثله لبقية العالم. إن هذا الإقصاء ليس مجرد تهميش تاريخي، بل يحمل في طيّاته بوادر كراهية تُنذر بمخاطر مستقبلية شبيهة بذلك العدوان الألماني، موجهة هذه المرة ضد أولئك الذين ساهموا في هزيمتها.

تعقيب المترجمة

تناولت المقالة قضية نادرًا ما تُمنح اهتمامًا كافيًا في أدبيات الفلسفة السياسية أو الأخلاقية، وهي استبعاد الأفارقة من رموز ومذكرات الحربين العالميتين، رغم مشاركتهم الفاعلة. وهذا يضفي على الورقة بُعدًا نقديًا حادًّا يعيد مساءلة الذاكرة التاريخية العالمية ويفتح نقاشًا مهمًّا حول العدالة الرمزية وحق الاعتراف. تتسم الورقة بعمق فلسفي واضح، حيث تنتقل من تحليل أخلاقيات الحرب الكلاسيكية والمعاصرة (خصوصًا النووية) إلى تسليط الضوء على الفكر الإفريقي التكميلي بوصفه أفقًا فلسفيًّا جديدًا قد يوفّر بديلاً عن الأسس المادية والصراعية للنظام الدولي الحديث.

وعلى المستوى الأخلاقي تطرح المقالة سؤالاً أخلاقيًّا كبيرًا: هل من الممكن تأسيس سلام عالمي حقيقي بينما تُستبعد أعراق كاملة من روايات النصر أو البطولة؟ هذا السؤال يتجاوز قضايا "السياسة التذكارية" ليلامس صميم بناء الذاكرة الجمعية للبشرية. تطرح المقالة قيمة التكاملية الإفريقية بتقديمها كمرجعية فلسفية جديدة، فتحاول المقالة كسر احتكار الفكر الغربي للمعايير الأخلاقية والسياسية، وتُعيد الاعتبار لنُظم معرفية بديلة تمتلك قابلية تفسيرية عالية، وتؤمن بالإنسان بوصفه جزءًا من كلٍّ لا مركزًا منفصلاً عنه. تربط المقالة بين التبرير الأخلاقي لاستخدام السلاح النووي، وبين الانحيازات المسبقة للمنظور الغربي، الذي كثيرًا ما يُخضع الضحايا غير الغربيين لمعادلات "مبرّرة" في المنطق الغائي، ما يفتح الباب لشرعية العنف.

على المستوى النقدي ساهمت المقالة بفاعلية في نقد الذات الغربية الإمبريالية، التي تحتكر الشرعية، وتمحو المساهمات غير الأوروبية من المشهد، وتُبرّر ذلك عبر مقولات أخلاقية أو سياسية مُضلّلة (مثل "إنهاء الحرب العالمية عبر القنبلة"). أيضاً تُقدّم المقالة اقتراحًا استشرافيًّا من خلال تبنّي نموذج أخلاقي تكاملي قائم على الاحترام المتبادل، والاعتراف المتكافئ، لا على منطق الردع والتفوّق والسيطرة. هذا النموذج المستلهم من الفلسفة الإفريقية يُعيد للإنسان إنسانيته دون أن يُقصي الآخر. وأخيراً إن هذه المقالة ليست مجرد تحليل أخلاقي للحرب أو دعوة رمزية لإنصاف الأفارقة، بل هي صرخة فلسفية ضد العنف المؤسس في النظام الدولي الحديث، وضد ذاكرة عالمية تتغافل عن بعض الدماء وتُمجّد أخرى. إنها دعوة لإعادة التفكير في ماهية الإنسان، في معنى الوجود المشترك، وفي الطريقة التي يمكن بها للفلسفات غير الغربية أن تُقدّم أدوات لفهم العالم بشكل أعدل وأكثر إنسانية.

 

References:

- Achebe C (1998) Chi in Igbo cosmology. In: Eze EA (ed.) Philosophy: An Anthology. Oxford: Blackwell Publishers, pp.435–437

- Anyanwu KC and Ruch EA (1998) African Philosophy: Introduction to the Main Philosophical Trends in Contemporary Africa. Rome: Catholic Book Agency, p.120

- Asouzu II (2004) The Methods and Principles of Complementary Reflection in and Beyond African Philosophy. Calabar: University of Calabar Press.

- Bohr N (1934) Atomic Theory and the Description of Nature. Cambridge: Cambridge University Press.

- Chukwuokolo JC (2013) Rethinking human nature: African value and creative evolution. In: Hogan JP (ed.) Human Nature: Stable and/or changing. Washington, DC: CRVP, pp.185–202

- Ijiomah CO (1996) Contemporary Views about Philosophy of Education. Calabar: Uptrico Press.

- Morgenthau HJ (1978) Politics among Nations: The Struggle for Power and Peace. 5th ed., Revised. New York: Alfred A. Knopf.

- Onyeocha I (2000) Africa’s ideas about the nature of reality. Journal of Humanities 1(11): 19–41

- Ramose MB (2008) Military ethics of fighting terror: a response to Kushner and Yadlin. Philosophia 36: 209–212

- Uwalaka J (1998) Inclusive humanism: the basis for a sound socio-political order for Africa. In: Oguejiofor JO (ed.) Africa: Philosophy and Public Affairs. Enugu: Delta Publications, pp.99–113

- Waltz K (1979) Theory of International Politics. Reading, MA: Addison-Wesley.

[1] - Chukwuokolo, Chidozie J. (2022).The Ethics of War and War-Making: A Philosophical Interrogation of African Involvement in the World Wars and Their Exclusion From War Monuments and Memorials. Journal of Asian and African Studies. Vol. 57(1) 131–136

[2] - Chidozie J. Chukwuokolo is a senior lecturer in the Department of Philosophy and Religion, Ebonyi State University, Abakaliki, Nigeria.

* باحثة دكتوراه تخصص فلسفة إفريقية حديثة ومعاصرة – كلية الآداب جامعة القاهرة – مصر.


مقالات ذات صلة

المزيد