الدّولَة والدِّيمُقرَاطِيّة: بورديو بين ألتوسير وهابرماس


فئة :  مقالات

الدّولَة والدِّيمُقرَاطِيّة: بورديو بين ألتوسير وهابرماس

الدّولَة والدِّيمُقرَاطِيّة: بورديو بين ألتوسير وهابرماس

 من إطلالةٍ سريعةٍ على مؤلّفات بيير بورديو (Pierre Bourdieu) تبرز مُشكلاتُ السّياسَة جليّةً في جلّ الموضوعات السّوسيولوجيّة التي انشغل بدراستها. لا نقصد، هنا، ما كَتَبَهُ على نحوٍ صريحٍ في موضوع الدّولَةِ والسُّلطة والسّياسة كـنُبل الدولة[1] أو محاضراته في كوليج دو فرانس في الدولة[2] أو مقالاته في "التمثيل السياسيّ"[3] أو "سرّ الوزارة"[4] مثلًا، بل إنّ السّياسة فرضت نفسها في أعمالٍ قد تبدو صلتها بالاجتماع وقضاياه أقرب من صلتها بالسياسة وأسئلتها(*). من تلك الأعمال إعادة الإنتاج[5]، التمييز[6]، الحسّ العمليّ[7]، تأمّلات باسكاليّة[8]، بؤسُ العالم[9] اللّغة والسُّلطة الرّمزيَّة[10]...إلخ. يمكن القول، إذن، إنّ سُؤال السّياسة لم يفارق بورديو، منذُ بدايّة سبعينيّاتِ القرنِ الماضي. وما أطروحاته حول النّظام التّعليميّ والمُمارسات الثَّقافِيّة والإعلام والحُقولِ الاجتِماعِيّة والسّلطة...إلخ، بمنأًى عن البحث في البنى المُؤسِّسَة للاجتماع السّياسِيّ والميكانزيمات المُنتجةِ له. إنّنا إزاء عالمِ اجتماعٍ واسعِ الاطّلاع غزيرِ الإنتاج(*)، لا يسعنا -وليس من هدف هذا المقال- عرض فكره السّوسيولوجيّ إلّا في ما خَصّ موضوعنا. لذلك، سنوجِّهُ الانتباه إلى الأفكار السّياسِيّة لبورديو، تحديدًا منها تصوّرُه لمفهومي الدّولة والدِّيمُقرَاطِيّة. نكشف في الأوّل عن تأثّره بفكر ألتوسير في الدولة ونظريّته في أجهزتها الإيديولوجيّة، رغم سعيه إلى نحت لجهاز مفاهيميّ سوسيولوجيّ للدولة أراده على مسافةٍ من وعي ألتوسير بها؛ وننظر في الثاني إلى تأثُّرِه بفكرة هابرماس في تأسيس الديمقراطيّة والإرادة العامّة على النقاش العموميّ والتداول الجماعيّ، رغم نقده لصيغته الهابرماسيّة المثاليّة المُفرطة.

أولًا: الدولة والحقولُ الاجتماعيّة

1-    في تعالي الدّولَة عن حقولها الاجتماعيّة

بدأت أولى أبحاث بورديو -من منطقة القبائل الجزائريّة- عن البنى المؤسسة للدّولة القائمة على الحُكم الوراثيّ، وأتاحت له غزارةُ المعطى الميدانيّ الوقوفَ عند البُنى المُؤسّسة للدولة التقليديّة ومقارنتها بالبنى المُؤسّسة للدولة البيروقراطيّة الحديثة، ليخلُص إلى أنّ الانتقال من الدّولة التقليديّة إلى الدّولة البيروقراطيّة لا يقتصرُ على تغيير نمطِ الحُكم، بل على تحقيق ثورةٍ رمزيّةٍ حقيقيّةٍ. قادتِ النّتيجة هذه بورديو إلى تَشيِيد نظريّته في الدّولَة على مفهومٍ محوريٍّ: الرأسمال الرمزي، ومفادها أنّ المُجتمع تشكيلٌ واسعٌ من الحقول، كلّ حقلٍ يحتاز سُلطةً (=رأسمال)، في استقلالٍ نسبيٍّ عن الحقول الأخرى، وبذلك تتنوع الرّساميل (العسكريّ، الاقتصاديّ، الثقافيّ، اللغويّ، القانونيّ...إلخ) بتعدّد الحقول الاجتِماعِيّة. وهذا الاستقلالُ، كما رآه بورديو، غيرُ منفصلٍ عن عمليّة أخرى -مهمّة وأساس- هي بناءُ مجتمعٍ موحّدٍ وُمتماسِكٍ، ووحدها الدّولَة قادرةٌ على بسطِ سُلطانها ليشمل الحُقول الاجتماعيّة كافّة، ويهيمن على الرّساميل الرّمزيّةِ قاطبةً، لتكون كيانًا فوق-الحقل[11] (Méta-champ) وفوق الرأسمال (Méta-capital)[12].

هكذا، تكون الدّولَة نتاجَ سيرورةٍ مُزدوجةٍ: سيرورة انقسامٍ وتوحيدٍ: ينشأ التّقسيم من تطوّر المُجتمعات وتعدّد حُقولها وزيادة استقلاليّة الحُقول عن بعضها؛ وتعملُ الدّولة، في الوقت عينه، على توحيدِ الحقول تلك من طريق احتكارِ السُّلطة الرّمزيّة التي تمنحها المشروعيّة. تُحيلنا هذه الفكرة إلى التّصوُّر الهيغيليّ لنشأة الدّولة، حيثُ يَخرجُ الكلّيّ (الدولة البيروقراطيّة) من الأجزاء (المُجتمعِ المَدَنِيّ/ الحقول الاجتماعيّة) ليتعالى على الأجزاءِ، من طريقِ احتكار الدّولَة للرأسمال الرّمزيّ للحقول على اختلافها.

2-    الهابيتوس وإعادة الإنتاج

من المفيد التذكير، هنا، بنقدِ بورديو للنزعة العقلانية الحديثة، ولملكة الحُكم الكونيّة الكانْتِيّة، حيث يرى أنّ ملكَةَ الحُكمِ قسمةٌ ضيزى متّصلةٌ، على نحوٍ وثيقٍ، بالظّروف الاجتماعيّة لتطوُّر الفرد وتَشكُّل وعيهِ. تقفُ نظريّة الهابيتوس (أو السّمْتُ) كنقيضٍ لنظريّة الاختيار العقلانيّ، التي ترى الإنسان كائنًا عقلانيًّا يحدّد اختياراته عن وعيٍ وعلى حساباتٍ عقليّةٍ منطقيّةٍ. إنّ القدرةَ على الاختيارِ العقلانيّ، عند بورديو، لا تنفصلُ البتّة عن الإمكانات الاجتماعيّة والثقافيّة الموروثةِ والسّابقة للفرد؛ أي بالهابيتوس. لذلك وجدناه ينأى عن ديكارت وينحاز إلى باسكال[13].

ويسعفنا كتاب التمييز[14] في كشف الرابطِ بين التنشئة الاجتِماعِيّة وإعادة الإنتاج علاقاتِ السّيطرة في الحقل السياسيّ. نعثرُ فيه على تعريفِ الكفاءة السياسيّة (Compétence politique) على أنّها القدرةُ على الانتقال من التجربة خاصّة إلى مسألةٍ عامّة أو -بعبارةٍ أخرى- هي القدرة على الخروج من الذاتيِّ الخاصِّ، إلى الموضوعيِّ العامِّ، من طريق الانتقال من قضيةٍ خاصّةٍ إلى قانونٍ عامٍّ[15]. والحال إنّ الكفاءة تلك بعيدةُ المنال وخاضعةٌ، هي الأخرى، للمحدّد الاجتماعيّ – الثقافي. إنّها ليست كونيّةً، بل هي على اتصالٍ وثيقٍ بالرّأسمال الثقافيّ لكلّ فردٍ، رَأسُمالٍ موروثٍ من العائلةِ أو منقولٍ من طريقِ المدرسة أو التّنشئة الاجتماعيّة. وبما أنّ الكفاءة المدرسيّة متّصلةٌ -كما هو دارجٌ عند بورديو- بالأصل والوسط الاجتماعيّ[16]، فإنّ الكفاءة السياسيّة -نتيجةً لذلك- ستكون من نصيب الطّبقة المُتحكّمة، بما أنّها الأفضل تعليمًا وتكوينًا وتخصّصًا. لكي تُمارس السّياسة "أيّها المواطن"، عليك أنْ تحتاز، ابتداءً، رأسمالًا ثقافيًّا مُلائمًا: (معارف وعلوم ونظريّات، لغة خاصّة بالحقل، بروتوكولات محدّدة...إلخ)؛ أي أنْ تكون خرّيج (=صناعة) المعاهد والمدارس العليا المُتخصّصة في شؤون السياسة وفنون الحُكم والتسيير، حاملًا لِسَمْتِ (=هابيتوس) النّخب السياسيّة الحاكمة مُنتميًا إلى ثقافتها. هكذا تُحتَكرُ وظائف السّياسية ومواقع السُّلطة، من طريق صناعةِ المدارس العليا (=الدولة) لنخبٍ الحُكم، وتصيرُ مؤسّسات التربية والتكوين أداةً لإعادة إنتاج النّظام السّياسيّ القائم.

ينجمُ من إعادةِ إنتاج النّخب السّياسيّة هذه تمييزٌ بين فئتين من أفراد المجتمع: فئةٌ حاكمةٌ وأخرى محكومةٌ، نتيجةَ التفاوت في حيازة الرأسمال الثقافيِّ في الحقل السياسيّ. وقل الشيء نفسَه عن الحقول الأخرى. هكذا يُفرز الصّراع داخل كلِّ حقلٍ في المُجتمع -كمحصّلة للتفاوت ذاك- مُسيطِرين وخاضعين، وهذا الاختلاف بين المتخصصين والعامّة هو ما يخلق ما يَسِمُه بورديو الحقل (Le champs).

3-    الدّولَة من الجهازِ إلى الحقل

يتقاطعُ، في مدار سوسيولوجيا الدولة عند بورديو، كلٌّ من ألتوسير وبولانتزاس. تَصَوُّرُه الدّولَةَ كـحقول اجتماعيّة يُقابِلُه تَمثُّلها، عند ألتوسير، كمجموعِ أجهزةٍ. تُنتج الحقول/الأجهزة تلك هابيتوس/إيديولوجيا تتحكَّمُ في الصّراع الاجتماعي. باختيار بورديو مفهوم الحقل بدلًا من الجهاز، يكون قد أقصى النزعة الألتوسيريّة الآليّة -كما سيتبيّن لاحقًا-؛ واستبعد التّصوُّراتِ الوظيفيّةَ، التي طالما انتقدها بشدَّةٍ؛ واقترب من فهمٍ علائقيٍّ جدليٍّ للصّراع في المجتمع؛ أي إِنّهُ انحاز إلى بولانتزاس ونظرته إلى الدولة بحُسبانها توازنًا لعلاقاتِ الصّراع والقوّة بين طبقاتها وفئاته.

لكن ثمّة قرابة أخرى تربط بورديو بمهدي عامل نعثر عليها في فكرة الحقل وتأثيره في انبناءِ وعيِ الفرد وتكوُّنِ سماته، لدى بورديو؛ وهذه فكرة غير منقطعةٍ عن نظْرةِ عامل إلى صلة الفكر بالواقع(*). إنّ إنتاج أيّ فكرٍ أو معرفةٍ ليس مأتاهُ فعلُ الفردِ وإرادته الذاتيّة؛ إذ ليس للفكر حرّيَّةً ذاتيّة في التشكّل والتطوّر، بالنسبة إلى عامل[17]، خارج بنية الفكر، التي يمكن أن نُقابلها بفكرة الحقل عند بورديو.

والحقلُ هو بمثابة عالَمٍ اجتماعيٍّ مُصغّرٍ ينهض نظام اشتغاله على جملةٍ من القواعد الصّارمةِ يحتكم إليها الفاعلون الاجتماعيّون. كلّ حقلٍ تضبطُه علاقاتُ قوّةٍ تجعلُ منه فضاءً للصّراع بين مُسيطِرين وخاضعين؛ كلّ عنصرٍ دخل حقلٍ بعينه يشغَلُ حيّزًا يوافق رصيده من الرّأسمال الرّمزيّ الخاصّ بالحقل ذاك. بذلك تكون المواقع، التي يشغلها الفاعلون داخل الحقل، نِتاجُ مسارين مُتضافرين: مسارٌ موضوعيٌّ تُمثِّلُه بنياتُ الحقلِ وقواعدُ اللّعب الاجتماعيّ التي يُتِيحُها؛ ومسارٌ ذاتيٌّ تُتَرجِمُهُ الإمكانات الفرديّة للفاعلِ العُضو في الحقل، وهذا ما يَرسم ملمح الهابيتوس الخاصّ بكلِّ فردٍ في حقلٍ من الحقول.

يخضعُ الحقلُ السّياسيُّ لقواعد لَعبٍ مُتواضَعٍ بشأنها من الأطراف المنتمية إليه. يقومُ نِظامُ اشتغالِ الحقل على آليّة السّوق (سوق السياسة)، يسعى فيها المُتنافسون، عبر آليات العرضِ والطّلب والتّسويقِ، إلى استقطابِ أكبر قدرٍ مُمكن من المُستهلكين "للسِّلعة السّياسيّة". ينجُمُ من هذا "اللّعب" رابحونَ وخَاسرون، حاكمُون ومحكُومون. هكذا تستحيلُ الدِّيمُقرَاطِيّة التّمثيليّة إلى آليّة لمأسَسَة معايير اللّعب في الحقل السّياسيّ تحول دون تداولٍ ديمُقرَاطِيٍّ فعليٍّ على السُّلطَة.

ثانياً: نظريّة الدّولَة بين ألتوسير وبورديو

إلى أيّ حدٍّ كانت سوسيولوجيا بورديو انزياحًا بالفكر اليسَاريّ من "أقانيمه" الماركسيّة كما كان أمل السّوسيولوجيّ الفرنسيّ؟

إنّ مَن يُطالع أدبيّات بورديو، خاصّة ما اندرجَ مِنها ضِمنَ السّوسيولوجيا السّياسيّة، سيعثُر، في نصوصٍ كثيرةٍ له، على تقاطعاتٍ عديدةٍ بين سوسيولوجياهُ السّياسيّة والفلسفة السّياسيّة لألتوسير: في إدراك سُلطة الدّولة خارج نطاقِ مؤسّساتها القمعيّة؛ في تقديرِ أهمّيّة الهيمنة الإيديولوجيّة/الثقافيّة ضمنَ مُعادلةِ الصّراع على السّلطة؛ في الانتباهِ إلى الدّور الحاسم للتنشئةِ الاجتماعيّة ووظيفةِ المدرسة -تحديدًا- في الصّراع الاجتماعيّ؛ في السّعي إلى كشف أدوات إعادةِ إنتاجِ النّظام...إلخ. وسيعثر القارئ لبورديو، أيضًا، على نقدٍ صريحٍ أو مبطّنٍ لفلسفة ألتوسير -خاصةً نظريّته في "الأجهزة الإيديولوجيّة للدّولة"- في مواضع عديدةٍ من نصوصه. لنمضِ، إذن، إلى مقارنة بين الباحثَيْن الفرنسيَيْن، ولننْظُر فيم أسفرت عنه المواجهة بين الفيلسوف والسوسيولوجيّ في ميدان الدّولَة، وإلى أيّ حدٍّ تمكّن بورديو، كما طمح، من تجاوز الألتوسيريّة.

1-    بين الجهاز والحقل

من بين ملاحظاتِ السّوسيولوجيّ (بورديو) على الفيلسوف (ألتوسير) أنّ نظريّة الأجهزة الإيديولوجيّة للدّولة كشفت عن نزعةٍ وظيفيّةٍ تُعرِّفُ الدّولَة من خلال وظيفة إعادة إنتاج علاقات الإنتاج، ولا تتساءل عن بِنية الميكانيزمات التي تنتج أساس هذه الوظيفة. من هنا رَفْضُ بورديو الشّديد لمفهوم الجهاز الموَظَّفِ بكثافة من ألتوسير في وصف المؤسّسات الاجتِماعِيّة: "النظام التعليميّ، الدّولة، الكنيسة، الاحزاب السياسيّة أو النقابات ليست بالأجهزة -يقول بورديو-[18]، إنّها حقولٌ. تتصارعُ المؤسّسات والأشخاص، في الحقل، ملتزمةً بالقواعدِ المؤسِّسة لهذا الفضاء [...]. مَنْ يُسيطر في حقلٍ بعينه يكون في وضعٍ يُخوّله توظيف الحقل ذاك لمصلحته، لكن عليه أنْ يأخذ في حسبانه، دائمًا، المُقاوَمات، والمعارضات، والمطالبات، والادعاءات "السّياسيّة" أو غير السياسيّة للخاضعين للسيطرة".

في الوقت الذي تُتيح فيه فكرةُ الحقل هامشًا من المُناورةِ والمُقاومةِ، تجعلُ الأجهزة الإيديولوجيّة للدّولة من عمليّة خُضوعِ المُجتمع مسألةً طوعيّةً سَلِسَةً تُجنّبُ النّظامَ القائمَ أيّ اعتراضٍ. إنّها (=الأجهزة) -كما قدّمها ألتوسير- أدواتٌ يصيرُ معها الأفراد كائناتٍ خاضعةً منزوعةَ الإرادةِ مُستلبةَ الوعي، أو قل كائنات مُستعبدة بإرادتها؛ وهذه هي الفكرةُ ذاتُها التي تنبّه إليها جاك رونسيير[19] (Jacques Rancière) أحد "تلامذة" ألتوسير. في هذه المُواجهة، بين مفهومي الجهازِ والحقلِ، تتقابلُ مرجعيّتانِ، مرجعيّةٌ سوسيولوجيّةٌ دوركهايميّة ومرجعيّة فلسفيّة ماركسيّة. نعثر على جذور مفهوم الجهاز في الفلسفة الماركسيّة(**)، كما نجد أصول فكرة الحقل ضاربة في المرجعيّة السوسيولوجيّة لإيميل دوركهايم. لكن المفهومين (الجهاز والحقل) يلتقيان في بناء تصوّرٍ للدّولة عمادُه عدمُ اختزالها في مؤسّسات السُّلطةِ الماديّة، بل التسليم بأنّ ثمّة مجالًا واسعًا، من مؤسّسات المجتمع وفضاءاته، يقعُ خارج نطاق الأجهزة القمعيّة للدّولة من دون أنْ يخرج، تمامًا، من قبضتها، وهو يعكس المَوْضِعَ الحقيقيّ للصّراع (الصراع على الإيديولوجيا) ويحدّد مآلاته.

2-    بين الإيديولوجيا والعُنف الرّمزيّ

تتّسم بنياتُ الحَقل الاجتماعيّ بالمَوضوعيّة وهو، بذلك، لا يتمايزُ كثيرًا عن مفهوم الجِهاز بمعناه الألتوسيريّ؛ فكلاهما يحتكمُ إلى بنياتٍ مُستقلّةٍ عن الأفراد تُؤثر في بناء وعيهم. وإذا كان بورديو قد فتح مجالًا لذاتيّة الفاعلين الاجتماعيّين داخل الحقل من خلال مفهوم الهابيتوس، الذي تمتزج فيه -كما أسلفنا- بِنْياتُ الحقل الموضوعيّة واستعدادات الفرد الذّاتية، فإنّ هذا الجانب الذّاتيّ يكادُ يغيبُ في التّصوّر البنيويّ لألتوسير، الذي يقف عند البنيات الموضوعيّة للجهاز الإيديولوجي ويمنحها سُلطةَ التحكّم في وعي الأفراد. لكنّ فحصَ هذا التقابلِ -عن كثب-، بين فِعْلِ الإيديولوجيا داخل الجهاز الإيديولوجيّ وتَشَكُّلِ الهابيتوس في الحقل الاجتِماعِيّ، سيُفصحُ عن القرابة الشّديدة بين المفهومين. يُحيلُ المفهومُ الأوّلُ (الهابيتوس) إلى تلك البنيةِ الدّاخليّة للفرد التي تصنعُ مُيُولَهُ ومُعتقداتِه وإدراكاتِه ورُؤيتِه إلى العالم. مَنْشأُ البِنية تلك المؤسّساتُ الاجتماعيّةُ، وهذه عينها وظيفة المفهوم الثاني (الإيديولوجيا) كما قدّمها ألتوسير. يمكننا الاستنتاج، هنا، أنّ الإيديولوجيا هي ما يصنع الهابيتوس.

إنّ الارتكاز على "سلطةٍ إيديولوجيّةٍ" (ألتوسير) أو "رمزيّةٍ" (بورديو) يُفضي إلى النّتيجة عينها: لا تقومُ إعادةُ إنتاج النّظام الاجتِماعِيّ-السّياسِيّ على الشُّرطة والعسكر ومُؤسّساتِ القمع المادّيّ، بل أيضًا، وأساسًا، على الاندماج الذّاتيّ للأفراد، طوعًا، في عمليّة إعادة الإنتاج هذه، بفعل التّنشئة الاجتماعيّة والإيديولوجيّة التي تضطلعُ بها مؤسّسات المُجتمع كافّة.

تبدو النّظريّةُ الألتوسيريّة للدولة ماديّةً، لا تُلقي بالًا لعوامل الثّقافة، في مقابل تصوّرٍ سوسيولوجيٍّ مجدِّدٍ، كما قدّمه بورديو، يضعُ الثّقافة في قلب التحليل الاجتماعي. وبالتالي فإنّ مفهوم الدّولَة، عند ألتوسير، يبدو وكأنّه مُناقضٌ لذاك الذي نسجه بورديو. لننظر في هذه الفكرة، أيضًا، عن كثب.

تتعدّد الأجهزة الإيديولوجيّة للدولة، كما ذُكر، وفي كثرتها وحدةُ الهدف: الهيمنة الإيديولوجيّة والثّقافيّة على أفراد المُجتمع. لا يقوم نصابُ الأجهزة تلك على العنف المادّيّ القمعيّ وحده، بل أيضاَ -وأساسًا- على الإيديولوجيا، أو العنف اللاماديّ، أو قل الرمزي. والعُنف الرّمزيّ، وإلى جانبه مفهوم السلطة الرمزية[20]، مِدماكان أساسان من المداميك التي بها يكتمل بُنيان الدّولة، كما قرّر بورديو.

ليست سيرورة توحيد الحقول المتخلفة والتوفيق بين الرساميل (السُّلط) المُتعدّدة داخل المجتمع الواحد خلوًا من مقاومة اجتماعيّة وسياسيّة ولا تتمّ بالتِّلقاء، وهذا اختلافٌ جوهريّ بين بورديو وألتوسير. هكذا، وفي الوقت الذي ينزعُ ألتوسير عن الفاعلين الاجتماعيّين إرادتهم ويحشرهم في غياهب الاستلابِ الإيديولوجيّ، بفعل أجهزة الدّولة المَبثُوثَةِ في كلّ مكان، يُؤمن بورديو، في المقابل، بوجود هامشٍ للمقاومة أمام المُجتمع المَدَنِيّ غير الخاضع، تمامًا، للتدجين الإيديولوجيّ.

ومع حِفظ الاختلاف بين عمليّة نحتِ المفاهيم في ميداني السوسيولوجيا والفلسفة، كانت آثارُ الفلسفة السّياسِيّة لألتوسير -على الرّغم من سعي بورديو إلى أخذ مسافةٍ نقديّةٍ منها- بَادِيَةً على سوسيولوجيا السّياسة عنده، وكانت نظريّة الدّولَة، عند الباحثَيْن، على قدرٍ كبيرٍ من التشابه، مع تمايزٍ أبرزهُ هامشُ الحَركةِ، الذي يُتيحه تصور السوسيولوجيّ للمُجتمع المَدَنِيّ، فضلًا عن حيّزٍ من الاستقلال تَفسحُه فكرةُ الحقل، إذا ما قُورِنَت بالتّصور الآليّ الجبريّ لأجهزةِ الدّولَة. نخلصُ، إذن، إلى أنّ بورديو كان، وهو يسعى إلى مجاوزةِ نظريّة ألتوسير في الدّولة، ينسجُ على مِنوَالِه، لكن بحنكةٍ سوسيولوجيّةٍ بارعةٍ.

ثالثاً: بورديو، من الدِّيمُقرَاطِيّة الإحصائيّة إلى التّداوليّة

يُهمّنا، في هذه الفقرة، ونحن نُطالع أعمال السّوسيولوجيّ، تركيزَ الانتباه على ما يُفيدُنا في تَبيُّن موقفه من الدِّيمُقرَاطِيّة ومُستلزماتها. ولن يَتأتّى تحقيقُ هذا المُبتغى من دون وضع أطروحاتِه في السّياسَةِ داخل نِظامِهِ المَفاهيميّ السُّوسيولوجيّ. لذلك، لم نكن في غنًى عن استحضار مفاهيم من قبيل الفعلِ الاجتماعيّ، الهابيتوس، والحقل الاجتماعيّ، والرّأسمال الرمزيّ...إلخ -وهو ما أومأنا إليه أعلاه-، إنْ شِئْنا تَمَثُّلَ الفعل السّياسيّ، كما يُدركه بورديو، من حيثُ هو فعلٌ داخل حقلٍ سياسيّ مستقلّ نسبيًّا تحكمه بِنياتٌ اجتماعيّة مَوضُوعيّةٌ وأخرى ذاتية تُتيحُ إعادة إنتاجه. نمضِ، الآن، في فحص أثَر هذه العُدة السوسيولوجيّة في تكوين تصوّر بورديو للديمقراطيّة.

1-    نقد الدِّيمُقرَاطِيّة "الإحصائيّة"

كان كشفُ الميكانزيمات المُتحكّمة في النّظام التّمثيليّ واحدًا من مهمّات السّوسيولوجيا السّياسيّة لبيير بورديو؛ حيثُ سعى إلى إبراز الهُوة بين الخطاب الديمقراطيّ، ذي النّزعة الكونيّة، وواقعِهِ النّخبويّ المُتجسِّد في "التّمثيل" السّياسِيّ. إذا كانتِ الدّيمقراطيّة لا تنفصل عن الحُرّيّة -أو قُل هي رديفتُها- فإنّ "سُوق السّياسيّة هي، من دون شكٍّ، واحدةٌ من بين الأقلِّ حرِّيَّة"[21]. يُمارسُ الحقلُ السّياسيّ فيها فعلَ الرقيب بتحديدِ أفقِ الخطابِ السّياسيِّ وحُدودِهِ، أي: ما يرسمُ دائرة المسموح والمُتاحِ أنْ يُفكّرَ فيه، سياسيًّا[22].

يَسمحُ التّمثيلُ (La représentation)، في اعتقاد بورديو، بتحويل المصالح الجزئيّة إلى مصلحةٍ عامّةٍ: يقوم نظام التّمثيل على انتداب فردٍ (ممثِّل) لجماعةٍ موجودةٍ يحملُ -أو يُفترَض أن يَحملَ- خطابها. والحال إنّ هذا "المُمَثِّل" يُنتجُ خطابًا جاهزًا يَفرضُه على من "يُمثِّلهم"؛ فيُنشِئُ، بذلك، الجَماعة تلك، ويُحدّد لها الخطاب السياسيّ، الذي ينبغي أنْ يحظى بالشرعيّة لديها! وهذه الفكرة هي ما جَهَدَ بورديو في توجيه الانتباه إليها في مقاله سرُّ الوِزارة[23]. هكذا بدا التّمثيل، في عين بورديو، ضربًا من "السّحر" أو "الباطنيّة"[24]، يَحْمِلُ المُفوِّضين على تقديم "شيكٍ مفتوحٍ للمفوَّضِ لهم"[25]. يُتيح هذا النّمطُ من الدِّيمُقرَاطِيّة "تمثيلَ"، أو قل -مع بورديو- اختزالَ، الجماعة بفردٍ واحدٍ؛ فتُختزل الدِّيمُقرَاطِيّة في التّمثيل، ويَختزِلُ المُمثلُ الجَمَاعَة.

يستندُ نقدُ بورديو للدّيمقراطيّة التّمثيليّة إلى رفض سِمَتِها التّجميعيّة [26](Agrégative) المُميِّزة لها. تقُوم الدِّيمُقرَاطِيّة التّجميعيّة (La démocratie agrégative) على منطقٍ إحصائيٍّ يزعم دعاته أنّه كفيلٌ ببلورة إرادةٍ عامّة حين يُتيح للناس، موسميًّا، التعبير الفرديّ السّرّيّ عن آرائهم في مَعْزَلٍ يحجبهم عن باقي الأفراد(***). يُدعى هؤلاء الأفراد، المحشورون واحدًا تلو الآخر، إلى التّصويت -ولا أقول الاختيار- لصالح برنامجٍ أو شخصٍ؛ أي لصالح عرضٍ سياسيّ لا قِبَلَ لهم في صياغته. هكذا يُحَوِّلُ المَنطقُ التّمثيليّ الفعلَ السّياسيّ إلى نوعٍ من العرض والطّلب في حقل (=سُوق) السّياسة هي، كما سلف، الأقلّ حريّةً من بين الحقول.

تنبّه دوركهايم، باكرًا، إلى أنّ عمليّة التّصويتِ لا تنفصلُ عن الظّروف الاجتماعيّة الحافّة بالجماعة؛ أي إنّ مضمون الفِعل السّياسيّ، عمومًا، محكومٌ بالوجود الاجتماعيّ للفاعل السّياسيّ. لذلك، يدعو إلى أنْ لا يُؤَسَّسَ الاقتراعُ على منطقٍ فرديٍّ خالٍ من أيّ روحٍ جماعيّةٍ، بالاقتصار على تجميعِ الأفراد، في مناسباتٍ معزولةٍ، للتّعبير عن آراءٍ فرديّةٍ، بل ينبغي، بدلًا من هذا، أن تكون الآراء تلك تجسدًا لروح جماعةٍ مُتعاونةٍ ومُندمجةٍ في علاقاتٍ اجتماعيّةٍ دائمةٍ[27]. في ظلّ "المَنطقِ التّجميعيّ المُتعلّقِ بالتّصويت، وبالسّوق أيضًا، لا يكونُ الرّأيُ "الجماعيّ" نتاجَ فعلٍ جماعيٍّ حقيقيٍّ وإنجازٍ مشتركٍ، كذاك الذي استحضره دوركايم، بل يكون تجميعًا إحصائيًّا صرفًا لآراءٍ فرديّةٍ مُنتَجَةٍ ومُعبَّرٍ عنها فرديًّا"[28]. تُجَمَّعُ الأصوات المُعبَّر عنها، على نحوٍ آليٍّ ميكانيكيٍّ، وتُنسَجُ العلاقاتُ بين "اختياراتِ الأفراد" في غيابِ الفاعلين الحقيقيّين وبعيدًا عن وعيهم وعن إرادتهم.

لا يُخامرنا شكٌّ في أنّ بورديو، حين كان ينتقدُ "الدِّيمُقرَاطِيّة الإحصائيّة"، متحَ من فكرةِ غرامشي المعروضَةِ في نصّه "العددُ والنّوعيّة في الأنظمة التّمثيليّة"[29]، والذي فيه نَقَدَ (غرامشي) ما سمّاه "القانون الأسمى للعدّ" مُقترحًا صيغةً بديلةً لصياغةِ إرادةٍ جماعيّةٍ على قاعدةِ المُبادرةِ والتّطوّع والعمل الدّائمِ على بناء التّوافُق. وهذا، بالتّحديد، ما يؤاخذه بورديو على المنطق الإحصائيّ: استحالة بلورة إجماعٍ وإرادةٍ عامّةٍ من تجميعٍ لآراءٍ وإراداتٍ فرديّةٍ مُختلفةٍ وذاتيّةٍ بالضّرورة.

ليستِ الدِّيمُقرَاطِيّة، على الطريقة الإحصائيّة التّجميعيّة، في صالح الفئات الخاضعة، لأنّ الفئات هذه لا تستوفي الأدوات (=الرأسمال الرمزي) المطلوبة لبلورة رأيٍ سياسيٍّ مستقلٍّ. لذلك، يرى بورديو ضرورة تعميمِ الولوج إلى السّياسة على نحو متساوٍ بين أفراد المُجتمع، قبل أيّ احتكامٍ إلى أيّ اقتراعٍ عامّ؛ والدِّيمُقرَاطِيّة تلك هي، من جهة أخرى، في صالح النّخبة المُتحكّمة في حقلِ السّياسة بفضل احتكارها للرأسمال الرّمزيّ.

كيف السبيل، إذن، إلى تشييد ديمقراطيّة حقيقيّة، تخرج بالحقل السياسيّ من منطقِ احتكار السّياسة المُؤسَّسِ على احتكار الرأسمال الثقافيّ؟

2-    البناء التداوليّ للإرادة العامَّة

لا بدّ، ابتداءً -قبل حلّ إشكاليّة التّفاوتات في الرّأسمال الرّمزيّ، ونتائجها على الحَقل السّياسيّ، وما تُرتِّبُه من شكوكٍ حول نجاعة النّزعة الإحصائيّة في الدّيمقراطيّة الليبراليَّة- من سؤال بورديو عن نمطِ الدّيمقراطيّة الذي يحسبه كفيلًا بتشييد إرادةٍ عامّةٍ، تشييدًا جماعيًّا سليمًا مُجاوزًا لمثالب التّجميع الإحصائيّ للاختيارات الفرديّة على نحوِ ما تشهدُ عليه الديمقراطيّات التّمثيليّة اليوم. ليستِ العِلّة "في الاختيار، كما في التقليد الليبراليّ -يقول بورديو[30]-، إنّما هي في اختيار نمطِ البناء الجَماعيّ للاختيارات [...]. وللإفلات من التّجميع الآليّ لآراءٍ مُذَرّرَةٍ (Atomisées) [...]، يجبُ خلقُ الشّروط الاجتماعيّة قصْد إرساء نوعٍ من صناعة الإرادة العامّة أو الرّأي الجماعيّ، الجماعيّ حقًّا؛ أي المُشيَّد على التّبادلاتِ المنظَمّة في شكْلِ مواجهةٍ جدليّةٍ تفترضُ التوافق حول آليّات التّواصل الضّروريّة، وتأسيس الاتّفاق أو الاختلاف، القادر على تحويل محتوى التّواصل والمُتواصلين". تفسحُ التّداوليّة، من جهة، المجال أمام التّوافق، بين أفرادٍ متفرّقي المصالح، على مصلحةٍ عامّة من طريق بنائها جماعيًّا؛ وتُتيح، من جهةٍ أخرى، تعديل آراء الأفراد ومحتوى تواصلهم، بل تصيرُ آليةَ تحويلٍ أنثروبولوجيّ لقدرتها -كما جاء في النصّ أعلاه- على تحويل محتوى التّواصل وأطراف التواصل. وهذه هي الفكرةُ ذاتها، التي نعثر عليها عند جوشوا كوهين (Joshua Cohen)، في مقاله "التداوليّة والشرعيّة الديمقراطيّة"[31]. يُسعفنا التأسيس الجماعيّ للإرادة العامّة، إذن، في التقريب بين وجهات نظر أفراد المُجتمع وتعديل تصوّراتهم وآرائهم حتّى تنزاح من دائرةٍ أنانيّةٍ فرديّةٍ ضيّقةٍ إلى تشييدٍ مُشتركٍ للمصلحة الجماعيّة. ينقلنا بورديو، بهذا التصوّر، إلى باراديغمٍ ديمقراطيّ آخر، نقيضٍ لذاك المُقتصر على التّمثيل الانتخابيّ الموسميّ؛ إنّه الباراديغم التّداوليّ. بهذا، يُساند بورديو، بعد أنْ وَقَفَ عند حدودِ التّمثيل السّياسِيّ -بل كشف خطورته-، تصوّرًا للديمقراطيّة مدارُه على النقاش والتّداول والبِناء الجماعيّ للصالح العامّ، ليلتحق بمُنظّري الدّيمقراطيّة التّداوليّة (La démocratie délibérative) الأمريكيّين في معظمهم.

إذا كان المَعْزلُ الانتخابيُّ السّرّيُّ يضمن الخُصوصيّة والاستقلاليّة، فإنّ لبورديو رأيًا آخرًا حين يرى فيه حاجبًا لتبرير الاختيار الفرديّ: لا يخضع الاختيار الفرديّ للنقاش ولا يفترض حُجة، إنّه شخصيٌّ، وبما أنّه كذلك (أي شخصيٌّ) فلن يتردّد صاحبهُ في تسخيره لخدمة مصلحته الخاصّة. فكيف تنشأُ "مصلحةٌ عامّةٌ" من تجميع "مصالحٍ فرديّةٍ(****)"؟! هذا إذا انطلقنا من افتراضٍ أنثروبولوجيّ سلبيٍّ عن الإنسان، أمّا إذا فرضنا أنّ الأفراد يرون في المصلحة العامّة مصلحة عليا لهم، فإنّ آراءهم الفرديّة غالبًا ما يطبعها التّردّد والقصور؛ "فقد يكون للأفراد بعض الاختيارات وبعض المعلوماتِ، لكنّها غيرُ يقينيّة وغير كافية، و-في كثيرٍ من الأحيان- تكون المعلوماتُ تلك مرتبكةً متضاربةً. تُتيحُ السيرورة التداوليّة ومجابهة الحُجج للأفراد تدقيقَ معلوماتهم، فضلًا عن اكتشاف اختياراتهم الخّاصّة وتعديل أهدافهم الأولى عند الحاجة"[32]. إلى جانب هذا، يسمح التّداول العلنيّ بتقديم الحُجج والدّلائل على رجاحة هذا الاختيار أو ذاك. في التداول الجماعيّ، تتوارى الأنانيّات الفرديّة؛ لأنّ أحدًا ليس في مكنته الدفاع، علنًا، عن أنانيّةٍ ذاتيّةٍ وتسويقها مَصلحةً عامّةً، فضلًا عن حصول تلك الأنانيّة على التأييد والانتخاب.

يبدو أنّ انضمام بورديو إلى رَكْبِ التداوليّين يعثر على علّته في إدراكه مزايا هذا الباراديغم العديدة: من عقلنةٍ للنقاش العموميِّ، وتحقيقٍ للعدالة الاجتِماعِيّة-السياسيّة، وبلورةٍ تشاركيّة لمصلحةٍ عامّةٍ...إلخ. لكن هذا لم يمنعه من التّمايز عن النموذج التداوليّ الإجرائيّ التواصليّ المثاليّ، على نحو ما عرضه "كبير التداوليّين" يورغن هابرماس. لقد كان نقدُ بورديو اللّاذع للديمقراطيّة التجميعيّة (الإحصائيّة) نقدًا سوسيولوجيًّا شَدَّدَ على ذهولها عن الظروف الاجتماعيّة الحاسمة في صياغة رأيِ الفرد وبناء وعيه، والتي ينجم منها تفاوتٌ فاحشٌ في حيازة الرأسمال الرمزيّ، الذي لا غنىً عنه من أجل صراعٍ عادلٍ داخل الحقل السياسيّ. وسيوظف بورديو الحجّة عينها لكشف حدود الدِّيمُقرَاطِيّة التداوليّة الإجرائيّة كما قدَّمها هابرماس. لقد لاحظ بورديو الذهول نفسه عن الشروط الاجتماعيّة في معايير النقاش التداوليّ التي اقترحها هابرماس[33]. لا يمكن لأيّ نمطٍ من الدِّيمُقرَاطِيّة الحُرّة "الحقيقيّة" -بتعبير بورديو- أن ينهضَ من دون مساواةٍ في الرّأسمال الرّمزيّ، ولا يشفع للديمقراطيّة خُلوّها من إكراهِ السّلطة والمال، كما اعتقد فيلسوف التواصل، لأنّ التداول فعلٌ تواصليٌّ بين ذواتٍ تستعيض عن قوّة الحُجّة والإقناع بعلاقات الهيمنة الثقافيّة. لذلك، رأى بورديو أنّ "تمثيل الحياة السياسيّة، الذي اقترحه هابرماس من خلال وصفٍ لانبثاق الفضاء العامّ [...]، يُخفي ويَقمعُ سؤال الظّروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الواجب تحقُّقها لإرساء تداوليّة عموميّة كفيلةٍ ببلوغ توافقٍ عقلانيّ"[34].

يقوم النّموذجُ التّداوليّ، عند هابرماس، على ديمقراطيّةٍ صاعدةٍ قاعدتُها المُجتمع المدنيّ يتداولُ أفراده في قضيّة داخل الفضاء العامّ، مُستندين إلى أخلاقيّاتِ للمناقشة تَستَبعِدُ العُنفَ وتقومُ على قوّة الحُجّةِ، فتصيرُ القضيّة تلك رأيًا عامًّا قبل أنْ تَتَحوّلَ إلى قانونٍ تصوغه المُؤسّسَاتُ السّياسيّة في ضوء نتائجِ التّداول. سيشهدُ هذا التّصوّرُ التّداوليُّ "الطوباويّ" للدّيمقراطيَّة على نقدٍ صريحٍ من بورديو في كتابه تأمُّلات باسكاليّة، لأنّه -في نظره- يُفرِغ العَلاقاتِ الاجتماعيّةَ من السّياسَة ويختزلها في علاقاتٍ أخلاقيّةٍ صرف تستحيلُ معها علاقاتُ القوّة إلى علاقاتٍ تواصليّة لا عُنف فيها. إنّ حيازةَ قوّة الإقناع "غير العَنيفَة" مسألةٌ مُحدّدَةٌ اجتماعيًّا؛ أي إنّها ثمرةُ علاقةِ السّيطرةِ والقوّةِ، وهذا ما تذهلُ عنه مُقاربةُ هابرماس المُتعاليَة أو "السكولائيّة" -كما يَصفها بورديو[35]- عن الشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة الفاعلة في النّقاش السياسيّ. إذا كان طُمُوحُ هابرماس تشييد عالمٍ خالٍ من الإكراه والسّيطرة، من طريق الاحتكامِ، في الفضاء العموميّ، إلى أخلاقِ المُناقشة وحُجّة الإقناع، فإنّ احتكار فئةٍ للرأسمال الرّمزيّ، يجعل من حُجتها الأقوى دائمًا و، بالتالي، يُعيد إنتاج علاقات السّيطرة القائمة في المُجتمع. لكن كيف السّبيل إلى ديمقراطيّة فعليّة، كما تصوّها بورديو، بعد نقده الصّريحِ للديمقراطيّة التّمثيليّة والمُواربِ للدّيمقراطيّة التّداوليّة؟

3-    المُساواةُ الثّقافيّة قبل المُساواة السّياسيّة

إذا كان اجتماعٌ سياسيٌّ، على أسُسٍ من العدل والمُساواة واقعًا، دونه هوةٌ سحيقةٌ من التفاوتاتِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة و-خاصّة- الثقافيّة بين اللّاعبين في حقل السّياسة، فإنّ ردْمَ الهُوةِ تلك شرطٌ لازبٌ لتشييد إرادةٍ جماعيّةٍ ودَمَقْرَطَةِ ظروف الوُلوجِ إلى الديمقراطيّة، وهذا ما يسمه بورديو بـالسياسة الواقعيّة (Realpolitik[36]) للكُلِّيِّ (Universel)، وهي كلمةٌ من أصلٍ ألمانيّ تُقابِلُها (Politique réaliste) في اللسان الفرنسيّ، يوظّفها بورديو للإشارة إلى "نمطٍ خاصٍّ من النّضالِ السّياسيِّ موجّهٍ لضمان الشّروطِ الاجتماعيّة لاستعمال العقل والقواعد المؤسّساتيّة للنّشاط الفكريّ، وتزويده (العقل) بأدوات هي بمثابة شرطِ تحقُّقِه في التّاريخ"[37]. لا تتحقّق الديمقراطيّة الفعليّة، عند بورديو، إلّا من طريقِ مساواةٍ في الظروف المادّيّة (الاقتصاديّة والاجتماعيّة) المؤثِّرة في "أرصدة" الأفراد من الرّأسمال الرّمزي، على نحوٍ يضمن وُلوجَهُم -جميعًا- إلى الاستعمال العموميِّ العادلِ للعقل. هكذا ظلّ الفكر السّياسيّ لبورديو رهينَ منطقٍ ماديٍّ؛ حيث السياسة، كلّ السياسة، محكومةٌ بالشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة لإعادة إنتاج الرّأسمال الرّمزيّ.

لابد من التّأكيد، هنا، أنّ إلحاح بورديو على تحقيق المُساواة في الوَاقع الاجتماعيّ الثّقافيّ كشرطِ إدراكِ الدِّيمُقرَاطِيّة ونقده لصيغتها التداوليّة الإجرائيّة المثاليّة لا يعني، عنده، الإعراضُ عن هذا النّمط من الديمقراطيّة (=التداوليّة). على النقيضِ من ذاك، كان سعي بورديو، من هذا النّقد وذاك الاشتراط، إلى بناء إرادةٍ عامةٍّ من مدخلِ التّداول والتّواصل العُموميّ، يرتقي بالديمقراطيّة إلى تشييد اجتماعٍ سياسيٍّ على قاعدةِ مصلحةٍ مأتاها من التّداول والنّقاش الحرّ الخلوِ من احتكار السّلطة المادّية وأيضًا، وأساسًا، الرّمزيّة.

نَخلُصُ، إذن، إلى أنّ مشروع بورديو لتشييد ديمقراطيّة فعليّة لا يصير ناجزًا إلّا بعد لحظتين مترادفتين: تبدأ الأولى بالمساواة في الشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ وتلحقها لحظة ثانية بمساواةٍ في الكفاءة السياسيّة للفاعلين الاجتماعيّين تضمن بلورة إرادةٍ جماعيّةٍ بصيغةٍ تداوليّةٍ، بعد أنْ تنتفيَ عن النقاش العموميّ السُّلطتان الماديّةُ والرمزيّة. هكذا تسبقُ الثورةُ الاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ، عند بورديو، الثورةَ السياسيّةَ عند هابرماس.

يُمكننا الوصول، بعد هذا النبش في السوسيولوجيا السياسية لبورديو، إلى أنّ قواعد تصوّره للدّولة قد شُيّدت على أساساتٍ ألتوسيريّة، مع تمايزه عن ألتوسير بالتعويل على وعي المُجتمع مدنيّ ونضاله من أجل وُلوجٍ عَادِلٍ إلى الرأسمال الرّمزيّ. أمّا تصوّرهُ للدّيمقراطيّة المُثلى، كبناءٍ للإرادةٍ الجماعيّة الفِعليّةٍ، فقد مَتَحَهُ من النّموذج التّداوليّ الهابرماسيّ، مع استعاضته عن مثاليّة هابرماس بواقعيّة سياسيّةٍ مبتدؤها المساواة الاجتماعيّة.

[1] Pierre Bourdieu, La Noblesse d’Etat: grandes écoles et esprit de corps (Pris: Minuit, 1988).

[2] Pierre Bourdieu, Sur l’Etat: Cours au collège de France (1989-1992) (Pris: Le Seuil et Raisons d’agir, 2012).

[3] Pierre Bourdieu, « La représentation politique: éléments pour une théorie du champs politique », In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 36-37, février/mars 1981, pp. 3-24; disponible en line ]pdf[, sur: >https://www.persee.fr/docAsPDF/arss_0335-5322_1981_num_36_1_2105.pdf<, (consulté le 02 février 2020).

[4] Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère: des volontés particulières à la ‘volonté générale’ », In: Actes de la recherche en sciences sociales, Vol. 140, décembre 2001, pp. 7-11; disponible en line ]pdf[, sur: >https://www.persee.fr/docAsPDF/arss_0335-5322_2001_num_140_1_2831.pdf<, (consulté le 1 mars 2020).

(*) وإن كان فكّ الاشتباك بين الاجتماعي والسياسي يدخل في باب المستحيل، إن على مستوى التحليل أو في الواقع التاريخي؛ حيث لا يخلو اجتماعٌ من سياسةٍ ولا سياسةَ في غياب مجتمع، أو أليست السياسةُ غير توزيع النفوذ والسّلطة داخل مجتمعٍ بعينه.

[5] Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, La reproduction: éléments pour une théorie de système d’enseignement (Paris: Minuit, 1970).

[6] Pierre Bourdieu, La distinction: critique sociale du jugement (Paris: Minuit, 1979).     

[7] Pierre Bourdieu, Le sens pratique (Paris: Minuit, 1980).                                             

[8] Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes (Paris: Seuil, 1997).                                

[9] Pierre Bourdieu, La misère du monde (Paris: Seuil, 1993).

[10] Pierre Bourdieu, Langage et pouvoir symbolique (Paris: Seuil, 2001).

(*) تلتقي، عند بورديو، مقارباتٌ مُتَعَدّدَةٌ: بنيويّةٌ وبنائيّةٌ ووظيفيّةٌ وتطوّريّةٌ ثقافويّةٌ (Culturaliste)، وتشتبك في تحليلاته السّوسيولوجيا بالأنثروبولوجيا واللّسانيّات بعلم السياسة والفلسفة، رُغمَ حرصه الشّديد على الوفاء لجُبّة عالم الاجتماع ودفاعه الشّديد عن السّوسيولوجيا. لذلك، تَجَاوَرَ، عند بورديو، ماكس فيبر ودوركايم حين الْتقت عنده فاعليّة الفرد وإكراه المؤسّسَة؛ ووقف دو سوسير (Ferdinand de Saussure)، في مَتْنِ بورديو، إلى جانب فرانس بواز (Franz Boas) حين عَوّلَ على التحليل اللّسانيّ البنيويّ لفهم البنى الاجتماعيّة من دون تطويحٍ بعوامل الثقافة؛ وفي "سوسيولوجياه" السّياسِيّة لقاءٌ متميّزٌ بين ماركس وهيغل حين رَكّز انتباهه على العوامل التحتيّة لعلاقاتِ السّيطرة وإعادة إنتاج النّخب، داخل الحقول الاجتِماعِيّة، من دون أنْ يحجب عنه ذلك تصوّر الدّولَة كمؤسّسَةٍ متعاليةٍ على الحقول الاجتِماعِيّة كافّة.

[11] Pierre Bourdieu, Sur l’État. Op. cit, p. 318

[12] Ibid, p. 312

[13] Cf: Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, Op. cit.

[14] Cf: Bourdieu Pierre, La distinction, Op. cit.

[15] Ibid, p. 466

[16] Cf: Pierre Bourdieu, La Noblesse d’Etat: grandes écoles et esprit de corps, op. cit.

(*) وهي نظرةٌ غير بعيدة عن زمنِ وسياقِ إنتاج أفكار كلٍّ من ألتوسير وبولانتزاس وبورديو. الزمنُ: ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، والسياقُ: الثقافة السّياسِيّة اليساريّة الفرنسيّة.

[17] مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكيّ في حركة التحرر الوطني، الجزأين 1و2، الطبعة 3 (بيروت: الفارابي، 1980)، ص. 25-37

[18] Pierre Bourdieu (avec Wacquant Loïc), Réponses. Pour une anthropologie réflexive (Paris: Seuil, 1992) pp. 78-79

[19] Jacques Rancière, La leçon d'Althusser (Paris: La Fabrique, 2012), p. 162.

(**) على الرّغم من أنّ مجال اشتغال ألتوسير هو الفلسفة، إلّا أنّه برع في النّهل من حقول معرفيّة عديدة (علم النفس، السوسيولوجيا، اللسانيّات، علم السياسة...إلخ).

[20] Pierre Bourdieu, « Sur le pouvoir symbolique » (1977), in: Langage et pouvoir symbolique (Paris: Seuil, 2001), p. 203

[21] Pierre Bourdieu, « La représentation politique », op. cit, p. 4

[22] Ibid.                    

[23] Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère », Op. cit. p. 10

[24]Cf: Pierre Bourdieu, « Délégation et fétichisme politique » in: Actes de la Recherche en Sciences Sociales, n°52-53, juin, 1984

[25] Pierre Bourdieu, Langage et pouvoir symbolique Op. cit, p. 263

[26] Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère », Op. cit, p. 9

(***) هذا ما يصفه بورديو بـ"التّجميع الإحصائيّ للآراء الفرديّة" (Agrégation statistique des opinions individuelles).

[27] Emil Durkheim, Leçon de sociologie (Paris: PUF, 1990), p. 138 ; in: Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère », Op. cit, p. 8

[28] Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère », Op. cit, p. 8

[29] Cf: Antonio Gramsci, « Le nombre et la qualité dans les régimes représentatifs », in: Antonio Gramsci, Gramsci dans le texte, Op. cit, pp, 557-561

[30] Pierre Bourdieu, « Le mystère du ministère », Op. cit, p. 11. (C’est moi qui souligne).

[31] Cf: Joshua Cohen, « Deliberation and Democratic Legitimacy » ; in Bohman, John and Rahg, William, Deliberative Democracy. Essays on Reason and Politics, (Cambridge: MIT Press, 1997), p. 69 ; available online ]pdf[ at: >https://www.researchgate.net/publication/239496436_Deliberation_and_Democratic_Legitimacy<. (accessed 15 March 2020).

(****) هنا، تحديدًا، لابدّ من الاعتراف لهيغل بسبق التأسيس لهذه الفكرة؛ وهو الذي بنى نقده لدولة العقد الاجتِماعِيّ، أساسًا، على نقد فكرة الإرادة العامّة التي لا تكون، عنده - أبدًا -، محصّلةَ إراداتٍ خاصّة.

[32] Bernard Manin, « Volonté générale ou délibération ? Esquisse d'une théorie de la délibération politique», Le Débat, n°33, Janvier 1985, p. 83 ; disponible en line ]pdf[ sur: >https://www.cairn.info/revue-le-debat-1985-1-page-72.htm<, (consulté le 22 mars 2020).

[33] Jürgen Habermas, Droit et démocratie entre faits et normes (Paris: Gallimard, 1997), p. 397-400

[34] Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, Op. cit, 80. (C’est l’auteur qui souligne).

[35] Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, Op. cit, 80

[36] في تعريف معجم لاروس على الأنترنت "السياسة الواقعية [Realpolitik] استراتيجية سياسية ترتكز على المُمكن، وتُهملُ البرامج المُجرّدة وأحكام القيمة، وهدفها واحدٌ هو الفعّاليّة"؛ consulté le10/04/2020).< https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/realpolitik/66838>

[37] Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, Op. cit, p. 96