في تناقضات الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ


فئة :  مقالات

في تناقضات الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ

في تناقضات الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ

مثلت فكرتا الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ، منذ توكفيل إلى هابرماس، الحلّ "السحري" لانعتاق الاجتماع السّياسِيّ المعاصر من مشكلاته، إلى أن بات الوصل ببينهما من مُسلّمات النظرية السّياسِيّة المعاصرة، في مجملها. بتعاضدهما تُدرك الدِّيمُقرَاطِيّة غاية المساواة، ويُحقق المُجتمع المَدَنِيّ حرية الأفراد ويضمن تقرير مصيرهم. بكلمة أخرى، لا غناء للديمقراطية عن المُجتمع المَدَنِيّ ولا غناء له عنها، هكذا تُؤكد، باطمئنان شديدٍ، الأطروحة السّياسِيّة المعاصرة المهيمنة، غير أن فَحْصًا نقديّا لهذه السردية - بعيدًا عن الصّورة اليوتوبيّة الجاهزة للفكرتين بحُسبانهما مُركّبًا عضويًّا متجانسًا فيه الشفاءُ من كلّ داءٍ في السياسةِ والحلُّ لمُعضلاتِها المُعاصرة كافّة- يكشف عن حدود مغفولة تكاد ترقى بالصلة بين الفكرتين إلى درجة التناقض. كيف سَرَدَ تاريخ الفكر السياسيّ المعياريّ (الغربيّ) مسارَ تبلور كلٍّ مِن الديمقراطيّة والمُجتمع المَدَنِيّ؟ هل ثمّةَ روايةٌ -أو رواياتٌ- أخرى (غيرُ غربويّة) لتاريخ المفهومين، وماذا تُرتّب من نتائج -إنْ هي وُجدت- على الروابطِ بينهما؟ كيف قدَّمت الحداثة، في ثوبيْها الليبراليّ والاشتراكيّ، تفاعل الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ؟ هل أفلحَ النموذجُ التداوليّ النقديُّ المُعاصرُ في اجتراحِ بديلٍ ديمُقرَاطِيّ للسّرديّتين الليبراليّة والاشتراكيّة؟ ما المثالب التي اعتورتِ الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ، في الاجتماع السّياسِيّ المعاصر، والتناقضات الناجمة منها، وما تداعيات ذلك على أماني الوصل بينهما في تشيِيد سياسةٍ ديمُقرَاطِيّةٍ فعليّة؟ إن الجواب عن هذا التساؤل كفيل ببيان وجه الطوبى في سردية الوصل بين الفكرتين، موضوع دراستنا، وكشف التوترات التاريخية والمفاهيمية والسّياسِيّة التي تذهل أطروحة الوصل الاستسهالي -المهيمنة في مدوّنات الفكر السّياسِيّ وعلومه- عنها.

أولًا: في تاريخ الدِّيمُقرَاطِيّة

تَعْرفُ السرديّة الغربيّة المُهيمنة على تاريخ الدِّيمُقرَاطِيّة، ذيوعًا هائلًا تكاد - من فَرْطِ انتشارها- تصيرُ الحقيقةَ المُقدّسةَ غير القابلة للتفنيد أو حتى النقاش[1]. تعود السرديّة هذه بميلاد الدِّيمُقرَاطِيّة إلى الحِضْن اليونانيّ القديم، وتجعل من تاريخها مطابقًا لتاريخ الحضارة الغربيّة. ولا تتحرّج مدوّنة تاريخ الفكر السّياسِيّ في التشديد على مديونيّة السّياسَة الحديثة والمعاصرة لدِيمُقرَاطِيّةِ أثينا؛ ولا تتورّع في إسقاط مفاهيمها على اليونان القديمة، حيث كان يجتمع أعضاء "المُجتمع المَدَنِيّ"، بصفتهم مواطنين أحرارًا، في "فضاءٍ عامٍّ" (هو ساحة الأغورا) للبثّ في مصيرهم وسياسة شؤونهم على نحوٍ "دِيمُقرَاطِيّ". لم يتساءل العديد ممّن ردّدوا هذه المزعمة عن وُجودٍ فِعْليٍّ لديمُقرَاطِيّةٍ في أثينا حَكَمَ فيها الشعب نفسه؛ إذْ لم يُؤخذ في الحسبان ضآلة عددِ مَن حقّ لهم التوسُّم بالمواطنة والمشاركة في الحياة العامّة؛ كما لم يتساءل الباحثون، إلّا في ما نذر[2]، عن أشكالٍ منَ الدِّيمُقرَاطِيّة (على غرار مثال أثينا) سابقةٍ بل - قُل- مُلهِمَة لـ "ديمقراطيّة أثينا". لقد استعاد "الغربُ الحديثُ" - كما تؤكّد السّرديَّة الغالبة- هذه الفكرة السّياسِيّة العبقريّة (=الدِّيمُقرَاطِيّة) ومأسَسَها وَوَسَّعَ من فئات المُجتمع المَدَنِيّ ومنَ المشاركة السّياسِيّة، في نموذجه "المظفر والنهائيّ". هكذا ابتدأَ تاريخ السياسة من الغرب ليَنْتَهِي عنده[3]، لكن الحفْر في هذه الرواية المعياريّة كفيلٌ بمراجعة يقينيّاتها.

على النقيض من هذه السرديّة، أطلّت روايةٌ أخرى تشكّك، كثيرًا، في المَهدِ الأثينيّ للديمقراطيّة. سعت الروايةُ الجديدةُ إلى إثبات أنّ مبادئ الحكم المُساواتيّ ونظامَ المجالسِ وقواعد التدبير المباشر للشأن العامّ هي ممارسات سابقةٌ بعشرات القرون على إصلاحات كليسينثين (Clisthène)، التي دشّنها في القرن السّادس ق.م. لقد ساعد الحفر الأنثروبولوجيّ في تاريخ الدِّيمُقرَاطِيّة، خارج المجال الغربيّ، على اكتشافات تضاهي وتفوق، أحيانًا، مِثالها الأثينيّ المُؤسْطَر[4]. هكذا عثرتِ الأنثروبولوجيا السّياسِيّة في جماعات قديمة وحديثة على أنظمةٍ ساست نفسها بتوسّل التداول المباشر بين أعضائها كافّة - بمن فيهم النساء أحيانًا-، يتداولون مصير الجماعة ويبثّون في قراراتٍ تعنيهم، إمّا بالتراضي أو التصويت أو الاقتراع. إذا كانت دِيمُقرَاطِيّة القدامى تعني إقامة المجالس العامّة للتداوُل في شأن الجماعة ومصيرها، فقد وُجدت هذه في كلّ زمان؛ الدِّيمُقرَاطِيّة، بهذا المعنى، إذن، لا تاريخ لها.

ماذا عن ديمُقرَاطِيّة المحدثين؟

من يعود إلى قراءة مأثور أولئك الذين طالما وُسِموا بالآباء المؤسّسين للنظام السّياسِيّ الدِّيمُقرَاطِيّ الحديث سيلفيهم –ويا للمفارقة- أشدّ عداوةً لكلّ نظامٍ تَرْجَحُ المُساواةُ فيهِ على الحريّة[5]. لقد مَثَّل النظام الديمقراطيّ عند هؤلاء، نظامَ جِياعٍ وجَهلةٍ وفوضويّين. وقد وافقَ "شنّ" الدّولَة الحديثة "طَبَقَة" النّخب لمّا قامت هي على أنقاضِ الدِّيمُقرَاطِيّة (لتقطع دابر الفوضى والاضطراب)، وتكرَّسَ دورُ النّخب في احتكار الحياة العامّة. وسُرعانَ ما اتّجه حُكمٌ أرستقراطيٌّ (=نخبويٌّ) - نتيجة تنامي السُّلطَة الاقتصاديّة لمانِحِي الضّرائِب (من المجتمع البرجوازيّ الناشئ)- مِنَ الاستبداد إلى القبول بالتّداوُل على السُّلطَة والمُشاركة فيها. وهذا النمط من الحكم يمكن نعته بـالدِّيمُقرَاطِيّة الأرستقراطيّة كناية عن نظامٍ تَختار فيه نخبةٌ صغيرةٌ قلّةً قليلةً تُمَثِّلها في السُّلطَة لتَحكُم باسم الكثْرَة. ومع التقدّم الاقتصاديّ والعلميّ، في الدّولة الرأسماليّة، تضاعفت قُدرة الاقتصاد على التحكُّم في أدوات الدّعايةِ وصناعة الرّأي، وتنامى سُلطان المال على الحياة السّياسِيّة؛ فرَوّضَ المال الدِّيمُقرَاطِيّة وأخضعها مؤذِنًا بميلاد نظام سِياسِيّ ظاهره الدّيمُقرَاطِيّة وجوهره أوليغارشيّة. هكذا يمكن تحقيبُ تاريخ الدِّيمُقرَاطِيّة على أطوارٍ ثلاثةٍ: ديمُقرَاطِيّة المجالس؛ ديمُقرَاطِيّة أرستقراطيّة؛ وديمقراطيّة أوليغارشيّة.

وقد كان تمثّلُ الدِّيمُقرَاطِيّة مناقضًا لمُمارستها التاريخيّة: حين كانت مذمومةً محقورةً بالأمس، كفكرةٍ، كانت واقعًا تاريخيًّا في نماذج عديدة من نُظم الحكم في العالم، وأقْرَبَ ما تكون إلى تعريفها بما هيَ التجسيد المُباشر للمواطنة والمساواة وتقرير المصير. أمّا اليوم - وبعد أنْ صارت حديث كلّ النخب ومطلب كلّ الشعوب، كفكرة مثالٍ لا تُضارَعُ بأيّ نظامِ سياسيّ آخر- باتت نماذجها التاريخيّة إلى الأوليغارشيّة أقرب، وأمست سيادة المال تتعالى عن سيادة الشعب وسيادة الدّولة.

ثانيًا: في تاريخ الصّلة بين الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ

على خلاف الدِّيمُقرَاطِيّة، كان لفكرة المُجتمع المَدَنِيّ تاريخٌ حديثٌ؛ حديثٌ جدًا، إذا ما قُورِنَ بقُرُونٍ مديدةٍ هي عمرها. لم تنبَجِس المَعالِم الأولى لهذا الكيان إلّا توازيًا مع تبلوُرِ فكرة الدّولَة الحديثة (علّة قِيَامِه)، في القرن السابع عشر. ويمكن إجمال المحطات الكبرى في تطوُّر فكرة المُجتمع المَدَنِيّ في أشواطٍ ثلاثةٍ: عرَّف المُجتمع المَدَنِيّ نفسه خلالها -على نحوٍ مختلفٍ- تبعًا لأشواطٍ من الاتصال مع الدّولَة أو الانفصال عنها: مثّلت لحظة النشأة في كنف الدّولَة الحديثة المحطّة الأولى للفكرة، وقد حلّت في صورةِ تماهٍ بينهما. لقد اضطرّ مطلبُ الخروج من حال الحرب تنازلَ المُجتمع المَدَنِيّ عن حقوق المُواطنة كافّة، لصالح الحاكم الأوحد، قبلَ أن تحلّ محطّةٌ ثانيةٌ يُميِّز فيها المُجتمع المَدَنِيّ نفسه عن المُجتمع السّياسِيّ، بعد أنْ مكَّنَهُ السّوق من اقتطاع حيِّزٍ خاصٍّ من المجال العامّ للدولة. إنّها لحظةُ المُجتمع البرجوازيّ؛ أمّا اللحظةُ الأخيرةُ من تطوّر هذا المفهوم فقد شهدت على دخول فئاتٍ جديدةٍ إلى مجاله واتساع ميادينِ اشتغاله. وهذه لحظةُ المنظّمات غير الحكوميّة والتنظيماتِ المدنيّة الأكثر انفصالًا عن الدّولَة حدّ المطالبة –أحيانًا- بإلغائها؛ لحظة المُجتمع المَدَنِيّ الطوعيّ.

تفترض إعادةُ قراءةِ تاريخَيِ الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ، على النحو أعلاه، مراجعة التفكير في نمط الصِّلات التي انتُسِجَت بينهما، بعيدًا عن أطروحة الوصل والمطابقة. كيف تقلّبت، إذن، الروابط بين هذين المفهومين، المحوريَّيْن في التفكير السّياسِيّ الحديث، تبعًا لمراحل تطوّر كليْهما؟

تكشفت المقارنة بين تاريخيِ الديمقراطيّة والمُجتمع المَدَنِيّ، المومأ إليهما، عن اختلافٍ وَسِيعٍ، شهدا خلاله على فتراتٍ تأرجحت بين انقطاع الصلة، والاتصال، والانفصال. فترة الانقطاع التامّ هي الأطول في تاريخ الفكر السّياسِيّ (منذ ما قبل الميلاد إلى حدود القرن السابع عشر)، وتوازيها المرحلة الأولى للدِّيمُقرَاطِيّة: ديمقراطيّة المجالس المباشرة. ودليل الانقطاع هذا غيابُ شيءٍ اسمه المُجتمع المَدَنِيّ لغياب عِلّتِه: الدّولَة الحديثة. الصّلة بين الدِّيمُقرَاطِيّة في حِقبتها الكلاسيكيّة، والمُجتمع المَدَنِيّ تعني مُماهاته مع المُجتمع السّياسِيّ تمامًا، وهذا مُحالٌ في المجتمعات الحديثة؛ لأنّ المُماهاة هذه، إنْ هيَ تحقّقت، ترفع - لِزامًا- صفة المدنيّة عن المُجتمع من حيثُ إنّها تفترض انمحاء المجال الخاصّ الذي من دونه لا يكون المُجتمع المدنيّ مدنيًّا. تاريخ الدِّيمُقرَاطِيّة قديمٌ جدًا، لا يبدأ في القرن الخامس في أثينا بل قبلها؛ ولا هو مُلكيّة غربيّة، بل كونيّة شهدت عليها تجاربٌ شتّى في العالم. أمّا تاريخ المُجتمع المَدَنِيّ، فحديثٌ جدًا ولا بدّ من الإقرار بنَسَبِهِ إلى أوروبّا الحديثة. هكذا يصير الوُسْعُ الزمنيّ بين الفكرتين سحيقٌ يُقدر بأزيد من ألفي عام، ويصبح الوصلُ بينهما قبل الحداثة ضربٌ من التجنّي على التاريخ.

ساهم نشوءُ حيّزٍ خاصٍّ، وتبلورُ فضاءٍ عامٍّ للنقاش، وانزياح الدِّيمُقرَاطِيّة باتجاه التمثيل في نسجِ صلاتٍ بينها وبين المُجتمع المَدَنِيّ؛ هي لحظة ليبراليّة رسمَ فيها المُجتمع المدنيّ ميدانه الخاصّ، وانتزع جزءًا من حقوقه السّياسِيّة، وأمّنَ حقوقه الطبيعيّة. والوشائج هذه، بين الدِّيمُقرَاطِيّة المُجتمع المَدَنِيّ، ما كانت مُمكنةً من دون تحويرٍ لمعنى الأولى (الدِّيمُقرَاطِيّة) حتّى يُلائم مستجدّات الحداثة المُطِلّة - تزامنًا- مع بزوغِ نخبةٍ جديدةٍ أفرزها السّوقُ (البرجوازيّة)، وميلاد مؤسّسة احتكرت العنف كأداةِ فرضٍ للنّظام (الدّولَة الحديثة). من دون فصلِ الدِّيمُقرَاطِيّة عن جوهرها (المُساواة)، واستحالتها إلى أرستقراطيّاتٍ ثمّ أوليغارشيّاتٍ انتخابيّة ما كانت لتتعايش مع مُجتمع مَدَنِيّ انبنى على الفرد ومصلحته الخاصّة. بصيغة أخرى نقول: إنّ المُجتمع المَدَنِيّ ما كان لينشأ في ظلّ ديمُقرَاطِيّة المَجالس (المباشرة)، أو تُنْتَسَجَ رابطةٌ بينهما من دون تدخّل دولةٍ حديثةٍ عدَّلت وحوَّرت فكرة الدِّيمُقرَاطِيّة والأرستقراطيّة لتُخرجَ منهما نظامَ حُكمٍ حديثٍ هجين، لا هو بالديمقراطيّ ولا بالمستبدّ، إنّما أرستقراطيّة تمثيليّة. وقدِ ازدهرت هذه الرابطة مع انتعاش المُجتمع المَدَنِيّ في الدّولَة الليبراليّة وامتدت إلى نهاية القرن التاسع عشر.

عادت أواصرُ الوَصْل بين الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ إلى الانقطاع تحت وطأة النُّظم التوتاليتاريّة، حين ابتلعتِ الدّولَة المُجتمع وصُفِّيَ المجال الخاصّ، وقد بلغت الحقبة هذه ذُراها في فترة الحربين العالميّتين. لكنّ مرحلةَ الخروج من ركام الحرب العالميّة الثانية -وتبعاتها على الاجتماع السّياسِيّ المعاصر مِنِ ارتفاعٍ مطّردٍ للطّلب على الحقوق والحرّيّات وانفتاح للفضاء العامّ وانتعاشٍ اقتصاديٍّ وتناسل الحركات الاجتِماعِيّة والمدنيّة...إلخ- ستشهد على انبعاثٍ جديدٍ للروابط بين مُجتمعٍ مدنيٍّ متطلّعٍ إلى الانعتاق من جبروتِ الدّولة وإلى حيّزٍ خاصٍّ لا حدود له، وديمقراطيّةٍ أضحت تأملُ في العودة إلى قواعد هذا المُجتمع لا إلى النّخب.

نصل، إذن، إلى أنّ إسقاط مبدأ التاريخيّة في التحليل، بمدِّ جذور المُجتمع المَدَنِيّ إلى حدود أثينا تعسُّفٌ لا يُضارعه غير تعسّفٍ مماثلٍ يمُدُّ الديمقراطيّة الأثينيّة إلى حدودنا المعاصرة. ليست أثينا أُمًّا للمُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة الحديثة، بل مِن رحم الدّولَة الحديثة خرجا.

ثالثًا: جدليّة الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ بين الليبراليّة والاشتراكيّة

1- الحدود الليبراليّة للفكرتين

المجتمعُ المَدنيّ الليبراليّ هو مجتمعُ المواطنين الأفراد المتحرّرين من كلّ سلطةٍ، سواءٌ تمثّلت السُّلطة هذه بشخصٍ (حاكم) أو بمجموعةٍ (حكومة) أو مؤسَّسةٍ (دولة). إنّه مَدنيٌّ لأنّه خاضعٌ - فقط- للقانون كقاعدة عامّة، وهو خضوعٌ - وإنْ لم يَخْلُ من الإكراه- لسُلطةٍ شرعيّة. هكذا يقول المواطنُ الليبراليّ، وهذا جوهر الحداثة السياسيّة الليبراليَّة كما تبلورت في مظانّها الكلاسيكيّة. لكن، مِن أين تتأتّى مشروعيّة القانون في النّظام الديمقراطيّ الليبراليّ؟ يُجيبُ سَلَفُ هذا المذهب وخلفُه على السّواء: مأتاها من "إرادة الشّعب"، التي تتحقّق من طريق المشاركة في صُنع القوانين، غير أنّ الشعب[6]، في ظلّ هذا النظام، لا يمارس السُّلطة بنفسه وليس في مكنه ذلك؛ فهذا، عند الليبراليّين، "مستحيلٌ" في مجتمعاتٍ حديثةٍ شديدةِ التركيب والتعدّد. لذلك يشدّد هؤلاء، جميعهم، على أنْ تضطلع نخبةٌ يختارها الشّعب بمهامّ السّلطةِ نيابةً عنهُ. بهذا يحوز الفردُ السُّلطة، غيرَ أنّها حيازةٌ غيرُ مباشرةٍ، لا يتجاوز نطاقُها الشّأنَ العامّ ليمتدّ إلى الحيّز الخاصّ، طالما ظلّت مهمّة القانون حمايةُ المجال الخاصّ، وإفساحُ الطريق للسّوق لخلق الروابط وتنظيم العلاقات المجتمعيّة. هكذا أُزيحَ المجتمع المَدنيّ من السياسة، في تناقضٍ مع جوهر الديمقراطيّة - بمعناها العامّ- واُغْتِيلتِ المواطنة. ينحسرُ الغرضُ من السّلطةِ، في النّظُمِ الليبراليّة، إذن، في حماية المجال الخاصّ للأفراد من أيّ انتهاكٍ قد ينجمُ من فردٍ أو مؤسّسة. يُقابل هذا التقزيم الليبراليّ لمعنى السّلطة والتضييق لحيّزِ اشتغالها تعظيمٌ للمؤسّسة الاقتصاديّة (السوق) وإفساحُ المجال لها كي تصيرَ هي السُّلطة الفعليّة النّاظمة للمجتمعِ. هكذا نصلُ، مع الليبراليّة، إلى مأزقٍ في السياسة كما في الاقتصاد: احتكارُ نُخبةٍ للسُّلطة السّياسيّة واستحواذُ قلّةٍ على الثّروة، وبالتي مزيد من التفاوتاتِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة (=اللامساواة)، التي يتعذرُ على خطاب حقوق الإنسان أنْ يواري سوءاتها.

ليس ثمّة من تطابقٍ بين الليبراليّة والدِّيمُقرَاطِيّة- على عكس ما تُردّد، من دون كللٍ، السّرديّة المعياريّة- بل إنّهما إلى التناقضِ أقرب. تزعم كلٌّ منهما الدفاع عن الحُرّيَّة، غير أنّ الحرّيّة الليبراليّة تتمايزُ عنِ الحرّيّة الديمقراطيّة؛ الأولى تعني حريّة الفرد، وتمثّل المبدأ المؤسّس للاجتماع السياسيّ الليبراليّ. أمّا الثانية، فيُقصد بها حريّة الأغلبيّة في أنْ تُقرّر مصيرها وتبسط سيادتها على جميع الأفراد. الحرّيّة الديمقراطيّة حرّيّةٌ إيجابيّة، تدفع بأفراد المجتمع المَدنيّ إلى الانخراط في الشّأن العامّ وفي السياسة. أمّا الحرّية الليبراليّة، فتُحرِّكها الرّغبة والأنانيّة، وتدفع بالأفراد خارج السياسة. تؤول الليبراليّة إلى الفرد بما أنّه جوهر هذه النّزعة، مصلحته وحقوقه الخاصّة هي ما يؤسّس قاعدة القانون. أمّا الديمقراطية، فإلى الجماعة تؤول، حيثُ تعلو المصلحة العامّة على المصالح الجزئيّة للأفراد، وتحظى الحرّيّات السياسيّة بالأولويّة، بل ترقى إلى مرتبة الواجب. وفي حال تعارضت المصالح العامّة مع الحرّيّات الفرديّة الخاصّة، فإنّ الحكومة الديمقراطيّة تُقدّم الصّالح العامّ على الحرّيّات الفرديّة، بينما في الليبراليّة، فإنّ المصالح الخاصّة للأفراد حقوقٌ طبيعيّة، وصيانتُها أولويّة عامّةٌ. السُّلطة، في النّظام الديمقراطيّ، سلطة الأغلبيّة (مصدر الشرعيّة)، في حينٍ تبدو الليبراليّة دعوة إلى التحرّر من كلّ سلطةٍ وإكراهٍ، حتى ولو كانت تحت غطاء الأغلبيّة. فهل يمكن الجمع بين الدِّيمُقرَاطِيّة والليبراليّة؟! نعم، يُجيبُ المنافحون عن الليبراليّة - وفي طليعتهم، مِنَ المعاصرين، فريديريك هايك[7]- لأنّ الديمقراطيّة تتعارض مع حُكم الفرد المُستبدّ، والليبراليّة تتعارض مع الحُكم التوتاليتاريّ. هنا يتقاطعان، وفي هذا حلٌّ لمشكلتين تتهدّدان حرّيّة الفرد والجماعة، على السّواء: التوتاليتاريّة والاستبداد؛ لأنّ الديمقراطيّة قد تُفضي إلى نظامٍ شموليٍّ كلّانيّ يَسحقُ الحرّياتِ الفرديّة -وقد حَصَلَ-، بينما قد تتعايشُ الليبراليّة مع حُكمٍ مستبدٍّ يفسح المجال للحُرّيّات الخاصّة ويستأثر - في الوقت عينه- بالسلطة العامّة - وقد حصل أيضًا-. وفي الحاليْن إقرارٌ من الليبراليَّة بتناقضها مع الديمقراطيّة. لكن أيّهما أوْلى، الديمقراطيّة أو الليبراليّة؟ يختار "الليبراليون الجُدد"[8]، من دون تردّد، الليبراليّة؛ لأنّ استبدادًا يحرص مصلحةَ فئةٍ قليلةٍ خيرٌ، عندهم، من ديمقراطيةٍ قد تُكبّلُ فردانيّتهم باسم الأكثريّة.

انطلقت فكرةُ الليبراليّة كدعوةٍ إلى الحُرّيّة، تُخرج الناس من التقليد والاستبداد إلى التحضّر والمَدنيّة؛ حرّيّةٌ - كما أرادها آباؤها وفي طليعتهم لوك- محروسةٌ بالقوانين. تنعدم الحُرّيَّة، عند لوك[9]، إذا انعدمت القوانين؛ لأنّ الحرّيّة هي التحرّر من تعسف الآخرين وعدوانهم، وهذا متعذّرٌ في غياب القانون؛ فليست هي »حرّيّة كلّ امرئٍ أنْ يفعل ما يشاء«، كما يزعم البعض. على هذا النحو بدأتِ الليبراليّة كدعوة إلى الخروج من حال الطبيعة إلى مجتمعٍ مَدنيٍّ من طريق تنصيبِ سُلطةٍ تحفظ الحرّيّة في إطار القانون، لكنّها (الليبراليّة) ستنتهي، مع نوزيك وهايك وغيرهم من "الليبراليّين الجدُد"، إلى العودة إلى حال الطبيعة حيثُ البقاءُ للأقوى ولا حدودَ للحرّيّة. هكذا تقَهقرت فكرةُ الليبراليّة إلى نزعة نيوليبراليّة متوحّشة؛ فإذا كانت الديمقراطيّة، مع توكفيل، ستعود لتتّصل، على نحوٍ أوثقٍ، بفضيلة المساواة والمواطنة، فإنّها ستتدهور إلى أنْ تصبح أداةً إجرائيّةً، في مجتمعاتِ السّوق، غرضها إعادةُ إنتاج النّخب الحاكمةِ والمتحكّمةِ في السياسة والثروة. وبعد أنْ مثّلت جدليّة الديمقراطيّة والمجتمع المَدنيّ، مع توكفيل، وصفةً لبلوغ الحرّيّة من دون استبدادٍ وتحقيق ديمقراطيّة فاعلةٍ، تفكّكت هذه الجدليّة، مع الليبراليّين الجدد، لتصبح الحرّيّة مطلبًا حتى ولو تحت راية الاستبداد.

2- الحدود الاشتراكيّة للفكرتين

أمّا الوعيُ الاشتِرَاكِيُّ بالدِّيمُقرَاطِيّة، فقد دُشّن مع ماركس، في معزلٍ عن - بل في تناقضٍ مع- المُجتمع المَدَنِيّ، وكان علينا انتظار غرامشي لتحرير المُجتمع المَدَنِيّ من وَسْمِ البرجوازيّة وبالتالي، إعادة الوصل بينه (المُجتمع المَدَنِيّ) وبينها (الديمقراطيّة)، غير أنّ الوشائج "الغرامشيّة"، بين المفهومين، ما لبثت أنْ عادت إلى التّمَزُّق في قراءاتٍ ماركسيةٍ لاحقةٍ، لتعود العلاقة بين المُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة إلى التّأرجح بين الوَصْلِ والفَصْلِ، على غرار حالها في الوَعيِ اللّيبراليّ.

انقسمتِ الجدليّة الاشتراكيّة للدِّيمُقرَاطِيّة والمجتمع المَدَنِيّ، بعد ماركس، إلى تيّارَينِ بارزَيْن: تيارٌ إرادويٌّ يُعوِّل على المُجتمعِ المَدَنِيّ لإنجاز الدِّيمُقرَاطِيّة من طريق كسب معركةٍ استراتيجيّةٍ: هي معركةُ الهيمنة الإيديولوجيّة في مُؤسّسات الدّولَة والمُجتمع؛ أي إنّ نقطةَ البدء، عند هذا التيار، تحقيق الوعي الثقافيّ والإيديولوجيّ (غرامشي وبولانتزاس مثلًا)؛ وتيارُ حتميّةٍ يرى أنّ المُجتمع المَدَنِيّ لا حولَ له ولا قوّة خارجَ الشّروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تُعيد إنتاج علاقات السيطرة الإيديولوجيّة؛ أي إنّ سَبيل ديمُقرَاطِيّةٍ فعليّةٍ تبدأ بتغيير تلك الشروط "الحاكمة" لوعي الفرد وثقافَته من طريق تحقيق المُساواة الاجتِماعِيّة قبل أيِّ حديثٍ عن المُساواة السّياسِيّة (ألتوسير وبورديو مثلًا). هكذا انتقل تصوّر الصّلة بين المُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة، في الفكر الاشتراكيّ المُعاصرِ، من القول بـالقطيعةِ التّامّة بينهما، خاصّة مع ماركس، إلى القول بـالتّواشج المُطلقِ بينهما في اللّحظة الغرامشيّة، قبل أنْ تضع الماركسيّة، في اجتهاداتها الجديدة مع ألتوسير وبورديو، المُجتمع المَدَنِيّ في حدوده وتزرعَ الريبةَ، من جديدٍ، في قُدرتِه على الوعي بذاته وتحقيق الخَلاص من استلاب السُّلطَة والسّوق.

وعلى الرّغم من اختلاف مشارب الاشتراكيّة وتعدّد تصوراتها لفكرة الدِّيمُقرَاطِيّة، إلّا أنّ وعيها بها يؤول - في عمومه- إلى صيغتها المباشرة وينأى عن نمطها التمثيليّ، المفضّل لدى الليبراليّين. أمّا صلتها بالمُجتمع المَدنيّ، فقد تقلّبت بين مَن لا يرى فيه غير طبقيّته البُرجوازيّة وأنْ لا خلاصَ للبروليتاريّا إلّا بزواله؛ ومَن يعتقد أنّ إدراك الدِّيمُقرَاطِيّة "الحقيقيّة" (=المباشرة) يستلزم -حُكمًا- كسب معركة الوعي داخل المُجتمع المَدَنِيّ. هذا ولم يعدمِ الوعيُ الاشتراكيّ، ذو "العقيدة الماديّة"، مثاليّةً تطلبُ مساواةً قُصوى بين الجميع، في مجتمعات هي، اليوم، أشدّ تركيبًا وتناقضًا، وتنشدُ ديمقراطيّةً مباشرةً ومجتمعًا مدنيًّا خلوًا من كلّ تفاوتٍ. والحالُ إنّ الدِّيمُقرَاطِيّة تلك والمُجتمع ذاك طوبيان، لا يَمُتّان إلى التاريخيّة والواقعيّة اللتين ما انفكتِ السّرديّةُ الاشتِرَاكِيّة تزعمُ الانتسابَ إليهما.

هيمنت فكرة الدّولَة على أهمّ ما كُتِب في الفكر السياسيّ الاشتراكيّ (لينين، تروتسكي، ألتوسير، وبولانتزاس، بورديو...)، واتّجه الوعي الماركسيّ -متأثرًا بنقد ماكس فيبر لماركس- إلى بناء نظريّة سياسيّة لا تُسقِط في التّحليل العاملَ الثقافيّ كما في الماركسيّة الكلاسّيكيّة الاقتصادويّة. لكن هذا الانشغال بالدّولة لم يتخطّ عتبة النّقد إلى اجتراح نظريّةٍ إجرائيّة واقعيّة في الدِّيمُقرَاطِيّة تكسرُ هذه "الحتميّة الماديّة التاريخيّة" وتُخرج السّرديّة الاشتراكيّة من سياج ثنائيّة الصّراع الطّبقيّ.

3- بين الليبراليّة والاشتراكيّة

بدأ تَمَثُّل الصّلة بين المُجتمع المدنيّ والدّيمقراطيّة متناقضًا، بين السرديّتين الاشتراكيّة والليبراليّة الكلاسيكيّتين، قبل أنْ ينتهي إلى التّوافق. كان التّواشُجُ راجحًا بين المُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة (التّمثيليّة)، مع بدايات الليبراليّة، في مقابل تناقضٍ تامٍّ بين المُجتمع المَدَنِيّ (البرجوازيّ) والدّيمقراطيّة (المُباشرة) في الاشتراكيّة الكلاسيكيّة، غير أنّ تصوّرات الليبراليّة والاشتراكيّة ستؤول إلى الاتفاق على نَفْيِ الإرادة والفاعليّة عن المُجتمع المَدَنِيّ والحطّ من الدِّيمُقرَاطِيّة، وإنِ اختلفا في تعيِين أداة النفيّ: هي السّوق، عند "الليبراليّين الجُدُد (فون هايك مثلًا)؛ وهي الدّولة، عند "الاشتراكيّين الجُدد" (ألتوسير مثلًا).

وكما لم تكترثِ الليبراليّة بمصالح الفئات العاملة، حين ناصرت مصلحة النخب، لم تنتبه الاشتراكيّة - في المقابل- إلى أنّ مصلحة العامّة ستأتي على حساب مصلحة النخب، وبالتالي فإنّ الإيديولوجيّتين، وإنِ ادّعَتَا أنّ النظامين السّياسِيَيْن اللّذين تقترحانِهِما عادلانِ، لا تكفلان المصلحة العامّة، كما فُهِمَت - وتُفهم اليوم- بما هي مصلحةُ جميع أفراد المُجتمع؛ لأنّها مجبولةٌ على الارتهان للطبقة المسيطرة على السُّلطَة، أمَثّلَتِ الطبقة تلك قلّةً أو كثرة.

على الرغم من تطوّرِ فكرة المُجتمع المَدَنِيّ على نحوٍ تحرّرَ فيه من وَسْم البرجوازيّة، إثر انفتاحه على فئاتٍ عريضة من المُجتمع، وتَلَبُّسه حلّةً سِياسِيّةً انعتاقيّة، لم يكن هذا الكيان، في مُعسكرَيْه الاشتراكيّ والليبراليّ على السواء، غير مطِيّةٍ مُؤقّتةٍ للتمكين لحزبٍ أو حاكمٍ أوْحدٍ تحت شعارات الدِّيمُقرَاطِيّة الاجتِماعِيّة (=الاشتِرَاكِيّة)، أو تسليم السُّلطَة إلى قلّة تَفتح بالسياسة أسواقَ الاقتصاد تحت عنوان الدِّيمُقرَاطِيّة التمثيليّة (كما كانت حالُ ثوْرات أوروبا الشرقيّة في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي). هكذا التهمتِ الدّولَةُ المُجتمعَ المَدَنِيَّ في التجربة الاشتِرَاكِيّة، بينما تكفّلَت السّوق بهذه المَهمّة في التجربة الليبراليّة؛ وهكذا سُخِّر المُجتمع المَدَنِيّ لتحقيق "الديمقراطيّة الليبراليّة" و"الدِّيمُقرَاطِيّة الاجتماعيّة" فلم يكنِ التوظيفُ إلّا أداتيًّا استثماريّا مواربًا -في مجمله- للتّمكينِ لنظمٍ "اشتِرَاكِيّة" و"ليبراليّة" على حساب الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع، بل على حساب قيمِ الليبراليّة والاشتراكيّة.

لم تكن الليبراليّة السّياسيّة، إذن، تعني الدِّيمُقرَاطِيّة، كما تُوهِمُنا نزعتها، كذلك لم تكنِ الاشتراكيّة هيَ الدِّيمُقرَاطِيّة، كما ظلّت النزعة الاشتراكيّة تردّد. في الوقتِ الذي فيه ركّزت الليبراليّة على الحُقوقِ السّياسيّة وحصرتِ الدِّيمُقرَاطِيّة في آليّة الانتخاب والتّمثيل وصيانة الحقوق الفردية، غير آبِهَةٍ بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، تنبّهت الاشتراكيّة إلى الحقوق تلك، لكنّ هذا -غالبًا ما- أتت على حساب الحُرّيّات والحقوق السّياسِيّة للأفراد.

أليس في الإمكان أفضل ممّا عرضته السّرديتان الليبراليّة والاشتراكيّة؟ هل ثمّة مسارٌ ثالثٌ يفتح الأفُق لنمطٍ من الدِّيمُقرَاطِيّة يضمن العدالةَ الاجتماعيّة للكثرة ويكفل مصلحةَ القلّة؟ هذه المعادلةُ الصّعبة هي ما اجتهدتِ النظريّة النقديّة التواصليّة المُعاصرة في حلّها.

رابعًا: أطروحة الوصل التداوليّة

بعد إخفاق السرديّتين الليبراليّة والاشتراكيّة في اقتراح نموذجٍ سِياسِيٍّ دّيمُقرَاطِيٍّ يكون بمثابة الجواب الشافي عن معضلات الاجتماع السّياسِيّ المعاصر، باتت الحداثة السّياسِيّة، في صيغتيْها (الليبراليّة والاشتراكيّة)، موضع تساؤلٍ وتشكيكٍ. لكن نظريّةً في السياسة معاصرةً، خرجت من رحم الماركسيّة وانفتحت على الليبراليّة، سعت، جاهدةً، إلى صِياغة نموذجٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ يمتحُ من سرديتيِ الحداثة ويتجاوزهما، في الآن عينه؛ إِنّه الدِّيمُقرَاطِيّة التداوليّة. مثّل الباراديغم التداوليّ التواصليّ، إذن، محاولةً لإنقاذ الحداثة من نفسها، من طريق التوفيق بين صيغتيها الليبراليّة والاشتراكيّة.

نعتقد أنّ التداوليّة، كما قدّمها يورغن هابرماس[10]، النظريةّ السّياسِيّة الأكثرَ تجسيدًا لأطروحة الوصْل بين الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المدنيّ. وقد بلغ تأثيرها مداه في التفكير السّياسِيّ المعاصر. عِمادُ الدِّيمُقرَاطِيّة التداوليّة مُجتمع مدنيٌّ فاعلٌ في تقريرِ مصيره وتشريعِ قانونه وحراسته من سطوة السّوق أو السُّلطَة. وفاعليّة هذا الكيان لا تُلغي الدّولَة ومؤسّساتها، بل تقوم على التأثير والوساطة بين قاعدة المُجتمع ومؤسساته. هكذا تتحقّقُ ديمقراطيةٌ قاعديّةٌ صاعدةٌ من المُجتمع ومؤثّرةٌ في مَجْريات السياسة، بما يُعيد لها معانيها المُغترِبة عنها-بما هي ممارسة فعلية للمواطنة-، ويشيح بها عن غلواء "خديعة" التمثيل السّياسِيّ. وإذا كانت مُعضلة الدِّيمُقرَاطِيّة الليبراليّة في نخبويّتها، ومعضلة الدِّيمُقرَاطِيّة الاشتِرَاكِيّة في شعبويّتها، فإنّ نموذجًا تداوليًّا للديمقراطيّة، مبناهُ على نقاشٍ صاعدٍ من قاعدة المُجتمع المَدَنِيّ، قمينٌ بالتوفيق بين حاجة الدِّيمُقرَاطِيّة المزدوجةِ إلى النّخبة والجمهور معًا، بعيدًا عن اختزاليّة التمثيل السياسيّ التي أثبتت حدودها. بهذه الصيغة تقترح التداوليّة تَجاوُزَ مثالب الدِّيمُقرَاطِيّة وأزمة المُجتمع المَدَنِيّ في السرديّتين الليبراليّة والاشتراكيّة. مفتاح التداوليّة، إذن، هو مؤسّسة المُجتمع المدنيّ؛ هذا الميدان، الذي يتوسّط المُجتمع والدّولة، الشعب والنخبة، في طاقته - بحسب التداوليّين- تجسيد سيادةِ الشّعب، من دون التطويح بسيادة المُؤسّسات.

أمكن للديمقراطيّة التداوليّة، كما تُقدّم نفسها، أنْ تُدركَ المشروعيّة بوجهيها الإجرائيّ والمعياريّ والتأليف بينهما[11]. تتحقّقُ المشروعيّة الإجرائيّة، حين تخضع صناعة الحقّ لمبدأ المُساواة والمشاركة بفعلِ مواطنةٍ نشطةٍ لأعضاء المُجتمع المدنيّ، فتُحقِّق بذلك الاستقلاليّة العامّة لأفراد المُجتمع بحُسبانهم أعضاء في الدّولَة يحتازون حقوقًا سياسِيّةً على قدم المساواة. أمّا المشروعيّة المعياريّة، فقيامها على نزعة حقوقيّة تُعلي من حريّة الفرد واستقلال إرادته عن أيّ حرّية أو إرادةٍ أخريَيْن. تُكْفَل هذه المشروعيّة وتُصان حين تَحْتَكِمُ الدِّيمُقرَاطِيّة إلى مبادئ ومعايير قَبليّة هي بمثابة حقوقٍ طبيعية ضامنة للاستقلاليّة الفرديّة. هكذا تكون ميزة الدِّيمُقرَاطِيّة التداوليّة في تشييدها على صهرِ الجانبِ الإجرائيِّ للمشروعيّة مع جانبها المعياريّ/ الحقوقيّ. والامتياز هذا مأتاه من تأسيسها على نقاشٍ عقلانيٍّ تُحفِّزُه استقلاليّة المجالِ السّياسِيّ العموميّ؛ مجالُ تبلوُرِ وساطةِ المُجتمع المَدَنِيّ بين الأفراد والدّولة، بما يُتيح - كما يؤكد التداوليّون - توافقًا يُبدّد التوتّر بين استقلاليّة الفرد الخاصّة وحرّيته والاستقلاليّة العامّة الجماعيّة.

"خَفَّفتِ" المشروعيّة التداوليّة، كما تدعي، التوتر بين الاستقلاليّة الفرديّة والاستقلاليّة العامّة لمّا قالت بفرضيّة الأصل الواحد. ليس بالإمكان إدراك السّيادة الشعبيّة لجماعةٍ سياسِيّة من طريق أفرادٍ تُعوِزُهمُ الحُرّيّة واستقلاليّة الإرادة؛ ولن تُدركَ الاستقلاليّة الفرديّة إلّا في حِضنِ جماعة سِياسِيّة ذات إرادةٍ حرّةٍ. والتجسيد الفعليّ لتظافر الاستقلاليّتيْن شرطُه استقلال المجال السّياسِيّ العموميّ[12]؛ مجال النشاط التواصليّ التداوليّ الحرّ للمُجتمعٌ المدنيٌّ. في المجال هذا، تتحقّق قيَم الفرد الذاتيّة وفضائل المواطن العامّة حين يرافع الأفراد عن حاجاتهم، بتوسط نقاشٍ علنَيٍّ (=عموميّ) حرٍّ ومستقلّ، في إطار الصالح العامّ. ويكبحُ هذا المجال تَغَوُّل الإرادة العامّة على المصالح الجزئيّة، باسم السيادة الشعبيّة، عند استثمار قوّة المُجتمع المَدَنِيّ في التأثير في الرّأي العامّ والمؤسّسات السياسيّة. هكذا، يُمكن لمجالٍ عموميّ مستقلٍّ، على هذه الصيغة، أنْ يَرفع التوتر القديم والمزمن بين الحُرّيَّة والمُواطنة، فتتحقّق حُرّيَّةٌ مُواطِنةٌ ومُواطَنةٌ الحُرَّةٌ.

قدّمت الدِّيمُقرَاطِيّة التداوليّة نفسها كبديل يشمل مزايا النُّظم الدِّيمُقرَاطِيّة الحديثة ويتجاوز ثغْراتها، واقترحت صيغًا وَسَمَهَا التوفيق بين توتّرات النّظم تلك، حتّى يكفل البديل هذا المساواة والحُرّيَّة، وحقوق الفرد والجماعة، والاستقلاليّة الفرديّة والسيادة الشعبيّة...إلخ. وقد مثّلت فكرة الوصل بين المُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة المفتاحَ في جُلّ مشاريعِ "الحلّ الثّالث". أمّا أداة الوصل، فليست سوى نقاشٍ عقلانيٍّ في المجال العموميّ "المُستقل". ولابُدّ من الاعتراف بأنّ التداوليّة السياسيّة أفلحت في فرض نفسها كسرديّة حداثيةٍ ثالثةٍ تُجيبُ عن تقهقر السياسة وقيمها الحديثة. لكنّ النظريّة التداوليّة، ذات الجذور النقديّة غير البعيدةِ عن التأثير الماركسيّ، بالغت في التعويل على المُجتمع المَدَنِيّ وطاقته التواصليّة، مُسْقِطَةً التبايُنات الطبقيّة والتفاوتات الاجتِماعِيّة التي عليها ينهضُ بنيان النظام السّياسِيّ المعاصر. لقد قدّمت السياسة التداوليّة نظرةً "ورديّةً" عن مُجتمع مدنيٍّ مثاليٍّ مُوحّد متماسكٍ منسجمٍ قويٍّ، بما يكفي، لإنجاز تواصلٍ عقلانيٍّ خالٍ من كلِّ إكراه ماديٍّ أو رمزيٍّ. نعم، مُجتمعٌ مدنيٌّ بهذا القدر من اليوتوبيا قادرٌ على تشييد ديمُقرَاطِيّة تواصليّة مِثاليّة، غير أنّ معضلة هذا البديل تكمن هنا؛ أي في يتوبيّته؛ لأنّ التعويلَ على المُجتمع المَدَنِيّ في انتشال الدِّيمُقرَاطِيّة من أزمتها دونه أمراضٌ عُضال أصابتِ السياسة المعاصرة، هي، في أصولها، أمراضُ المُجتمع المَدَنِيّ والدِّيمُقرَاطِيّة.

خامسًا: أسقامُ السياسة وحدود أطروحة الوصل

من المُحالِ أنْ تستقيم حال الديمُقرَاطِيّة من دون جماعةٍ تحملُ عقيدةَ المدنيّةِ وسلوكَها، غير أنّ الرّهان على تشييد هذا النظام دُونَه كوابحُ كبرى تُعيق قِران الديمقراطيّة والمُجتمع المَدَنِيّ؛ وحدودٌ يفرضها واقعُ السياسة وإكراهه؛ وتحدّياتٌ تحرف السياسة عن مُثُلها وفضائلها؛ و– قبل كلّ هذا - تناقضاتٌ بنيويّةٌ في الفكرتين.

1- استحالة الدِّيمُقرَاطِيّة إلى أوليغارشيّة

ليس ثمّة شَكٌّ في أنّ للمال - بالأمس واليوم- سُلطة خوّلته مُضارَعة سُلطَة السياسة والتأثير فيها، غير أنّ التعاظم غير المسبوق للنظام الرَّأسمالِيّ، وتنامي جماعات الضغط وقدرتها على التأثير- بل التحكم- في الحكومات والنظمِ...إلخ أخضعَ رقبة السياسة للمال وأعاق الدِّيمُقرَاطِيّة وشانها بالأوليغارشيّة. لا تكمن المعضلة هنا؛ أي في الوجه الأوليغارشيّ البشع للنظام السّياسِيّ المعاصر، بل في قدرة طغمة الأثرياء، المتحكمين في هذا النظام، على إقناع الجمهور بأنّ هذا النظام هو أمْثَلُ تجسيدٍ لإرادتهم السّياسِيّة، وهو التعبير الفعليّ للديمقراطيّة، إلى أنِ استحالت فكرة الدِّيمُقرَاطِيّة إلى أوليغارشيّة انتخابيّة - في جُلّ الديمقراطيّات المعاصرة- خاضعةٍ لسلطان المالِ وسطوته، قابعةً تحت نير الشركات الكبرى وجبروتها.

رتّبتِ الأوليغارشيّات الانتخابيّة أفدحَ النتائج على الدِّيمُقرَاطِيّة وأوخمَ العواقب على المُجتمع المَدَنِيّ. قزّم هذا النظام الهجين فكرة الدِّيمُقرَاطِيّة إلى صراعٍ انتخابيٍّ تتنافس الشركات الكبرى فيه على التّحكُّم بآراء الناخبين وتوجيه اختياراتهم. نظامٌ الفائزُ فيه من يدفع أكثر[13]؛ أيْ من يملك الوصول إلى الإعلام، أفْتَكِ الأسلحةِ في حروب السياسة. أمّا ما يوصف اليوم مُجتمعًا مَدَنِيًّا، فقد مثّل الوعاء الذي فيه تَمَأْسَسَت سطوة المال على السياسة، بعد أن تلبّست جماعات الضغط والمقاولات السّياسِيّة لبوسَ العمل المَدَنِيّ لتُحكِم، من طريقه، سيطرتها على العمل السّياسِيّ وتُسخِّره خدمةً للثروة والسّوق. لقد أمكن للمال تشويه الدِّيمُقرَاطِيّة وشراء المُجتمع المَدَنِيّ؛ فأضحت هي السبيل المُثلى لتكريس الطابع الأوليغارشيّ للنظام السّياسِيّ المعاصر، وأمسى هو ميدان إعادة إنتاج التفاوت والظّلم الاجتِماعِيّيْن. هكذا ما عاد المُجتمع المَدَنِيّ ديمقراطيًّا كي يُنتج ديمُقرَاطِيّةً، ولا ظلّت الدِّيمُقرَاطِيّة مدنيّةً تعكسُ سُلطَة المُجتمع بعد أن صارت سُلطَةً عليه تُشَرْعِنُ الاستغلال والاستبداد.

2- التلاعب بالرأي والإرادة

تفترضُ الدِّيمُقرَاطِيّة مبدأ الحُرّيَّة والاستقلاليّة لأفراد الاجتماع السّياسِيّ؛ من دونهما تستحيل الدِّيمُقرَاطِيّة إلى أداةِ تزييفِ إرادةِ الناس والتلاعب بوعيهم ومصيرهم. وإذا كانت السرديّة السّياسِيّة المعاصرة تعوّل، كثيرًا، على المُجتمع المَدَنِيّ لبناء ممارساتٍ سِياسِيّة مُواطنة أساسها التواصل وصناعة الرأي العموميّ، فإنّ ذلك يستلزمُ، حُكمًا، أن يكون الفضاء هذا مفتوحًا ومستقلًّا، بما يكفي، حتّى يكفل لأفراد المُجتمع المَدَنِيّ التأثير في المُجتمع السّياسِيّ وحراسة إرادتهم، غير أنّ هذا الفضاء أضحى، عينه، مسرح السّوق والسّلطة المفضّل لتجريد المُجتمع المَدَنِيّ من مجاله، وصرفه عن أدواره المدنيّة. وقد مثّل الإعلام[14] الأداة الأمثل، في الصراع على هذا المجال. هكذا، وبعد أنْ فقد استقلاله الماديّ لصالح السوق والسلطة، مثّلَ المُجتمعُ المَدَنِيُّ هدفًا لقصفٍ إعلاميٍّ وعمليّةِ إعادة بناء الوعي لا يتوقّفان، ليفقد إرادته بعد ضياع الاستقلاليّة. فكيف بمجتمعٍ مدنيّ مستلبِ الإرادةِ والحُرّيَّة، على هذا النحو، أنْ يكون المِدماكَ لسياسة ديمُقرَاطِيّة فعليّة، بعد أنْ أمسى - ويا للمفارقة- يقدّم السّخرة للسوق والسّلطة؟!

بعد تحكّمها في السياسة بالمال والإعلام، نجحت القلّة الأوليغارشيّة في تكريس نظامٍ سياسيٍّ يؤَمِّنُ إعادة إنتاج نفسه وتسخير السّياسة في خدمة مصلحة النخبة المسيطرة. فُصّلَ هذا النظام، بإحكامٍ، على مقاسات الطّغمة النافذة، ووُضعت قوانينه لضمان ديمومته. وقد مثّل التلاعبُ بـالقانون أداةً أخرى لتأبيد الطابع الأوليغارشيّ لهذا النظام، وأضحى وسيلةَ قتلٍ للدِّيمُقرَاطِيّة بدلا مِن أنْ يكون لحظة تتويجٍ لها. معضلة قانونٍ كهذا أَنّهُ من صناعةِ قِلة لصالح قلّة باسم الأكثريّة. يحتاز هذا القانون شرعيّة التمثيل لكونه ناجم من تفويض الجمهور لقلة تُشَرِّعُه وتُنفّذه. وبينما تتكفّل آلة الدعاية بتحويل وَهْمِ فكرة التمثيل إلى حقيقة، في وعي الجمهور، تضطلع القلّة المُشرِّعة بخدمة مصالح وكلائها الفعليين: جماعات الضغط والشركات الكبرى، هؤلاء هُم المَمَثَّلُون الفعليون في الأوليغارشيّات الانتخابيّة. هكذا يكون ظاهر النظام السّياسِيّ الحديث التمثيل وباطنه الإقصاء والاستبداد في إطار القانون واحترامٍ للدستور المقدّس.

3- التعدّد الهدّام

التعدّد هو السّمة الأبرز للمجتمعات المُعاصرة، بل إِنّهُ قيمةٌ من قِيَمِ الاجتماع السّياسِيّ المعاصر؛ لذلك لا ديمُقرَاطِيّةَ، اليوم، من دون تعدّديّة، غير أنّ قيمة التعدّد الهوياتيّ والثقافيّ قامت على جُثّة قِيَمِ المُواطنة. لم تُفلحِ النظُم الموسومة بالديمقراطيّة في صَهْرِ التعدّد الاجتِماعِيّ والثقافيّ في هويّة مدنيّة متعاليةٍ تسمو فوق كلّ الانتماءات الفئويّة الجُزئيّة التقليديّة منها والمُعاصرة. لقد صارتِ "الدِّيمُقرَاطِيّة" أقصر السُّبل إلى تحويل قيمة التعدّد الاجتِماعِيّ والثقافيّ إلى نقمةٍ تُفصح عن ذاتها في خطابٍ سياسيٍّ - قد يستحيل إلى عنصريّة- لا يُبصر الآخر إلّا كتهديدٍ لأناه. فهل نجحت الدِّيمُقرَاطِيّة، في صيغتها التمثيليّة، إلّا في تعرية واقع التشظّي الاجتِماعِي والثقافيّ والسّياسِيّ في المجتمعات المعاصرة؟!

والمُجتمع المَدَنِيّ، هو الآخر، فضاء مثاليّ لرعاية النزعة الانكفائيّة على الهويّة المحليّة أو الثَّقافِيّة أو الفكريّة، بعد أنْ تنكّر لدور التنشئة على المواطنة، والوساطة بين المُجتمع والدّولة، وأخفقت في جعل الروابط المَدَنِيّة تسود على الروابط التقليديّة، بل صار - في حُلَلِهِ المعاصرة- بيئة مثال لتكوثر النزعات الهويّاتيّة العنصرية. مَن ينظر اليوم إلى حال المؤسّسات "المَدَنِيّ" وهيئاتها يُبصر خليطًا من كياناتٍ غير متجانسةٍ على قدرٍ علٍ من التقاطب والتنافر في القيمِ والأهداف، تشملُ العلمانيَّ والدينيَّ، الثقافيّ والكونيَّ، والدِّيمُقرَاطِيّ والمستبدّ، التقدميَّ والرجعيَّ...إلخ. ناهيك بتعدّد مجالات اشتغالها بين الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة...؛ ومستويات العمل المحليّ والجهويّ، والوطنيّ والدوليّ... هذا المشهدُ، وحده، كفيلٌ بحملنا على التردّد، كثيرًا، قبل إغداق أوصاف المدنيّة على هذه الكيانات، وإدراك حجم تهديدها تماسُكَ الاجتماع السّياسِيّ إذا وهنت أمامها الدّولَةُ. هكذا نالت مسألة التعدّديّة من فكرة المجتمع المَدَنِيّ ومن الدِّيمُقرَاطِيّة ومن تماسك الدّولَة ووحدتها، وسارت رياحهما (التشظويّة) عكسَ اتجاه سُفُنها (التوحيديّة).

4- الفردانيّة

ما فتئت تتنامى نزعةٌ فردانيّةٌ، بعد أزمة الدِّيمُقرَاطِيّة الإجرائية وما أنجبته من نُظمٍ كلّانيّة مطلع القرن الماضي. وشيئًا فشيئًا، كرّست هذه الطابع الحقوقيّ للمشروعيّة الدِّيمُقرَاطِيّة. دفعت الرغبة الجامحة في حماية الأفراد من تغوّل سلطان الدّولَة إلى تكبيل المشروعيّة الدِّيمُقرَاطِيّة بُجملةِ معايير صارت مقدّساتٍ للنظام السّياسِيّ المعاصر يحرم المساسُ بها ولو باسم الإجماع أو الأغلبيّة أو، حتّى، الصالح العامّ. ومِن أعراض داء الفردانيّةِ الكفرُ بالسياسة ونبذُ المُواطنة والاستعاضة عن العمل السّياسِيّ ومؤسّساته ببدائل من خارجه. يقود داء الفردانيّة إلى ترجيح العمل المَدَنِيّ على السّياسِيّ وتضخيم أدوار المُجتمع المَدَنِيّ على حساب الدّولَة ما يؤدي، بالتالي، إلى إنهاكها وإضعافها. من أعراضه، أيضًا، تقديم الفرد على المُجتمع والمصالح الخاصّة على الصالح العامّ، وإشاعة الأنانيّة والانتهازيّة في المُجتمع، فضلًا عن النيل من تماسكه. توسّع الفردانيّة من الفوارق الاجتِماعِيّة بين الأفراد بما يُفرغ فكرتيِ المساواة والحقوق السّياسِيّة من مضامينها، لتُصبح الحُرّيَّة هي الركيزة الأساس للسياسة المعاصرة وتُمسي المواطنة ترفًا لا يناله إلّا الأقوياء. هكذا أفسدتِ الفردانيّة الدِّيمُقرَاطِيّةَ وحالت دونها وبناء جماعة مواطنةٍ متضامنةٍ.

والتنشئة على المواطنة، والارتقاء بالانتماءات المحليّة التقليديّة والثقافيّة إلى انتماءٍ مدنيّ لجماعةٍ سياسيّة، وبالمصالح الجزئيّة إلى مصلحة عامّة...إلخ هي من المهامّ الأساس للمجتمع المدنيّ، غير أنّ وَقْعَ الفردانيّة عليها كان وخيمًا. غلّبت هذه النزعة المشروعيّةَ الحقوقيّة الفرديّة على مشروعيّة المواطنة وحقوق الجماعة لمّا اختزلتِ الدِّيمُقرَاطِيّة في صيانة حقوق الإنسان[15]. هكذا ساهمت الفردانيّة في تحويل المجتمع المَدَنِيّ إلى كياناتٍ مطالبيّة مُنشغلةٍ باليوميّ والجزئيّ والحقوقيّ؛ فصار أداةَ تقطيعٍ لأواصل الاجتماع السياسيّ وتذريرٍ للمجتمع. الفردانيّة، إذن، من أخطرِ أمراض السياسة: تسلب الديمقراطيّة قيمَ المواطنة، وتصير معها أدوار المجتمع المَدَنِيّ هدّامةً للدّولة مُذرّرةً للمجتمع.

5- الدِّيمُقرَاطِيّة الشعبويّة

خرجت ظاهرةُ الشعبويّة من تبجيل فكرة الشّعب وكرد فعلٍ على الفردانيّة والنخبوية، لتزيد المشهد السياسيّ المعاصر تأزيمًا. ما يُهِمّ الشعبويّة غيرَ الحصول على الأغلبيّة لكي تُوسَمَ السُّلطَة الناجمة منها بالديمقراطيّة، بصرف النظر عن سُبل صناعة الأغلبية تلك. حفّزت قابليّة الجمهور للخطاب الشعبويّ النخبَ الأوليغارشيّة على الاستثمار في هذا الخطاب وإسباغ وسْم الدِّيمُقرَاطِيّة عليه. إذا كانت النخبويّة تَهديدًا يُصادر الإرادة العامّة ويطمس حقّ الجمهور في تحديد مصيره فإنّ الشعبويّة فاقمت - من حيث لم تَعِ - من هذا التهديد، وحوّلت الدِّيمُقرَاطِيّة إلى لحظة تخديرٍ وتدجينٍ جماعيةٍ للجمهور.

فتحت الشعبويّة الباب للحديث باسم الشعب ضدّ الشعبّ ولتوسّل الدِّيمُقرَاطِيّة ضد نفسها حين ماهَتْ بين الشعب والجمهور والدهماء وجعلتها مفاهيمَ سواء. لقد منحت "شرعيّة الشعب" نفسها حقّ السموّ فوق القوانين والمؤسّسات، بما فيها الدستور، وسمحت للاستبداد الكلّانيّ أنْ يُطلّ من جديدٍ - وقد أطلّ فعلًا- من نافذة التطرف اليمينيّ واليساريّ والمحافظ، في كُبريَاتِ الدِّيمُقرَاطِيّات الليبراليّة. يتجسد خطر الشعبويّة على الدِّيمُقرَاطِيّة، إذن، في قدرتها على تعبئة الجمهور خلف خطابٍ ظاهرُه تحقيق السيادة الشعبيّة وباطنه حُبلى بمشاريع تأبيد الاستبداد.

****

ليست "اللائمة" تُلقى على معضلاتٍ من خارجِ الديمقراطيّة والمُجتمع المَدَنِيّ، فحسب، إنمّا -أيضًا- عليهما تقع؛ فإذا كان صحيحًا أنّ سطوة المال والإعلام، مثلًا، خطران دخيلان على السياسة، فبِأدواتِ العمل المَدَنِيّ والآليات الدِّيمُقرَاطِيّة تسرّبَتا إلى السياسة واستحكمتا فيها. أمّا الفردانيّة والتذرّر والشعبويّة والوصوليّة... فهي طُفليّات من أحشائهما خرجت، وفي حِضْنِهما رَبَتْ وتضخَّمت. هي، إذن، مفارقات وتناقضات ذاتيّة في فكرتي الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المدني لا أعراض أو أعطابٌ طارئة. لقد أمسى المُجتمع المَدَنِيّ، المُرتجى في انتشال الدِّيمُقرَاطِيّة من أوحالها، اليوم -ويا للمفارقة- الخطر الأوّلُ عليها من حيثُ ضرره بالمساواة؛ وتهديده اللَّحمة الاجتِماعِيّة؛ وخيانته دورَ الوسيط بين المُجتمع والدّولة؛ وتأمينه الملاذ للفردانيّة والهويّات الانكفائيّة، والعصبيّات التقليديّة والمعاصرة، والإيديولوجيّات القاتلة[16]؛ وتراميه على أحياز الدّولَة ووظائفها وسعيه إلى الحلول محلّها؛ وصيرورته الحِضن الآمن للفساد وصناعة الاستبداد...إلخ. بكلمة أخرى، كيف بمجتمعٍ مدنيّ أنْ يصير ترياقَ نجاةٍ للديمقراطيّة وقد استحال اليوم، في عمومه، إلى سقم عضال للسياسة؟

أمّا الدِّيمُقرَاطِيّة، فلم تعدم، هي الأخرى، مفارقات. إنّ نعت النّظم السّياسِيّة الأوليغارشيّة المعاصرة بالديمقراطيّة قد يرقى إلى أن يكون أعظم تزييفٍ شهد التاريخ السياسيّ الحديث والمعاصر عليه. لقد مثّل هذا التحريف أكبر نجاحٍ للطّغمة المسيطرة على الثروة والسّلطة في إقناع النخب والجمهور، على السّواء، بأنّ نقيض الدِّيمُقرَاطِيّة هو "ديمُقرَاطِيّة"، وأنّ الأوليغارشيّات الانتخابيّة التمثيليّة هي التعبير الأمثل عن الإرادة الشعبيّة والصّالح العامّ. نظامٌ ركيزته المال ونفوذ الشركات الكبرى باتت هو الغطاء لضرب المساواة؛ وتكريس قيم السّوق ومعها، التفاوتات الاجتِماعِيّة والثقافيّة؛ واستلاب إرادة المُجتمع؛ وتعظيم مصلحة القلّة القويّة على حساب صالح المُجتمع؛ وتزييف الوعي وتغليط الجمهور... كلّ هذا باسم الدِّيمُقرَاطِيّة وبرعايتها. أليس من الجناية على الدِّيمُقرَاطِيّة، إذن، الاستمرار في نعت نُظُمِنا الأوليغارشيّة المعاصرة بها؟!

نصل، بعد هذا الحفر في تاريخ الديمقراطيّة والمُجتمع المدنيّ (القديم والحديث)، والبحث في تطوّر الروابط بينهما، والمآلات المعاصرة لفكرتيهما إلى أنّ هذا التاريخ المتفاوتة -بل المتناقضة أحيانًا- أطواره بينهما غابَ وغابت معه أمراضهما عن حُسبان السّارد الغربويّة (Occidentaliste) لتاريخ الفكرتين وتاريخ الصلة بينهما. إذا كان صحيحًا أنْ لا ديمُقرَاطِيّة من دون مُجتمعٍ مدنيّ فلابدّ، ابتداءً، من تحديد عن أيِّ ديمُقرَاطِيّة ومجتمعٍ ومدنيّةٍ نتحدث. لكن لا ينبغي أنْ يُنسينا ما تَقَدَّمَ من نقدٍ مزدوجٍ للنّظام الدِّيمُقرَاطِيّ الليبراليّ وللمُجتمع المدنيّ، أنّنا بصدد أقلّ النّظم السّياسِيّة سوءًا، في حاضرنا، وأنّ نَقْدَنَا هذا لا يعني - لزامًا- الدّعوة إلى نقيضه: إلى الاستبداد، بقدر ما هو لحظةُ فحصٍ لجدليّة الدِّيمُقرَاطِيّة والمُجتمع المَدَنِيّ خارج المُتداول الشائع في سرديّتها الغربويّة، والتنبيه إلى أنّ مسيرة الدِّيمُقرَاطِيّة وفكرة المُجتمع المَدَنِيّ ما تزالا بعيدتين عن تقاطع غايتيهما (المساواة والحُرّيَّة الفعليين)، وأنّ مِشوارهما لم يُدرك بعدُ تمامه، وأنّ تفكيرًا وعملًا مُضْنِيَيْنِ طويليْن يحتاجهما اجتماعنا السّياسِيّ المعاصر لكي يُحصّل بعضًا من عافيته، بعيدًا عن حلولٍ سريعةٍ تمتطي صهوة هاتين الفكرتين.

[1] أنظر: بنجامين عيسى خان وستيفن ستوكويل، التاريخ السري للديمقراطية، ترجمة معين الإمام (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية)، 2011، ص. 21

[2] Cf: Steven Muhlberger and Phil Paine "Democracy's Place in World History", Journal of World History, Vol. 4, No. 1 (Spring, 1993), p. 27. (emphasis mine), available at: <https://www.jstor.org/institutionSearch?redirectUri=%2fstable%2f20078545>, (Accessed 4 March 2021); Marcel Detienne, « des comparables sur les balcons du politique », in: Marcel Detienne, Les grecques et nous (Paris : Perrin, 2005), p. 145; Francis Dupuis-Déri, Démocratie: Histoire politique d’un mot (Québec: Lux Editeur, 2013); Albert Babeau, la ville sous l’ancien régime, vol 1 (Paris : Librairie Académique/ Didier et cie, 1884); Amartya Sen, « Democracy as a Universal Value », Journal of Democracy, 3-17 No. 10 (March, 1999), pp. 3-7, available at: <https://www.unicef.org/socialpolicy/files/Democracy_as_a_Universal_Value.pdf>, (Accessed 15 March 2021). Amartya Sen, "Democracy And Its Global Roots: Why Democratization Is Not The Same As Westernization", in : Christine M. Koggel and others, Moral Issues in Global Perspective,: Moral and Political Theory, Vol 1 (Mississauga : broadview press, 2006),

[3] يُنظر: إنشاء الله مصطفى، "الدِّيمُقرَاطِيّة: بدايةُ التاريخ ونهايَتُه؛ قراءةٌ في المقالة الليبراليّة المُعاصرة"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات، بتاريخ والأبحاث، بتاريخ 8 دجنبر 2021. متوفر على الرابط: <https://www.mominoun.com/auteur/1771> تمت زيار في 19/07/2022.

[4] Cf: John Keane, The Life and Death of Democracy (London: Simon & Schuster, 2009); David Graeber, « la démocratie des interstices : que reste-t-il de l’idéal démocratique », Revus du MAUSS, N° 26, 2005. available at: <https://www.cairn.info/revue-du-mauss-2005-2-page-41.htm>, (Accessed 4 March 2021).

[5] Cf: Francis Dupuis-Déri, « L’esprit anti-démocratique des fondateurs des ‘démocraties’ modernes », Agone n°22, 2002, pp. 95-113; Francis Dupuis-Déri, Démocratie: Histoire politique d’un mot (Québec: Lux Editeur, 2013).

[6] مفهوم "الشعب"، على غرار الدِّيمُقرَاطِيّة، شَهِد ويشهد على احتفالٍ كبير به وتوظيف سّياسِيّ ودعائي له، من دون وقوفٍ عند حقيقته. الجميع يسعى إلى خدمته وينطق باسمه ويدود عن مصلحته...إلخ، حتّى وإن كان من أشد أعدائه. لذلك لم تعدم كلمة "الشعب" تفكيرا نقديا في مضمونها واستعمالها. يُنظر مثلا:

Alain Badiou et Pierre Bourdieu et autres, Qu’est-ce qu’un peuple ? (Paris : La fabrique, 2016) ; Michel Hébert, La voix du peuple : une histoire des assemblées au Moyen Âge (Paris : PUF, 2018) ; Pierre Rosanvallon, Le Peuple introuvable. Histoire de la représentation démocratique en France (Paris: Gallimard, 1998) ; Pierre Rosanvallon, La Démocratie inachevée. Histoire de la souveraineté du peuple en France (Paris: Gallimard, 2000).

[7] Friedrich A. Hayek, La Constitution de la liberté , trad Raoul Audouin et Jacques Garello (Paris : Litic), 1994, p. 79

[8] Friedrich A. Hayek, Droit, législation et liberté : l'ordre politique d'un peuple libre, Vol.3, trad Raoul Audouin, (Paris : PUF), 1983, p. 166

[9] John Locke, Traitée du gouvernement civil, Trad. Davide Mazel (Paris: FG Flammarion, 1992), pp. 184– 185      

[10] Cf: Jürgen Habermas, Droit et démocratie entre faits et normes, trad. par Rainer Rochliz et Bouchindhomme, Paris: Gallimard, 1997; Jürgen Habermas, «Sur le droit et la démocratie» Note pour un débat, Le Débat, n° 97 mai 1997, pp. 42-47

[11] Jürgen Habermas, Droit et démocratie, Op. cit, pp. 98-100

[12] Habermas, L'espace public: archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, trad. de l'allemand par M.B. de Launay (Paris: Payot, 1978) .p. 64

[13] Cf: Greg Palast, The Best Democracy Money Can Buy (New York: Plume Books, 2002).

[14] Cf: Edward S. Herman et Noam Chomsky, La fabrication du consentement : de la propagande médiatique en démocratie, trad. Dominique Arias (Marseille: Agone, 2008(.

[15] Marcel Gauchet, La démocratie contre elle-même (Paris: Gallimard, 2002).

[16] Cf: Amine Maalouf, Les identités meurtrières (Paris: Grasset, 2001).