إحداثية البطل في العالَم: البُعدان الأخلاقي والحضاري


فئة :  مقالات

إحداثية البطل في العالَم: البُعدان الأخلاقي والحضاري

(1)

ثمة حديث يطال الأبطال، لناحية استعصاء أجسادهم على التفسّخ والانحلال، وقدرتها العجيبة على مقاومة العوامل الأرضية، التي تنحلّ بفعلها الأجساد، وتصير إلى تراب من جديد. ولقد حظيت الثقافة الإنسانية، بنماذج لأبطال، أدعِّي مقاومة أجسادهم لعوامل الفناء، نظراً لقُدسيتها وما تحمله في طياتها من قيمة أنطولوجية كبيرة ابتداءً.

فكلّ "الشعوب المتحضرة الكبرى تقريباً نسجت في وقتٍ مُبكّر، أبطالها وملوكها وأمراءها ومؤسسي دياناتها وأسرها المالكة وإمبراطوريتها ومدنها الأسطورية، وباختصار أبطالها القوميين، وخصّت تاريخ ميلادهم وسنواتهم المبكرة بسماتٍ خيالية..."[1]

ولكي يستقيم هذا (الفعل البَعْدي) وتثبيته في الزمن المستقبلي، لناحية إسباغ هالة استثنائية على أشخاص بعينهم، ومنحهم خلوداً في الزمن والمكان، وتجاوزهم لمحنة شرط الضعف الإنساني؛ لا بُدَّ له أن يُثبّت منذ اللحظة الأولى؛ لحظة الميلاد. ولكي تستقيم لحظة الميلاد - هي الأخرى - لا بُدّ من التأسيس لها في الزمن القَبْلي. أعني التأسيس لقيامة البطل بإشاراتٍ وإلماحاتٍ لا يمكن أن تتأتّى لغيره من الناس.

وعليه، فنحنُ أمام ثلاث ولادات للبطل:

1- ولادةً قَبْلية على مستوى الإشارات والإلماحات، والتي يُؤسَّس لها لاحقاً، بالتأشير على ما كان عليه وضع الأُمَّة مرحلة ما قبل البطل، والإلماحات التي بدأت تظهر كعلامةٍ نهائيةٍ على ولادة البطل الاستثنائي، وإقدامه على عمل تعجز عنه بقية الذوات؛ فالمادة المُكوّنة للبطل متفوقة - بما لا يقبل المقارنة - على مادة الآخرين. لذا ينبغي لإلماحات ولادته أن تحمل في بنيتها تكويناً استثنائياً، لكي يتأكّد في سياق مُؤسطّر لحظة ولادته وشقشقته إلى عالمي الزمن والمكان. فالبطل قد يكون ابناً لأم عاقر أو لأب لا ينجب، فواحدة من مُحدّدات بشارة ولادة البطل بحسب "جالتون" هي "أن إنجابه اعترضته العوائق مثل الزهد أو العقم المؤقت".[2] ثم فجأة تتغيّر المقادير، وتبدأ إشارات حلول البطل في ظرف استثنائي، سينبني عليه حياةً مُفارقة وغير عادية، سيجترح البطل الخارق متونها متناً متناً، ويسندها بسيرةٍ عتيدة لا مثيل لها.

2- ولادةً مادية، أعني خروجه من رحم أمّه، وتزامن هذا الحدث مع تغييرات جوهرية في أزمان وأماكن مختلفة ومتعددة. فحدث الولادة سيقترن بلذةٍ فائقة لدى الأم، رغم المُتداول حول آلام الولادة ومكابدات الأم لحظتها. وسيقترن أيضاً برؤى تراها الأم أو الناس عموماً، فقد يسطع نور باهر في أعالي السماء، أو تشتعل نار في منطقة ما، أو يرى الناس غمامة تُظلّل الشمس لحظة ولادة البطل. وكما أشار "شيشرون" في كتابه (علم الغيب في العالم القديم)، "فقد احترق معبد ديانا، في أفسوس، في الليلة التي ولدت فيها أوليمبياس Olympias ابنها الإسكندر، وأن كهنة الفرس القدامة، قد أخذوا يصيحون مطلع النهار قائلين: لقد ولد أمس، شقاء مهلك ينتظر آسيا"[3]، وهي الفكرة ذاتها، التي سنجدها في معظم الثقافات المختلفة، عشية ولادة أبطالها القوميين.

3- ولادةً بَعْدية في الذهنين الفردي والجمعي، إذ يُعمل على نقل الأحداث اليومية والمعيش الواقعي للبطل من إطار العادي إلى إطار خارق، فعطسة البطل ليست كعطسة الناس العاديين، وذهابه إلى دورة المياه ليس كذهابهم، وقوله: "نعم" أو "لا" ليست كأقوالهم، ومشيته ليست كمشيتهم، وضحكته على الأكيد ليست كضحكات الناس العادين، نظراً لانطوائها على بعد غير مرئي، وإمالته لرأسه يميناً أو يساراً، رمز مُحمّل بدلالات عميقة؛ وكلّ حركاته وسكناته، يقظاته وأحلامه، رؤاه وتطبيقاتها، آلامه وأحلامه، ذات دلالات عميقة وتنبؤية، لذا يُحرص على تأريخها ونقلها من جيل إلى جيل، لتؤول إلى شيء مُؤسِّس.

بالتقادم، يتأيقن هذا البطل في أذهان الناس، لذا يتحوّل إلى رمز دالّ، ويصبح الخلاص مقروناً به وبأتبّاع تعاليمه. لذا يكثر ظهوره للمريدين والأتباع، في المنام أو في أحلام اليقظة؛ على صفحة السماء أو على القمر، كدلالةٍ مُحمّلة بمرموزات ذات تأثير كبير على حركة الاجتماع الإنساني.

إذن، نحن أمام ثلاث ولادات للبطل، يتم ضخّ محتوياتها بالتقادم، إلى درجة تحوّلها إلى جزء من الموروث الثقافي التأسيسي للأمة التي تُؤصِّل لبطلها، بصفته حدثاً أنطولوجياً بالدرجة الأولى. فهرقل بالنسبة إلى الحضارة الرومانية وأخيل بالنسبة إلى الثقافة الإغريقية وجلجامش بالنسبة إلى الحضارات السومرية والنبي موسى بالنسبة إلى اليهود والمسيح بالنسبة إلى المسيحيين والنبي محمد بالنسبة إلى المسلمين وبوذا بالنسبة إلى البوذيين ورامايانا بالنسبة إلى الهنود وشفنا بالنسبة إلى الهندوس ورستم بالنسبة إلى الفارسيين، أو فكرة المُخلّص في عموميتها لدى كثير من الأمم والشعوب...إلخ، أسماء تأسيسية في ثقافاتها وعلامة بارزة في عموم الحِراك المعرفي الفردي والجمعي، لتلك الثقافات، نظراً للحمولة الأنطولوجية القارّة بين جنبيها؛ أعني اعتلاءها على الشرط الإنساني العادي، وتموقعها في منطقة علوية تمكّنها من تشوّف الوجود من علّ، على عكس الناس العاديين، الذين لا قِبلَ لهم بهذا الشرف العظيم!.

(2)

أمكن تفهّم هكذا ثقافة - في واحدة من تجلياتها المعرفية - التي تحاول تعزيز ثقافة البطولة، مُمثلّةً بأشخاص بعينهم دون سواهم، كنوعٍ من التأسيس (المعرفي/ السيكولوجي) لإثبات قيمة الذات أنطولوجياً. فالإنسان الجمعي بحاجةٍ إلى إثبات قيمته وتعزيز مكانتها لدى الآخرين، إذ ليس من المعقول أن يكون لدى الآخر بطلاً ولا يكون لدى الذات بطلها هي الأخرى. فالتوازن الوجودي سمة بارزة في عموم الثقافات الإنسانية، ومسعى حثيث لإبراز قيمة الذات الجمعية - عبر شخصية البطل الخارق - بإزاء الذات الجمعية المغايرة، وتأكيد الدور المحوري الذي تلعبه هذه الذات، أو يمكن أن تلعبه، نظراً لانطواء بنيتها التكوينية على عنصر خارق ومفارق؛ لذا هي على استعداد دائم لاجتراح المعجزات، لغاية التقدّم ناحية الأمام وعدم الركون إلى ما هو قائم. فالإمكان الاستثنائي الكامن في شخصية البطل، هو إمكان برسم الجهوزية التامة، للردّ على معجزات الآخرين. وهو إذ يتأتّى الآخر - للردّ عليه - فإنه يتأتاه من عَل وليس من أفق، للتأشير على البنية العلوية في التأسيس لحدث أفقي إعجازي، وعدم القدرة بالرد عليه لأيّ كان. لكن يبدو أن تضامناً بين الثقافات المختلفة قد جعلها تتساوى في هذا الشغف البطولي، فكلّ لديه ليلاه ليتغنّى بها، لذا تتساوى المعجزات التي يجترحها أولئك الأبطال. فمن لديها بطل صعد إلى السماء، فالثقافة الأخرى لديها بطل مُستقر في السماء. ومن لديها بطل يستطيع الانتقال من المشرق إلى المغرب بين إغماضة عين وفتحها، فلدى الثقافة الأخرى بطل يستطيع الخروج من الأرض كاملة ويطوّف السموات بلحظات معدودة، وهكذا.

لكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوةٍ في هذا المجال: ما الذي يملكه البطل، ولا يملكه غيره من الناس، حيث يصير وجوده في العالَم وجوداً ضرورياً، ولا يمكن لسياقات الحياة الإنسانية أن تستقيم بدون إبداعاتهم الإعجازية؟.

لربما، ثمة بعض الإلماحات للإجابة الجزئية على هذا السؤال في موضوعة الولادات التي تحدثت عنها آنفاً، ولكن أمكن مقاربة الموضوع من زاوية أخرى:

ماذا لو يوجدوا؛ أعني هؤلاء الأبطال؟.

هذا سؤال لا معنى له، لأنهم وجدوا أساساً، وحضورهم أصبح جزءاً فاعلاً من سياقات الثقافة الإنسانية، ولا يمكن استحضار ثقافة غالبية الأمم بعيداً عن سير أبطالها. لكن يمكن الانتقال إلى سؤال آخر أمكنه تفصيل المسألة بشكل أوضح:

ما الذي قدّمه هؤلاء الأبطال للثقافة الإنسانية، وعجز غيرهم عن تقديمه؟. ما هي الإضافات المفصلية التي اضطلع بها هؤلاء، ولم يكن لحياة البشر أن تستقيم حياتهم بدونها؟.

أمكن الحديث والمحاججة بإسهامات ومعجزات الأبطال، لا سيما من قبل الأتباع والمُريدين، والنقلة النوعية التي حدثت في عموم النسق الثقافي لأمةٍ من الأمم، عقب ظهور بطل بعينه في تلك الأمة، والدور الإسهامي الذي قدّمه لها، ونُقلت بموجبه من النقطة "أ" إلى النقطة "ب". لكن الخطورة الكبيرة في إقرار ثقافة البطولة وحصرها في أشخاص بعينهم تحديداً، ومنعها عن بقية الناس الآخرين، نظراً لما يتمتّع به أولئك الأشخاص من رشاقة وجودية تجعلهم الأقدر والأكفأ على إبصار إمكان هذا العالَم وتبصّره أيضاً؛ مقابل ثقالة يتمتّع بها من هم دونهم في المرتبة؛ هي - أعني الخطورة - في تمثّل نسق عمودي يفصل بين الناس، ويجعل منهم طبقات بعضها فوق بعض، بما يضر النسق الإنساني أكثر مما ينفعه، سواء:

أ- على المستوى الأخلاقي.

ب- على المستوى الحضاري.

فعلى المستوى الأخلاقي، ثمة انحياز مبدئي لأشخاص بعينهم، على اعتبار تجاوزهم للإنسانية جمعاء، بما يخرجهم من سياقاتها الأخلاقية، فهو إذ يأتون من منطقة أعلى، فهم لا يعترفون ضمناً بالمساواة الأخلاقية بين بني البشر من زاويتين:

1- الأولى من زاوية الذات الفردية مقابل الذوات الفردية الأخرى، بما يجعل الأنانية ميزة أخيرة لهكذا أبطال، يرون في الآخرين محض مُتلّقين لتعاليمهم ليس إلا، فهم إذ يتواجدون في العالَم، فإنهم يتواجدون فيه بصفتهم قيمة (عليا) مقابل قيمة الآخرين (السفلى).

2- والثانية من زاوية الذات الجميعة لأمة من الأمم مقابل الذات الجمعية للأمم الأخرى، بما يجعل منها أبطالاً قوميين أكثر منهم أبطالاً إنسانيين، رغم الجهد المبذول من قبل الأتباع والمريدين لأنسنتهم ومنحهم أفقاً يتجاوز الأذهان والأزمان والمساحات الجغرافية أيضاً.

وعلى المستوى الحضاري، تُوجد فكرة البطل نوعاً من العزل الحضاري بين الناس، إذ يتم التأسيس لشعور إكراهي لدى الناس يستلبهم حقهم في المساهمة - عبر نشاط إبداعي يمكن أن تتعدّد تجلياته - في بناء معمار الحضارة الإنسانية، لا سيما ساعة تُؤسّس فكرة البطل إلى ربط فكرة الإبداع الحضاري بأشخاص لديهم قدرات هائلة وخارقة على اجتراح المعجزات، وليس إلى شرط الوجود الإنساني العادي، مع تفعيل دور تنمية القدرات الفردية والجمعية بالعلم والمعرفة، ودورها في تعزيز قدرات الفرد العادي، ودمجه أكثر في النسق الفاعل، القادر على المبادرة في تنشيط دوره الحضاري، وعدم رهن هذا النشط لقدرات خارقة ومفارقة للمألوف والمُتداول. فبناء الحضارة الإنسانية، والدفع بها قدماً ناحية الأمام، بما يخدم المشروع الإنساني في هذا العالَم، هو بناء تشاركي، تلاحمي، أفقي، تواصلي، تراكمي، بين ذواتٍ كثيرة وعديدة، تتواصل فيما بينها بشكل دائم، وليس بناء عمودياً يدفق من عل، عبر أشخاص بعينهم، يتواجدون في الزمن والمكان لفترة من الوقت، ويبقى وجودهم إلى ما لا نهاية!. إنه بناء يُشارك فيه الحدَّاد إلى جانب الفيلسوف، والنجّار إلى جانب العالِم، والصيّاد إلى جانب المبرمج الإلكتروني، والأمّ إلى جانب الطبيب، والمُمثّل إلى جانب المهندس؛ كلّ حسب طاقاته، شريطة تنميتها بشكل دائم ومتواصل. ولقد أثبتت التجربة التاريخية للجنس البشري أن النشاط الحضاري لم يقم على أكتاف أناس بعينهم، بما يمنحهم ميزةً - أياً كانت مصدريتها - عن غيرهم، بل هو نشاط قام على أكتاف أناس لا حصر لهم، وإن حدث تلفيق تاريخي كبير ونَسَبَ هذا النشاط إلى أشخاص بعينهم وإلى تعاليمهم الميمونة، بما يجعل منهم - رغم المآثر والهالات التي أحيطت حولهم - كائنات معزولة على المستويين الأخلاقي والحضاري!.


[1] جملة يقتبسها سيغموند فرويد، في كتابه، موسى والتوحيد، عن أوتو رانك أساساً.

فرويد، سيغموند، موسى والتوحيد، ترجمة عبد المنعم الحفني، مطبعة الدار المصرية، ط2، 1978، ص 35

[2] المرجع السابق، ص 34

[3] شيشرون، ماركوس توليوس، علم الغيب في العالم القديم، ترجمة توفيق الطويل، دار الوراق للنشر، لندن، المملكة المتحدة، ط1، 2015، ص ص 92- 93