إشكالية مفهوم النسخ في مدوّنة أصول الفقه


فئة :  مقالات

إشكالية مفهوم النسخ في مدوّنة أصول الفقه

إنّ أهمّية ظاهرة النسخ والإشكاليات المتعدّدة والمحرجة التي تطرحها، استدعت من الأصوليين عموماً وعلماء أصول الفقه خصوصاً أن يحدّوا النسخ في حقليْ تداوله اللغوي والاصطلاحي الشرعي.

وكان قيامهم بهذا العمل للنظر في المستويات التي يتفق فيها المدلول اللغوي للمصطلح أو يختلف مع المدلول الاصطلاحي. يقول أبو الحسين البصري: "اعلم أنّه لمّا كان اسم النسخ مستعملاً في أصول الفقه وجب ذكر فائدته لنفهمها عند إطلاقه. ولمّا كان مستعملاً في اللغة وفي الشريعة نظرنا هل فائدته فيهما واحدة أو مختلفة؟".[1]

ووجه أهميّة التوقّف عند الحدّ اللغوي للنسخ علاقته بالحدّ الشرعي، فالجصّاص يقرّ بأنّ الاختلاف في مفهوم النسخ اِصطلاحاً يتأسّس على اختلافه في أصل اللغة[2]، إلاّ أنّه يتجاوز الأصل اللغوي، ليقدّم تعريفه للمصطلح في إطلاق الشرع.

وهذه اللامبالاة بتأثير الحدّ اللغوي في صياغة الحدّ الشرعي للنسخ نلمسها عند الجويني الذي يمنع تلقي أصل النسخ من اشتقاق اللغة مع اتساعها لتطرق التأويلات إليها.[3]

وفي مقابل هذا الموقف، اختار ابن حزم أن يبيّن المفهوم اللغوي للنسخ الذي يقصده تخلّصاً من الالتباس الذي يثيره، لذلك نراه بعد أن تطرّق إلى تفرّع النسخ في اللغة إلى قسمين، ينصّ على أنّ الذي قصده بالكلام في باب النسخ هو القسم الأوّل؛ وهو التعفية.

وفضلاً عن هذا، نجد لدى بعض الأصوليين على غرار أبي الحسين البصري وعياً منهجياً بضرورة الشروع في تعريف الظاهرة قبل الخوض في شروطها وأحكامها "أمّا الكلام في فائدة الاسم فيجب تقديمها وتقديم الحدّ ليصحّ أن نتكلّم في شروطه وأحكامه".[4] والملاحظ أنّ الأصوليين لم يشذّوا عن المدلولين اللغويين المعروفين للنسخ، وهما: الإزالة أو المحو، والنقل أو التحويل أو التبديل. لكن ما هو المعنى الأصلي؟ هل هو الإزالة أو النقل؟ اكتفى القاضي عبد الجبّار بعرض مشكل الاختلاف في هذه المسألة "أمّا النسخ فهو في الأصل الإزالة أو النقل على ما اختلف فيه أصحابنا".[5]

إلاّ أنّ تلميذه أبا الحسين البصري، وإن لم يصرّح بمسألة الأصل، فقد رجّح أنّ اسم النسخ أجري على الحقيقة في معنى الإزالة وعلى المجاز في مدلول النقل.

وإذا كان الأصوليون يعتنون غالباً ببيان المعنى الحقيقي للكلمة، فقد يعجزهم الوقوف على هذا المعنى فيحكمون بأنّ جميع معانيها حقيقية، وأنّها من المشترك، أو يحكمون بأنّ جميع معانيها مجازية.[6]

ويمثّل رأي السرخسي عنواناً على الاتجاه إلى المجاز، فبعد أن يذكر من معاني النسخ النقل والإبطال والإزالة يقول: "وكلّ ذلك مجاز لا حقيقة، فإنّ حقيقة النقل أن تحوّلَ عين الشيء من موضع إلى آخر ونسخ الكتاب لا يكون بهذه الصفة، إذ لا يتصوّر نقل عين المكتوب من موضع إلى آخر، وإنّما يتصوّر إثبات مثله في المحلّ الآخر، وكذلك الأحكام فإنّه لا يتصوّر نقل الحكم الذي هو منسوخ إلى ناسخه. وإنّما المراد إثبات مثله مشروعاً في المستقبل أو نقل المتعبد من الحكم الأول إلى الحكم الثاني... ولو كان حقيقة النسخ الإزالة لكان يطلق هذا الاسم على كلّ ما توجد فيه الإزالة وأحد لا يقول بذلك".[7] وبعد رفض هذا الأصولي معنى الإبطال الذي يحدّ به النسخ يتبنّى معنى التبديل.

وأمّا الغزالي، فهو يمثّل الاتجاه إلى الحقيقة في كلّ من الإزالة والنقل، ويقرّر أنّ مادّة النسخ مشتركة بينهما، إذ يقول: "النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان، يقال: نسخت الشمس الظلّ ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها، وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب، فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع من الإزالة[8]، غير أنّ الآمدي لا يقطع باعتبار النسخ من المشترك كما فعل الغزالي، فهو يروي اختلاف الأصوليين حول حقيقته ومجازه إلى ثلاث فئات:

- فئة ترى أنّه مشترك بين الإزالة والنقل وعلى رأسها القاضي الباقلاني ومن احتذاه كالغزالي.

- وفئة تذهب إلى أنّه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، ويمثّلها أبو الحسين البصري ومن تابعه.

- وفئة ترى أنّه حقيقة في النقل والتحويل مجاز في الإزالة، ويمثّلها القفّال من أصحاب الشافعي.

وبعد أن يعرض الآمدي حجج كلّ فئة وما اعترض به عليها، ينتهي إلى أنّ النزاع بين هذه الفئات لفظي لا معنوي.[9]

ومن الواضح أنّ أغلب الأصوليين يجعلون لمعنى الإزالة في النسخ الأولويّة، وهو شأن البصري وابن حزم والجويني والكلوذاني. وجميعهم إمّا أنّه نصّ على معنى الإزالة والرفع فحسب، مثل الجويني، إذ يقول: "النسخ في وضع اللغة معناه الرفع"[10]، أو ذكر إلى جانب معنى الإزالة المعنى الآخر، وهو تجديد الشيء عند ابن حزم "ولم نقصد القسم الثاني، وإنّما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنّنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والإشكال".[11]

غير أنّ تبني أبي الوليد الباجي معنى الإزالة لا يستنتج إلاّ من خلال إشارتين: أولاهما ترتيب معنيي النسخ في اللغة، إذ تبوّأ معنى الإزالة والإعدام الصدارة. أمّا الإشارة الثانية، فهي اعتماد الباجي معنى الإزالة في تحديد مفهوم النسخ في الشرع.

ويجدر التنبيه على وجود معنيين للإزالة: أولهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظلّ أي أذهبته وحلّت محلّه. أمّا المعنى الثاني، فهو إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه كقولهم نسخت الريح الأثر. وقد ذكر أبو عبيد أنّ هذا النسخ الثاني كان ينزل على النبي السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب، ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول.

هكذا كان الاختلاف في مسألة التحديد والأصل اللغويين للنسخ ميسم ممثلي الفكر الإسلامي في القرون الخمسة الأولى الهجرية. وهذا الاستنتاج لا يشمل الأصوليين فحسب، بل كذلك المفسرين والفقهاء. ولعلّ ما يلفت الانتباه في هذا السياق رأي الطبري الذي يفيد أنّ أصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. وقياساً على ذلك، اعتبر معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها.[12]

ويتّسم هذا الموقف بالانتقائية، ذلك أنّ مصطلح النسخ في القرآن متعدّد الدّلالات؛ من بينها معنى الإلغاء والإبطال "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أوْ مِثْلِهَا"[13] والآية التالية تدعم هذا المعنى أيضا "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَيْطَانُ فِي أُمْنِيَتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ".[14]

كما أنّ مصطلح النسخ موجود في القرآن بمعنى الكتابة "هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنّاَ كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".[15]

وأمّا المعنى الثالث لكلمة النسخ، وهو استبدال نصّ بنصّ أو نصّ لاحق بنصّ سابق، فإنّه ناتج عن مناقشات الأصوليين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة نصوص متناقضة فاضطروا لاختيار النصّ الذي يتناسب أكثر من غيره مع التوفيق وتحقيق الانسجام بين الأحكام الشرعيّة التي كانت قد حظيت بتثبيت الفقهاء الأوائل.[16]

ونخلص إلى أنّ مفهوم النسخ في اللغة من المسائل الخلافيّة بين اللغويين وبين ممثلي الفكر الإسلامي في مجالات معرفيّة متعددة، كما أنّه تلبّس بالمباحث الكلامية في الكثير من الأحيان، مثلما يتجلّى لدى أبي الحسين البصري "فإن قيل وصفهم الريح بأنّها "ناسخة للآثار" والشمس بأنّها "ناسخة للظلّ" مجاز أيضاً، لأنّ الناسخ للآثار والظلّ هو الله سبحانه، فاعل الشمس والريح، قيل لا يمتنع أن يكون الله سبحانه هو الناسخ لذلك من حيث فعل سبب الإزالة وتكون الشمس والريح موصوفين على الحقيقة بأنّهما ناسخان من حيث اختصاصهما بسبب الإزالة".[17]

وقد اختلف الأصوليون أيضاً في تحديد ما إذا كان مفهوم النسخ في الشرع يتأسس على مفهومه في اللغة أم على غيره. فأبو الحسين البصري يورد أنّ الشيخ أبا عبد الله يرى أنّ استعمال اسم النسخ في الشرع منقول إلى معنى في الشرع لا يجري عليه على سبيل التشبيه بالمعنى اللغوي، لأنّه يفيد في الشرع معنى مميّزاً فجرى مجرى اسم الصلاة.

أمّا الشيخ أبو هاشم، فيذهب إلى أنّه يفيد معنى في الشرع على طريق التشبيه باللغة، وذلك أنّه يفيد إزالة مثل الحكم المتقدّم كما يفيد في اللغة الإزالة. إلاّ أنّ الشرع قصره على إزالة مثل الحكم الثابت بطريقة شرعيّة على وجه مخصوص.[18]

إنّ هذا النصّ يدعم فكرة قيام مفهوم النسخ في الشرع على مدلوله اللغوي الحقيقي تارة وعلى مجازه تارة أخرى ويبعد عن كليهما حيناً آخر.

وإذا رمنا النظر إلى العصر الذي سبق الشافعي لم نجد تعريفاً للنسخ مع أنّه رويت عن الصحابة والتابعين قضايا نسخ كثيرة، وذلك لاعتبارين: أوّلهما أنّه كان للنسخ عندهم مدلول لا يجهله المسلمون وهم حديثو عهد بنزول القرآن. أمّا الاعتبار الثاني، فهو أنّ التأليف على منهج المناطقة لم يكن قد بدأ حتى عهدهم ممّا يجعل تعريف المصطلحات العلميّة بحدود منطقية ضمن اللامفكّر فيه.

أضف إلى ذلك عدم استقرار المصطلح تبعاً لما جاء في القرآن من ألفاظ تدلّ على معنى النسخ أيضا مثل بدّل وأنسي. وعلى العموم كان مدلول النسخ عند الصحابة يشمل تخصيص العام، فقد أورد الشاطبي في الموافقات بضعاً وعشرين قضيّة نسخ رويت عن الصحابة والتابعين؛ ليستدلّ بها على أنّ مدلول النسخ عند الصحابة كان أوسع منه عند الأصوليين، بعد أن بيّن أنّ مدلوله عند هؤلاء هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعيّ متأخّر.

لقد كان الصحابة والتابعون بعدهم يرون أنّ النسخ هو مطلق التغيير الذي يطرأ على بعض الأحكام فيرفعها ليحلّ غيرها محلّها، أو يخصّص ما فيها من عموم أو يقيّد ما فيها من إطلاق.[19]

وما اختصّ به الشافعي عمّن سبقه تمييزه معنى النسخ فيما أورده من أدلّة وأمثلة عن تقييد المطلق وتخصيص العام واعتبارهما من أنواع البيان. فهما من باب بيان المراد بالنصّ، وأما النسخ فإنّ مدلوله يفهم في الرسالة من كلمتين متفرّقتين هما: "ومعنى نسخ ترك فرضه"[20] ثم قوله: "وليس ينسخ فرض أبداً إلاّ أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة، وكلّ منسوخ في كتاب وسنّة هكذا".[21] وما يستنتج من النصين أنّ النسخ عند صاحب الرسالة، إنّما يراد به رفع الحكم الأوّل كلّه، وهو ما يقتضي إثبات غيره مكانه.

لكن كيف كان مسار مفهوم النسخ إثر الشافعي؟

ينبغي أن ننتظر الطبري ـ أي حوالي قرن بعد الشافعي- لكي نجد إشارة في تفسيره إلى كتاب له بعنوان "لطيف البيان عن أصول الأحكام"[22] دلّل فيه "على أنّه لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاّ ما نفى حكماً ثابتاً ألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. فأمّا إذا احتمل غير ذلك ـ من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم أو المجمل والمفسر- فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، ولا منسوخ إلاّ الحكم الذي قد كان ثبت حكمه وفرضه".[23]

إنّ هذا النصّ لا يتضمّن تعريفاً للنسخ صريحاً، مع أنّه يمكن أن نستشف أنّه رفع حكم شرعي بحكم شرعي متأخّر، وهو يلتقي مع الشافعي في التمييز بين النسخ والاستثناء والتخصيص.

ويبدو أنّ ثلاثة تعريفات كانت تقدّم للنسخ في بداية القرن الرابع الهجري عرضها المحدّث الأندلسي أبو عبد الله محمد بن حزم (ت 320 هـ)[24].

وفي نهاية القرن الرابع يعرّف الجصّاص (ت 370 هـ) النسخ بقوله: "هو في إطلاق الشرع بيان مدّة الحكم والتلاوة".[25]

وقد كان هذا التعريف نواة لسلسلة من التعريفات بعده، منها تعريف ابن حزم صاحب "الإحكام في أصول الأحكام" بأنّه "بيان انتهاء زمان الأمر الأوّل فيما لا يتكرّر".[26]

إنّ هذا التعريف عنوان مدرسة من مدارس تعريف النسخ يمكن أن يُطلق عليها مدرسة البيان، امتدّت إلى القرن الثامن على الأقل، وشملت مذاهب إسلاميّة مختلفة، مثل الشافعية ومنها القاضي أبو الطيب الطبري[27] (ت 350 هـ) الذي يحدّ النسخ بأنّه بيان انقضاء مدّة العبادة الواردة بلفظ العام".[28] ولم يجار أبو الوليد الباجي أستاذه الطبري، بل حاول دحضه بدليلين:

أولاً: إنّ الأمر بالفعل عنده لا يقتضي التكرار، وإذا قرنه بقرائن تقتضي التكرار في كلّ زمان ثم نهى عن فعله في بعض الأزمان فلم يبيّن انقضاء مدّة العبادة، وإنما أزال بعض ما أوجبه الشرع المتقدّم، وإن كانت تلك القرائن بلفظ العموم في الأزمان ثم ورد بعد ذلك بيان انقضاء مدّتها كان ذلك تخصيصاً ولم يكن نسخاً.

ثانياً: إنّ النسخ بمعنى البيان ليس بمعلوم في كلام العرب، وإنّما هو بمعنى الإزالة وبمعنى النقل.[29]

والباحث في جذور تعريف الجصاص يلحظ تأثير الانتماء المذهبي عليه. فهو من فقهاء المذهب الحنفي الذي يعتبر النسخ نوعاً من البيان، هو بيان التبديل، لذلك كان تعريفه للنسخ بأنّه بيان مدة الحكم والتلاوة؛ ليوفق بينه وبين تفسيره لمادته في الآية "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"[30]. فقد ورد تعريفه للنسخ في سياق تفسيرها.

وإلى هذا الاتجاه في تعريف النسخ ينضمّ البزدوي والسرخسي. ينصّ الأوّل على أنّ "النسخ بيان محض لمدّة الحكم المطلق الذي كان معلوماً عند الله تعالى إلاّ أنّه أطلقه، فصار ظاهره البقاء في حقّ البشر فكان تبديلاً في حقنا بياناً محضاً في حقّ صاحب الشرع".[31] وهذا التعريف يتجانس مع التعريف اللغوي الذي اختاره، وهو التبديل. وهكذا فإنّ معنى النسخ عند البزدوي هو التبديل والإبطال لغة وكذلك شرعاً بالنسبة إلى علم العباد، لكنّه بالنسبة إلى علم صاحب الشرع بيان محض لمدّة الحكم. وقد اعتبر هذا التعريف غير مستقيم، لأنّه يؤدّي إلى القول بتعدّد الحقوق في حين أنّ الحقّ واحد في الشرعيّات والعقليّات جميعاً.[32]

وعلى خطى البزدوي يقرّر السرخسي أنّ "النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ في حقّ الشارع وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقّنا على ما كان معلوماً عندنا لو لم ينزل الناسخ".[33]

ونلفي لدى الجويني تعريفاً للنسخ بأنّه "اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأوّل".[34]

وهذا التعريف لا ينتمي إلى مجموعة تعريفات مدرسة البيان كما ذهب إليه بعض الباحثين،[35] وإنّما المقصود باللفظ الدال الخطاب، إذ يقول الجويني في كتابه "الإرشاد": "حقيقة النسخ هو الخطاب الدالّ على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر على وجه لولاه لاستمرّ الحكم المنسوخ".[36]

إنّ هذا التعريف ينبئ عن تيّار آخر عرّف النسخ بأنّه الخطاب، تعود جذوره إلى القاضي الباقلاني (ت 403 هـ)، وسيستمرّ مع الغزالي ثم مع ابن عقيل والحازمي في القرن السادس. وهو تعريف نشأ وتطوّر ضمن علم الكلام، وكان منذ البدء ممتزجاً بصبغة جدالية تتمثّل في الردّ على المعتزلة بتقرير أنّ الخطاب هو النسخ، وليس الناسخ كما ذكروا. إنّ مجال النزاع بين المعتزلة والمتكلّمين الأشاعرة يتركّز حول حقيقة الناسخ: هل هو الخطاب أم الله ورسوله؟

إنّ الناسخ في نظر أبي الحسين البصري يمكن أن يكون الله فيقال: "إنّ الله نسخ التوجّه إلى بيت المقدس"، ويوصف الحكم بأنّه ناسخ، فيقال: "إنّ وجوب صوم شهر رمضان ناسخ صوم عاشوراء". ويوصف المعتقد نسخ الحكم أنّه ناسخ، فيقال: "فلان ينسخ الكتاب بالسُنّة": يعتقد ذلك. ويوصف الطريق بأنّه ناسخ، فيقال: "إنّ القرآن ناسخ للسُنّة".[37]

وقد حدّ قاضي القضاة عبد الجبار الطريق الناسخ بأنّه: "ما دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابت مع تراخيه عنه".[38]

والملاحظ أنّ أبا الحسين البصري يمثل تياراً آخر في تعريف النسخ، إذ يحدّه بأنّه إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن رسوله، وتكون الإزالة بقول منقول عن الله أو عن رسوله أو بفعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً".[39]

وعلى شاكلة هذا التعريف، يحدّ الباجي النسخ بأنّه إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدّم بشرع متأخّر عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً".[40]

وفي الاتجاه ذاته يقرّر الكلوذاني أنّ النسخ في الشرع هو رفع مثل الحكم الثابت".[41] واختيار هذا التعريف ينبئ عن ميل صاحبه إلى جانب المتكلّمين ومخالفة شيخه الفرّاء.[42]

ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا الاتجاه في تعريف النسخ أنّ مصدره اللغة، وهو ما ذهب إليه بعض المتكلّمين، مثل أبي هاشم الجبائي.[43]

إنّ اشتراك أصوليين سنيّين وأصولي معتزلي في الاتجاه نفسه في تعريف النسخ، إنّما يدلّ على حقيقة أشرنا إليها سابقاً تتمثل في ذوبان الكثير من الفوارق بين الفكر الاعتزالي والفكر السنّي، لعدّة اعتبارات من أهمّها ضعف الحركة الاعتزاليّة في مناخ سياسي وفكري ساده التعصّب لأهل السُنّة وعقائدهم، وهو ما أدّى إلى الارتداد إلى المواقف والأطروحات التي تشكّلت في أول المؤلّفات الأصوليّة.

وعلى هذا، فإنّ تعريفات التيّار الأخير تعود بالنسخ إلى مدلوله الأوّل، فيُربط بينه وبين معناه اللغوي برباط وثيق، وهي تستلهم أساساً من المدلول الذي يفهم من رسالة الشافعي من خلال الأمثلة التي ساقها للنسخ من الكتاب ومن السُنّة، وهو ما كرّسه الطبري في تفسيره. وبهذا الشكل، فإنّ التيّار الأخير يكون قد آثر مواصلة خط السلف الصالح، واجتناب التطوّر الذي حصل بعد الشافعي والطبري من خلال "مدرسة البيان" أو "مدرسة الخطاب".[44]


[1]- أبو الحسين البصري،المعتمد في أصول الفقه، 1/394

[2]- الجصاص، أحكام القرآن، 1/58-59

[3]- الجويني، البرهان في أصول الفقه، 2/1293

[4]- البصري، المصدر المذكور، 1/393

[5]- القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، 5/585

[6]- انظر مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم، 1/60

[7]- السرخسي، أصوله، 53-54

[8]- الغزالي، المستصفى، 1/107

[9]- الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/146-150

[10]- الجويني، البرهان، 2/1293

[11]- ابن حزم، الإحكام، 4/465

[12]- الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/471

[13]- البقرة، 2/106

[14]- الحج 22/52

[15]- الجاثية 45/29

[16]- انظر محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ص 69

[17]- أبو الحسين البصري، المعتمد، 1/395

[18]- المصدر نفسه، 1/395

[19]- مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم، ص ص 68-73. وقد عرض ستة أمثلة عن قضايا النسخ استمدّها من الشاطبي، الموافقات، 3/65-69

[20]- الشافعي، الرسالة، ص 122

[21]- المصدر نفسه، ص 109

[22]- نجد في تفسير الطبري، طبعة محمود محمد شاكر اختلافاً طفيفاً في تحديد عنوان هذا الكتاب، وهو "كتاب البيان عن أصول الأحكام"، 2/435

[23]- الطبري، جامع البيان، 2/435

[24]- ابن حزم، معرفة الناسخ والمنسوخ، على هامش تفسير الجلالين 2/152-153 وانظر مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم 1/79-80

[25]- الجصاص، أحكام القرآن، 1/59

[26]- ابن حزم، الإحكام، 4/59

[27]- أبو الطيب الطبري، قاض وفقيه وأصولي شافعي، تتلمذ عليه أبو الوليد الباجي، قال عنه السبكي: شرح المزني وصنّف في الخلاف والمذاهب والأصول والجدل كتبً كثيرة ليس لأحد مثلها.

[28]- أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول، ص 390

[29]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[30]- البقرة 2/106

[31]- البزدوي، أصوله، 3/300-301

[32]- البخاري، كشف الأسرار، 3/301

[33]- السرخسي، أصوله، 2/54

[34]ـ الجويني، البرهان، 2/1297

[35]- يتعلق الأمر بمصطفى زيد في كتابه النسخ في القرآن الكريم. وقد أخذ على تعريف الجويني أنّه لا يشمل النسخ بفعل الرسول، وأنّه عقّد التعريف حيث لا مسوّغ للتعقيد بتلك السلسلة من الإضافات التي قدّم فيها عبارته. انظر المرجع المذكور، 1/87

ويجدر التنبيه على خطأ وقع فيه هذا الباحث، إذ أشار إلى أنّ بعض المؤلفين في الأصول وفي الناسخ والمنسوخ ومن بينهم أئمة ذوو مكانة لم يعنوا في كتبهم بتحديد النسخ على طريقة الأصوليين، ومنهم مؤلفان في أصول المذهب الحنفي هما البزدوي والسرخسي. وهذا مخالف للحقيقة، لأنّ باب النسخ في أصول البزدوي مثلاً يدشن بتعريف النسخ لغة وشرعاً.

[36]- الجويني، الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد، ص 339

[37]- البصري، المصدر نفسه، 1/396

[38]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[39]- المصدر نفسه، 1/397

[40]- الباجي، إحكام الفصول، ص 172 وص 389

[41]- الكلوذاني، التمهيد، 2/336

[42]- يعرّف الفراء النسخ بأنّه رفع الحكم بعد أن كان في توهّمنا وتقديرنا بقاؤه، العمدة في أصول الفقه 1/107- 108، وانظر سالم يفوت، ابن حزم والفكر الفلسفي، ص 181

[43]- ننبّه على ضرورة تصحيح الإحالة رقم 2 في هامش الصفحة 336 من الجزء الثاني لكتاب التمهيد في أصول الفقه للكلوذاني؛ فقد ذكر المحقق أنّ المتكلّم الذي يذهب إلى أنّ اسم النسخ منقول من اللغة إلى الشرع كما نقل اسم الصلاة والحج، هو أبو عبد الله البصري، نقلاً عن المعتمد، 1/395، إلا أنّ التحقيق في الأمر يؤكّد أنّ أبا عبد الله البصري يقول بعكس ما نسب إليه. يقول أبو الحسين البصري: "فأما استعمال اسم النسخ في الشرع فعند الشيخ أبي عبد الله أنّه منقول إلى معنى في الشرع ولا يجرى عليه على سبيل التشبه بالمعنى اللغوي، انظر المعتمد،1/395

[44]- مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم، ص 103. إنّ هذا التوجّه يلمس أثره عند بعض ممثلي الفكر الإسلامي الحديث مثل مصطفى زيد، فهو يتحمّس لتعريف النسخ من منظور التيار الأخير ويعتبر أنّه جامع مانع لا يهمل نوعاً من النسخ ولا يسمح بدخول ما ليس بنسخ في نطاق النسخ، ويقرّ أنّ النسخ يجب أن يعرّف بوصفه ظاهرة تشريعيّة لا صلة لها بعلم الكلام، وهو يبني رأيه الأخير على موقف سلفي يرفض تراث المدارس الكلاميّة الأصوليّة، إذ يرى أنّ تعريفاتها اصطبغت بصبغة هي إلى مذاهب علماء الكلام والفلسفة أقرب منها إلى مذاهب الأصوليين. ويضيف هذا الباحث أنّ هذا الاتجاه قد يكون له ما يسوّغه حين نشأته لكن استمراره بعد ذلك قروناً لم يكن له قط ما يبرّره، وهكذا يحاول هذا الباحث أن يقطع تطوّر المفهوم وحركته عبر الزمن، ليعود به إلى منابعه "الصافية" أيّام لم تختلط الشريعة بما يوهنها مثل الفلسفة والكلام.