إعادة تأهيل الإخوان المسلمين: النموذج التركي


فئة :  مقالات

إعادة تأهيل الإخوان المسلمين: النموذج التركي

هل يمكن تطوير نموذج مشابه للنموذج التركي في الحياة السياسية المصرية والعربية، ينظم العلاقة بين الدين والدولة، ويحظى بقبول جميع المواطنين على اختلاف تياراتهم السياسية والفكرية وانتماءاتهم الدينية والثقافية؟

كان حزب العدالة والتنمية التركي محصلة مخاضات وتحولات كثيرة ومتوالية في بنية وطبيعة الحركة الإسلامية التركية بعد سلسلة من تدخلات الجيش التركي وقوانين كثيرة وحاسمة، لتنظيم العمل السياسي وفلسفته ومبادئه؛ فبعد صعود حزب السلامة التركي بقيادة نجم الدين أربكان في أوائل السبعينيات، باعتباره القوة السياسية الثالثة في تركيا، وتوليه (أربكان) منصب نائب رئيس الوزراء وقع انقلاب كنعان ايفرين عام 1980، وأعادت الحركة الإسلامية التركية تشكيل نفسها في حزب الرفاه على أسس ومبادئ جديدة تمنع توظيف الدين واستخدامه في العمل السياسي، واستطاع حزب الرفاه أن يحقق أغلبية نسبية ويشكل حكومة ائتلافية برئاسة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينيات، ثم أجبر أربكان بفعل ضغوط قوية مارسها الجيش بالتحالف مع قوى سياسية علمانية،.. ثم تقدمت مجموعة جديدة من قيادات الصف الثاني في حزب الرفاه بمبادرة سياسية جديدة قائمة على مشاركة واسعة للمواطنين الأتراك، يمكن وصفها بمشاركة المتدينين والعلمانيين معا في عقد وتصور جديد للعمل السياسي يحافظ على العلمانية ويحترم الدين، واجتذبت هذه ا لمبادرة عددا كبيرا من السياسيين والنواب السابقين، ممن كانوا في قيادة الأحزاب السياسية العلمانية التركية إضافة إلى عدد كبير من قادة ونشطاء حزب الرفاه، ونجح هذا الحزب في كسب ثقة أغلبية الأتراك، ونجح أيضا في قيادة تركيا نحو التقدم الاقتصادي، ولكن احتاجت تركيا إلى ثلاثين سنة من الجدل والصراع، حتى طورت صيغة جديدة معقولة للعمل السياسي تنظم العلاقة بين الدين والسياسة على أسس ملائمة لطبيعة الحياة السياسية والتنافس على السلطة وتلائم أيضا التدين السائد في تركيا.

إن تجربة حزب العدالة والتنمية تعبر عن الانتقال من فكرة الدولة الإسلامية التي اخترعها المخيال الإخواني إلى دولة المسلمين التي يجتهد المسلمون في بنائها وتصميمها على أساس من تمثلهم للعصر ومعطياته، كما كان شأنهم طوال التاريخ، فينجحون في ذلك أو يفشلون ويتقدمون أو يتراجعون، ولكنهم سواء في نجاحهم أو فشلهم، لم يكونوا يعتبرون ذلك من الدين أو مناقضا له، كانوا يحترمون دينهم ويلتزمون به ويسعون للمواءمة في التطبيق والفهم، وقد يخطئون في ذلك أو يصيبون، ويبتعدون عن الإسلام أو يقتربون، وهذا أمر طبيعي ويأتي محصلة للتدافع الإنساني في الآراء والاجتهاد والاختلاف... وظلوا على الدوام مسلمين، لم يكن الإسلام موضوعا للصراع بينهم أو الاختلاف، حتى عندما يختلفون ويقاتل بعضهم بعضا، فقد كانوا يتصارعون كما تتصارع الدول في التاريخ والجغرافيا، ولم يقحموا الدين إلا قليلا في صراعهم، وكان هذا القليل مصدرا للشرور والكوارث يزيد من فداحة الخسائر وصعوبة الصراع!

واليوم يمكن ملاحظة نماذج عدة للدول الإسلامية والنماذج الإسلامية في الحكم والسياسة، وهي نماذج متعددة تشجع على القول، إن النموذج الإسلامي في الحكم ليس واحدا، وأن الفهم الصحيح للحكم والدولة في الإسلام يجب أن يفهم على أنها دولة مسلمين وليست دولة إسلامية.

يقدم حزب العدالة والتنمية التركي نفسه، يجب التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمه حزب الفضيلة بقيادة أربكان، وأن يستخدم خطابا يتفق مع الواقع التركي والعالمي أيضا، وأن الشخصية الوطنية التركيةقائمة على التدين والتضامن.

ومن مبادئ الحزب الرئيسة المثل القائل، إن لم يكن الجميع أحرارا فما من أحد حر، والجمهورية التركية في نظر حزب العدالة والتنمية تقوم على العلمانية والديمقراطية والقانون والعمليات الاجتماعية والحضارية وحرية المعتقد وتكافؤ الفرص.

ويمثل الدين والهوية الوطنية قيمة يشترك فيها الناس؛ فهما فوق جميع الاهتمامات السياسية، والأحزاب السياسية التي تعمل على استثماره تقود الناس والمجتمع إلى الانقسام.

إن الكثير من المثقفين والباحثين يظنون أن الإسلام يقدم قواعد وأفكارا ونظريات شاملة وجاهزة، وأن الاجتهاد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي مستمد فقط من فهم النصوص والمراجع ودراستها، ولا يدركون أن النظام الإسلامي تفاعل إيجابي وسليم بين الفكر والعقيدة والثقافة والدعوة والتحرك بها وسط الواقع والبيئة والمتغيرات والمحددات الكثيرة والممتدة والمتجددة. ولذلك، فإن النظام الاجتماعي الإسلامي ينمو ويتجدد ويضمر ويتراجع ويبدع ويتخلف حسب واقع وحال البيئة المحيطة به من ناس ومجتمعات وحضارة وفاعلية اجتماعية.

وفي ملاحظة وتحليل التجربة المصرية وتطوراتها، فإن ضرورات قصوى تتشكل أكثر من أية فترة مضت لأجل عقد اجتماعي جديد ينظم الحياة السياسية والعامة، ويتجاوز الروابط البدائية التي تتشبث بها أطراف الصراع، وتريد في الوقت نفسه أن تدير دولة عصرية، أو تستوعب الأولويات والاحتياجات القائمة.

والواقع أن أطراف الصراع في مصر والدول العربية بعامة يحكمها منطق "الغلبة"، سواء تحققت بالخطاب الديني أو بصناديق الانتخاب أو بالقوة العسكرية والأمنية، ولم تظهر تقديراً وفهماً ناجحاً للتحولات والتحديات الجديدة التي نشأت بعد الربيع العربي، والأسباب والمقدمات المنشئة له، والتي يمكن ملاحظتها وإجمالها ببساطة في الإجماع الوطني، والنهضة الاقتصادية والتنموية، والحريات.

ولكن ما تفعله الأطراف السياسية النخبوية اليوم هو محاولة إعادة إنتاج الصراع بالقفز على الحراك الشعبي والجماهيري وتطلعات المجتمعات لإعادته كما كان من قبل، وكأن الجماهير التي خرجت إلى الشارع وأجبرت حسني مبارك على التنحي فعلت ذلك انتصاراً لطرف ضد طرف.

لم تتذكر النخب والقيادات السياسية الإجماع الوطني الذي صنع الربيع العربي والمصري، ولا أحد من هذه النخب يرى أهمية لنهضة ممكنة للبلاد لأجل التنمية الاقتصادية وتحسين الحياة وتطوير الخدمات والمرافق واستصلاح الموارد وتعظيمها، كأن مصر والدول العربية لا تحتاج سوى أن يحل رئيس محل رئيس آخر، أو يأتي حزب سياسي بدلاً من حزب آخر، ليواصل قيادة البلاد والموارد بالنخبوية والاحتكار والهيمنة نفسها التي ظلت سائدة، وكأن الشباب والطبقات الوسطى والفقيرة لا دور ولا أهمية لها سوى أن تضحي وتتظاهر وتُقتل في الشوارع والساحات.

كان السيناريو المنطقي والمتوقع عندما اشتد الصراع وخرجت الجماهير إلى الساحات معبرة عن انقسامها وانسداد أفق الاستمرار ومواصلة العملية السياسية أن يكون الجيش طرفاً مبادراً لتشكيل إجماع وطني يضع التيارات والقيادات السياسية أمام مسؤوليتها في التعايش والعمل المشترك وتنظيم اختلافاتها وإدارتها سلمياً ومؤسسياً، أو على الأقل ينشئ ائتلافاً قادراً على التماسك والتنافس في آن.

لم يكن ثمة مناص من التقدم خطوة أخرى إلى الأمام بعد 25 يناير، هي التعايش والعمل المشترك ودمج جميع المواطنين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم وأفكارهم وهوياتهم في مشروع اقتصادي واجتماعي جديد، ولم يكن البديل سوى العودة إلى ما قبل الربيع، ولكنها عودة تشبه محاولة إعادة الطفل الوليد إلى بطن أمه! لم يكن الجيش موفقاً في تقديره بأن مصر يمكن أن تتحول إلى النموذج الجزائري، أو أن المصريين سيرحبون ويقبلون بعودة العسكر وهيمنتهم على الحياة السياسية، ولم يكن "الإخوان" موفقين في تقديرهم بأن المصريين يمكن إعادة تشكيلهم في طوابير وجماهير مؤيدة كما "الإخوان المسلمون" أنفسهم في تشكيلاتهم التنظيمية والمؤيدة لهم؛ فالمجتمعات ليست جماعة، والشعب ليس تنظيماً، ولم تكن النخب السياسية العلمانية والفلولية موفقة في ثقتها المفرطة بنفسها وتميزها. لم تكن قادرة على أن تشم الرائحة الكريهة المنبعثة منها، ولم تكن تدرك أنها تزكم الأنوف وتقرف الناس منهم!

المسألة تبدو ببساطة ووضوح في أن الطبقات الاجتماعية التي همشت وأضعفت لم تعد تقبل باستمرار اللعبة السياسية والاقتصادية وتداول الفرص والموارد كما كانت من قبل، ولا مفر من تخيل التعايش معاً... وإن كان ثمة "دولة إسلامية"، فإنها الدولة القائمة على عقد التعايش!