بنية السلطة في الدولة الإسلاميّة من خلال مثال الحسبة: الماوردي أنموذجا


فئة :  مقالات

بنية السلطة في الدولة الإسلاميّة من خلال مثال الحسبة: الماوردي أنموذجا

السّياسة الشرعية كناية على مجموع الإنتاجات الفكرية التي قدّمها الفقهاء لمسألة الاجتماع السياسي في المجتمعات العربية الإسلامية، ويعدّ أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (364 - 450 هـ) أشهر من صنّف في السياسة الشرعية، حيث شكّل كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينيّة" أرضية للتفكير في المسألة السياسية من منظور فقهي، كما اعتبرت كتاباته الأخرى سياسية بامتياز باستثناء مصنفاته في الفقه الشافعي وكتابه في تفسير القرآن "النكت والعيون" ومؤلَّفه "أدب الدنيا والدين" الذي يمكن اعتباره كتابا في الأخلاق. أمّا مؤلّفاته: "قوانين الوزارة وسياسة الملك" و"سياسة أعلام النبوة" و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر" و"نصيحة الملوك"، فلا تخرج عن موضوع السياسة، وإن اختلف الغرض من كتاب لآخر. خرجت اهتمامات الماوردي ومعاصريه من رحم الأزمة التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي حينئذ، رغم أنّ الساحة الفكرية السياسية ارتبطت حينها بآداب النصيحة، والعلاقة المتوترة بين الحاكم والأديب أو المثقف بلغتنا المعاصرة في بعض الأحيان؛ مَثَلُ ذلك رسالة ابن المقفع إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وهي الرسالة الإصلاحية التي رفضها الخليفة وحددت مصير محرّرها، غير أنّ كتابات الفقهاء، وعلى رأسهم الماوردي، غلب عليها هاجس الإصلاح وضرورة الخروج من حالة الوهن التي كانت تعيشها الدولة الإسلامية. اليوم كما الأمس كل إصلاح يسعى إلى مواجهة الفساد والقضاء عليه، ذلك هو حال الماوردي الذي تجنّد للدفاع عن الخلافة، وتأليف نسق نظري يقدم للخليفة تصورا لما ينبغي أن تكون عليه الدولة، والأساس الداعم لهذا النسق هو الشرع، هذا الأخير هو الذي يخط الحدود التي لا ينبغي للحاكم تجاوزها. من هنا ينبجس سؤال السلطة، لأنّ الشرع إذ يضع الحدود للحاكم يُخضعه لسلطة الفقيه؛ أي لمن يملك الرأسمال الرمزي اللازم للحكم على الأشياء والإفتاء فيها، والفتوى في هذا السياق بوجه ما سلطة كامنة، أداة من الأدوات الإيديولوجية للدولة، التي تتحرّك كلّما دعت الضرورة من أجل تنظيم العلاقات وضبطها ومسايرة المستجدات التي تأتي بها الأزمان. وقد كان زمان الماوردي صاخبا وفيه من الاضطرابات ما يدعو إلى الإفتاء لضبط العلاقات والاستجابة للحوادث والأعراض، فهل سيفضي هذا الطرح إلى تأسيس السلطة السياسية على سلطة دينية على غرار نظرية التفويض الإلهي؟ هل سلطة الخليفة مقدّسة في الفكر السياسي الإسلامي؟

خرجت اهتمامات الماوردي ومعاصريه من رحم الأزمة التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي حينئذ، رغم أنّ الساحة الفكرية السياسية ارتبطت حينها بآداب النصيحة، والعلاقة المتوترة بين الحاكم والأديب

ليست سلطة الخليفة مطلقة على غرار التفويض الإلهي، وإن كانت تلتقي معها في بعض أوجه الشبه، لكنها تختلف عنها من وجهين على الأقل؛ أوّلهما كون الخليفة مطبقا للشرع في الأرض، وليس ممثلا لله كما شهدت أوروبا، حيث يترك تطبيق الشرع للكنيسة؛ ليكون خلاص النفوس في الدنيا بيد الملك الذي يوفر الأمن، وخلاصها في الحياة الأخرى بيد الكنيسة التي ترشد إلى طريق ومنهج المسيح وتمنح الغفران، بل يعتبر الخليفة من خلال أعوانه في الدولة المسؤول الأول عن إقامة الشعائر وأداء الفروض وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود، إضافة إلى وظائفه السياسية، ليكون خلاص الدنيا والآخرة في الخضوع لله ولرسوله ولوليّ الأمر، ثانيهما كون الخليفة كفيل الأمّة وراعيها الأول، بينما كان الملك تحت إبط الكنيسة في أوروبا راعيا للرعية فقط. تخضع سلطة الخليفة إلى سلطة متعالية هي السلطة الإلهية، لكنّه في حقيقة الأمر يخضع لسلطة الفقيه الذي يفسّر ويؤوّل ويستنبط من النصوص المؤسسة كل الأحكام العامة والخاصة، وبالتالي يكون الفقيه هو المشرّع الذي يخطط لسير المجتمع وانتظامه، ويبيّن الطريق للخلاص الفردي من خلال الوعظ والتذكير بالمصير. تبدو هذه السلطة وكأنها مهيمنة على الفرد والمجتمع، وتتجاوز معنى السلطة بوصفها العلاقة الجدلية القائمة بين الحاكم والمحكوم، بل إنّها سلطة حاضرة في كل مكان وتتجدد في كل لحظة، وكأنّ سلطة الفقيه في المجتمع الإسلامي تسري في كل بنيات الحياة الاجتماعية، بداية من الذاتي وصولا إلى الموضوعي، سلطته حاضرة في البنية السياسية والاقتصادية والتشريعية والعقابية الجنائية...تقبع السلطة السياسية لوليّ الأمر تحت سلطة رمزية للعالم وريث النبي؛ فهل نقتصر على رد بنية السلطة داخل الدولة الإسلامية إلى سيطرة الفقه والفقهاء؟ ليس الأمر بتلك السّهولة واليسر، ولكن علينا أن نتتبّع إحدى تلك البنيات لفهم طبيعة السلطة، ولعلنا نجد في البنية الرقابية مدخلا لتحديدها، وذلك من خلال أنموذج الحسبة. فكيف تتمظهر السلطة وطبيعتها من خلال هذا الأنموذج؟

ارتبطت الدولة زمن الماوردي بالحاكم من خلال عملية مماهاة، حيث لقّب السلاطين بأسماء مركّبة يحضر فيها لفظ الدولة: مجد الدولة وكهف الأمّة، ناصر الدين والدولة، مهذّب الدولة[1]...هذا الترابط العضوي بين ممثل السلطة والدولة ليس مجرد تسمية، بل إنّه التعبير عن الكيفية التي يدبّر بها الشأن العام وتمارس السلطة. أمّا الخلفاء العبّاسيون، فلقّبوا أنفسهم بالنسبة إلى الله سبحانه، كالقائم بالله والقادر بالله والغالب بالله ...، الحقيقة أنّها مفارقة تختزل بنية السلطة؛ فالخليفة هو الرّوح الكلّية والسلطة المتعالية، في حين يمثّل حكّام الدويلات المتفرقة الروح الجزئية. إنّ ما يجعل الدولة حاضرة في الواقع حضورا فعليا هو محايثتها له، وتظهر هذه المحايثة في الولايات الدينية الممثلة للخليفة، إذ نجدها متمظهرة بقوة أكبر في ولاية الحسبة مثلا، وهي الأنموذج الأمثل لرصد بنية السلطة في ظل الظروف التي فكّر فيها الماوردي وألّف ما ألّف. يمكن افتراض أنّ هذه الاستراتيجية التَّسْمَوِيَةَ إن جاز هذا اللفظ، حملة إعلامية ودعائية لنظام الحكم القائم، حيث حاول كل نظام انتزاع الاعتراف والمشروعية، وكأنّ التفكك على المستوى الواقعي، مع الدويلات المنشقة عن الخلافة الضعيفة، يُترجم على المستوى الداخلي إلى قوة حضور الدولة في المساجد والأسواق والطرقات ومداخل المدن والموانئ... وحضورها في المجال التداولي اليومي من خلال ألقاب الحكّام. أمّا ألقاب الخلفاء، فإنّها تعبر عن حضور الإلهي في العالم، في نوع من التعالي عن السلطة المنشقة، ومع ذلك ليس هذا التعالي ضربا من التقديس، وإن كان فيه الكثير من التعظيم والإجلال للخليفة، بل فيه تذكير دائم بأنّ الخليفة والرعيّة على حد سواء خاضعان للإرادة الإلهية، وهذا وجه للمساواة بين الحاكم والمحكوم في الدولة الإسلامية. هنا يكون الفقيه الحارس الأول للإرادة الإلهية، لأنه أكثر الناس قدرة على معرفتها وتبليغها والسهر على تطبيقها، هذا العامل هو الذي يجعل الخليفة غير مقدس. أمّا الفقيه، فلا نصيب له من القدسية كذلك، وإنّما القدسية للنصوص التي يستمد منها الأحكام والحدود، وعليه يكون مبنى السلطة السياسية في المجتمع الإسلامي خلال القرن الرابع هجري، سلطة ثقافية نصّيّة تحاجج بالنصوص، وتجد فيها حلاّ لمعظم المشكلات، إن لم نقل لكلها. لقد كانت قدرات الفقيه الهرمينوطيقية صمّام أمان الدولة؛ فتأويل النصوص واستثمارها لإصلاح ما أفسدته الظروف هو ما سيمكّن الدولة من الاستمرارية، ذلك ما عوّل عليه الماوردي ومن سار على شاكلته. لا يمكن إنكار الترابط العضوي بين السياسة والشريعة في الفكر السياسي الإسلامي، ولعل مردّ ذلك إلى الأصل الذي قامت عليه الدولة في الإسلام منذ بدايتها؛ أي ما يمكن أن نختزله في علاقة الحكم بالنبوّة، وهذه الأخيرة منصب ديني وسياسي في الآن ذاته، احتفظت على نفسها في شخص الخلفاء الراشدين مع سقوط شرط الوحي والمعجزة المميزين للنبوة الفعلية، لكن شرط العلم ظل قائما مع الصحابة، وبدأ يفقد شيئا فشيئا مع تطاول الزمن، مما جعل الفقيه في علاقة دائمة مع الحكم السياسي. ومهما تكن طبيعة تلك العلاقة، فإنها تشهد على ترابط عضوي بين السياسي والرمزي، فانقسمت سلطة الحاكم التي كانت جامعة مانعة تتحكم في الشأن العام، كما تتحكّم في فهم وتأويل النصوص وإسقاطها على الواقع، وأصبح طرفها الأول في يد الخليفة أو الملك، وطرفها الآخر في يد الفقيه العالم. رغم أنّنا نجد في التاريخ الإسلامي بعض صور الاستبداد في العلاقة بين رجل السلطة والفقيه، ولعلّ قتل الحجّاج بن يوسف لسعيد بن جبير المثال الأوضح على انفلات علاقة السياسة بالشرع من كل تحديد نمطي في الدولة الإسلامية.

يعتبر الخليفة من خلال أعوانه في الدولة المسؤول الأول عن إقامة الشعائر وأداء الفروض وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود

الحسبة هي الوظيفة التي توكّل إلى ولاة يعملون على المراقبة وحلّ النزاعات وإنزال العقوبات، ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأساس الذي تقوم عليه وظيفته. والحسبة لغة، من العدّ والحساب، وتأتي بمعنى طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل. وفي الاصطلاح الفقهي هي ولاية دينية يقوم وليّ الأمر - الحاكم - بمقتضاها بتعيين من يتولى مهمة الأمر بالمعروف إذا أظهر الناس تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله، صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقا لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقا لشرع الله تعالى. يقول الماوردي: "الحسبة هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله..."[2]، الغاية العامة من الشريعة الإسلامية تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتدفع شر الشرين، وتلتزم الأصلح فالأصلح وتجتنب الأفسد فالأفسد. مدار الشريعة إذا تعارضت المصالح والمفاسد، هو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما. من ثمة يكون مقصد الولايات الشرعية من خلافة وقضاء وحسبة وغيرها، أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا. فولاية الحسبة إنما جعلت لإصلاح دين الناس، ولإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر ديننهم ودنياهم. والشريعة إنما جاءت بأحكام تحفظ الكلّيات الخمس كمصالح عليا؛ فكل الأحكام الشرعية في هذا الخصوص، إنما هي أوامر ونواهي للحفاظ على هذه الكلّيات، والحسبة ليست شيئا آخر سوى التحقق من تطبيق هذه الأوامر والالتزام بالنواهي.

 أنّنا نجد في التاريخ الإسلامي بعض صور الاستبداد في العلاقة بين رجل السلطة والفقيه

إنّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام، يشمل كل فرد داخل المجتمع بوصفه واجبا، غير أنّه في الأفراد فرض كفاية بما فيه من طابع تطوعي. أما في شخص المحتسب، فهو فرض عين بما فيه من طابع الوجوب. يميز الماوردي فروقا تسعة بين المحتسب والشخص العامي في تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يشكّل للمحتسب عمله الأساسي المفروض عليه، وليس مجرّد عمل نافل كما عند الشخص العادي؛ فهذا الأخير لا يملك حق الاستعداء فيما يجب إنكاره؛ أي الاستنصار والاستعانة به لدفع المنكرات، وواجب المحتسب الاستجابة لمن استعداه، وعليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ويزجرها، وينتبه للمعروف الظاهر الذي تركه الناس، والحث عليه، علاوة على ذلك، يتمتع المحتسب بسلطة قهرية، وقوة مادية بما له من أعوان، كما يمكنه التعزير في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوزها إلى الحدود، وللمحتسب أجرة على ما يقوم به من عمل، وله كذلك حق الاجتهاد في أمور العرف دون الشرع، وهذه الخصائص لا تتوفر للإنسان العادي في علاقته بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن شروط ولاية الحسبة الحرية والعدل وصرامة الرأي والغلظة في الدين والعلم بالمنكرات الظاهرة، ويعتبر هذا الشرط الأخير مدخلا لعلاقة المحتسب بالفقيه، حيث طرحت مسألة علم المحتسب، مسألة حدود سلطته التأويلية، إذ انقسمت الشافعية في جواب حمل المحتسب الناس على رأيه في الأمور التي اختلف فيها الفقهاء؛ فريق يرى وجوب ذلك مما يفرض على المحتسب أن يكون من أهل العلم والاجتهاد، وفريق آخر ذهب إلى عدم جواز قيادته الناس إلى رأيه ومذهبه، بل يكتفي في علمه بمعرفة المنكرات الظاهرة. يفصل الماوردي في العلاقات الموجودة بين ولاية الحسبة والمظالم والقضاء، فبقدر ما نجد تداخلا بين هذه الولايات نجد تمايزات واختلافات؛ فموضوع الحسبة وسط بين القضاء والمظالم، والمحتسب مخصوص بالبثّ في قضايا المعاملات التجارية، وما يحصل فيها من غش وتدليس وتطفيف، إضافة إلى فصله في قضايا الديون، ثم مراقبته للأمور التعبدية وزجر كل السلوكيات المخالفة للشرع، والمعاقبة عليها في حدود صلاحياته. مع ذلك تبدو السلطة في ولاية الحسبة أكثر اتساعا منها في ولاية القضاء، يقول الماوردي: "للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة واستطالة الحماية فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة، لأنّ الحسبة موضوع رهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزا فيها ولا خرقا، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالأناة والوقار أحق، وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق..."[3]، ورغم التراتبية الإدارية بين الولايات الثلاث، حيث تكون الحسبة إداريا أقل مرتبة، إذ يجوز لوالي المظالم التوقيع للقاضي وللمحتسب، ويجوز للقاضي التوقيع للمحتسب، ولا يجوز لهذا الأخير أن يوقع لكليهما، لكنّ سلطته الواقعية وعلاقته المباشرة بالمعيش أكثر قوة ونفاذا وتأثيرا، كما أن الحدود بين السلطة القضائية والتنفيذية غير واضحة في الحسبة؛ فهما متداخلتان في أعماله اليومية التي تشهد على ازدواجية سلطته. إنها سلطة مادية تخوله استخدام العنف، ورمزية تسمح له بالاجتهاد، وإن كان محدودا؛ تتسع سلطة المحتسب لتشمل ثلاثة قطاعات حقوقية كبرى: الحقوق الإلهية والحقوق الآدمية، ثم الحقوق المشتركة بينهما؛ يحق في الأولى للمحتسب الأمر بالصلاة، والأذان، والقنوت، والعبادات الظاهرة، هنا تظهر السلطة الرمزية للمحتسب، ولعلنا نجد في مثال الماوردي لما يجب فرضه على الناس في الوضوء بنبيذ التمر، تجلّياً للرأسمال الرمزي الذي يحوّل المحتسب في كثير من الحالات إلى فقيه منفّذ. أما في الثانية، فعليه تحقيق المصلحة العامة والمصالح الخاصة، بينما في الأخيرة يصبح المحتسب قاضيا منفّذا فيما نصطلح عليه اليوم بقانون أو مدوّنة الأسرة؛ أي حقّ التأديب والتعزير في تنظيمات الحياة الجنسية داخل المجتمع. هناك إذن تداخل السلطات في ولاية الحسبة، لكنها تبقى في كل الحالات خاضعة للسلطة التأسيسية، وهي سلطة الفقيه، يقول الماوردي حول علاقة المحتسب بالفقيه: "وإذا تفرّد بعض المفسّرين لكتاب الله تعالى بتأويل...أو تفرّد بعض الرواة بالأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل، كان على المحتسب انكار ذلك والمنع منه...وذلك من أحد وجهين، إمّا أن يكون بقوته في العلم واجتهاده فيه، وإمّا أن يتفق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه..."[4].

 يتمتع المحتسب بسلطة قهرية، وقوة مادية بما له من أعوان، كما يمكنه التعزير في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوزها إلى الحدود

إنّ موقع المحتسب داخل جغرافيا السلطة في الدولة الإسلامية على عهد الماوردي، متميز من حيث كونُه الممارسة الفعلية للسلطة في الحياة اليومية، وفي الاحتكاك بالناس وما يحمله من متغيرات. هذه المتغيرات اليومية هي التي تجعل من سلطة المحتسب منفلتة من كل تحديد، وإن كانت الأقل مرتبة على السلّم الإداري أو المؤسّساتي؛ فرغم اختصاص القضاء بمجاله وضرورة خضوع المحتسب للأحكام القضائية، فإنّ للمحتسب الحقّ في أمر القاضي بالمعروف ونهيه عن المنكر. تنبجس هنا حركية السلطة في نظام الحسبة مرة أخرى. يقول الماوردي في هذا السياق: "إذا كان في القضاة من يجُبّ الخصوم إذا قصدوه ويمتنع من النظر إذا تحاكموا إليه... فللمحتسب أن يأخذه مع ارتفاع الأعذار ندب له...ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصر فيه."[5]، كما أنّ في الحسبة يظهر الأساس المادي للسلطة السياسية؛ أي الدور الذي يلعبه الانفعال في بناء العلاقات السلطوية داخل الدولة. ولعلّ مفهوم الطاعة مدخل لنظرية الانفعالات المفسّرة لأساس السلطة؛ لأنّ هذا المفهوم لا ينفصل عن الرهبة والرغبة المرتبطين بدورهما بالمنظومات العقابية القائمة داخل المجتمع، وهذا ما يوجب الوقوف عند تصور الطبيعة الإنسانية في النظرية السياسية الإسلامية.

الطبيعة الإنسانية في الفكر السياسي الإسلامي فاسدة، وحالة الجاهلية الشبيهة بحالة الطبيعة في الفكر السياسي الغربي، حالة من الفساد المطلق على المستوى العقدي؛ عبادة الأوثان والآلهة المتعددة، وعلى المستوى الاجتماعي؛ الصراعات بين الأفراد والجماعات وعلى المستوى الحقوقي، حيث لا حقّ إلاّ للقوة، لكنّ مجيء الرسالة الإسلامية، كان بمثابة العقد الاجتماعي الذي أدخل الناس في حالة التمدّن والتحضّر، ومن ثمة تشكّل العقيدة الإسلامية الخلفية النظرية التي تحدّد المجال السياسي وممارسة السلطة. لا يمكن إنكار الأساس الديني للسلطة السياسية، وما الدولة إلاّ الكائن الاعتباري الذي ولد من الدين، ويعيش على الدين وبه. والمحتسب هو ممثّل الدولة المطالب أكثر من غيره بالتعامل مع هذه الطبيعة الفاسدة، وما الغاية من ذلك إلاّ الإصلاح ومحاربة الفساد. وبما أنّها حرب، فلا سبيل إلى تفادي العنف والزجر والتخويف والرهبة، التي تظهر بوضوح تام في المنظومة العقابية، التي تستمد شرعيّتها من الدين ومن تفسير نصوصه، بهذا المعنى تكون السلطة السياسية-الدينية وحدة مترابطة لا يمكن الفصل فيها بين المكونات، رغم وجود دوافع طبيعية لقيام السلطة السياسية، فإنها تؤطر ضمن مقولات دينية في نهاية المطاف، وقد تكون ولاية الحسبة أكثر صور السلطة التي يمتزج فيها الطبيعي بوصفه حاجة إلى الغذاء والأمن لأجل البقاء، والثقافي باعتباره الأفق الفكري للمجتمع، إذ فيها تلتقي المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، والتنفيذ بالتشريع، والأبعاد المؤسساتية الإدارية بالأبعاد السياسية العقدية. إنّها النقطة التي تلتقي فيها الدولة بالرعية، في تعبير واقعي لعلاقة المحكومين بسلطة الحاكم، التي هي علاقة خضوع وتبعية في جوهرها، والمحتسب هو الشخص الذي يجسّد هذه التبعية وهذا الخضوع، متوسّلا في ذلك بما له من سلطة مادية ومعنوية رمزية.

للمحتسب الحقّ في أمر القاضي بالمعروف ونهيه عن المنكر

يمكن أن نجد في ولاية الحسبة نماذج للأسس التي تقوم عليها سلطة الدولة، سواء تصور العقاب أو العدالة أو الطاعة، أو البيعة...وهي التصورات المحكومة بأنموذج السيطرة والانقياد، وإذا كانت هياكل الدولة هرمية تنزل فيها السلطة من الأعلى إلى الأسفل؛ من الخليفة إلى الأمراء والوزراء والولاة والجند وصولا إلى تأثيرها في الرعية، فإنّها كذلك في تنزيلها تتعالى على الأفراد، دون أن تستمد تعاليها من شخص الحاكم- على الأقل في زمن الماوردي- بل من الفكر الديني الأساس الأوحد والوحيد والمصدر الفريد للتشريع بكل أنواعه، وهو المصدر الذي يجعل من بنية السلطة تداخلية الطبيعة؛ فحين يتحدّث الماوردي عن الجرائم والحدود، فإنّه يفصل في تراتبية السلطة بين الأمراء والقضاة فيما خصّ إثبات الأولى وتطبيق الثانية، في الحقيقة تبدو السلطة الفعلية في الحديث عن الجرائم سلطة دينية يمثّلها الفقيه، حيث يقدّم الماوردي مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والحرابة، إضافة إلى القذف، والزنى، والجنايات، من خلال الاختلافات الفقهية حولها. لكنّ الهياكل التنظيمية للدولة الإسلامية تشهد على تداخل السلطات وتراتبيتها؛ إذ تجد ولاية المظالم مثلا نوعا من القضاء الأعلى الذي يختصّ بقضايا لا ينظر فيها القضاة، بل يخضع هؤلاء لسلطتها باعتبارها مخوّلة للنظر في تعدي الولاة على الرعية. رغم وجود التراتبية على المستوى المؤسساتي، تبقى السلطة في الدولة كما تصورها فقهاء السياسة الشرعية، من أمثال الماوردي وأبي يعلى ابن الفراء الحنبلي، مترابطة بفضل لُحمتها وسداها المُتمثل في الشريعة. إنّ هذا الترابط يظهر في تجلّياته الواقعية بصورة أكبر من خلال ولاية الحسبة، بوصفها النقطة التي تلتقي فيها السلطة العليا للحاكم بانقياد المحكومين لإرادة الدولة، التي لا تعدو كونها في الجوهر إرادة إلهية.

 تبقى السلطة في الدولة كما تصورها فقهاء السياسة الشرعية، من أمثال الماوردي وأبي يعلى ابن الفراء الحنبلي، مترابطة بفضل لُحمتها وسداها المُتمثل في الشريعة

نجد في كتاب الماوردي "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" تصوّرا للدولة كما ينبغي أن تكون، وهو يدرك الوضع التي آلت إليه الولايات الدينية من فساد، ذلك ما أشار إليه هذا الفقيه نهاية حديثه عن الحسبة على سبيل المثال لا الحصر. السلطة إذن دينية تسري في أوصال المجتمع، مما يجعل من إطلاقية السلطة السياسية مجرّد إطلاقية صورية، بما أنّها موزّعة ومنتشرة في الواقع، قد تكون سلطة الحاكم كليانيّة، لكنها ليست مطلقة بحال من الأحوال، مادامت محدودة بسلطة أخرى تعلوها. هل كان الماوردي طوباويا، أم كان واقعيا تاريخيا؟ وكيف نستطيع التوفيق بين الفقه السياسي وأدب النصيحة عنده؟ هل نقيم الدولة على الخلافة أم على الملك، أم توجد أشكال سياسية أخرى تناسب مثل مجتمعاتنا المفعمة بالتاريخ والتراث؟

[1] الحافظ بن كثير، البداية والنهاية، الجزء الحادي عشر، مكتبة المعارف بيروت، 1991، ص 324

[2] أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، مكتبة دار ابن قتيبة، الكويت، 1989، ص 315

[3] نفس المصدر، ص ص 317 - 318

[4] نفس المصدر، ص ص 325 -326

[5] نفس المصدر، ص، 336