الأبعاد الجمالية للإنسانية الرقمية: دراسة فلسفية جمالية حول قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع الفني
فئة : ترجمات
الأبعاد الجمالية للإنسانية الرقمية:
دراسة فلسفية جمالية حول قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع الفني[1]
الملخص:
أسهمت الرقمنة العالمية، وخاصة الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي، في تهميش دور الفنانين في الساحة الفنية. يُعد الفن ظاهرة إنسانية خالصة ومتميزة، لكنّه يواجه تحدّيًا غير مسبوق في العصر الحالي. إن الإبداع الفني وتلقيه يلبّيان احتياجات البشر بطريقة لا نظير لها. وتكتسب الأعمال الفنية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي اليوم طابعًا مذهلاً، حيث تبدو قريبة جدًا مما ينتجه الفنان البشري، بل تتوافق تمامًا مع ما يراه الناس جميلًا. إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإننا بحاجة إلى إعادة دراسة مفهوم الفن. يجب أن نتساءل: لماذا نحتاج إلى الفنانين البشر؟ هل يمتلكون سمات فريدة تميزهم عن غيرهم؟
يعرض هذا الفصل الأبعاد الفلسفية والجمالية للإنسانية الرقمية في سياق الفن الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي، مستندًا إلى النظرية الكانطية للفن، التي تُعد من أبرز النظريات في علم الجمال الفلسفي. هذا يدعو إلى التفكير في قضايا ملحة مثل: "هل ما زلنا بحاجة إلى الفنانين البشر في عصر الذكاء الاصطناعي؟" و"هل تُعد إبداعات الذكاء الاصطناعي فنًا حقيقيًا؟".
1. مقدمة:
قد يتساءل القارئ عند الاطلاع على عنوان هذا الفصل: ما العلاقة بين الفن والنزعة الإنسانية الرقمية (Digital Humanism)؟ والإجابة باختصار: أكثر مما قد يتوقع المرء للوهلة الأولى! فالإبداع والتفكير الفني يشكّلان ركيزتين أساسيتين من ركائز الحالة الإنسانية؛ إذ يُوفّر الفن أبعادًا إبداعية واجتماعية واقتصادية وسياسية للبشر، ويعكس عمق تجربتهم ووعيهم الذاتي. ومن ثم، فإن النزعة الإنسانية الرقمية الشاملة، التي تسعى إلى مراعاة جميع جوانب الحالة الإنسانية المتأثرة بالذكاء الاصطناعي والرقمنة، لا بد أن تتناول إشكالية الفن وتحدياته بشكل جوهري.
ما الذي يجعل من شيءٍ ما فنًّا؟ يكتسب هذا السؤال الجمالي الفلسفي، الذي أثار جدلًا منذ العصور القديمة، بُعدًا جديدًا في زمننا الراهن مع ظهور أعمال فنية تُنتجها الآلات وتُعرض في أسواق الفن. ومع تطوّر قدرات الذكاء الاصطناعي في كتابة الشعر، والرسم، والتأليف الموسيقي بشكل شبه مستقل، أصبحت مسألة مكانة الفن ومبدعيه أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى.
تتناول المناقشات المرتبطة بالرقمنة والذكاء الاصطناعي طيفًا واسعًا من المجالات، بما في ذلك السياسة، والاقتصاد، والعلم، والمجتمع. ومع ذلك، يظل الفن والثقافة جزءًا أساسيًّا من التجربة الإنسانية عبر العصور. ولا تقتصر مسألة قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع الفني على صالات العرض أو المتاحف أو الفنانين وحدهم؛ إذ إن نجاحه في استبدال الفنانين البشر ستكون له عواقب بعيدة المدى على الأعمال التجارية، والسياسة، والثقافة، والمجتمع، وحتى العلوم. ففي حال عرضت المعارض الفنية أعمالًا من إنتاج الذكاء الاصطناعي بدلًا من الأعمال البشرية، سيؤدي ذلك إلى تضاعف كمية الأعمال المنتجة؛ نظرًا لأن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى فترات راحة، ويتميز بسرعة أعلى وقدرة أكبر على التوسع مقارنةً بالعملية الإبداعية البشرية. وسيستتبع هذا التحول ضرورة إعادة النظر في الأطر القانونية والتشريعية: من هو المؤلف الحقيقي؟ ومن يستحق العائدات المالية؟
انطلاقًا من هذه الإشكاليات، يستكشف هذا الفصل إمكانية أن يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا حقًا على الإبداع الفني.
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أولًا من تحديد مفهوم الفن. فقد كان لهذا المفهوم، في فترة ما بعد التنوير، تأثير واضح أو ضمني على عدد كبير من التعريفات المعاصرة للفن. ومن منظور فلسفي، يُطرح التساؤل: ما هو المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الفن؟ توجد الكثير من التعريفات التي تناولت هذا الموضوع، ويُعد منهج إيمانويل كانط في الفن أحد المرتكزات التي استندت إليها كثير من المفاهيم، سواء الكلاسيكية أو الحديثة أو المعاصرة. وعلى الرغم من قدم هذا المنهج، فإنه لا يزال يحتفظ بجاذبيته وراهنيته حتى اليوم؛ إذ يُعد من أبرز الإسهامات المؤثرة في مجال علم الجمال الفلسفي. كما ترك بصمة واضحة في التيارات الفكرية لعصر التنوير والنزعة الإنسانية، ولا يزال يحتفظ بصلته الوثيقة بالواقع المعاصر.
مع ظهور عصر التنوير وكتابات كانط حول علم الجمال، أصبحت حرية الفنان سمة مركزية في تحديد مفهوم الفن. وقد تحول الافتراض الكانطي لحرية الفنان إلى معيار رئيس في نظريات الفن بعد التنوير، ما أثّر بشكل مباشر أو غير مباشر في عدد لا يُحصى من المفاهيم المعاصرة للفن.
وفي هذا الفصل، أقدّم ملخصًا لمفهوم حرية الفنان وفقًا لكانط، وأقيّم مدى ملاءمته كحجة في النقاش الدائر حول إمكانية الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفن.
للتوضيح، لا يتناول هذا الفصل مسألة ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يُعد وسيطًا فنيًّا أم لا. فعندما يكون مصدر العمل البشري واضحًا ولا لبس فيه، ويُستخدم الذكاء الاصطناعي بالطريقة ذاتها التي تُستخدم بها الأدوات والتقنيات والآليات الأخرى، يكون دور الإنسان في عملية الإبداع جليًّا ومحدّدًا. بدلًا من ذلك، يركّز هذا الفصل على الحالات التي يُعدّ فيها الذكاء الاصطناعي "فنانًا مستقلًا" (independent artist). وتوجّه المناقشةَ الأسئلةُ التالية: هل نحن بصدد إنشاء فنان مستقل من الذكاء الاصطناعي؟ وهل يُحدث فرقًا ما إذا كان الإنسان أو الذكاء الاصطناعي هو من أبدع العمل الفني؟
أولًا، أُوضح سياق ومنهجية الدراسة من خلال تفسير أساسيات علم الجمال الفلسفي بوصفه فرعًا من فروع الفلسفة، بالإضافة إلى بيان وظيفة وهدف منهج كانط في تناول الفن. يركّز منهج كانط على الفن في لحظة الإبداع، لا من منظور المتلقي أو المشاهد. فوفقًا لكانط، لا ترتبط أفكار الأفراد ومشاعرهم عند مشاهدة العمل الفني بالموضوع ذاته، بل تعود إلى صلة العمل بالمبدع. فإذا اعتمدنا على منظور المتلقي، سنجد أن هناك مفاهيم متعددة للفن تختلف بتفاوت الأشخاص؛ إذ إن كل فرد يفسّر الجمال بطريقة مختلفة، وقد يرى بعضهم عملًا معينًا على أنه فن، بينما لا يراه آخرون كذلك. لذلك يرى كانط أن التعريف الدقيق للفن ينبغي أن ينطلق من لحظة الإبداع، ويركّز على ذات المبدع لا على استجابات المتلقين.
بعد ذلك، أقدّم عرضًا موجزًا لمنهج كانط في الفن. يرى كانط أن الفن لا يمكن أن يوجد دون حرية؛ فالإبداع الفني مرهون بوجود هذه الحرية؛ إذ لا يستطيع الفنانون (البشر) ابتكار شيء جديد إلا في إطار من الاستقلال والحرية الفكرية. ولهذا، غالبًا ما يُدرج مفهوم "الحرية الفنية" ضمن التعريفات الحديثة والمعاصرة للفن. فـ"الأساتذة القدامى" (Old Masters) أبدعوا أعمالًا جديدة تتماشى مع معايير عصرهم، مع المحافظة على قدر من الأصالة والحرية في التعبير. كما تستند الاتجاهات الفنية المعاصرة، مثل "الفن الجاهز" (readymade art) – الذي يُحوّل الأشياء اليومية إلى أعمال فنية – إلى نفس المبدأ؛ أي حرية الفنان. وبناءً على تصور كانط، يُعد الفنان (الإنسان) وحده القادر على تحويل العناصر العادية من الحياة اليومية إلى أعمال فنية تحمل طابعًا جماليًّا وابتكاريًّا.
في القسم الثالث، أُطبّق منهج كانط في الفن على الذكاء الاصطناعي، بهدف توضيح ما إذا كان بمقدوره إنتاج الفن وفقًا لمبدأ الإبداع. كما أعرض التأثيرات المترتبة على الفن في عصر الذكاء الاصطناعي انطلاقًا من هذه المناقشة. أؤكد هنا أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه تحقيق مبدأ كانط في الفن، إذا اعتبرنا أنه يفتقر إلى عنصر الحرية. وفي إطار هذا التطبيق، أقارن بين منهج كانط وتعريف المؤرخة والفيلسوفة حنّا آرندت (Hannah Arendt) للفن، والذي يركّز على العملية الإبداعية بوصفها نتاجًا لما تسميه "الإنسان المنتج" أو "الإنسان المبدع" (Man the Maker).
أرى أن منهج كانط يتفوق منهجيًّا على تعريف آرندت، لكونه:
أ) غير مقيّد بزمن معيّن،
ب) غير مقيّد بثقافة محددة،
ج) غير مقيّد بمكان بعينه.
فهو يسعى إلى إبراز البُعد العقلي الضروري للفكر الجمالي، بدلًا من التركيز على الواقع التجريبي. وبالتالي، لا يهم متى أو أين أو في أي سياق يُطبّق مبدأ الإبداع. فوفقًا لكانط، الفن مكوّن أساسي يمكن تفسيره عقلانيًّا، ولا يرتبط بموضوع محدد، في حين أن رؤية آرندت للفن متجذّرة في السياق الاجتماعي، وتركّز على التعاون والتفاعل في عملية الإبداع الفني.
في هذا الفصل، أؤيد تقديم تعريف إيجابي وواقعي للفن في عصر الذكاء الاصطناعي والنزعة الإنسانية الرقمية. لا أسعى إلى صياغة رؤية نقدية تكنولوجية تُقصي الذكاء الاصطناعي من العملية الإبداعية، بل أؤكد على ضرورة تعزيز الإبداع البشري وتشجيع استخدام الذكاء الاصطناعي، مع الإبقاء على وعي نقدي شامل بالآثار المحتملة التي قد تترتب على الإبداع الفني نتيجة لهذا الاستخدام.
2. علم الجمال هو مجال يركز على دراسة ماهية الفن، ويُعد كانط أحد أبرز ممثليه تأثيرًا
قبل التطرق إلى مناقشة منهج كانط في الفن، سأقدم شرحًا موجزًا لعلم الجمال كفرع فلسفي وأعرض مناهجه.
علم الجمال (Aesthetics) هو أحد فروع الفلسفة التي تركز بشكل أساسي على الفن والجمال والذوق. وفقًا لبود، يؤدي علم الجمال دورًا مزدوجًا بوصفه "فلسفة للفن وفلسفة للتجربة الجمالية، فضلًا عن دراسة طبيعة الأشياء والظواهر التي لا تُعد فنًا". يعود أصل مصطلح "علم الجمال" إلى الفيلسوف الألماني ألكسندر باومجارتن (Alexander Baumgarten)، حيث يصف هذا التخصص أو المنهج الذي يُستخدم لتبني رؤية فلسفية تجاه الفن. يقدم علم الجمال مجموعة من الأدوات المنهجية التي تتيح دراسة الفن بطريقة علمية دقيقة. لذلك، يعد استخدام هذه الأدوات المنهجية في سياق إنشاء الفن بواسطة الذكاء الاصطناعي أمرًا بالغ الأهمية. يركز هذا الفصل على دور علم الجمال في الفن، رغم أنه، كما يشير بود، لا يمكن فصل الأدوار المتعددة التي يؤدّيها علم الجمال عن بعضها ببعض.
لقد بلغت مسألة تعريف الفن في الثقافة الغربية ذروتها خلال عصر التنوير، حيث ساهم عدد من الفلاسفة البارزين في تطوير فلسفة الجمال[2]. من بين هؤلاء، نجد مقالات ديفيد هيوم مثل "عن معيار الذوق" و"عن المأساة"[3]. يُعد إيمانويل كانط أحد أكثر فلاسفة التنوير تأثيرًا في مجال علم الجمال، لذا سأركز في هذا الفصل على منهجه في تناول الفن كإطار نظري. هناك عدد من الفلسفات الأخرى التي تتعارض مع أفكار كانط وتقدم مفاهيم بديلة للفن، ولكن نظرًا للأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها كانط وتأثيره الكبير في علم الجمال، فإن التركيز على رؤيته يعد منهجيًّا مناسبًا لهذا الفصل.
لا أودّ أن أغفل عن وجود مفاهيم أخرى للفن في الفلسفة وفي مجالات أخرى[4]، ولكن كما يتضح من الفصول التي كتبها نيدا روملين (Nida-Rümelin) وونتر (Winter)، ونيدا روملين وشتوداتشر (Staudacher)، فإن الإشارة إلى كانط في سياق الإنسانية الرقمية ليست مصادفة.
3. وفقًا لمنهج كانط في الفن، لا يمكن أن يوجد فن بدون حرية فنية
كان كانط منشغلاً أكثر من أي فيلسوف آخر في عصر التنوير بنقد الفلاسفة المعاصرين له. ففي 'انتقاداته الثلاثة'، يتناول كانط المعتقدات الراسخة المتعلقة بـ 'غموض العقل الخالص' و'خصوصية الذاتية الخالصة'. أما في كتابه نقد ملكة الحكم، فيعرض مفهوم الحكم في سياق الذوق، ساعيًا إلى تحقيق توازن دقيق بين متطلبات الموضوعية والذاتية، وهو التوازن الذي لم يتمكن من معالجته بشكل كافٍ في النقدين السابقين.
في كتاباته الجمالية، وبخاصة في كتابه نقد ملكة الحكم، يقدّم كانط تصورًا للفن لا يعبّر فقط عن الفكر الجمالي في عصره، بل يترك أيضًا تأثيرًا عميقًا على نظرية الفن الحديثة والمعاصرة. ويمكن تطبيق منهج كانط في الفن بشكل يسير ومثمر على مجالات الفن التي يشغلها الذكاء الاصطناعي في الوقت الحاضر؛ وذلك بفضل الافتراض المركزي للحرية الفنية، الذي يشكّل جوهر مفهوم كانط للفن. وتُعدّ الحرية أيضًا الأساس الذي تقوم عليه فلسفة كانط الأخلاقية؛ إذ يرى أن ثمة ترابطًا جوهريًّا بين الحرية والأخلاق، وهو المفهوم ذاته الذي يُعدّ مرتكزًا لمنهجه الجمالي.
في إطار تطويره لمفهوم الحرية، يميّز كانط بين 'الفكرة المتعالية للحرية'، و'الاختيار الحر'، و'الحرية العملية'. وبالنسبة إليه، فإن الحرية العملية تُعدّ العنصر الأساسي في نشأة الفن. يقول:
"إن ما يثير حواسنا ويؤثر فيها بشكل مباشر لا يحدد اختيار الإنسان فحسب، بل إن لدينا القدرة على تجاوز الانطباعات التي تؤثر في حاستنا الشهوانية؛ وذلك من خلال تمثّل ما هو نافع أو ضار، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر. ومع ذلك، فإن هذه الاعتبارات المرتبطة بما هو مرغوب فيه لحالتنا العامة – أي ما هو جيد ومفيد – تعتمد على العقل".
أي من مفاهيم الحرية الثلاثة يرتبط بشكل أكبر بفكر "كانط"؟
وفقًا لكانط، تمنح الحرية العملية الفنان القدرة على الإبداع بحرية ككائن عاقل. ورغم أن الحرية والتفكير العقلاني قد يبدوان في الظاهر متناقضين[5]، إلا أن كانط يؤكد أن الفن لا بد أن يُنتج بحرية، لا كوسيلة لتحقيق غاية خارجية، وإلا فإنه يتحوّل إلى مجرد حرفة لا إلى فن حقيقي. ولتوضيح هذه الفكرة، يمكن النظر إلى الرسام الهولندي هيرونيموس بوش Hieronymus Bosch، الذي رسم لوحته الشهيرة حديقة المسرّات الأرضية، حيث اختار موضوعه، وتوزيع الألوان، وتقنيات الفرشاة، انطلاقًا من إحساسه الإبداعي الحر. وعلى النقيض من ذلك، فإن رسم علامات الطرق السريعة يخضع لمتطلبات قوانين المرور، ولا يتيح مجالًا للحرية الجمالية أو الابتكار. كما يشير سكيس (Skees): 'يُظهر الفنان القدرة على ابتكار مادة العمل الفني في اللحظة نفسها التي يحدّد فيها الشكل الملائم للتعبير عن فكرة جمالية.
تتطلّب رؤية كانط للفن استخدام العقل؛ إذ يقول: "إن الإبداع الذي ينبع من الحرية، أي من القدرة على الاختيار المستندة إلى العقل، هو ما يمكن أن يُطلق عليه فنًا". تتماشى هذه الفلسفة منهجيًا مع تقاليد تاريخ الفن الأوروبي، حيث يشدّد كانط على ضرورة ارتباط الفنان بكل من téchne (الحرفة أو الفن، وهو مفهوم فلسفي يشير إلى الصنع أو الفعل) وepisteme (المعرفة أو العلم، وهو مفهوم فلسفي يرتبط بالفهم والإدراك).
في الوقت ذاته، يؤكّد كانط على أهمية الحرية في العملية الإبداعية؛ إذ تمنح الفنان القدرة على التحرر من قيود اللحظة، مما يتيح له توسيع آفاق طموحاته الإبداعية عبر الزمن. هذا التعمّق يمكّنه من العمل على مشروعه الفني على مدى أيام أو أسابيع أو حتى شهور، ما يمنح مسعاه لتحقيق هدفه الفني طابعًا من الاستقلالية والحرية.
من أبرز الأمثلة على هذا الامتداد الفني الذي يستمر لعقود هو المشروع الفني "قوس النصر المغطى" للزوجين الفنانين كريستو وجان كلود (Christo and Jeanne-Claude)، الذي بدأ تطويره في عام 1962 ولم يُنفَّذ فعليًّا إلا في عام 2021. وقد عاش المشروع بعد وفاة أحد مبدعيه؛ إذ توفي كريستو في مايو 2020.
من خلال القدرة على تجاوز حدود العملية الإبداعية من حيث الزمن والمادة إلى ما بعد اللحظة الراهنة، يتمكن الفنان من تجسيد الحرية العملية التي يعدها كانط شرطًا جوهريًا للإبداع الفني. فوفقًا لكانط، لا يمكن للفن أن يوجد دون وجود هذه الحرية العملية.
يتّضح التفوّق المنهجي للمنطلقات الجمالية الفلسفية في منهج كانط للفن عند مقارنته بوجهات نظر الفلاسفة الذين يتبنون مواقف مغايرة بشأن الحرية الفنية. فالتعريف الاجتماعي للفن يقيّد الفعل الإبداعي للفنان وتفاعل الجمهور مع العمل الفني عبر الكيانات الاجتماعية؛ أي الأفراد، ضمن سياقاتهم الاجتماعية (ومن هذه الزاوية فقط)[6]. في ظل هذا التصور، يصبح من الصعب إقامة رابط منطقي ومنهجي بين الفنان وعمله الفني.
فعلى سبيل المثال، يبدو أن تأكيد آندي وارهول (Andy Warhol) بأن 'الفن وسيلة للنجاة' يتعارض مع الفهم الكانطي المستنير للفن. ومع ذلك، قد يكون من الممكن التوفيق بين هذا الرأي والرؤية الكانطية إذا لم نُدرج وارهول ضمن فئة الفنانين وفقًا للمعايير الكانطية. ويمثل هذا ما يمكن تسميته بالاختزال المنطقي؛ إذ يفترض كانط ضمنًا أن الحرية الفنية تعني أن الدافع الفني ينشأ من فعل يسبق التفكير الواعي، ولا يمكن إدراكه إلا لاحقًا من خلال الفكر والتأمل.
يمثّل مفهوم كانط عن التضمين المسبق الفكري أساسًا للكثير من المفاهيم الفنية الحديثة والمعاصرة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك العمل الشهير للفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp) النافورة، حيث يتجلّى كيف يمكن لشيء عادي أن يرتقي إلى مرتبة العمل الفني بفضل الفعل الإبداعي للفنان في أبهى صوره.
تُعدّ الحرية الذاتية[7]، وفقًا للمعنى الكانطي، شرطًا أوليًا للفعل الإبداعي. وقد أصبحت هذه الفكرة موضع جدل في الوقت الراهن، لا سيما في سياق إنتاج العمل الفني من منظور الانعكاس والتأمل الذاتي. يستمد العمل الفني، في هذا السياق، قوّته من أعلى درجات ذاتية المبدع، ولا تكون مكانته الاجتماعية أو قيمته السوقية ذات أهمية مركزية (كأن يُسأل: من يقدّره؟ في أي سياق اجتماعي أُنتِج؟ أو ما القيمة النقدية التي يحدّدها له سوق الفن).
ببساطة، يمكن تلخيص تعريف كانط للفن بأنه فلسفة تؤكّد أن الفن لا يتحقق إلا في ظلّ الحرية. وقبل أن نعرض السؤال المحوري لهذا الفصل – هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنتج فنًا وفقًا لتعريف كانط للفن؟ – سأقدّم أولًا تعريفًا موجزًا للذكاء الاصطناعي.
4. ما هي أحدث التطورات التي حققها الذكاء الاصطناعي في الإبداع الفني؟
تحقيقًا لأهداف هذا الفصل، تشير الدلائل إلى أن الذكاء الاصطناعي يعتمد، في جوهره، على الفن التوليدي، الذي يُعرّف بأنه فن يُنتَج بواسطة نظام مستقل. ويشهد الذكاء الاصطناعي اليوم تطورًا متسارعًا، حيث تُطوَّر تقنيات جديدة باستمرار. لذلك، لا يقتصر هذا التحليل على تقنيات أو تطبيقات بعينها. وفي إطار فلسفة كانط، تتركّز الاعتبارات الجمالية على المبادئ الأساسية والآليات الجوهرية التي تحكم العملية الإبداعية. وبناءً على ذلك، سأقدّم في هذا القسم شرحًا موجزًا لنطاق الذكاء الاصطناعي، بما يتماشى مع هدف هذا التحليل الفلسفي.
يُعدّ الفن المُولَّد بالذكاء الاصطناعي (AI-generated art) مصطلحًا شاملاً يشير إلى جميع أشكال الفن التي لا يمكن إنشاؤها دون الاعتماد على البرمجة. وقد شهد هذا المجال تقدمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، خاصةً مع تطوير الشبكات التنافسية التوليدية (Generative Adversarial Networks - GANs). في المراحل الأولى لاستخدام هذه الشبكات، كان الفنانون يختارون الصور يدويًا من مجموعاتهم البيانية، ويقومون بضبط الخوارزميات لتوليد صور تُسهم في تكوين أعمالهم الفنية. ويُعدّ برنامج "ديب دريم" (DeepDream)، الذي طوّرته شركة جوجل، من أوائل الأمثلة على الإمكانيات الفنية للذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن هذه الأداة صُمّمت في الأصل لدراسة الشبكات العصبية، فإن فضول الفنانين والمبرمجين بشأن آلية توليد الصور دفع المطورين إلى إتاحة الكود البرمجي المستخدم للجمهور.
في السنوات الأخيرة، أدّى ظهور الشبكات التنافسية التوليدية إلى إحداث ثورة في مجال الفن الخوارزمي (Algorithmic Art)، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي بطرق مبتكرة لإنتاج الأعمال الفنية. وعلى عكس الفن الخوارزمي التقليدي، الذي كان يتطلّب من الفنان كتابة كود مفصّل لتحديد المعايير الجمالية المطلوبة، يتيح الاتجاه الجديد للفنانين الاستفادة من تقنيات التعلّم الآلي لتمكين الخوارزمية من "تعلّم" الجماليات من خلال تحليل مجموعة واسعة من الصور ومراقبتها. بعد اكتساب هذه الجماليات، يصبح بإمكان النظام توليد صور جديدة تتماشى مع الأنماط الجمالية التي اكتسبها. وفي القسم التالي، سأتناول مسألة قدرة الذكاء الاصطناعي على إبداع الفن.
5. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يبدع فنًّا استنادًا إلى مفاهيم جمالية فلسفية؟
كما أشرنا سابقًا، أدت التطورات التكنولوجية الحديثة في مجال علوم الحاسوب إلى إعادة النظر في الذكاء الاصطناعي ضمن سياق الفن. فقد ساهمت الشبكات العصبية الاصطناعية (Artificial Neural Networks - ANN) والشبكات التنافسية المولدة في تعزيز قدرات التعلم الآلي (Machine Learning - ML) إلى مستويات من التعقيد كانت تُعد في السابق ضربًا من الخيال. لقد تطوّر الواقع التقني إلى درجة بات من الصعب معها التمييز بين الشعر واللوحات والأغاني التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي وتلك التي يُبدعها البشر. وقد قام باحثون، مثل الجمّال وآخرين، بدراسة ردود فعل المتطوعين تجاه الأعمال الفنية المُنشأة بواسطة الحاسوب مقارنةً بتلك التي أبدعها فنانون. وتبيّن أن المشاركين لم يتمكنوا من التفريق بين الأعمال الفنية المُنتَجة آليًا، وتلك التي عُرضت في مهرجانات فنية مرموقة من قِبل فنانين بشريين، بل، ووفقًا لمجموعة متنوعة من المعايير، صنّف المشاركون الأعمال الفنية التي أنشأها الحاسوب على أنها أعلى جودة من نظيراتها البشرية. ومن ثم، فإن الأدلة المتوفرة تدعم فكرة أن الذكاء الاصطناعي قادر على إنتاج أعمال فنية بشكل مستقل.
يتوافق هذا الدليل مع تعريف حنّا آرندت (Hannah Arendt) للفن بوصفه نتاجًا للإنسان العاقل المبدع (creative homo faber)[8]، حيث وصفت الأمر على النحو التالي:
"يقف الإنسان منتصبًا بشكل مستقيم، ويفكر الإنسان العاقل، بينما يقوم الإنسان المبدع بالفعل الصانِع. يستخدم الإنسان المبدع الأدوات لإنتاج الأشياء، محوّلًا المواد المتاحة له إلى عالم مليء بالأشياء المفيدة، انطلاقًا من فكرةٍ حول ما ينبغي أن يكون عليه المنتج النهائي، وكيف يجب أن يبدو العالم".
كانت آرندت ترى أن الفن يمثّل أسمى أشكال النشاط التي يمكن للإنسان أن يمارسها.
في كتابها الحالة الإنسانية (Human Condition)، تتناول حنّا آرندت الفئات الأساسية للحياة الفاعلة (vita activa)، والتي تشمل الجهد، والعمل، والفعل. وتضع آرندت الإبداع الفني ضمن الفئة الثالثة من هذه الفئات. وتشير إلى الإنتاج الفني بوصفه نتاجًا لـهومو فابر، أو الإنسان المبدع؛ أي صانع العالم. كما تصف نتائج هذه العملية الإبداعية بأنها قوية ودائمة، على عكس السلع التجارية التي تتسم بعدم الديمومة.
تشدد آرندت على أن الإبداع الفني يمثل ممارسة إنسانية مميزة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت القدرات الحاسوبية للذكاء الاصطناعي لا تكتفي بمجاراة الإبداع البشري، بل قد تتفوق عليه أيضًا. فهل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي فنانًا فائقًا؟ لا يكون هذا الاستنتاج ممكنًا إلا إذا صحّت الفرضيتان التاليتان: (1) أن الإبداع الفني يُعد نشاطًا عمليًا وفقًا لتعريف آرندت، و(2) أن الذكاء الاصطناعي قادر على تبني موقع المشاهد المتلقي
قامت أداة ذكاء اصطناعي بإنشاء لوحة بأسلوب الفنان الشهير رامبرانت فان راين (Rembrandt van Rijn) ضمن مشروع "رامبرانت الجديد" (The New Rembrandt)، وهو مبادرة تعاونية بين جامعة دلفت للتكنولوجيا، ومايكروسوفت، وبنك ING، ومتحف هيت رامبرانتس، ومتحف موريتشويس. وقد أظهرت الدراسات أن غير المتخصصين يواجهون صعوبة في التمييز بين اللوحات الأصلية لرامبرانت، وتلك التي أنشأها الذكاء الاصطناعي، كما بيّنت دراسات مشابهة أجراها جانجادارباتلا (Gangadharbatla).
تعاون عشرون من علماء البيانات والمطورين والمتخصصين في مجالات الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد على مدار عامين في تنفيذ هذا المشروع. وقد أجرى الباحثون مسحًا شاملًا لمجموعة رامبرانت الكاملة، التي تضم أكثر من 300 لوحة، باستخدام تقنيات التصوير عالي الدقة بهدف إجراء تحليل معمّق، مما أسفر عن إنشاء قاعدة بيانات تجاوز حجمها 150 جيجابايت من المعلومات. بعد ذلك، استخدم الفريق برنامجًا قائمًا على الشبكات العصبية الاصطناعية لتعزيز دقة الصور وتحسين جودتها البصرية، لا سيما تلك التي تعرضت للتلف. وقد قام البرنامج بتحليل كل لوحة وتصنيفها بناءً على مجموعة من السمات، مثل نوع الملابس، والجنس، والإيماءات، وتعبيرات الوجه، ولون العينين، وغيرها. وقد تم تحديد 67 سمة مميزة خلال هذا التحليل.
إذا تم تحليل العمل الفني في لوحة رامبرانت التالي استنادًا إلى خطوط الفرشاة، وتكوين الألوان، وتأثيرها في المشاهدين، فإن هذا العمل المُنتَج بواسطة الذكاء الاصطناعي يمكن مقارنته بأعمال الفنان الشهير رامبرانت فان راين، الذي يُعدّ من أعظم الفنانين في تاريخ الفن الأوروبي
تتباين وجهتا نظر كانط وآرندت حول مفهوم الحرية الفردية في الإبداع الفني بشكل لافت؛ إذ يرى الأول أن الحرية شرط أساسي لوجود الفن، بينما تركز الثانية على الفعل الفني وتجربة المتلقي. ومن منظور كانط، يبدو أن شرط الحرية الضروري يشكّل حاجزًا يمنع الذكاء الاصطناعي من إنتاج نوع فني متفرّد؛ إذ إن الذكاء الاصطناعي القائم على الخوارزميات لن يتمكن من إنتاج عمل فني بأسلوب فنان بعينه.
بعبارة أخرى، فإن كل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي القائم على الخوارزميات لن يكون سوى نوعٍ فني خاص به. وهنا يبرز التساؤل: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي، أو حتى لأي إنسان، أن يجسّد أسلوب رامبرانت بتلك الدقة؟ إنه لأمر مدهش حقًا! فالإبداع البشري، الذي يتجاوز مجرد تجميع قاعدة بيانات ضخمة، يبدو وكأنه معجزة في حد ذاته؛ إذ يتطلب قدرة فريدة على استيعاب روح تلك اللوحات الخالدة التي أبدعها رامبرانت. ومع ذلك، فإن المثير للدهشة هو أن رسم اللوحات بأسلوب رامبرانت، رغم ما يتطلبه من مهارة فائقة، لا يؤدي بالضرورة إلى خلق شيء جديد فعليًا.
ينبع هذا التباين بين فلسفة آرندت في الفن ومنهج كانط في الفن من طبيعة الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد في جوهره على العمليات الحسابية. ففي المشهد الفني المعاصر، حتى أكثر الأدوات تقدمًا، مثل الشبكات التنافسية المولدة أو خوارزمية الجار الأقرب (K Nearest Neighbor - KNN)، تعتمد على خوارزميات قادرة على تجاوز حدود التعقيد، لكنها تظل، في جوهرها، محاكاة لتسلسلات متشابكة ومعقدة من العلاقات التعسفية. ومن زاوية فلسفية ومنطقية، يمكن اعتبار هذه الشبكات مجرد سلسلة من العلاقات القائمة على مبدأ "إذا - فإن". وجزء من طبيعة هذا التضمين هو أن الفرضية تكون محدودة، مما يعني أن النتائج لا يمكن أن تتجاوز مقدماتها. وحتى في أرقى مستويات التعقيد، تظل الشبكات التنافسية المولدة وخوارزميات الجار الأقرب معتمدة على دافع أولي محدد. ومن خلال هذا الدافع، يستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاج نتائج غير متوقعة تُدهش البشر؛ ومع ذلك، لا يمكن اعتبار أن هذه الأدوات تمتلك حرية حقيقية.
على سبيل المثال، يأتي برنامج DALL·E، ونسخته المطورة DALL·E 2، كنسخة مذهلة تم تصميمها باستخدام خوارزمية "الجار الأقرب"، من تطوير شركة OpenAI. يتيح هذا البرنامج إنشاء تصاميم مدهشة انطلاقًا من بيانات نصية! كيف يتم ذلك؟ يستخدم البرنامج الشبكات العصبية الاصطناعية لتحويل مجموعة من الكلمات المدخلة إلى وحدات بيكسل تُنتج صورًا، بعضها يبدو واقعيًا تمامًا. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ يتمتع DALL·E بقدرة على رسم خرائط تبتكر مفاهيم جديدة كليًا، كما ينتج أعمالًا فنية تتنوع في أساليبها الجمالية. تم تدريب هذا النموذج الموحد على ملايين الصور المتاحة على الإنترنت، مما مكنه من توليد صور جديدة ومبتكرة. كل ذلك يستند إلى الأساس القوي الذي يقدمه برنامج المحوّل التوليدي المُدرّب مسبقًا (Generative Pre-Trained Transformer 3 - GPT-3)، الذي لا يقتصر دوره على كتابة النصوص أو تلخيصها، بل يمتد ليشمل تأليف الشعر العميق أيضًا.
باختصار، يقوم DALL·E بإنشاء "أعمال فنية" مستقلة استنادًا إلى الكلمات المفتاحية، والتي قد تتشابه بشكل مدهش مع الأسلوب المستهدف للصور الموجودة مسبقًا. ومع ذلك، عند النظر إلى هذا الأمر من منظور جمالي وفلسفي، يتضح أن DALL·E لا يُنتج فنًا مستقلًا؛ إذ يُعد "خلق الفن" هنا نوعًا من إعادة الترتيب المعقد للعناصر القائمة، حيث تُجمع بطريقة متقنة وعالية الجودة. وعند تحليل DALL·E وفقًا لمبادئه الجمالية والفلسفية، يتبين أن الإنسان المُقدِّم للمدخلات هو الفنان الحقيقي، بغض النظر عن مدى تعقيد الخوارزمية أو تميز الناتج. فلا يمكن لـ DALL·E أن يخلق شيئًا من العدم. على العكس من ذلك، يرى كانط أن الإنسان يمتلك القدرة على الخلق من العدم؛ لأنه كائن قادر على التصرف باستقلالية. ومن ثم، تُعد الحرية شرطًا أساسيًا لصناعة الفن.
على عكس الفنانين القدامى مثل ألبريشت دورر (Albrecht Dürer) ورافاييل (Raphael) ويوهانس فيرمير (Johannes Vermeer)، الذين لا يُشكك في دوافعهم الإبداعية، يتطلب الكثير من الفنانين المعاصرين من المشاهدين أن يتفاعلوا أولًا مع المفهوم الفني ذاته. فعلى سبيل المثال، يُجبر العمل التركيبي للفنانة توموكو تاكاهاشي (Tomoko Takahashi) والمعنون بـ"المخلفات"، والذي يتكوَّن من نفايات تقنية من مدينتنا الصناعية، الجمهور على إدراك الفعل الإبداعي الكامن في تحويل الأشياء اليومية البسيطة إلى قطع فنية، من خلال تفكير مدروس ومقصود. قد تتمكن أدوات الذكاء الاصطناعي من إعادة إنتاج ترتيب مشابه لتلك الأشياء اليومية، لكنها، وعلى عكس الإنسان، تعجز عن بلوغ الفكرة الفنية التي يرتكز عليها هذا الترتيب. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن تتمتع أداة الذكاء الاصطناعي بالحرية.
من منظور كانط، تتطلّب القدرة على خلق الفن بالضرورة وجود حرية فنية. ووفقًا لمفهوم كانط عن الفن، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنتج أعمالًا فنية ما لم يمتلك القدرة الأساسية على الحرية. ويمكن عرض هذا الاستدلال كما يلي:
(المقدمة 1): الفن يتطلّب الحرية.
(المقدمة 2): الذكاء الاصطناعي، من حيث المبدأ، يفتقر إلى القدرة على الحرية.
(النتيجة): إذًا، لا يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج الفن.
تعتمد صحة هذا الاستدلال المنطقي على قبول المقدمتين (1) و(2). فإذا تم تعديل هاتين المقدمتين، فإن الادعاء المتعلق بقدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع الفني سيتغيّر. فإذا اعتُبر أن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على الحرية، فإنه — ووفقًا لمنهج كانط في الفن — سيكون قادرًا أيضًا على إنتاج أعمال فنية[9].
ومع ذلك، لا ينبغي ربط الحرية بالقدرة على الحساب. فجوهر الحرية يكمن في التحرر من الضرورات الحسابية، كما يشير كانط عند تأسيسه لفعل الخلق على جدلية لا يمكن إدراكها عقلانيًا. ويكمن سبب عدم قابلية الفن للتفسير في أن العمل الفني يتحرر من مُبدِعه، بقدر ما يصعب فهمه عقلانيًا. فعلى سبيل المثال، كل من جرّب الكثافة اللغوية في إحدى قصائد هانز ماجنوس إنزنسبيرجر (Hans Magnus Enzensberger)، سيتمكن من الاقتراب من التعقيد الفكري للعمل من زوايا متعددة، لكنه لن يستطيع الإحاطة به ككل، أو فهمه فهمًا شاملًا.
قائمة المصادر:
Adorno, T. (2004). In G. Adorno & R. Tiedemann (Eds.), Aesthetic theory. Continuum.
Anderson, T. (2015). Artistic freedom in Kant and Hegel. Philosophy in the Contemporary World, 22(1), 67–79
Arendt, H. (1989). Lectures on Kant's political philosophy. University of Chicago Press.
Arendt, H. (1998). The human condition. University of Chicago Press.
Baumgarten, A. G. (1750). Aesthetica. Ioannis Christiani Kleyb.
Baumgarten, A. G. (2013). Metaphysics. A critical translation with Kant’s elucidations, selected notes, and related materials Fugate, C.D. and Hymers, J. (transl. and ed.): Bloomsbury Publishing.
Basterra, G. (2015). The subject of freedom: Kant, Levinas (commonalities). Fordham University Press.
Bredin, H., & Santoro-Brienza, L. (2000). Philosophies of art and beauty: Introducing aesthetics. Edinburgh University Press.
Budd, M. (2005). Aesthetics. In E. Craig (Ed.), The shorter Routledge encyclopedia of philosophy. Florence.
Costelloe, T. M. (2007). Aesthetics and morals in the philosophy of David Hume. Routledge.
d’Entreves, M. P., Arendt, H., Zalta, E. N., & Nodelman, U. (Eds.). (2022). The Stanford encyclopedia of philosophy (Fall ed.) Accessed February 23, 2023, from https://plato.stanford.edu/archives/fall2022/entries/arendt/
Dewey, J. (2005). Art as experience. TarcherPerigee.
Elgammal, A., Liu, B., Elhoseiny, M., & Mazzone, M. (2017). CAN: Creative adversarial networks, generating “Art” by learning about styles and deviating from style norms. International Conference on Innovative Computing and Cloud Computing.
Franke, U. (2021). Baumgarten’s invention of aesthetics. In J. C. McQuillan (Ed.), Baumgarten’s aesthetics. Historical and philosophical perspectives. Rowman & Littlefield.
Gangadharbatla, H. (2022). The role of AI attribution knowledge in the evaluation of artwork. Empirical Studies of the Arts, 40(2), 125–142
Ghosh, A., & Fossas, G. (2022). Can there be art without an artist? arXiv Preprint. arXiv:2209.07667
Guyer, P. (2005). Values of beauty: Historical essays in aesthetics. Cambridge University Press.
Hume, D. (1739). A treatise of human nature. John Noon.
Hume, D. (1757). Four dissertations. A. Millar in the Strand.
Kant, I. (1998) Critique of pure reason, Guyer, P. and Wood, A.W. (transl. and ed.): Cambridge University Press.
Kant, I. (2000) Critique of the power of judgment, Guyer, P. and Matthews, E.: Cambridge University Press.
Kateb, G. (1999). The judgment of Arendt. Revue Internationale de Philosophie, 208(2), 133–154
Kohl, M. (2014). Transcendental and practical freedom in the critique of pure reason. Kant-Studien, 105(3), 313–335
Mordvintsev, A., Olah, C., & Tyka, M. (2015). Deepdream—a code example for visualizing neural networks. Google Research. Accessed February 23, 2023, from https://ai.googleblog.com/2015/07/deepdream-code-example-for-visualizing.html
Maggiore, M. (2018). Artificial intelligence, computer generated works and copyright. In E. Bonadio & N. Lucchi (Eds.), Non-conventional copyright—do new and atypical works deserve protection? (pp. 382–399). Edward Elgar.
Matherne, S. (2014). Kant and the art of Schematism. Kantian Review, 19(2), 181–205
Matthis, M. J. (2020). The beautiful, the sublime, and the grotesque: The subjective turn in aesthetics from the enlightenment to the present. Cambridge Scholars Publishing.
Mazzone, M., & Elgammal, A. (2019). Art, creativity, and the potential of artificial intelligence. Art, 8(1).
Nannini, A. (2020). The six faces of beauty. Baumgarten on the perfections of knowledge in the context of the German enlightenment. Archiv für Geschichte der Philosophie, 102(3), 477–512
Nida-Rümelin, J., & Weidenfeld, N. (2022). Digital humanism. Springer.
OpenAI Accessed February 23, 2023, from https://openai.com/product/dall-e-2
Ramesh, et al. (2022). Hierarchical text-conditional image generation with CLIP Latents. OpenAI Papers, 3–23. Accessed February 23, 2023, from https://www.shutterstock.com/press/20453
Riley, P. (1987). Hannah Arendt on Kant, truth and politics. Political Studies, 35(3), 379–392
Roose, K. (2022). An AI-generated picture won an art prize. Artists aren’t happy. The New York Times, 2, 2022.
Santos, I., Castro, L., Rodriguez-Fernandez, N., et al. (2021). Artificial neural networks and deep learning in the visual arts: A review. Neural Computing and Applications, 33, 121–157
Schneider, T., & Rea, N. (2018). Has artificial intelligence given us the next great art movement? Experts say slow down, the ‘field is in its infancy’. Artnetnews. September 25. Accessed February 23, 2023, from https://news.artnet.com/art-world/ai-art-comes-to-market-is-it-worth-the-hype-1352011
Shahriar, S., and Hayawi, K. (2022) “NFTGAN: Non-fungible token art generation using generative adversarial networks”, 7th International conference on machine learning technologies (ICMLT), (pp. 255–259).
Singh, A. (2022). How does DALL·E 2 work? Diffusion, and more diffusion, Aug-Mented Startups. Medium. Accessed February 23, 2023, from https://medium.com/augmented-startups/how-does-dall-e-2-work-e6d492a2667f
Skees, M. W. (2011). Kant, Adorno and the work of art. Philosophy and Social Criticism, 37(8), 915–933
Sweet, K. (2023). Kant on freedom, nature and judgment. Cambridge University Press.
Szegedy, S., Liu, W., Jia, Q., Sermanet, P., Reed, S., Anguelov, D., Erhan, D., Vanhoucke, V., & Rabinovich, A. (2015). Going deeper with convolutions. IEEE Conference on Computer Vision and Pattern Recognition (CVPR), 1–9
The Hannah Arendt Center for Politics and Humanities. (2023). Accessed February 23, 2023, from https://hac.bard.edu/amor-mundi/the-greatest-achievement-arendt-and-art-2023-02-26
The Next Rembrandt. (2023). Accessed February 23, 2023, from https://www.nextrembrandt.com.
Thorpe, L. (2014). The Kant dictionary. Bloomsbury Publishing.
Westhoff, M. (2020). The next Rembrandt. Digital Innovation and Transformation. Accessed February 23, 2023, from https://d3.harvard.edu/platform-digit/submission/the-next-rembrandt/
Winter, D. (2022). Warum Künstliche Intelligenz keine schöne Kunst im kantischen Sinne hervorbringen kann. J.B. Metzler.
Yanisky-Ravid, S. (2017). Generating Rembrandt: Artificial intelligence, copyright, and accountability in the 3A era - the human-like authors are already here—a new model. Michigan State Law Review, 2017, 659–726
Yanisky-Ravid, S., & Velez-Hernandez, L. A. (2018). Copyrightability of artworks produced by creative robots and originality: The formality-objective model. Minnesota Journal of Law, Science & Technology, 1, 1–53
Yost, B. (2016). Kant's demonstration of free will, or, how to do things with concepts. Journal of the American Philosophical Association, 2(2), 291–309
Zibner, J. (2019). Artificial intelligence: A creative player in the game of copyright. European Journal of Law and Technology, 1, 1–20.
[1] Dorothea Winter. "Aesthetic Aspects of Digital Humanism: An Aesthetic-Philosophical Analysis of Whether AI Can Create Art", In: Werthner, H., et al. Introduction to Digital Humanism. Springer, Cham, 2023
[2] يؤدي التنوير دورًا مميزًا في عصر الرقمية والذكاء الاصطناعي.
[3] يناقش هيوم في عمله "رسالة في الطبيعة البشرية" العلاقة بين الجمال والتشويه والرذيلة والفضيلة. في كتاباته اللاحقة عن علم الجمال، يقترح علاقة بين جمال الفن والتشويه (وبالقياس، بين السلوك والفضيلة).
[4] See Theodor W. Adorno (2004) and John Dewey (2005).
[5] من منظور مفهوم العقلانية، لا يوجد تعارض بين الحرية والتفكير العقلاني. بل على العكس، تعد العقلانية شرطًا أساسيًا لتحقيق الحرية. يمكن تعريف العقل أو العقلانية بأنها القدرة على تحقيق توازن مناسب بين الأسباب التي توجه أفعالنا ومعتقداتنا ومواقفنا. وبالتالي، فإن الحرية تعني القدرة على اتباع الأسباب التي تثبت أنها الأفضل خلال هذه العملية من التفكير. لذا، إذا كنت حرًّا، فإن الأسباب التي تحددها مداولاتي هي التي توجهني نحو اتخاذ القرارات والتصرف بطرائق معينة.
[6] يبدو أن هذا التعريف للفن قد يثير السؤال "ما هو الفن؟" بطريقة غير مجدية. وفقًا لهذا التعريف، يمكن اعتبار أي شيء يصفه المشاهد بأنه فن. ومع ذلك، عند تطبيق هذا المفهوم على الفن الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي، يصبح من السهل الإجابة عن السؤال (على الأقل من منظور فلسفي جمالي): يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلق الفن. على سبيل المثال، يُظهر روز أن عملاً فنياً من إنتاج الذكاء الاصطناعي قد فاز في مسابقة فنية. وقد تم ذلك بشكل قانوني، حيث لم يكن هناك أي شرط في الدعوة لتقديم الأعمال الفنية ينص على أن الفنان يجب أن يكون إنسانًا. وقد اعتبر المشاهدون من البشر أن العمل الفني الذي أبدعه الذكاء الاصطناعي هو عمل فني، وفي هذه الحالة، يتفوق على أعمال الفنانين البشر.
[7] يقدم باستيرا تفسيره للحرية الذاتية استنادًا إلى فلسفة كانط، حيث يقول: "يتناول كتاب 'موضوع الحرية' مفهوم الحرية من منظور نظري بوصفها الحدود التي تتيح التفكير، ومن منظور عملي كشيء آخر يسهم في تشكيل الذاتية."
[8] لماذا أستشهد بحنا أرندت؟ الإجابة بسيطة: لقد قدمت إسهامات مهمة في مجالات علم الجمال ونظرية الفن. لم تقتصر دراسة أرندت على كانط فحسب، بل قامت أيضًا بتأليف محاضرات ومقالات حول أفكاره، ولا يمكن تجاهل تأثيره على فلسفتها. يمكن الرجوع إلى محاضرات أرندت حول فلسفة كانط السياسية. ومن المثير للاهتمام أن تعريفها للفن يتعارض مع مفهوم كانط. لذلك، أود أن أقدم لمحة شاملة عن التعريفات المتنوعة للفن بالاستناد إلى أفكار أرندت.
[9] يتخذ دعاة ما بعد الإنسانية أو الآلية أو الروحانية هذا الموقف جزئيًا.