الأخلاق في السياسة من خلال محاضرة ماكس فيبر "مهنة رجل السياسة والتزامه"


فئة :  أبحاث محكمة

الأخلاق في السياسة	  من  خلال محاضرة ماكس فيبر "مهنة رجل السياسة والتزامه"

الأخلاق في السياسة

من خلال محاضرة ماكس فيبر "مهنة رجل السياسة والتزامه"


الملخّص:

إنّ ما ننشغل بالتفكير فيه في هذه الدّراسة، هو إشكاليّة عامّة وعريقة ما انفكّت تؤرّق التفكير السياسي، وهي طبيعة العلاقة المفترضة بين الأخلاق والسياسة. لذلك نعاود التفكير فلسفيّاً في هذه المسألة بالاستناد إلى محاضرة فيبر الموسومة بـ"مهنة رجل السياسة والتزامه"، لا سيّما أنّ هذه المحاضرة ما تزال تحتفظ براهنيّتها إلى اليوم، وذلك من جهتين على الأقلّ:

أوّلاً: إنّ السّياق الثوري الذي حفّ بإلقاء هذه المحاضرة شبيه إلى حدّ بعيد بالوضع الذي نعيشه اليوم، إذ بعد أخذ الأنظمة الشموليّة في التهاوي تباعاً، يفرض السؤال التالي نفسه: ما هو شكل النظام السياسي الذي يستجيب لتطلـّعات إنسان ما بعد الثورة؟ لقد قدّم فيبر حلاًّ متمثلاً في دولة مهيكلة ومنظّـمة بيروقراطيّاً، كما أبدى إعجابه بالكاريزم كرمز لرجل السياسة المفترض. لكن لا يهمّنا الحلّ الذي قدّمه بقدر ما يهمّنا اليوم كيف فكّـر في آنيّته، وكيف اضطلع بمسؤوليّته بصفته مفكّـراً سياسيّاً.

ثانياً: لقد اتّـسم الوضع الثوري في عصر فيبر بـ"حرب بين القيم" التي تعني تعدّد التجاذبات والمماحكات القيميّة، وهو ما نشهد طغيانه اليوم. هل يجب أن يكون العمل السياسي مشروطاً بقيم دينيّة أم ديمقراطيّة أم كونيّة أم براغماتيّة؟ وبالتالي إنّ التردّد بين قيم متباينة - الذي حكم تفكير فيبر في السياسة- هو نفسه ما نلحظ حضوره الحارق اليوم.

في استجماعنا للنقطتين السابقتين، تظهر لنا المشكلة التي نعتزم البحث في تفاصيلها، وهي كيفيّة توحيد الشأن العامّ السياسي حول مشروع مجتمعي مشترك بعدما مزّقته الصراعات السياسيّة، ثم وبالقدر نفسه كيف نؤسّس لقيم متجانسة تكون المرتكز الأخلاقي للفعل السياسي؟ بذلك نفهم رهان تحديد فيبر للسياسة، كمهنة من ناحية، وكالتزام من ناحية أخرى، وهو تحديد يُؤلّـف بين القدرة على الفعل وبين الحكمة العمليّة التي ينبع منها ذلك الفعل.

هكذا نستأنف النظر في التساؤل الذي طرحه فيبر أثناء محاضرته، والذي ما زال إلى اليوم يحتفظ بكامل وجاهته: "كيف يطرح المشكل المتعلّـق بالعلاقات الحقيقية بين الإيتيقا والسياسة؟". تتفرّع عن السؤال المركزي عدّة إحراجات منها: أيّ علاقة ممكنة بين الممارسة السياسية والإيتيقا؟ وكيف للسائس أن يعيّن فعله في وضع تتجاذبه فيه عدّة عناصر متباينة، منها الاقتناع والمسؤوليّة والمجازفة والمبادرة واتّخاذ القرار الذي قد لا يخلو من ممارسة العنف؟ وإذا كان السائس ملتزماً بالقيم الأخلاقيّة، ألا يمثّل ذلك عائقاً أمام نجاعة فعله؟ أليس من الحنكة السياسيّة أن يستقلّ السّائس عن كلّ ضروب المعايير الأخلاقيّة؟ أم أنّ الفعل السياسي يجب أن يلتزم بإيتيقا معيّنة كي لا يسقط في الطغيان؟ ألا تمثل الإيتيقا جملة من الضوابط الملزمة والمؤطّرة للفعل السياسي؟ ألا يكفي السائس احتكاره ممارسة العنف كي نترك له أيضاً احتكار القيم الأخلاقيّة وتوظيفها للمزيد من تبرير العنف؟

نحاول في بحثنا أن نفصّل هذه المشكلات، وأن نتعرّف على موقف فيبر منها، ثمّ سننفتح على إجابات أكثر جذريّة من تلك التي قدّمها في محاضرته، وذلك استئناساً ببعض مفكّري الشأن السياسي والأخلاقي في أواخر القرن العشرين.

يحمل العنصر الأوّل الذي يمثّل قطب هذه الدّراسة عنوان "في إيتيقا السياسة"، تناولنا فيه عرض فيبر لقاعدتين أساسيّتين للفعل السياسي، هما: "إيتيقا الاقتناع" و"إيتيقا المسؤوليّة". لقد عدنا إلى المعاجم الفلسفيّة كي نظفر بتعريف دقيق للاقتناع. ثمّ لمّا كان أصلها الديني يعود إلى "إيتيقا الإنجيل المطلقة"، كما بيّن ذلك فيبير، وجدنا تأصيلها الفلسفي في "أخلاق الواجب الكانطية"، لذلك كانت العودة إلى "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" ضروريّة. ثمّ انتهينا بعد ذلك إلى التضارب الصارخ بين الاقتناع في نسختيه المسيحيّة والكانطيّة مع الفعل السياسي، وذلك بسبب واقعيّة الثاني ونسبيّته، وإطلاقيّة الأوّل ومثاليّته. هذا الأمر دعانا إلى اختبار "إيتيقا المسؤوليّة في علاقتها بالفعل السياسي" بالاستناد إلى فيبير: حيث قمنا بمقارنة الاقتناع والمسؤوليّة، ثمّ انتهينا إلى أنّ الفعل السياسي لا بدّ أن يشترط المسؤوليّة على النتائج المترتّبة عليه، سلبيّة كانت أم إيجابيّة. إلا أنّ المسؤوليّة كما قدّمها فيبر تبدو ذات مدى محدود كما برّرنا ذلك. لهذا الغرض، انفتحت هذه الدّراسة على مدى وجودي أعمق لمفهوم المسؤوليّة مع جان بول سارتر إذ إنّ الإنسان بإطلاق ـ وليس السياسي فحسب ـ محكوم عليه أن يختار الفعل الذي يريد ضمن وضعيّة وجوديّة مخصوصة شرط أن يكون مسؤولاً عمّا يفعل.

أمّا العنصر الثاني، فنقديّ بالأساس لموقف فيبر من الإشكالية موضوع البحث. وقد ركّزنا نقدنا على ما يُسمّى "بالقراريّة الفيبريّة" التي تعني الحياد الكلّي للسياسة عن كلّ المعايير الأكسيولوجيّة،وبالتالي من حقّ السياسي أن يمارس العنف متى كان ناجعاً دون الاحتكام لعقل عملي يكون بمثابة الضابط الأخلاقي. إنّ هذه "القراريّة" أفرزت تبعات كارثيّة على مستوى الممارسة السياسيّة (حروباً عالميّة / أنظمة شموليّة) كما أنتجت تنظيراً سياسيّاً وفلسفيّاً للاستبداد، وقد استندنا في هذا المستوى على نقد كلّ من هابرماس وآلان رونو لمنطق القراريّة. ثمّ بعد ذلك خلصنا، في خاتمة هذا البحث، إلى فتح آفاق نحو الحلّ الفلسفي البديل عن فشل السياسي، فكان حلاّ ذا طبيعة إيتيقيّة من خلال تناول نظريّة الفعل التواصلي لهابرماس.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا