الأخلاقُ والمدونة الفقهية


فئة :  مقالات

الأخلاقُ والمدونة الفقهية

نعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام الخمسة وفقاً للتصنيف الفقهي، أو ما عُرف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، بعد أن صار مفهومُ الشريعةِ مطابقاً لمفهومِ الفقه. وكان مصطلحُ الشريعةِ يتسعُ لعلومِ العقيدةِ والأخلاقِ والفقهِ، لكنه أضحى مرادفاً للفقه فيما بعد؛ إذ اتسعَ مفهومُ الفقه ليستوعبَ كلَّ علومِ الدين، حتى اضمحلت دراسةُ علومِ الدين في الحوزاتِ والمدارسِ والجامعاتِ الدينية في عالمِ الإسلام بالتدريج، وصارَ محورُها الفقهَ وما تتطلبهُ مقدماتُ دراستهِ وفهمهِ.

وتكمن المفارقةُ في أن الأخلاقَ، وفقاً لما يحكمُ به العقلُ العملي، والفقهَ لا يترادفان في التفكير الفقهي، بمعنى ألا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية.

لذلك ظهر التفكيرُ بالحيلِ الشرعية وما يماثلها وتشريعِها للتهرب من المسؤولية الأخلاقية. ولم تكن هذه الحيلُ في مضمونها إلّا تبريرات لا أخلاقية، لكنها تخلع على نفسها، عبر الفتاوى، مشروعيةً فقهية. ولعل أولَ من ابتكرها فقهاءُ البلاط ووعاظُ السلاطين، من أجل تأمينِ غطاءٍ ديني لكل انتهاك للقيم والأخلاق يقترفهُ الخلفاءُ والسلاطين، وتسويغِ ظلمهم وتعسفهم وموبقاتهم.

بنيةُ الأخلاق فقهيةٌ في التفكيرِ الفقهي؛ إذ يتحركُ هذا التفكيرُ المنبثقُ من رؤيةٍ كلاميةٍ في أفق مفاهيم لا تتبصر ما هو أخلاقي لتضعه معياراً حاكماً في استنطاقِ الآيات والروايات التي يوظفها في الاستنباط، وإنما يحرص هذا التفكيرُ على مراعاة القوالب الراسخة لأصول الفقه والأدوات المتوارثة في عملية فهم الآيات والروايات التي يتمسك بها الفقيهُ ليحدّد في ضوئها فتوى تقرّر موقفاً حيالَ واقعة حياتية. حتى الفقهاء الذين يذهبون إلى أن العقلَ أحدُ مصادر الاجتهاد، على الرغم من تعليلهم الاستناد إليه في الفتوى، يرون أن «كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة»[1].

ولما كانت مرجعيةُ الفقيه في الاستنباط هي النصوصُ، وهي كثيرةٌ ومتنوعةٌ، ويشي بعضُها بأحكامٍ مختلفة ومتعارضة، تعدّدت مواقفُ الفقهاء تبعاً لاختلافِها، ولكيفيةِ معالجة تعارضها، وفقاً لاختلاف المباني الأصولية، وطرائق الفهم والتفسير، التي تفرضها رؤيةُ الفقيه للعالَم وعقيدتُه في التوحيد، وطبيعةُ ذاته، ونمطُ ثقافته؛ إذ ليس هناك فهمٌ وتفسيرٌ خارج معادلات ذاتِ الإنسان ورؤيتِه للعالَم وثقافته. والكثيرُ من فقهاء الإسلام تخضع رؤيتُهم للعالَم لما صنعه علمُ كلام الفرقة الاعتقادية التي ينتمون إليها، حتى باتت آراؤُهم مرتهنةً برؤية المتكلم، هي تتحكّم في الفتوى، وتحدّد ترجيحاتِ الفقيه، وتوجّه اختياراتِه عند تعارض الروايات واختلافها.

وقد نحتت الرؤيةُ التوحيديةُ للمتكلمين صورةً لله تجعل الإنسانَ مكلَّفاً أمامه، ولا ترى له أيَّ حقّ خارجَ حدود التكليف. كلُّ شيء في حياته يخضع لتوجيه إلهي بالفعل أو الترك، أو بالتخيير بينهما والحرية في الفعل أو الترك، فحتى ما يكون الإنسانُ حرّاً في فعله أو تركه يحدّده حكمُ اللهِ بالإباحة؛ أي يدخل في دائرة ما أباحه اللهُ له من حرية. ما يعني أنّ الإنسانَ بما هو إنسان لا تخرج حياتُه في أقواله وأفعاله عن حدود الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة. وعلى أساس هذه الرؤية الكلامية بنى علمُ أصول الفقه نظريةَ شمول الأحكام كلَّ واقعةٍ في حياة الإنسان، سواء كانت خطيرةً أم يسيرة. وهو ما قرّره في وقت مبكر الشافعي المتوفى (204 هـ/ 820م)، بقوله: «كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق ففيه دلالة موجودة»[2]. ومنذ ذلك الحين صار كلُّ شيء في حياة الفرد والجماعة لا يجد مشروعيةً إلا إذا كان مصداقاً لأحد الأحكام الفقهية الخمسة، وجرى بالتدريج استيعابُ كلّ أبعادِ الدين الإسلامي وترحيلُ كلّ مجالاتِه إلى مجالِ هذه الأحكام. ولم يعد للأخلاق معنى مستقلٌ خارجَ هذه الأحكام.

وكان لغزارةِ المدونة الحديثية في الإسلام أثرُها البالغُ في نموِّ المدونة الفقهية وتضخّمِها، وابتلاعِها كلَّ ما يتصل بالدين في حياة المسلم الفردية والاجتماعية. وقد تضخّمت المدونةُ الحديثية بعد اشتداد حركة الوضع في الحديث في عصر التابعين وتابعيهم، لتأخرِ التدوين عن عصرِ البعثة، وتحوّلِ السنّة إلى الدليل الثاني من أدلة التشريع بعد وفاة النبي (ص)، حيث أصبحت السنةُ غطاءً يضفي المشروعيةَ على سلوكِ الصحابة والتابعين وتابعيهم مهما كان، وتبرير مواقفِهم المختلفة، ونزاعاتِهم السياسية، وصراعاتِهم المسلحة؛ بل صار كلُّ شيء في العلاقات الاجتماعية والحياة الفكرية والاقتصادية لا يجد مشروعيةً لوجوده إلا في السنّة. لذلك تمادت حركةُ الوضع واستبدّت بها وجهةٌ تنزع إلى التحريمِ والتأثيمِ لكلّ ما كان على الضدّ من مصالحِ الصحابي والتابعي أو جماعته، أو إلى الإلزامِ بالفعل وفرضِه إن كان يستجيب لمصالحهم، ما شكّل أرشيفاً هائلاً حفلت به الصِحاحُ والمسانيدُ والمجاميعُ الحديثية، يتسع لاستيعاب مواقف متباينة ومتعارضة، وينتج آراء فقهية متضادة، اضطر علماءَ الأصول إلى وضع قواعد لمعالجة ذلك التباين والتعارض في مباحث التعارض في أصول الفقه.

كان الحديثُ مرآةً انعكست فيها تضاريسُ حياة الصحابة ومن جاء بعدهم، فتجلت فيها رؤيتُهم للعالم وبيئتُهم وثقافتُهم ومصالحُهم ونزاعاتُهم على الاستئثار بمشروعية السلطة والثروة. وكان مآلُ السنة، بوصفها المصدرَ الثاني للتشريع، أن تتغلبَ بالتدريج على مرجعية الكتاب (القرآن الكريم)، مع أنه المصدر الأول، وتحجب دورَه في التشريع، وفقاً لمعايير اجترحها أصولُ الفقه، أعلتْ من مكانة السنة، وجعلتها مرجعيةً في فهم الكتاب، وقدمت دلالتها على دلالة الكتاب، وخصصت ما هو عام، وقيدت ما هو مطلق فيه.

لم يهتم أصولُ الفقه، وتبعاً له لم يهتم الفقه، بالمنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية ومجالاتها المحورية وروافدها الملهمة، وأثر الضمير الأخلاقي في بناء الحياة الإنسانية الأصيلة، ولم يحدّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أن المنظومةَ الأخلاقية والمعاييرَ القيمية منبثةٌ في سياق الآيات باختلاف موضوعاتها. كذلك أهمل أصولُ الفقه، وتبعاً له أهمل الفقهُ، الدلالاتِ القرآنيةَ للحياة الروحية، وتعبيراتها العميقة في الحياة، والروافد التي تستقي منها، ولم يحدّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أنها تسري في سياق الآيات باختلاف موضوعاتها كالمنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية.

وهكذا تغلّبَ العقلُ الأصولي على العقلِ الفقهي، فصنعَ له بالتدريج قوالبَ صارمةً ومداراتٍ مقفلةً، تنسكبُ بها أدلةُ استنباطِ الحكمِ كالرواياتِ وغيرها، بنحو تقودُ فيه تفكيرَ الفقيهِ لتفرض عليه نمطَ فهمٍ محدّدة نتائجُه سلفاً، لأنهُ لا يتمكنُ من عبورهِا أو تخطيها.

وما كرّس ذلك أن العربيةَ لم تكن اللغةَ الأمَّ لجماعة من كبار فقهاء الإسلام، ومن يتعلم لغةً غير لغته الأم لا يستوعب بالضرورة الفضاءَ الثقافي لهذه اللغة، ولا يتنبه إلى كل دلالاتها العرفية، ولا يتذوق سحرَ تعبيراتها، والدلالاتِ الحافة والسياقية لكلماتها وعباراتها. لذلك تطلبَ التعاطي مع آيات القرآن والروايات قوالبَ آليةً لإنتاج فهمها. وذلك أحدُ أسباب تضخّم أصولِ الفقه، وتوغلِ الصناعة الأصولية في تفسيرِ القرآن وفهمِ الروايات لدى الفقهاء.

ولو قرأ خبيرٌ كيفيةَ تشكيل مدونة الفقه في الإسلام لوجد اهتمامَ المجتهد يتركز في استنباط الفتوى على الوفاء لهذه القوالب والأدوات، والمهارة في استعمالها في مواردها، لذلك يقبل المجتهدُ على الدوام الفتوى الناتجةَ عن التطبيق الدقيق لهذه الأدوات في فهم الآيات والروايات، بغضّ النظر عن مضمون الفتوى الأخلاقي.

منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي".

ونتيجةً لهيمنةِ الفقه على الحياة، واتخاذِه مرجعيةً في التفكير والسلوك، اختلط معنى الأخلاق بالفقه في عالم الإسلام؛ بل تسيّد فهمٌ لدى المسلم يختصرُ كلَّ ما هو أخلاقي بما هو فقهي، حيث اقترن، في الضمير الإسلامي، الواجبُ بالمعنى الفقهي بمفهوم الحُسْن بالمعنى الأخلاقي، واقترن المحرّمُ بالمعنى الفقهي بمفهوم القُبح بالمعنى الأخلاقي، مع أن الحُسْنَ والقُبحَ من أحكام العقل العملي "الأخلاقي"، وأحكام هذا العقل لا تتطابق دائماً مع أحكامِ الواجب والمحرّم في مدونة الفقه الإسلامي.

‫لقد تصدّعت الأخلاقُ في مدونة الفقه الإسلامي، ولم تكترث هذه المدونةُ بالنزعة الإنسانية في الدين، بعد أن ربطت كلَّ معنى أخلاقي وإنساني بالفقه، وشدّدت على الصلة العضوية بينهما، وكأن لا أخلاقَ خارجَ المدوّنة الفقهية، حتى صارت هذه القضيةُ واحدةً من المسلّمات المضمرة في العقل الفقهي، وذلك ما ضيّع شيئاً من معاني الأخلاق. ولم يقتصر ذلك على الفقهاء؛ بل لم يتخذ متكلمو الإسلام ومحدثوه ومفسروه من العقلِ الأخلاقي مرجعيةً في فهمهم للإسلامِ وتفسيرهم لنصوصه المقدسة.

وقادَ غيابُ مرجعيةِ العقلِ الأخلاقي العقلَ الفقهي إلى أن يحدث شيءٌ من الخلط بين الفقه وأعراف وتقاليد الجماعة التي ينتمي الفقيهُ إليها، بنحو أضحت فيه الأعرافُ والتقاليدُ تُشكّل أحدَ عناصر الإطار المرجعي لتفكير الفقيه، وتفرض عليه أنماطَ فهمها ومعاييرها.

والأعرافُ والتقاليدُ معاييرُ تحكي السياقاتِ الراسخة لحياة الجماعة وثقافتها المحلية، وتشي بما خلصت إليه في تجارب عيشها وما يتمخّض عنها من مفاهيم وأحكام تأخذ شكلَ تشريع محلّي. ولا تعبّر الأعرافُ والتقاليدُ بالضرورة عن أهدافِ الدين أو مقاصدِ الشريعة أو أحكامِ العقل الأخلاقي.

الفقهُ معرفةٌ دنيويةٌ تخضع لرؤية الفقيه للعالم وللإطار المرجعي لتفكيره، لذلك قد يستنبط الفقيهُ فتاوى لا تتطابق بالضرورة مع أحكامِ العقل الأخلاقي. فهمُ الفقيه للنصوص يلتبس بذاته كما تلتبس كلُّ عملية تفسير وفهم بذات المفسّر، وتتحكم في هذا الفهم رؤيتُه للعالم. والكثيرُ من فقهاء الإسلام تنبثق رؤيتُهم للعالم في أفق الرؤية الكلامية، وتأسر آراءَهم مقولاتُ المتكلمين بوصفها مسلّماتٍ مضمرةً تتحكّم في تفكيرهم، وتحدّد كيفيةَ استدلالهم، وتوجّه اختياراتِهم عند تعارض الروايات واختلافها.

إن غيابَ المرجعية الأخلاقية في الاستنباط الفقهي يقودُ إلى نتائج تنقض أحكامَ العقل الأخلاقي أحياناً، فنرى مثلاً بعضَ الفقهاء يجيزُ سرقةَ المال العام بعنوان أنه مالٌ مجهول المالك، ونجد تسويغاً عند فقهاء آخرين لهجاء غير المسلم؛ بل نجد اليوم من يجيز التشفي بغير المسلم حين تصيبه الكوارثُ الطبيعية، وغيرها من المواقف المستهجَنة أخلاقياً، بوصفها ليست قبيحةً من منظور العقل الفقهي، ما دام يطبّق عليها القوالبَ الميكانيكية الموروثة في الاستنباط.

عدمُ التطابقِ بين الصناعةِ الفقهية ومعاييرِ العقل الأخلاقي، مضافاً إلى القراءة اللاتاريخية للأحكام الواردة في الآيات والروايات، هذه القراءة التي تتعاطى مع موضوعات الأحكام من دون ملاحظة الأحوال والظروف الاجتماعية السائدة في عصر النص، والمتغيرة بتغيّر الواقع وما يحفل به من تحوّلات، وكل ما كان يمثل عنصراً من العناصر المكوّنة لموضوعات الأحكام، كلُّ ذلك أدى إلى ظهورِ آراء فقهية لا ترى حقاً للكائن البشري في الاختلاف، وترفض أن تمنحه الحريةَ في الاعتقاد. ولم تقتصر هذه الآراءُ على تكفيرِ غيرِ المسلم فقط؛ بل تحكم بذلك حتى على المسلم المختلف. فقد ذهب بعضُ الفقهاء إلى إخراج كلِّ مسلم من الملة، إن لم يكن على المذهب الذي يراه هو حقاً من دون سواه. يكتب الفقيهُ الإمامي الإخباري المعروف يوسف البحراني في (الحدائق الناظرة): «ينبغي أن يُعلَم أن جميعَ من خرجَ عن الفرقةِ الاثني عشرية من أفرادِ الشيعةِ كالزيدية والواقفية والفطحية ونحوها، فإن الظاهر أن حكمهم حكم النواصب»[3]. وحكمُ النواصب لديه هو إخراجُهم من الملة.

وعندما نعود إلى المدونة الفقهية في الإسلام لا نجد البحراني منفرداً بمثل هذا الرأي؛ بل نجد أن ابنَ تيمية وغيرَه من الفقهاء يكفّرون كلَّ مسلم يختلف عنهم في معتقده. فقد كفّر ابنُ تيمية مثلاً من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الاثني عشرية، والقدرية[4].

نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية. أتذكر أني ناقشتُ أحدَ الأعضاء المعروفين في الجماعات الدينية عندما كان يزوّر العملةَ العراقية في أحد البلدان، ويهرّبها بكميات كبيرة إلى العراق في سنوات الحصار في تسعينيات القرن الماضي، فقلت له: لماذا تفعل ذلك، أليست هذه جنايةً على شعبنا الجائع المنكوب؟

أجابني: لقد حصلتُ على فتوى بجواز ذلك من فقيه.

فقلت له: أنا خبيرٌ بالفقه، وهذا فعلٌ تمقته كلُّ شرائع السماء والأرض. فأخذ يزايد ويتبجح قائلاً: نحن نتمسك بفتاوى الفقهاء، ولا نفعل ذلك اعتباطاً، وتزوير النقود واحدة من الوسائل التي نقاوم بها نظام صدام حسين.

قلت له: أنا لا أعبأ بفقه لاأخلاقي يدمّر الأوطان. أنت لا تقاوم نظامَ صدام بفعلك هذا. أنت تحارب أهلَنا في العراق، وتعمل على الإجهاز على شعبنا الجريح، لأنك تدمّر اقتصادَه عندما تغرق الأسواق بالعملة المزوّرة، وكأنك لا تدري أن التزويرَ يحرق العملةَ الوطنية.

وحاولت أن ألتمس دليلاً، وفقاً لمنطق الاستدلال الفقهي المعروف على ذلك، فلم أجد لهذا الفعل اللاأخلاقي تسويغاً. وإن كنت أظن أن ذهنيةَ بعض الفقهاء تلجأ إلى العناوين الثانوية في مثل هذه الموارد، فتفتي لمثل هذا المزوّر بالجواز بعنوان إنهاكِ نظام صدام حسين الفاشي وتخليصِ الشعب العراقي منه.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن فقهاءَ آخرين يفتون بحرمة مثل هذا السلوك. أتذكر أن صديقاً عراقياً يعيش في الغرب، بعث إليّ برسالة يستفتي فيها أحدَ المراجع المشهورين في ثمانينيات القرن الماضي بشأن مشروعية فعل من يُسخّر الهاتفَ العام في المدن الغربية لمكالماته مع أهله وأصدقائه في العراق وغيره؛ إذ إنه ربما يسوغ ذلك بوصف هذه البلاد كافرةً، ومال الكافر غير محترم، أو بعنوان كونه مجهولَ المالك. فيلجأ الى حيلةٍ فنية تتيح له أن يستخدم الهاتفَ ويتكلم به لساعات طويلة مجاناً. فأجاب الفقيه: «يحرم ذلك، ومن يفعل ذلك فهو ضامن للجهة مالكة الهاتف، سواء كانت هذه الجهة حكومية أو أهلية».

كما قادَ غيابُ مرجعيةِ العقلِ الأخلاقي في التفكيرِ الفقهي إلى التشديدِ على ما هو جزئي وتجاهل ما هو كلي، والتمسكِ بالفروعِ وتركِ الأصول، والتنقيبِ في الحروف وإهمالِ المقاصد، والتركيزِ على التفاصيل الدقيقة في تقييم السلوك وعدمِ الاكتراث بالنزعةِ الخيرية والمؤشراتِ الأخلاقية وتعبيرِها في سلوك المسلم عن روحِ الدين وأهدافِه الإنسانية. فمثلاً لو كان أحدُ المسلمين يتبرعُ بالكثير من ماله الخاص لتأسيس مستشفيات ومدارس ودور أيتام وبيوت لإيواء المشردين وغير ذلك من الأعمال الخيرية، غير أنه كان يحلق لحيته كل يوم، فيحكم عليه بعضُ الفقهاء بالفسق، لأنه يرتكب محرماً بحلق لحيته، وارتكاب المحرم موجب للفسق. والفسق حكم قيمة سلبي يحطّ من مكانة المسلم الدينية. لكن مسلماً آخر سيحظى بالتبجيل، إن كان ملتزماً بما يمليه عليه الفقه ولا يحلق لحيتَه، وإن لم تكن لديه أيةُ مساهمة مالية تطوعية في الأعمال الخيرية.

ولو لم تلتزم المرأةُ المسلمةُ بحرفية تفاصيل الحجاب الجزئية المنصوصة في المدونة الفقهية، وأخرجت من تحت غطاء رأسها خصلةَ شعر، فإن ذلك يخلُّ بمكانتها في نظرِ الكثير من المتدينين، لأنه يعدّ سلوكاً مستهجناً من منظور فقهي، وإن كانت هذه المرأةُ تصلي وتؤدي العبادات، وكان لسانُها وقلبُها وعينُها وسلوكُها نقياً، وأوقفت كلَّ حياتها لفعل الخير والعمل من أجل إسعاد الناس. علماً أن مسألةَ غطاءِ الرأس، بوصفها جزءاً من حجاب المرأة، ليست مورداً لإجماع الكل، فهناك بعضُ الآراء تذهب إلى أنه ليس جزءاً من الحجاب، وإن كانت هذه الآراءُ تبدو شاذةً.

لكن انتهاكَ مسلمة أخرى لأحكام العقل الأخلاقي ربما لا يخلّ بمكانتها في نظرِ بعض المتدينين، مادامت ملتزمةً حرفياً بحدودِ الحجاب في المدونة الفقهية، حتى لو كان ذلك الانتهاكُ يتضمن تجاوزاً على حقوقِ الناس وحرياتهم أحياناً.

إن تحويلَ القيم الأخلاقية إلى فتاوى فقهية والفتاوى الفقهية إلى قيم أخلاقية من الأسباب المهمة لمأزق التفكير الديني في الإسلام. وكان هناك تأثيرٌ متبادَلٌ بين تفريغ مفاهيم الوحي والنبي والدين والمقدّس من مضمونها الأخلاقي وتفريغ الفتوى من مضمونها الأخلاقي.

وانتهى ذلك إلى ضمورِ الضمير الأخلاقي عند بعض المسلمين المتمسكين بحرفية فتاوى الفقهاء، ممن اعتمدوا الفتاوى معياراً أساسياً في سلوكهم ومواقفهم، حتى لو كانت تسوّغ لهم ارتكابَ بعض المواقف اللاأخلاقية التي يرفضها الضميرُ الأخلاقي.

وتعويضاً عن هشاشة الضمير أو غيابه، لجأ المتكلمون والفقهاء والمحدّثون إلى التخويف من عذاب النار وسيلةً للردع، على الرغم من أن التخويفَ بلا ضمير أخلاقي لا يكفي أن يكون رادعاً دائماً. ولا يمكن أن يؤدي التخويفُ من النارِ في الآخرة وظيفةَ الضمير الأخلاقي أو يكون بديلاً له؛ لأن الإنسانَ يمكن أن يكذب أو يسرق أو يغتصب مثلاً، على الرغم من تخويفه بالنار؛ بل إن الانسان، الذي لا يقدم على الكذب والسرقة والاغتصاب، بسبب خوفه من النار، يمكن أن يفعلَ ذلك لو أفتى له فقيهٌ بجوازِ هذه الأفعال بعناوين خاصة، وقال بعدمِ عقابه عليها في الآخرة بالنار.

وأفضت هيمنةُ الفقهِ على الحياة، واتخاذُه مرجعيةً في التفكير والسلوك، إلى نموِّ واتساعِ مدونة علم الكلام أفقياً ورأسياً، وهكذا نمت واتسعت وتضخّمت مدونةُ أصول الفقه والفقه، واستبدّت بالفقه ظاهرةُ التكرار المملّة، فتراكمت المتونُ وشروحُها وشروحُ شروحها، وصار رجلُ الدين يستمدُّ مكانتَه من دراستِه وتدريسِه وكتابته في الفقه وأصوله، وأصبح يتحدّد على أساسها مصيرُ مقامه الديني والدنيوي، وما يُمنَح من حقوق وامتيازات مادية وروحية ورمزية وعلمية.

وبموازاة ذلك أمست مدونةُ الأخلاق في تراثنا هي الأفقر، مقارنةً بالفقهِ وأصوله وعلمِ الكلام والتفسيرِ والحديثِ، وغيرِها من علوم ومعارف التراث. فقد ضمرت المدونةُ الأخلاقية في الإسلام، وشحّ التأليفُ فيها، لذلك قلّما نجد مؤلفاتٍ مهمةً تبحث في فلسفةِ الأخلاق، أو كتابات تحدّد ماهيةَ الأخلاق النظرية والعملية، وتحلّل طبيعةَ صلة الدين بالأخلاق والأخلاق بالدين.

وكان من نتائجِ الاختلالِ في نصابِ مدونة الأخلاق، والانصرافِ إلى الكتابة في الفقه وغيره، نموُّ بعض الظواهر التي لا صلةَ لها بالواقع في التفكير الفقهي كما تنمو طفيلياتُ النبات التي لا جذور لها في التربة، مثل ظاهرة الافتراض الفقهي أو الفقه الافتراضي الذي غرقت فيه ذهنيةُ بعض الفقهاء، فراحوا يفترضون مسائلَ شاذة، وعندما احتاروا في تبرير صلتِها بالواقع أو "ثمرتِها العملية"، لجؤوا إلى افتراضِ نذرٍ غريب، حتى قيل: «النذرُ مطيةُ الفقهاء». وربما تورّط أحدُهم بافتراضاتٍ تثيرُ السخريةَ أحياناً، فقد طالعتُ كتاباً في المسائل المستحدثة، نشرَه فقيهٌ قبل خمسين عاماً، يفترض لو أن إنساناً نقلوا رأسَه إلى جسدِ حمار أو فعلوا العكس، فيتساءل: ما أحكامُ صلاتِه وصيامِه وعباداتِه وأحكامِه، وهل إن موضوعَ الأحكام يتبع الرأسَ أو الجسدَ؟!

بغداد 9/11/2017


[1] الصدر، محمد باقر، الفتاوى الواضحة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط 3، 1977، ص 15.

[2] الشافعي، الرسالة، القاهرة، ط2، 1979، ص 477.

[3] البحراني، يوسف، الحدائق الناظرة، 5ج، ص 189.

[4] المشعبي، عبد المجيد بن سالم بن عبد الله، منهج ابن تيمية في مسألة التكفير، مكتبة أصول السلف، الرياض، 1997، ص 349 – 465. كرّر ابن تيمية ذكر هذه الجملة (فإن تاب وإلا قُتِل) في آثاره كثيراً؛ ففي البحث ظهرت 267 نتيجة في كل مؤلفاته. ووردت في كتابه (مجموع الفتاوى) فقط 67 نتيجة. لكني لم أعثر على رأي بالقتل في تراث الفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا وغيرهم من فلاسفة الإسلام. كذلك لم أعثر على رأي بالقتل في تراث ابن سبعين وأبو يزيد البسطامي ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم من المتصوفة والعرفاء.