الأصوليات الدِّينية وصناعة الانغلاق الجماعي


فئة :  مقالات

الأصوليات الدِّينية وصناعة الانغلاق الجماعي

هل التعصّب مدخل للانغلاق؟ كيف ولماذا؟

للإجابة عن هذا السّؤال، نحتاج أكثر من أيّ وقت مضى لمن يزيح عن ثقافتنا ومجتمعاتنا طابع الانغلاق والجمود، ويفسح المجال أمام من يفكِّك هذا الإرث الثّقيل من التخلّف والسّير عكس مجرى التّاريخ، لعلنا نتلمّس طريقا بِتنا عاجزين فيه عن التعرّف على نقطة البداية، أو ربّما مسار هذه البداية إذا كتب لها الانطلاق. لم يكن هذا الواقع المثقل بخيبات الأمل ناشئاً من فراغ، فلكلّ نتيجة سبب، وما دام التعصّب الجماعي هو سِمتنا، والانغلاق والجمود طابعنا؛ فمعنى ذلك أنّ البنيات المؤسِّسة لثقافتنا تحوي تلك الجوانب، وتغذّيها بما يجعل من ينهل منها عرضة للانطواء على الذّات، والانكفاء عليها رغبة في صناعة ثقافة تكرّس الانغلاق بدل الانفتاح، والتّكفير بدل التّفكير، والحرب بدل السّلام، والانطواء بدل المشاركة، والكراهية بدل المحبّة. لذا، فتشريح بنية التخلّف في مجتمعاتنا تبدأ من تشريح الثّقافة السّائدة فيها. وعملية التّشريح لا يمكن أنْ تكون إلاّ نقداً للبنى والمرجعيات والأسُس النّفسية والفكرية التي تستند عليها ثقافتنا؛ فالثّقافة هي ذلك الجزء المتخفّي والكامن فينا، والمتحكّم في دواخلنا. فحين ننتبه لسلطته نتحرّر منه.

لفهم سيكولوجية المتعصّب، يرى فرويد أنّ محدّداتها لا تخرج عن ثلاثة مؤشرات تتمثل في النّرجسية، والكلية، والإسقاط أو الإضفاء

إنّ حالة التعصّب التي يعيشها عالمنا الإسلامي ليست حالة معزولة عن سياقها الإنساني، فمهما تعدّدت تعاريف التعصّب، فإنّها تعني الحالة التي يكون فيها الشّخص مشدودا إلى أفكاره ومعتقداته معتمدا في ذلك على كلّ ما هو متاح لتثبيته، ولو مارس الفعل التّدميري. إنّه باختصار حالة الإلغاء والإقصاء والإجرام التي يختزلها روبسبيير بمقولته المشهورة: "إنّنا كالحقيقة لا نلين صامدين متجانسين، وأقول: إننا تقريبا كالمبادئ لا نطاق"[1]. ولكي نفهم هذه المقولة، يضعنا برنار شوفييه أمام تحليل نفسي للدّافع الاضطهادي لدى روبسبيير، والتي يمكن سحبها على مجموعة من النّماذج الأصولية اليوم التي تتحرّك وفق دوافع سيكولوجية تشبع من خلالها حاجتها إلى التعصّب والتطرّف، وصولا إلى الفعل الإرهابي. ولعلّ أوّل الدّوافع الاضطهادية في حياة روبسبيير هو الرّغبة في قتل الأب معنويا أو نفسيا؛ فالفعل التّدميري أو الإرهابي يسعى إلى تدمير الصّورة الأبوية، التي كانت لها علاقة سيّئة بروسبير الابن. في المقابل كوّن هذا الأخير صورة مثالية وهمية للعلاقة الأبوية من خلال الكائن الأعلى. لذلك، جعل نفسه إلها للأنوار والعقلانية وقيم الخير إلى الحدّ الذي جعله يقترح عبادة جمهورية عبر أناشيد واحتفالات تحتفي بهذا المثال. وبهذه الصّورة المثالية خلق روبسبيير قناعة بصحّة أفكاره ومبادئه وقيمه. وكلّما ازداد اليقين بها، كلّما ازداد يقينه أيضا بتصفية كلّ من يقف أمامها، أو يحول دون تحقيقها على أرض الواقع[2]. وباختصار شديد لفهم سيكولوجية المتعصّب، يرى فرويد أنّ محدّداتها لا تخرج عن ثلاثة مؤشرات: "النّرجسية، الكلية، والإسقاط أو الإضفاء. فالشّخص المتعصِّب مصابٌ بعقدة شهوانية الأنا (النرجسية). فهو الوحيد الذي يكون دوماً على حق، وبفضل إيمانه بالقدرة الكلّية لفكرته، سيتوصّل إلى تغيير العالم سحريا، وإلى اجتلاب الفردوس. كما أنّ لديه فكرة إسقاطية تريحه من كلّ شبهات الضعف والقصور البشري"[3].

لكن لماذا تنزع الأصوليات إلى فكرة التعصّب والعصبيات؟

لفهم طبيعة هذا السؤال، لا بدّ من استحضار ما سطّرّه مصطفى حجازي[4] في أهمّ كتبه "حصار الثقافة"، وهو يدرس العلاقة الجامعة بين الأصولية والعصبيات، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

- ذوبان الفرد في الجماعة: هذه خاصّية من الخصائص المميّزة للأصوليات والجماعات التي تعتمد على الحشد والتّجميع والتّوحيد، لكي تشعر الجماعة بوحدتها وقوّتها. وليتحقّق هذا الفعل، لا بدّ من فكرة جامعة، أو إيديولوجيا تهدف بالدّرجة الأولى إلى التّجميع والتّبرير كما هي وظائفها عند بخلر[5]. هذه الإيديولوجيا تستمد منها الثورة روحها كما نظَّر لذلك غوستاف لوبون. ومع أنّ العقل هو مصدر الثورة، فإنّ الأسباب التي تحرّك أيّة ثورة لا تحدث تأثيرها في الجماعات إلا بعد أنْ تتحوّل إلى عواطف. فحسب لوبون، الثورة مهما كان مصدرها لن يكون لها تأثير إلا بعد أنْ تهبط إلى روح الجماعات، إذ الجماعة تُتِمُّ الثورة ولا تكون مصدرها. كما تظلّ الجماعة بمعزل عن الفعل ووظائفها معطلة بمعزل عن قائد أو زعيم يقود ثورتها ويلهب حماستها[6].

ولماذا تقدس مجتمعاتنا الزعامات؟.[7]، لأنّ صورة الزّعيم المنقذ ضرورة حيوية للجماعة، أيّة جماعة، فهي تتغذّى على مخزون ثقافي يجعل الكاريزما هبة دينية بالأساس. فمن خلال التّماهي مع الزعيم، يتم التّماهي مع أعضاء الجماعة، وينشأ الشّعور بالانتماء. وظاهرة التّماهي ليست بالأساس وليدة جمهور يحتاج لقائد يلتحم بكيانه، أو زعيم يقود مسيرته. بقدر ما هي نتيجة حتمية لخواء وانكفاء العناصر التي يتشكّل منها ذلك الجمهور. على خلفية إحساسهم التامّ بشلل الإرادة الذاتية، وعطل الرابطة الاجتماعية، وفشل المقدرة الإنسانية.

- الولاء والانتماء: إنّ الحالة التي تعزّزها الجماعات أو الأصوليات بشكل عام، هو ذلك الشّعور الغريب بالانتماء، والإحساس بنشوة القوّة والتماهي مع الآخر، حيث يصير الفرد هو المحرّك ووقود الجماعة توظّفه أنّى شاءت وكيف شاءت. وبالرّغم من أنّ الانتماء حالة طبيعية لدى الكائن الإنساني، وتعتبر من الدّوافع أو المحرّكات الأساسية للسّلوك البشري كما تؤكّد سوزان كويليام[8]. غير أنّ الفرد داخل فكرة الانتماء يتعلّق بأشياء الجماعة وثقافتها، ويحوّلها إلى معبودات ذهنية يصعب الانفكاك عنها وهو ما يشعره بالاغتراب دونها أو بعيدا عنها. ويمكن تلخيص أنواع الانتماء فيما يلي:

أ- الانتماء بالوراثة: فالانتماء والمحيط الاجتماعي يسهّل ويشجّع، حينما يكون المرء منتميا إلى نِحلة أو طائفة أو مذهب، وهو ما يدخل في باب التّشريط الثقافي والتنشئة الاجتماعيّة، إذ من شأن العلاقات الاجتماعيّة المغلقة أن تحدّ من اختياراتنا، وتقوّي رغبتنا في الانتماء إلى جماعة، وإن كانت متخيّلة.

ب- الانتماء بالإحباط: أي بدافع اليأس من عالم خارجيّ معادٍ. فلئن كان الشعور بالإحباط أحياناً ذا عواقب إيجابيّة إذ يمكنه، على سبيل المثال، دفع الأفراد للتغلّب عليه وتحقيق تطلّعاتهم؛ إلاّ أنّه قد يؤدّي أيضاً إلى الشعور بالاستياء والاعتقاد بأنّهم يستحقّون أفضل ممّا هم عليه، وهو ما يمكن أن يخلق قوّة مدمرّة. وقد يغدو الأمر أكثر خطراً حين تتجمّع هذه الإحباطات الفرديّة، وتلهم حركة دعويّة يمكن أن تكون عنيفة بفعل حركة المقاومة التي قد تجابهها من النظام الاجتماعي السائد.

ج- الانتماء بالكشف/الانكشاف: وهو نادر الحدوث قياساً بنوعيّتي الانتماء السابقين؛ إلاّ أنّه قد يحدث لبعض العقول المستعدّة لذلك، أن تدخل دورة الاعتقادات المتطرّفة نتيجة حادث عارض، قد يكون سعيداً أو غير سعيد، فتفسّره كما لو كان قدراً إلهيّاً حوّل مسار حياتهم، ويدعوهم إلى اعتناق فكرة تجد أساسها في تلك الإشارة الربانيّة، ومن هنا الانزلاق إلى منحدر الاعتقاد، والانعزال عن المجتمع، ومن ثمّة البحث عن انتماء لجماعة تقاسمهم ذات الفكرة.[9]

- الرابط الأخوي أو العرقي أو الدّيني: لتكتسب الجماعة قوّتها تعتمد مجموعة من الرّوابط التي تزيد من لحمتها، وتشيّد حصونا من التّلاحم الّذي يأخذ أشكالا متعدّدة تختلف في الشّكل وتتّفق في المضمون، أقواها ما تعتمد عليه الأصوليات الدّينية كونها تجعل آصرة العقيدة أولى من آصرة القرابة. ولعلّ المثال الواضح الذي يجلّي عمق ما أشرنا إليه رواية: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".

إذا أردنا تطبيق القواعد المتعلّقة بنقد المتن على هذه الرّواية نجدها تحمل مجموعة من المخالفات. لعلّ أهمَّها هو أنّ حصر حرمة الدّم والمال والعرض متعلِّق بالأُخوَّة في الدّين أو العقيدة، وليست الحِرمة متعلِّقة بالجانب الإنساني فينا. فكان أولى أنْ تكون الرِّواية بهذه الصّيغة: "كلّ الإنسان على الإنسان حرام دمه وماله وعرضه"، على الأقل لأنّ القرآن نفسه حرّم قتل النّفس بهذا العموم: "ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ"[10] دون تحديد ماهية هذه النّفس أو جنسها أو عقيدتها. ولكنّ الرواية تنشئ خطّاً مبايناً للقرآن، حيث تقرِّر بمفهوم النّص بأنّ الدّم والعرض والمال حلال، ما دام الأمر متعلِّق بالمخالف دينيا وعقديا. وبعد ذلك، نسأل من أين أتت داعش وأخواتها؟

الثّورات الدّينية أو الثّورات القوية كما يسمّيها غوستاف لوبون، تفرز لنا صراع المعتقدات، واستحالة التّسامح

والمثال الثاني توصيف جماعة الإخوان لنفسها بـ "الإخوان المسلمين"، مع أنّ الإسلام ليس جماعة، أو طائفة، أو حزبا سياسيا. وليس هذا فحسب، فالتّوصيف بجماعة "الإخوان المسلمين"، يدلّ دلالة واضحة على عمق التّأثير العقدي في الجماعة. فالأخوّة هنا منبعها عقدي، وليس إنساني، أو وطني. ومن هنا يتحوّل سؤالنا من التسمية إلى الواقع، إذ ما هو موقف الجماعة من المخالف عقدياً وسياسياً وطائفياً؟. وكذلك ما موقفها من العنف الذي يكون أساسه ديني؟. هنا نستحضر البنية العقدية للإخوان المسلمين وشكل الدّولة المرجوّة من خلال فكرة الجهاد، وهي الفكرة الرّئيسة التي تتمحور حولها الدّولة الإسلامية بمختلف تصنيفاتها. فالجهاد ليس ردّ عدوان فحسْب، فهذه غريزة طبيعية في الإنسان لا تحتاج لتنظير. ولكنّ الجهاد بمفهومهم هو حربٌ توسّعية تأخذ أشكالاً متعدّدة تختلف في الشّكل، وتتّفق في المضمون. وما يسمّونه همْ إعلاء كلمة الله هو أحد تجليّات العقل الذي يبرّر لكلّ حرب مقدسة، إذ الله يقرّر أنْ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[11]ودعاة الحرب المقدَّسة، يقتُلون باسمه، ويشرِّدون ويهجِّرون.

تقديس الماضي وحلم استعادته: وهذا ما تسعى الأصولية إلى تثبيته في أذهان مريديها. فمثلا لم يخرج الخطاب القطبي عن أداء وظيفته الإيديولوجية، لأنّه لم يكن مجرّد شعارات مفارِقة للواقع، بقدْر ما كان خطاباً مستجمعاً إلى حدٍّ كبير بين النظريّة والممارسة (البراكسيس بتعبير غرامشي). فالخطاب الإيديولوجي القطبي تحرّك في ثلاثة مناحي: "تقوم الأولى في الدّين، والأخرى في التّاريخ، والأخيرة في التّنظيم السّياسي، وهي كيفيات تتفّق مع ما تورده ماري ماتوسيان M.Matossian من أنّ الاختيار الإيديولوجي في العالم الثّالث تحكُمه وتحدّده ثلاثة توجّهات: العلاقة بالتّراث، والعلاقة بالعالم الغربي، والعلاقة بالجماهير."[12].

لتفكيك هذه العناصر في الخطاب الإيديولوجيّ القطبيّ، يرى محمد حافظ ذياب بأنّ علاقته بالتّراث اختزلَها في اختياره الحاسم للمتغيّر الدّيني، وتعامل معه بطابعٍ أحاديّ يرفض الاختيار بين الثّنائية bipilarisation (الدّين/الحضارة المعاصرة)[13]. فلقد تمَّ تجهيل هذه الحضارة؛ أيْ ردّها إلى أصول ما قبل الإسلام، كما فعل سلفه المودودي، وتمّتْ الإشارة إليه في ما سبق. ومن ناحية العلاقة بالتّاريخ فقد اعتمدتْ الإيديولوجية القطبية على مشروع كوزمولوجي أساسُه استعادة الماضي الإسلامي في نقائه الأوّل، من منطلق رؤية طوباوية[14]. ومن ناحية العلاقة مع الجماهير، فهي تفتقر إلى القنوات الحقيقية للتّفاعل مع الجماهير، حتّى وإنْ جسَّدتْ آمالهم في غيبة وعيِهم بذلك.[15]

تكمن مشكلة هذا النّمط في التفكير في أنّه يريد إسقاط تجربة تاريخية على مسار التّاريخ كله، حيث تصير هي الأصل، وهي المعيار وهي الأساس الذي يقاس عليه. وهنا يتجاوز العقل الأصولي مسألة الموضوعية في الطرح، حينما يوقف حركة التاريخ في فترة يعتبرها استجمعت كلّ معاني الطهارة والصّفاء والنّقاء، دون مراعاة للسّياقات البشرية التي يتحرّك فيها الإنسان، ودون الإشارة إلى الدوافع المحركة له. لذا كان سيوران محقا لما قال: "لا تنظر إلى الأمام ولا إلى الخلف، انظر في ذاتك بلا خوف ولا حسرة. لن يغوص أحد في ذاته ما دام عبد الماضي أو المستقبل"[16]. كما أنّ هذا النّمط في التّفكير يتناسى أنّ أيّة رؤية للدّين ليست سوى ثمرة تفاعل الكائن الإنساني معه في أبعادها ومراميها، محدودة بسقفها المعرفي، وبدرجة خضوعها للعوامل المؤثرة في نشأة الثّقافة.

إنّ إلغاء كلّ الشروط المعرفية المنتجة للفكر، والادّعاء الوثوقي بالوصول إلى القصد والمراد الإلهي. هو المولّد للانغلاق والجمود الفكري، والدّافع للتسلط الدّيني، حين يصير الإنسان تحت مسمّى الدّين أو التّأويل والتّفسير أو تطبيق الشّريعة، معول هدمٍ لقيم الدّين، وقيم الإنسانية جمعاء. فتموت بذلك الحضارة، وينعدم التعايش، وتفنى قيم المحبّة والتعاون، ويتمركز الإنسان على ذاته، وينغلق على تحيّزاته ومسبقاته الثقافية والتاريخية، ويقيس الآخر بناءً عليها مستعيدا بذلك مغالطة منطقية تتماهى مع أسطورة سرير بروكرست procrusteanism، التي تشير إلى أيّة نزعة "إلى فرض القوالب" على الأشياء أو الأشخاص أو النّصوص، أو ليّ الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات، لكي تنسجم قسراً مع مخطّط ذهنيّ مسبق[17].

الأصولية وآليات السيطرة:

لكي تكتسب الجماعة لحمتها، لا بد من الاعتماد على مجموعة من الآليات تساعدها على دمج أفرادها، وضمان أكبر قدر من الولاء لها. ويمكن اختزالها في الآليات التالية:

- العقيدة مكان العقل: لا يمكن أنْ نتحدّث عن العقيدة في حضور العقل؛ فكلاهما خصمان لا يلتقيان إلا لِماما. لهذا، فالعقل الأصولي يتغذّى من التّهويلات الإيديولوجية التي ينتجها حرّاس العقيدة (المسلمات/الثوابت/الأصول...). وما لم نصلح هذه الأعطاب الثقافية، فسنكتشف كم أنّ سماحة الدين، قد تتحوّل إلى مصنع لتفريخ العنف. ولكي نفهم هذا المعطى في التاريخ الإنساني، يقودنا تحليل غوستاف لوبون إلى أنّ الثّورة التي قادها مارتن لوثر مثلا، تشبِه بكثير الثّورة الفرنسية، خاصّة في الجزء النفسي: "فقد رئي في هاتين الثّورتين أنّ شأن العقل ضئيل في انتشار المعتقد، وأنّ الاضطهادات فاقدة التأّثير، وأنّ تسامح المعتقدات المتباينة مستحيل، وأنّ أشدّ المظالم والملاحم يصدُر عن تصادم العقائد المختلفة، وأنّه يستحيل تبديل عقيدة النّاس قبل تبديل كيانهم"[18]. لمْ يتوقَّف لوبون عند هذا الجزء من التّحليل النّفسي، بل أكّد أنّ انتشار الإصلاح الدِّيني لمْ يكنْ وليد البراهين والعقل، بل تحكّمت فيه عوامل أخرى كالتّوكيد والتّكرار والعدوى النفسية والنّفوذ، وهو الشيء نفسه الذي حدث إبّان الثّورة الفرنسية. فالحقيقة صادمة حسب تحليل غوستاف؛ فالثّورات الدّينية أو الثّورات القوية كما يسمّيها، تفرز لنا صراع المعتقدات، واستحالة التّسامح. تحت هذا العنوان ينحت لنا الكاتب واقعا مريرا يتجلّى في عدم تسامح المعتقدات القوية "فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطّرت فرنسا زمنًا طويلًا رأيناها لا تختلف إلّا في الأمور الثّانوية، فالكاثوليكي والپروتستانتي إلههما واحد، ولا يختلفان إلاّ في كيفية عبادته، ولو كان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أنّ الله لا يبالي بالصّورة التي يعبد عليها"[19].

- تعزيز صورة الإنسان الآثم أو المذنب: إنّها الحالة التي يقتات عليها العقل الأصولي وينمو فوقها؛ فكلّما تكرّس الإحساس الإنساني بالضّعف، كلّما زاد التحامه بالجماعة، وزاد طمعه في الإحساس بالمزيد من التّعويض النّفسي، وهي الحالة نفسها التي يخلقها الاستبداد عبر منظومة تتجذّر في المجتمع من خلال ثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم) والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع"؛ فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم، فيعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها[20]. لذا، فالمجتمعات التّأثيمية التي تعيش على عقدة (الذنب والإثم)، لا يمكن أنْ تستشرف مستقبلها إلاّ مرفوقة بالتردّد، واجترار الماضي، والخوف من العقاب، لأنّ بين عقدة الّذنب والفشل ارتباط وثيق، قد يصل بالفرد أو الجماعة إلى سلوك الإرهاب والإجرام بوصفهما تطهيراً ذاتياً، وبحثاً عن خلاص ممكن.

- إخضاع المرأة: يؤكد مصطفى حجازي على دور المرأة المركزي في لحمة العصبيات، حيث إن إخضاعها الكامل وفرض القوانين الأكثر تزمتا عليها هو ديدن الأصوليات قديما وحديثا، فصورتها لا يمكن أنْ تخرج عن المرأة العورة، أو عن كونها مصدر الغواية.[21]

المؤامرة أو خطاب المظلومية: كثيرا ما يتعامل الإنسان المسلم مع الصّورة النّمطية التي تشكّلت حوله، باعتبارها أحد المظاهر السّلبية التي يحملها الآخر عنه، دون أنْ يطرح السّؤال حول الدّوافع والأسباب التي جعلت منه متّهما، تتقاذفه تُهَم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلّف. وبدل أنْ تستوقفه هذه الصّورة، ليعيد قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثقافة - بعيدا عن الرّغبة في الحفاظ على صفاء الذّات-، اختار خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته، وهذه الثقافة الممتزجة بلون الدّم في مسار طويل، بدأ منذ اللّحظة الأولى التي تحوّلت فيها الرّسالة إلى سيف وسلطة، انتهاءً بداء الأصولية المخيف، والتّسويق للدّولة الدينية بأفق يمتح من قاموس الرّعب والتّخويف والموت.

العقل الدّيني يخوض صراعات وهمية تصرِفه عن تداعي منظومته الدّينية، أو الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تنتظره

لا يتساءل المسلم اليوم عن سرِّ هذا الخوف المزمن تّجاهه، وعن دوافعه الثّقافية والسيكولوجية. وإنْ فَعَل كان هاجس المؤامرة هو المتحكّم في هذا العقل. ولا ضير ما دامت بنية عقلنا العربي الإسلامي تسمح بهذا النّمط في التّفكير، وهو الإيمان المطلق أو الإيمان الصّخري بنظرية المؤامرة كما يسمّيه طارق حجي[22]. فالمؤامرة وفق هذه الرّؤية السّحرية: "هي عدم تفسير الأمور حسب المعطيات الواقعية المتوفرة أو المستنتجة وتفسيرها على أساس أنها من صنع شخص أو جهة منافسة تبقى دائما محصورة بفكرة يحملها معه في كلّ وقت"[23]. وهنا مقتل التّفكير والعقل والرّؤية؛ فكلما تلبّست بنيتنا العقلية بهذا النّوع من التّفكير، كلّما خسِرنا أنفسنا أكثر. وما أشار إليه إيريك فروم يفيدنا في هذا الصّدد: "فلكي نفهم ديناميات العملية الاجتماعية علينا أنْ نفهم ديناميات العمليات السّيكولوجية العاملة داخل الفرد على نحو ما أردنا أنْ نفهم الفرد فإنّه يتوجب علينا أنْ نراه في سياق الحضارة التي تشكِّله"[24]. لهذه الأسباب، نفهم كيف أنّ العقل الدّيني يخوض صراعات وهمية تصرِفه عن تداعي منظومته الدّينية، أو الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تنتظره. ولن يكون هناك حل لهذه الإشكاليات إلا بالاحتماء بالخطاب المؤامراتي بغية تجييش البشر وحشدهم وصرفِهم عن أيِّ شيء يتبادر إلى ذهنهم، فلا شيء يعلو فوق صوت المعركة[25].


[1]- شوفييه، برنارد. المتعصبون. ترجمة. قاسم المقداد. دار نينوى. ط1. 2017. ص: 106

 

[2]- شوفييه، برنار. المرجع السابق. ص: 103

[3]- أدندريه هاينال، وميكلوس مولنار، وجيرا ردي بوميج. سيكولوجية التعصب. ط1، ترجمة خليل أحمد خليل. دار الساقي، 1990. ص: 18

[4]- انظر ما كتبه حجازي، مصطفى. حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998. ص: 100 وما بعدها.

[5]- انظر وظائف الإيديولوجيا عن بخلر في دفاتر فلسفية.نصوص مختارة. الإيديولوجيا. إعداد وترجمة. محمد، سبيلا. وعبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر. ص: 52

[6]- لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص: 27

[7]- انظر ما كتبه حول الموضوع عباس، ثامر. تقديس الزعامة: دراسة في ظاهرة الكاريزما السياسية. بيروت، منشورات الاختلاف، ط1، 2015. ص: 485 وما بعدها.

[8]- انظر ما كتبته حول الدوافع المحركة للبشر كويليام، سوزان. (2004). الدوافع المحركة للبشر. ترجمة عادل نجيب بشرى. (ط1). مكتبة جرير. ص: 5

[9]- قراءة في كتاب الفكر المتطرف كيف يصبح الناس العاديون متطرفون، ترجمة محمد أحمد سالم. على الرابط التالي:

http://www.mominoun.com/articles/الفكر-المتطرف-كيف-يصبح-الناس-العاديون-متعصبين-2621

[10]- سورة الإسراء الآية 33

[11]- سورة البقرة الآية 256

[12]- دياب، محمد حافظ. سيد قطب: الخطاب والإيديولوجيا. دار العالم الثالث. ص: 118

[13]- المرجع نفسه. ص: 118

[14]- المرجع نفسه. ص: 119

[15]- المرجع نفسه. ص: 120

[16]- سيوران، إيميل. مثالب الولادة. ترجمة آدم فتحي. بيروت، منشورات الجمل، ط1، 2015. ص: 107

[17]- عادل، مصطفى. (2007). المغالطات المنطقية. المجلس الأعلى للثقافة، ص: 249

[18]- لوبون، غوستاف. المرجع السابق. 32

[19]- المرجع نفسه. ص: 35

[20]- انظر ما كتبه مصطفى حجازي في مقدمته لكتاب مصطفى صفوان. لماذا العرب ليسوا أحرارا؟. ترجمة مصطفى حجازي. بيروت، دار الساقي. ط1، 2012. ص: 7

[21]- مصطفى حجازي. المرجع السابق. ص: 121

[22]- حجي، طارق. نقد العقل العربي: من عيوب تفكيرنا المعاصر. اقرأ سلسلة شهرية تصدر عن دار المعارف. العدد: 633. ص: 94

[23]- علي، بن إبراهيم النملة. هاجس المؤامرة في الفكر العربي. شبكة الألوكة، 2009، ط1. ص: 29

[24]- إيريك، فروم. الخوف من الحرية. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972، ط1. ص: 10

[25]- سامي، لبيب. لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون. من 1 إلى 37. ملف pdf. ص: 66