الإسلام أمام الديموقراطية


فئة :  قراءات في كتب

الإسلام أمام الديموقراطية

الإسلام أمام الديموقراطية

فيليب ديريبان، منشورات غاليمار، 2013، 186 ص.


1- هذا الكتاب مهم ويستحق العرض، لعدة اعتبارات:

+ الاعتبار الأول لأنّ الإسلام، بنظر الكاتب، بات "مخيفًا"، إذ منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، لا يمر يوم دون أن تطلع علينا وسائل الإعلام بأحداث مرعبة في الدول التي يهيمن فيها الإسلام أو يقطنها مسلمون، أو يراهن بعض منهم على "غزوها"... إلى درجة باتت استطلاعات الرأي، بفرنسا مثلاً، تبين أنّ 81 بالمائة من المستطلعة آراؤهم، لهم "نظرة سلبية" عن الإسلام، 45 ضمنهم "جد سلبية".

الإسلاموفوبيا هنا لم تعد شعارًا بل باتت أمرًا واقعًا، لا بد من الانتباه إليه، لا بل قل باتت الخيط الناظم للعديد من المواقف السياسية والكتابات الصحفية، ناهيك عن التعبيرات العدائية التي تطفو على السطح هنا أو هناك.

+ الاعتبار الثاني لأنّ هذا الكتاب يطرح السؤال الجوهري التالي: هل الإسلام هو السبب في صعود الإسلاموفوبيا؟ يذكر الكاتب هنا، في محاولة للبحث عن الجواب، أنّ الدراسات المعاصرة لا تشير إلى الإسلام مباشرة، بقدر ما "تتهم" السياق التاريخي وموازين القوى الجيو/استراتيجية العالمية، ولعبة الأطراف المتدخلة والإيديولوجيات المتزايدة، في واقع الاحتراب الذي نراه منذ العام 2011 داخل البلدان الإسلامية، ثم فيما بينها، ثم مع الدول غير المسلمة.

الإسلاموفوبيا هنا هي ليست فقط نتاج موقف محدد من الإسلام، بل تتأتى أيضًا وتتغذى من موقف من بعض المسلمين، لكن المحصلة تبقى هي ذاتها، إذ سرعان ما تنحصر الحدود بين المسألتين ويشار إلى الإسلام بنهاية المطاف، حتى وإن تم التدثر "ببعض المسلمين".

+ أما الاعتبار الثالث، فلأنّ هذا الكتاب يسائل مستقبل الإسلام والمسلمين على ضوء مسألتي التعددية والديموقراطية. ويلاحظ صاحبه بهذه النقطة، أنّ هذا التساؤل يجب البحث عنه في طبيعة العلاقات التي تربط الإسلام بالمسلمين، قبل أن تربطهم مع من هم غير مسلمين، لأنّ الصورة التي يقدمون عن الإسلام وعن أنفسهم، هي التي تغذي نعرات الإسلاموفوبيا بالغرب، وتعمق الصورة النمطية التي تكونت أو تتكون عنهم.

2- يضم هذا الكتاب بين دفتيه مجموعة من الأفكار المهمة، التي لا يمكن إلا أن تستوقف وتسائل القارئ المتأني، لا سيما بزاوية ما يرصده الإسلام (والدول الإسلامية تحديدًا) للمسألة الديموقراطية:

+ الفكرة الأولى ومفادها أنّه على الرغم من الوحدة التي ينشدها الإسلام بين الدول الإسلامية، فإنّ ثمة خشية دفينة بين المسلمين من انبعاث شتى ضروب الفتنة والاحتراب. ولذلك نرى أنّ بعضهم يسائل الإسلام (كما المسلمين) عن السر في الخشية إياها، والسبل القمينة بصدها والتصدي لها.

يقول الكاتب، بهذا الخصوص، على لسان عبد الوهاب مديب: إنّه "عوض التمييز بين إسلام جيد وإسلام سيئ، فمن الأفضل أن يعاود الإسلام فتح النقاش والاجتهاد، أن يعيد اكتشاف تعدد الآراء، أن يهيئ مكانًا للاختلاف وتضارب الأفكار، أن يقبل بحرية تعبير الآخر، أن يعمل على أن يستعيد النقاش الفكري حقوقه وأن يتكيف مع الظروف والسياقات، أن يقبل بالتطرق للاستثناءات، أن يوقف التوافق، وأن يدفع بأن تتفتق مضامين البعض إلى جزيئات متعددة".

هذه الإشكالات هي التي من شأنها، برأي الكاتب، أن تحدد السؤال حول الخشية من الانقسام: هل هذه الأخيرة هي مكون لوجه مركزي بالعالم الإسلامي وبالتالي بالإسلام، تساعد على فهم علاقة هذا العالم بالديموقراطية، أم تراها معطى عابرًا تحكمه الظروف والسياقات، ولا يمكن أن يقاس عليه لفهم هذه العلاقة؟

+ الفكرة الثانية: على الرغم من ادعاء بعضهم بأنّ ثمة "ثقافة إسلامية عابرة للأزمان" (كما يدفع بذلك ماكس فيبر مثلاً)، فإنّ الكاتب يرى أنّ الأنجع ربما هو الانطلاق من فرضية أنّ ثمة "تمثلاً سياسيًّا إسلاميًّا"، بالإمكان الارتكاز عليه لمساءلة علاقة العالم الإسلامي بالمسألة السياسية عمومًا، وبالديموقراطية على وجه التحديد.

يقول الكاتب بهذه الجزئية: إنّه ليكفي "أن نراجع أدبيات العلماء كما الإسلاميين، لنسلم بوجود تمثل سياسي إسلامي محكوم ببراديغم محدد: براديغم أول أمة للمؤمنين تأسست زمن الرسول والخلفاء الراشدين...هذا البراديغم سيطبع بصورة نهائية علاقات الإسلام بالسياسة، حتى باستبعاد فرضية أن يعاد بناء الأمة الأصلية التي لا يزال الحنين إليها يؤرق التفكير السياسي في الإسلام".

بيد أنّ المؤلف هنا يعتبر التوقف على أشكال ممارسة الحكم وأنماطها، وكذا الوقوف على المدارس السياسية الكبرى، لا يمكن إلا أن يحيل على شكل من أشكال الانقسام، مكمن الخشية المتحدث فيه أعلاه. من هنا مطالبته بضرورة استحضار مسالك أخرى (غير هذا المسلك) للبحث في الممارسات التي تحيل على تنظيم العيش المشترك ومن ثمة على الديموقراطية، حتى وإن كانت الممارسات ذاتها نابعة من غير المتدينين، لكن في فضاء يهيمن فيه الإسلام.

+ الفكرة الثالثة: لا يقتصر الأمر، بذهن الكاتب، على ضرورة فهم جاذبية الوحدة في العالم الإسلامي، والنظر في دور الإسلام في ذلك، لا سيما في ضوء بعض المشاريع الديموقراطية التي نراها هنا أو هناك، بل يتعداه إلى ضرورة التساؤل عن فرضية أنّ ثمة جوانب بنيوية قد تكون الدافع إلى الاستنتاج (أو الاعتقاد) بأنّ الإسلام لا يتساوق تمامًا مع الديموقراطية.

ومع ذلك، أو على الرغم منه، حسب قول الكاتب، فإنّه "لا يجب أن نتصور أنّ الإسلام هو المصدر الوحيد للصعوبات التي تواجه الديموقراطية في البلدان الإسلامية. إنّ الذي يجب القيام به إنّما هو تمييز الأشكال المتعلقة بالمقاومة التي يبديها الإسلام بوجه الديموقراطية. إنّها مقاربة قد تبدو غير كافية، لكنها تعفينا من أن نشتت البحث، لا سيما لو كنا نريد حقا أن نحدد مآلات الديموقراطية في البلدان الإسلامية".

بالتالي، يتابع الكاتب، ليس المهم أن نحاول الإجابة على التساؤلات الجارية حول التأثيرات السياسية للإسلام، من قبيل القول بأنّ "الإسلام دين سلام" أو القول المضاد بأنّ "الإسلام دين جهاد". إنّه يجب تركيز البحث حول "فهم الإطار الذهني الذي تأخذ تعددية الآراء بصلبه معنى محددًا".

+ الفكرة الرابعة: يزعم الكاتب أنّ من المتعذر القول بأنّ الإسلام هو كل متكامل أو هو لا شيء بالمطلق. وقصده بذلك هو اعتباره الإسلام عنصرًا ضمن عناصر متعددة أسهمت في تكوين المجالات الذهنية لمختلف البلدان الإسلامية. ودليله على ذلك أنّ الإسلام لم يتحفظ من "استلهام" الرؤى السائدة حول الإنسان والمجتمع من العصور التي سبقته، ولا من العصور التي تلت نزول رسالته، كما الحال مع الغرب فيما بعد.

إلا أنّ هذا لا يعني، برأي الكاتب، أنّ دور الإسلام كان هينًا في أسلمة المجتمعات. على العكس من ذلك، إذ الدور إياه كان قويًّا وعميقًا بالمجال العربي/الإسلامي، وأيضًا بباقي الشعوب التي دخلها الإسلام، حتى وإن كان الدور إياه في الحالة الثانية متواضعًا هنا ومتواضعًا للغاية هناك.

يلاحظ الكاتب أنّ هذا ليس هو المهم. إنّ المهم بنظره هو أن نتساءل عمّا يميز الإسلام حقًّا، مع تجاوزنا لبعد الهيمنة الذي يمارسه بالبلدان الإسلامية، والاعتراف بالتأثير الواضح لوجوده، حتى وإن كان التساؤل في مجرد الوجود.

+ الفكرة الخامسة: إنّ "اللقاء" الذي تم بين الحداثة والإسلام لم يذهب إلى حد إعادة النظر في مركزية الرؤية القرآنية للعالم الإسلامي، بل أسهم في نشر الرؤية ذاتها وترويجها، في الوقت الذي عمل على إضعاف "الصيغ الشعبية" التي انتشرت هنا وهناك على هامش هذا اللقاء.

بيد أنّ هذا اللقاء قد طرح بقوة إشكالية من نوع خاص بارتباط مع الديموقراطية: إشكالية التوفيق بين الحقيقة التي يتضمنها النص القرآني، والتي لا يمكن أن تكون مكمن نقاش أو مزايدة، وبين الديموقراطية باعتبارها مجال تدافع الآراء المختلفة والمتباينة، وباعتبارها أيضًا "نصًّا" يضمن حق الأفراد والجماعات في اختيار معتقداتهم.

الإشكال هنا عابر وغير ذي تبعات كبرى بالنسبة إلى البلدان الإسلامية، لا سيما تلك التي لم تعمد ولا هي قادرة على علمنة مساقاتها الفكرية والدينية والسياسية، لكنّه جوهري وضاغط بالنسبة إلى المسلمين القاطنين بأوروبا مثلاً، والذين يجدون أنفسهم موزعين بين عوالم ذهنية من الصعب التوفيق بينها، فما بالك بتطويع هذا ليقبل بذاك، أو على الأقل ليتماهى مع روحه. وهو أمر لا نجد له مقابلاً في العالم المسيحي، خصوصًا عند ملاحظة المكانة المركزية التي يوليها تاريخ الكنيسة لمسألتي الشك والتقييم الفردي.

+ الفكرة السادسة: إنّ الصعوبة التي تعترض العالم الإسلامي لضمان تعايش من نوع ما بين "إسلام ما"، يقيني وثابت، والديموقراطية التعددية، المنفتحة على الشك والجدال، ليست حالة عابرة، ترتبت على تلاقي أحداث تاريخية خاصة بهذا البلد الإسلامي أو ذاك. بالعكس، فللإسلام نصيب من ذلك، حسب قول الكاتب، حيث العلاقة بين الحق والباطل ممزوجة بالحقيقة المطلقة والتوافق التام.

المعرفة، وفق هذا المنطق، لا تأتي نتاجًا لبحث مضنٍ، بمنهجية تتغيأ استكشاف العالم من خلال تدافع الأفكار والتمثلات، بل هي حكر متأت "من فوق"، من خلال طرق لا تترك مجالاً للشك. من هنا، تتراءى للكاتب صعوبة استنبات الديموقراطية من صلب الإسلام.

يتابع الكاتب في امتداد لذلك بقوله إنّ اشتغال المؤسسات في العالم الإسلامي غالبًا ما ينهل من هذه المرجعية، لأنّها "مطالبة" بأن تبقى وفية للتمثل الوحيد السائد والمهيمن، والذي لا يترك مجالاً لاستنبات الآليات الديموقراطية المؤسساتية.

+ الفكرة السابعة: إنّ تناسق الشعور بين الحقيقة ورفض التعددية هو أمر منطقي ونفسي واجتماعي، حسب قول الكاتب. منطقي لأنً بديهية الحق والباطل لا يمكن إلا أن تحيل على رأي واحد، رأي الذين يفكرون في الأمر، لا سواهم. نفسي، لأنّ أيّ خروج عن الحقيقة من شأنه تهديد العيش المشترك، من هنا وجبت مجابهته. واجتماعي لأنّ غياب التوافق من شأنه أن يثير الفتنة، بالتالي وجبت مناهضته.

وعلى هذا الأساس، يلاحظ الكاتب، أنّ هذه العلاقة بالمعرفة وبالحقيقة ذات تداعيات كبرى، فيما يتعلق باستقبال الديموقراطية والقبول بها في البلدان التي يهيمن فيها الإسلام.

+ الفكرة الثامنة: يتساءل الكاتب عن أي مستقبل للعالم الإسلامي في ظل هذه العلاقات بالتعددية وبالديموقراطية؟. ولا يدعي الكاتب هنا امتلاكه لعناصر الجواب، ولا يود ركوب ناصية التفسيرات السطحية والاختزالية.

بيد أنّه لا يتوانى في القول بأنّ التحولات الجارية "ليست مستقلة عما سيكون عليه الإسلام نفسه، وما ستكون عليه علاقات العالم الإسلامي مع الإسلام"، بل هي مرتبطة بها أشد ما يكون الارتباط... وهي مرتبطة أيضًا وبالتحديد بمدى قبولهم جميعًا (إسلاماً ومسلمين) بالديموقراطية وبالتعددية كما تتموج أمامنا أو بصيغ أخرى، غير تلك التي هي أمامنا.